حوار الأديان دعوة وبلاغ أم خلل واضطراب أم فتنة وانحراف؟!
د. عدنان علي رضا النحوي
لقد ظهرت الدعوة إلى حوار يدور بين رجال من المسلمين ورجال من الأديان الأخرى قبل عقود، تحت شعارات عدة. ولقد رافق هذا الاتجاه نماذج متعددة من الأدب نثراً أو شعراً تدعو إليه. وانتشرت شطرة من بيت شعر تقول: "... إن النصارى إخوة للمسلمين "!
حوار الأديان حوار يختلف من أيّ حوار آخر. فالله سبحانه وتعالى لم يبعث الأنبياء والمرسلين إلا بدين واحد هو دين الإسلام، وما عدا ذلك فهي إما وثنيات أو أديان محرّفة عن رسالة الأنبياء والمرسلين. فكيف يكون الحوار عندئذ؟!
الحوار في مفهوم الإسلام وسيلة للدعوة الواضحة الصريحة إلى الإسلام، ووسيلة جليّة للبلاغ والإقناع. إنه يبتدئ بإعلان الحق، وعرض القضية التي تمثل الحق، مع البيّنة والحجة. إنها دعوة إلى عبادة الله الواحد الأحد الذي لا إله إلا هو دون أي صورة من صور الشرك: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].
ولقد نشط النصارى في بلاد الشام خاصة نشاطاً واسعاً من خلال الدعوة إلى هذا التقارب، تدعمهم دول أجنبية متعدّدة استطاعت أن تتسلل إلى قلب الخلافة الإسلامية من خلال هذا الدعم. ورافق هذه الدعوة دعوة أخرى ترفع " العروبة " شعاراً بدلاً من " الإسلام "، ودعوة تنادي بأن لا يكون للدِّين تدخل في الحياة. ونالت هذه الدعوات إعلاماً واسعاً جداً في الصحافة والندوات والمظاهرات والأناشيد. وحسبك هذا النشيد:
بلادُ العُربِ أوطاني منَ الشّامِ لبغدانِ ومن نجدٍ إلى يَمَنٍ إلى مِصرَ فتطوانِ
فلا حدٌّ يباعدُنا ولا دينٌ يفرّقنا لسان الضَّادِ يجمعُنا بغسَّانٍ وعدنانِ
وغنَّى المسلمون هذا النشيد وردَّدوه في كثير من أصقاعهم، وغنَّاه الأطفال في مدارسهم. وتنازل الكثيرون عن إسلامهم، ولم يتنازل النصارى عن نصرانيتهم بل زادوا تمسُّكاً بها، وارتباطاً مع القوى النصرانيَّة الأوروبيّة والأمريكية. وفي الوقت نفسه، وهم يتعصَّبون لدينهم، يتهمون المسلمين بالتعصَّب الطائفي. ويُصدِّق كثير من المسلمين هذه الفرية، ويحاولون أن يتبرؤوا منها ولو بالتنازل عن بعض خصائص الإسلام وقواعده، والمشاركة ببعض عادات النصارى، والنصارى يزدادون تعصباً لدينهم.
وعمَّت الدعوة إلى العروبة وبخاصة في بلاد الشام، وغنَّى بها الشعر، وسار بها النثر، يُغذِّيها غير المسلمين ويردُّدها المسلمون، حتى لا تكاد تجد في تلك الفترة بيتاً من الشعر يذكر الإسلام والدعوة إليه في بعض الأقطار الإسلامية.
وسقطت الخلافة وتأمَّل " العروبيون " أن تجمعهم " العروبة " فإذا البلاد تُمزِّق، والشعوب تتفرَّق، وينصرف كلُّ شعب ليمجًَّد وطنه الجديد. وامتدَّت مآسي المسلمين وفواجعهم تتوالى مع الهزائم التي لم تستطعْ زخارف الشعارات أن تخفيها. وامتدَّ التاريخ بمآسيه حتى اليوم.
