الجمعيات من وسائل الدعوة الى الله
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيآت أعمالنا
من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (102) } ] آل عمران: ١٠٢[
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}]النساء: ١[
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) }]الأحزاب: ٧٠[
أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار
لقد أعلمنا الله تعالى أنه إنما خلق الجن والانس لتوحيده ، فقال:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ (57) }]الذاريات: ٥٧ [
وإنما بين لهم أنه ضامن الرزق لهم كي لا يصدهم التعني في طلبه ، والسعي في تحصيله عما خلقوا له ، وليعلموا أن ما شرعه لهم من الأحكام كفيل ببلوغهم الكفاية منه على أتم الوجوه وأكملها ، وأنفعها لهم وأصلحها ، فجدير بهم أن ينهضوا بهذا الذي خلقوا له ، ويتعاونوا عليه ، ويتواصوا به ، فإن من لازم المحافظة على أي مبدأ حقا كان أو باطلا التعاون عليه بالأمر به والنهي عن ضده ، فكيف بنشر الحق بين الخلق ، وإشاعته فيهم والتكاليف فيها كلفة ، والطباع لا تتقاضاها؟ مع أن الحاجة إليها ماسة أكثر من الأكل والشرب وغيرهما قال الله تعالى { وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)}]العصر: ١ – ٣[،فلا بد في التمكين للحق من هذه الأمور الأربعة : العلم والعمل والتواصي بالحق والتواصي بالصبر على الأذى اللاحق ولا بد ، ومن الحق الذي يتواصى به رحمة الخلق بالإشفاق عليهم والإحسان إليهم بالقول والفعل قال تعالى {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) }]البلد: [17
قال تعالى{ كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) } الفجر:] ١٧ – ١٨ [،ومن أحكام الشرع مالا يتأتى أن يقوم به الفرد وحده،فلا مناص من التعاون عليه،ولهذا أمر سبحانه بذلك في قوله{وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)}]المائدة: ٢[قال تعالى{ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)}]النساء: ٣٥[ومن أحكام الشرع ما يعسر أن يتولاه الفرد وحده
قال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }]الحجرات: ١٠ [قال تعالى{وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32)}]النور: ٣٢ [ ومنها ما يتيسر اجتنابه بتوفير بدله ، فإن أبواب الخير متى ضاقت تسبب ذلك في فتح أبواب الشر ، قال تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130)}]آل عمران: ١٣٠[ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم}(1) ومنها ماهو موجه الى الأمة وهو الفرض الكفائي فمن يقوم به؟ ومن يقدر اليوم على القيام بشيئ مما تقدم ، كأن يساعد محتاجا بجمع المال له أو يتحمل حمالة في صلح فيتمكن من استرجاع شيئ مما تحمله ، والشرع أعطاه الحق في ذلك ، اذ أدخله في مصارف الزكاة ، فمن يفعل ذلك دون أن يلاحق متى علم به ؟ ومن يقدر أن يجاهد المشركين بماله إن كان يعمل بمفرده ؟ وماذا فعلنا لنجنّب بعض الناس الاقتراض بالربا مع أنه من الميسور للجمعيات أن تقدم قروضا ، أو تكون ضامنة في تلك القروض ؟
1-رواه أحمد وأبو داود 2504 والنسائي عن أنس
وما نسبة الذين نصلح بينهم الى من يترافعون الى القضاء مع مافي الترافع اليه من المخالفة في معظم القضايا ؟ والأمثلة كثيرة.
إن الرباط الظاهر بين أصحاب الهدف الواحد هو التعاون عليه بالتمكين له بعد أن يقوم بينهم الرباط الباطن وهو صلة الولاء والتحاب في الله أو في الطاغوت قال تعالى{ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)}]التوبة: ٦٧[ فقوله تعالى(بعضهم من بعض)هو جامعهم الباطن ثم ذكر ما ينشأ عنه من خدمته والتمكين له قال{ وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }]الأنفال: ٧٣[ وقال عن المؤمنين {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)}]التوبة: ٧١[ فنشأ كما ترى الأعمال الظاهرة عند الكفار والمنافقين ، وعند المؤمنين المتقين عن تشابه أعمال قلوبهم واقرأ قول ربك سبحانه وتعالى {وَقَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا اللّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)}]البقرة: ١١٨[ وقال تعالى{ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53)} ]الذاريات: ٥٢ – ٥٣[ وقال تعالى{بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) }]المؤمنون: ٨١ [و قال{ مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43) } ]فصلت: ٤٣[
ولهذا عظم النهي وكثر عن التشبه بالكفار والفجار في الأقوال والأفعال والأزياء حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم {من تشبه بقوم فهو منهم} (1).
وموكب الإيمان كذلك يلتقي أصحابه في ظواهر الأعمال وبواطنها ، فظاهر الأعمال يكون بالتزامها والتواصي بها والتعاون عليها ، وهي وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وهي مما فضلت به هذه الأمة المرحومة ، أما تشابه قلوبهم فلأن وصف الايمان لا يقوم إلا إذا آمن بأركانه الستة مع ما بستتبعه ذلك من القول باللسان ، والامتثال بالأركان واعمال القلوب هي الأصل ولذلك كانت أفرض على العبد من أعمال الجوارح (2) قال تعالى{ آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)}البقرة: ٢٨٥
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن صلة المؤمنين ببعضهم البعض :{مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى }3
وقال النبي صلى الله عليه وسلم:{المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا}4
وقال النبي صلى الله عليه وسلم {الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وماتناكر منها اختلف }5
قال الخطابي رحمه الله بعد هذا الكلام:(يقول النبي صلى الله عليه وسلم إن الأجساد التي فيها الأرواح تلتقي في الدنيا فتتألف وتختلف على حسب ما جعلت عليه من التشاكل أو التنافر في بدء الخلقة ولذلك ترى البر الخير يحب شكله، ويحن الى قربه وينفر عن ضده وكذلك الرهق الفاجر يالف شكله ويستحسن فعله وينفر عن ضده) انتهى 6
1-رواه أبو داود عن ابن عمر
2- بدائع الفوائد لابن القيم 3193/
3- رواه أحمد ومسلم عن النعمان بن بشير
4-رواه الشيخان عن أبي موسى
5-رواه البخاري 3336 عن عائشة ومسلم عن أبي هريرة
6- معالم السنن للخطابي 4/115
وأنى لهذه المعاني التي وصف بها المؤمنون أن تبقى وتتجسد في حياة المؤمنين إذا لم تعضد بعمل ظاهر كان متوافرا لها من قبل ،وكاد يفقد في هذا الزمان ؟
وقد أوجب الله على كل مؤمن أن يدعوه في كل صلاة بهدايته الى الصراط الذي سار عليه من تقدمه ، وبدايته من آدم عليه السلام قال تعالى{اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيم صراط الذين أنعمت المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}الفاتحة 6-7 غير(7)عليهم
إنه موكب ممتد مستمر حتى تقوم الساعة كما قال عليه الصلاة والسلام { لاتزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين الى يوم القيامة قال فينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم تعال صل لنا ، فيقول لا عن بعضكم لبعض أمراء تكرمة الله هذه الأمة } 1
وقد جاء من رواية جابر وعقبة بن عامر ومعاوية بن أبي سفيان وثوبان وعمران بن حصين وسلمة بن نفيل وأبي هريرة رضي الله عنهم 2 وقد تضمنت ألفاظ الأحاديث الواردة في الطائفة المنصورة وصفها "بالظهور على الحق وبالقهر للعدو وبالظهور على الناس وبالظهور على من ناوأهم وبأنها قوامة على أمر الله وأنهم لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم وأنها باقية الى أن تقوم الساعة والى أن يأتي أمر الله "3
هذا ما أخبر به الصادق ونحن مؤمنون به ومصدقون والله لا يخلف الميعاد ، أفترى في هذا العصر الذي حظرت قوانينه كل نشاط عام إلا على الهيآت والموظفين إمكان تحقق هذه المطالب الشرعية وظهور هذه الأوصاف الخبرية الصادقة من غير وجود جماعة منظمة يسمح بنشاطها القانون ، ولا يهولنك وصف هذه الطائفة بأنها قاهرة للعدو ، فإن الجهاد لا يشرع إلا إذا توفرت شروطه على أنه له مقدمات تسبقه ، ووسائل تمهد له ، أبرزها جهاد النفس والهوى والشيطان {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) } العنكبوت: ٦٩
1-لفظ مسلم عن جابر والحديث متواتر
2-انظر الصحيحة للألباني:ح 1108وح 1957 وح 1962
3-المخرج من تحريف المنهج للمؤلف ص 19
وغير خاف عنك أن هذه الجماعة كانت موجودة يوم كانت بيضة الإسلام محمية وأحكامه تسري في حياة الناس في الجملة أما الآن فلا بد من اصطناع هذه الروابط التي فرضها القانون وجعلها شرطا في الإقدام على بعض الأعمال التي لا غنى للمجتمع المسلم عنها ، ولا تقوم الرابطة بين أفراده كما ينبغي إلا بها ،وأنى للمرء أن يحشر مع تلك الرفقة الطيبة إذا لم يكن على طريقها في الدعوة الى ما دعت اليه ، وهو غير متمكن من ذلك في معظم الأعمال العامة إلا بهذه الوسيلة قال تعالى{ وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69)}النساء: ٦٩
كثير من المطالب الشرعية التي تضمنتها نصوص الكتاب والسنة ومثلها في ذلك الأخبار الواردة في صفات المؤمنين كان الفرد المسلم يقوم بها وحده ، ويدعو اليها غيره ويتعاون مع إخوانه على تحقيقها أما في هذا العصر فإن كل ما يفعله الفرد هو أن يقول بلسانه ويحض بكلامه أو يقدم جهدا بمفرده وقد لا يقدر على القول بله الفعل أما أن ينتقل الى ما وراء ذلك من الفعل المؤثر الواسع فلا سبيل له إليه إلا في هيئة يعترف بها أولو الأمر ويسمحون لها بالنشاط.