وكان من أخطر نتائج هذه الدعوات المتلاحقة بزخارفها القوميَّة والإقليميَّة، والعلمانيَّة، أن تسلّلت أفكار التنازل شيئاً فشيئاً إلى قلوب بعض المسلمين، وأخذت تظهر على ألسنتهم بين حين وآخر، يدعون بها إلى تنازلات واضحة عن بعض قواعد الإسلام، وإلى تقارب مع بعض الأديان الأخرى كالنصارى وغيرهم، وأخذ هؤلاء يحاولون البحث عن قواعد فقهية يسوّغون بها دعواهم، ويُنْزِلون الآيات والأحاديث على غير معناها الحق، ويتهمون المسلمين بأنهم لا يعترفون بالآخر، خلاف الحقيقة التي تقول إنَّ الآخر هو الذي لا يعترف بالمسلمين وأن المسلمين هم المعتدى عليهم.
كان من بين الدعاة من أخذ يدعو إلى عدم الإصرار على كلمة " الجزية " التي تؤخذ من أهل الكتاب، ويدعون إلى تغيير اسمها مراعاة لشعور النصارى أو أهل الكتاب بعامَّة. ويحار المسلم عن المسوِّغ لهذه الدعوة في وقت لا يأخذ فيه المسلمون الجزية من النصارى ولا النصارى يدفعونها، وربما أصبح العالم الإسلامي نهباً للنصارى من كل أرض. وأخذ بعضهم يدعون إلى المساواة بين النصارى والمسلمين معلِّلين ذلك بتحريف آيات الله وأحاديث رسوله -صلى الله عليه وسلم-. يدعون إلى المساواة فيما هو مخالف للنصِّ الصريح في الكتاب والسنَّة.
وأخذ دعاة آخرون يجهرون بالدعوة الصريحة إلى العَلمانية والدفاع عنها، ويدَّعون أنَّ العلمانية لا تجوز محاربتها وأنها تعطي المسلمين حقوقهم. وتنطق هذه الأفكار في مؤتمرات تضم أكثر من عشرة آلاف مسلم دعوةً علنيَّة مدويَّة، ثم تجد هذه الدعوةُ الدعم والتأييدَ، وتتناقلها الألسنة، ويدافع عنها بعض علماء المسلمين، وتتناقلها بعض الصحف والمجلات، ولا تُوفَّر فسحةٌ للرأي الآخر. وأخذ هذا الاتجاه ينمو وتزداد رقعته تحت شعار الإسلام وتأويل الآيات والأحاديث.
ومن خلال هذه الاتجاهات أخذت تتزايد الدعوة إلى تقارب الأديان وإلى الحوار بين رجالها وتطرح المسوِّغات لهذه الدعوة بين حين وآخر. واتخذت خطوات عملية في لقاءات بين بعض علماء المسلمين وبين بعض علماء أهل الكتاب، بالإضافة إلى زيارات إلى الفاتيكان تحت هذا الشعار. من الصعب أن نَذْكُر كلَّ ما تمَّ في هذا الصدد، ولكن نذكر ما صرَّح به أحد العلماء الذين زار الفاتيكان من أجل الحوار أنَّ البابا قال لهم: نحن لا نعترف بمحمد -صلى الله عليه وسلم- رسولاً من عند الله. ويتساءل هذا بعد ذلك: فلماذا الحوار إذن؟! وأقول له: اسأل نفسك لماذا هذا الحوار! وليس هذا هدفنا بهذه الكلمة، ولكن هدفنا هو مناقشة المبدأ ومسوِّغاته والنصح للأمَّة بما يُرضي الله.
النقطة الأولى التي يجب أن نسجِّلها هي أنه في الوقت الذي يدعو فيه بعض المسلمين إلى الحوار والتقارب مع الأديان الأخرى، نجد الدعوة إلى الحوار بين المسلمين أنفسهم وإلى تقاربهم دعوة ضعيفة، أو نجد أنها تُقاوم أو غير مرغوب فيها نفسيّاً ولا عمليَّاً، مع أنَّها هي الأوْلى!
والنقطة الثانية هي أن هذه الدعوات تدور وصفوف أهل الكتاب أكثر تماسكاً وصفوف المسلمين أكثر فرقة. وهذه الظاهرة جعلت أهل الكتاب يتعاملون مع المسلمين على أساس من نهج وتخطيط يُغذِّي تعاونهم فيما بينهم لتحقيق أهداف عليا التقوا عليها، ولا يعطّلها اختلاف أطماعهم على الغنائم من ثروات العالم الإسلامي. وفي الوقت نفسه لا يحمل المسلمون نهجاً ولا خطة يلتقون عليها لتحقيق أهدافهم الربَّانيَّة التي تغيب في عجاج الخلاف والشقاق.