وقد تنبه العلامة ابن باديس الى هذا الأمر مبكرا ، ونهض إليه مبادرا ، كان ذلك يوم سقطت الخلافة الإسلامية رغم أنه لم يكن يرى في سقوطها إلغاء للخلافة بمعناها الاسلامي ، وإنما كان ذلك في نظره إلغاء لنظام حكومي خاص بالعثمانيين فهو بفراسته رحمه الله رأى أن المسلمين قد أفلت منهم أن يقيموا نظامهم السياسي على هدى الاسلام ، وفي ذلك النظام لم تكن الحاجة الى هذه الجمعيات كما هي الآن ، وقد كاتب شيخ الأزهر في هذا الشأن ولما لم يتلق منه جوابا قال معلقا على موقفه :"وسيرى صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر أن خيال الخلافة لن يتحقق ، وأن المسلمين سيبنتهون يوما ما الى هذا الرأي" 1
1- آثار الشيخ عبد الحميد ابن باديس5/384
لقد دعا ابن باديس الى أن ينتظم أمر المسلمين في جماعة تشمل كل أقطارهم ولعله كان وهو يدعو الى ذلك قد قام في ذهنه خبر الطائفة المنصورة التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم كان متشوفا الى جماعة تنتظم فيها أقطار المسلمين قاطبة ومانزال نحن نتباحث في جماعة ننشئها في قطر من أقطاره وليس بالبعيد ما ذهب إليه رحمه الله متى قامت في كل قطر مجماعة على هدي الكتاب والسنة وسيرة سلف الأمة والعجب أن ابن باديس لم يتردد في اعتماد الفصل القائم بالفعل بين الناحية السياسية الدولية والناحية الأدبية الإجتماعية في حياة المسلمين وإن كان هذا الفصل مرفوضا وقد رتب على هذا الواقع المرفوض الحاجة الى إنشاء تلك الجماعة كي تحافظ على ما يمكن من أحكام الإسلام ، وبلغة المعاصرين يعني فصل الدين عن الدولة ، وهذا الأمر وان كنا نمقته ونعارضه مبدأ فإن ذلك لا ينفي أنه موجود واقع فمراعاته في العمل الدعوي مما لا مناص منه.
لقد تمكن المسلمون حين نظموا أعمالهم في هيآت معتمدة أن يكون لهم محاكم شرعية في دول كافرة ، فهذه مملكة بريطانيا تسمح للمسلمين بإقامة عشرات المحاكم الشرعية في ترابها ، ويتعدى اختصاص تلك المحاكم الأحوال الشخصية الى غيرها، فيتحاكم إليها من شاء من المسلمين في تلك البلاد ، وليس من شك أن غرض الإنجليز من هذا وغيره ليس خدمة للإسلام ورعاية أحكامه ، وقد خدمت هذه الدولة اقتصادها بإقامة مصارف يقال إنها غير ربوية لتستقطب أموال المسلمين فتتمكن من مراقبة حركتها والتعرف على مصادرها وتدمجها في الاستثمارات وقد ينضم الى ذلك كسب الأصوات في الانتخابات فلم لا تفعل ذلك كثير من حكومات المسلمين في أرض الإسلام ؟ ولم لا يسعى في تحقيق هذا الأمر مع أنه من الأمور العظيمة الأهيمة وقد ذكرت شيئا من هذا في كتابي عن الحزبية 1"واني لأتوقع لهذه الجمعيات في أوطان المسلمين خاصة ووطنهم عامة ، متى كان لها ثقل علمي واجتماعي وقادها أهل البصيرة الشرعية والاستقامة والأناة والتدرج أن يؤدي وجودها إن شاء الله الى تحقيق شيئ من هذا فتعود بعض أحكام الشرع للحياة العامة ، وإلا فكيف يعجز المسلمين في ديار الإسلام عن تحقيق ما حققه المسلمون في ديار الكفر ؟ .