عندما يأتي رجال الدين من أهل الكتاب إلى الرجل المسلم، فإنهم لا يأتون بوازع فردي معزول عن صفّهم، وإنما يأتون من خلال توجيه ونهج يخدم أهدافهم المعلنة وغير المعلنة، ويقف وراءهم صفُّهم. وأما المسلم حين يستقبل منهم أحداً ينكشف عندئذ غياب التخطيط، وينكشف تباين الآراء ويظهر التراجع أو الوهن، وينكشف أنه وحده يحمل هواه لا قضية أمته ودينه.
والنقطة الثالثة هي أن بعض قواعد الإسلام تغيب أحياناً في ضباب هذه الدعوات وغموض مصطلحاتها، حتى إن بعض الآيات أو الأحاديث تُردَّد هنا وهناك كحجَّة لقول القائل، وتكاد توحي بسلامة هذه الحجة، حتى إذا دُرِست الآية أو الحديث وعرفت المناسبة وفقهُها تغيَّرت الصورة كلها، وتغيَّر الفقه والحكم.
والنقطة الرابعة هي أنه لا يحلُّ لنا أن نحمِّل الإسلام وفِقْهَ الإسلام ما يراه البعض من آراء تحت ضغط واقع المسلمين اليوم من وهن وهزائم واستسلام في كثير من المواقع. هنالك أمور غير قليلة في واقع المسلمين يفرضها عليهم، فلماذا يحاول البعض أن يتلمَّس من بين الآيات والأحاديث مسوِّغات تزيدنا إثماً على إثم، وتزيدنا اندفاعاً في مسلسلات التنازل، وتزيد من الخدر في عروق المسلمين.
لا ننكر أننا نحن المسلمين اليوم في ظلمة شديدة وفواجع وهزائم. وإننا نحاول الخروج من هذا الظلام وقد اضطرب الميزان في أيدينا وغلبت الأهواء والمصالح، وأصبحت النجاة التي يرُومها الكثيرون هي السلامة في الدنيا، ناسين أمر الآخرة أو غافلين عنه، وأنه لم يعد هو المعنى الحقيقي للنجاة. الكثيرون يريدون الخلاص من الفقر ومن خطر القتل والإبادة، ومن العدوان والظلم، خلاصاً لا يُنجي من عذاب الآخرة.
فتوحي شياطين الإنس والجنِّ إلى بعض النفوس بأنَّ النجاة من أهوال الدنيا هي في مجاملة أعداء الله أو الركون إليهم، ثمَّ تبنِّي أفكارهم، ثم الدعوة إليها نيابة عنهم. لقد ظنَّ الكثيرون أنَّ هذا هو باب النجاة من صروف الدنيا وعدوان الظالمين. فهرعوا يتسابقون إلى ذلك، كلٌّ يعلن عن موالاته أو يُسِرُّه ويعلن غيره.
ولو رجعنا إلى تاريخنا المعاصر لرأينا أنَّ أول ضحايا أعداء الله هم هؤلاء الذين ركنوا إليهم ووالوهم. فلقد استغلهم الأعداء حتى استنفذوا كل طاقة عندهم، ثم رموهم لما انتهت حاجتهم إليهم، كما ترمى قشرة الليمون بعد عصرها، أو قضوا عليهم قضاءً مذلاً وحشيَّاً لأول خاطرة بالمخالفة، حتى إنَّ بعضهم لم يجد أرضاً تؤويه أو تضمَّ رفاته.
ويظنُّ بعض المسلمين أن أعداء الله الذين يركنون إليهم لا يعرفون الإسلام، ويظنون أنهم يستطيعون أن يخدعوهم ويعلنوا تأييدهم الصريح لمبادئهم إعلاناً تدور به المؤتمرات والصحف والمجلات وسائر وسائل الإعلام، ويعلنون موالاتهم لهم. ولو سألت عن ذلك لقال أفضلهم إنها خطة مرحليَّة أو " تكتيك "، كما يحلو لبعضهم تسميته، إلا أن يكونوا قد أصبحوا فعلاً يؤمنون بمذاهب الأعداء وفلسفاتهم.
لقد غاب عن بال هؤلاء أن أعداء الله يعرفون الإسلام، وأن لديهم أناساً متخصصين لذلك، وأنهم يعلمون علم اليقين أن الإسلام يرفض العَلمانية، ويرفض هذه وتلك. فعندما يرى هؤلاء أن بعض المسلمين قد أخذوا يتنازلون عن بعض قواعد دينهم، أو إخفاء بعضها الآخر، وأنهم يُخْفُون الجهاد ومعانيه، ويبرزون السلام وأمانيه، مشوّهين بذلك حقائق الإسلام، وفاصلين بعضها عن بعض، فإنهم حين يفعلون ذلك يخسرون احترام هؤلاء الأعداء، ويخسرون نصر الله وتأييده، فيخسرون بذلك الكثير الكثير، ويخسرون أسباب النجاة والنصر. أولئك الذين يركنون إلى أعداء الله يخسرون كل شيء. واستمع إلى قوله سبحانه وتعالى: ﴿ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ ﴾ [هود: 112، 113].
الحوار مطلوب وضروري لمن كان له قضية يريد أن يدافع عنها ويدعو الناس إليها، فالحوار أول طريق الدعوة وشق السبيل إلى الهدف المحدَّد الثابت على صراط مستقيم.
والمسلم صاحب رسالة ودعوة إلى الدين الحق، دين الإسلام الذي لا يقبل الله من أحد سواه، فحريٌّ بالمسلم أن ينهض إلى هذا الحوار على هذا الأساس، ثم يمضي على صراط مستقيم، ينتقل من هدف رباني ثابت إلى هدف رباني ثابت آخر، إلى الهدف الأكبر والأسمى الدار الآخرة والجنة ورضوان الله.
إن تبليغ الدعوة للناس كافة تكليف رباني وأمر من عند الله للأمة المسلمة كلها، ولكل قادر وهبه الله الوسع الصادق الذي يحاسَب عليه يوم القيامة، وعلى مدى الوفاء بعهده مع الله من خلال وسعه الصادق لا وسعه الكاذب الذي يصوره الوهم والرغبة في العجز والاندفاع مع الأهواء وشهوات الدنيا.
إن الحوار الأول الذي ندعو إليه هو الحوار بين المسلمين أنفسهم، ليتدارسوا واقعهم وما يحيط بهم من أحداث وما ينزل بهم من نوازل وكوارث، وما يفاجئهم من زحوف وكيد ومكر.
المسلمون أحق الناس أن يحاوروا أنفسهم قبل أن يحاوروا غيرهم، وأن يقفوا مع أنفسهم وقفة إيمانيّة يردّون فيها واقعهم إلى منهاج الله، عسى أن يكشف الله لهم سبيل الخروج من هذا الظلام، وعسى أن يمنّ عليهم بأسباب النصر والعزّة والمنعة، ويهديهم سبيل الرشاد.
ومن يدخل الحوار وليس له قضية فإنه خاسر في نهاية المطاف. ومن كان له قضيّة، فيصبح من اليسير عليه أن يضع نهجه وخطته، ويحسب كلّ خطوة يخطوها وكل جولة يثب إليها وكل كلمة يحاور بها. فمن لم يكن له نهج ولا خطة فإنه كذلك خاسر في نهاية المطاف أو أوله.
فمن دخل ميداناً من الميادين دون نهج ولا خطة، ليجابه فريقاً آخر له نهجه وخطته، فإن هذا الفريق الثاني يستطيع أن يحوّل جهود الفريق الأول إلى مصلحته. فيعود الفريق الأول الذي لا نهج له ولا خطة خاسراً لم يستفيد من جهده وبذله، وقد يضطر إلى أن يلجأ إلى الشعارات يُدوّي بها ليخفي فشله.
لقد مرّت أحداث وتجارب كثيرة يمكن الاستفادة منها. فمن لم يستفيد منها فقد أضاع على نفسه فرصاً ثمينة وزاداً غنيّاً. وجميع التجارب والأحداث تلحّ بالعودة الصادقة إلى الله، وبالإنابة إليه، والخشوع بين يديه والتوبة والاستغفار، حتى تخضع النفوس فلا تستكبر، وتلين وتستقيم على أمر الله فلا تنحرف.
نِعْمَ الحِوارُ الذي يسعى لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى!
نِعْمَ الحوارُ الذي يسعى لإخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن الله العزيز الحكيم.
نعم الحوار الذي لا يساوم على دين الله، ولا يتنازل ولا يهون ولا يضعف، ويظل قوّياً صادقاً بإيمانه، جليّاً بكلمته وبيانه، غنيّاً بحجته وسلطانه.