1-هل الحزبية وسيلة للحكم بما أنزل الله ص46-51
لكني أقول إن مجتمعنا مازال في الغالب غير راغب في الإنفاق على تمويل الجمعيات لعدم اطكئنانه الى ما يصرف فيه ماله ، وتحفظه هذا حق فيحتاج الأمر الى جهاد البيان بالقول والبرهان بالفعل حتى يتغير سلوك الناس ومما يغيره أن يلمس المؤمنون ثمار أعمال هذه الجمعيات في التعليم والإصلاح بين الناس والنفع العام ، سيعلمون حينئذ أن دافعهم الى الانفاق على بناء المساجد وهو أعظم مصارف التطوع عندنا ينبغي أن يدفعهم الى الإنفاق على بناء مشاريع هذه الجمعيات إن لم يكن هنا أعظم في بعض الأحيان ، وقد علمت أن جمعية تشرف على معهد علمي في بعض بلاد الشام ميزانيته السنوية مليونا دولار، أي ما يعادل 15مليار سنتيم بعملة بلادنا، فأين نحن من هذا؟ وقارن هذا بجمعية وطنية هامة في بلادي ميزانيتها السنوية لا تتعدى ملياري سنتيم !!والمقصود مجرد المقارنة .
إن من أحكام الله تعالى ماهو موجه للأفراد يقوم به ولابد كل من توفرت فيه شروط التكليف،وهذا القسم هو الأصل في الاصلاح ، وهو معظم الدين،ومنها ما الأمر فيه موجه الى الأمة قاطبة فإذا قام به بعضها سقط عن الباقين ، وهي فروض الكفاية ونحن نرى أن كثيرا من النوع الأول يعسر على المرء التزامه لما له من علاقة بالنوع الثاني ، وأحكام الشرع تتكامل وتتعاضد بل إن الضغط مستمر على الفرائض العينية وما فتئ قيام الفرد المسلم بها يتعرض للتضييق لتزايد ابتعاد الحياة العامة عن هدي الاسلام وقد قال بعض أهل العلم إن الأجر على فرض الكفاية أعظم من الأجر على فرض العين , ولعل ذلك باعتبار عدم اهتمام الناس بالأول وتنبههم له ،وتراميهم المسؤولية فيه ، وهذا في الوقت الذي كانت فيه وسائل رعاية الحكم قائمة ، فكيف يكون الحال بعد أن غاب عن حياة المسلمين الحاكم الذي يقيم شرع الله ، ويصلح الدنيا بالدين ، في هذه الحال يأتي دور جماعة المسلمين كما كان العلماء يسمونها من قبل ، ويعطونها الصلاحية التي للإمام في غيبته ، أما اليوم فيجب أن تنشأ لتمارس بعض تلك الصلاحية مع وجوده لأنه تخلى عنها ، فالسعي في تأسيسها واجب لتقيم من الإصلاح ما تيسر
هذا تصورنا لمآل تأسيس الجمعيات المحلية والوطنية والدولية والانخراط فيها ، وهو تصور قد لا ندرك زمان إثماره وقطف جناه، ولكن ينبغي أن نسعى له جهدنا فنحقق أهدافا فورية من وراء هذا التأسيس أدنى من ذلك ، حتى يقوم عليها ذلك البناء الذي في تصورنا ، وهو معيش في بعض بلدان العالم ، والعاقل من اتعظ بغيره، والأغراض الكبرى تقام على مادونها في الأهمية ولا بأس في طريق الحق من السير البطيئ فإنه خير من العجلة ، وإنما يذم من تفرج على المخالفة من غير أن يفعل شيئا لوقفها أو علاجها ، كذلك كان سلفنا :علموا مقاصد الشرع ، وتفقهوا في أحكامه ، وراعوا واقعهم في اصطناع الوسائل المشروعة لاستمرار الدعوة الى الحق، والجمعيات من أعظم الوسائل الى خدمة الحق في عصرنا .
لولا ما سمعته من اعتراض بعض إخواني على مشروعية تأسيس الجمعيات و الانخراط فيها ما أقدمت على كتابة هذه الورقات, فإني أحسب أنها من الوسائل المطلوب الإقدام عليها لخدمة الدعوة في جانبيها العلمي و العملي, ولا مانع أن يجري النقاش فيما ينبغي أن يتوفر في القائمين عليها من البصر بأمور الدين, أو في العمل مع المخالف, ونحو ذلك, فلما علمت ما أبداه بعض إخواني من التحفظ, وقد ناقشت بعضهم فيه, كتبت هذا البيان مستحضرا الأسئلة التي ألقيت علي, وقد كان أخونا وصديقنا جمال عماني حفظه الله أبرز الذين أبدوا كثيرا من الملاحظات, وذكروا ما يمكن أن يثور في الرؤوس من الشبهات, يروم بذلك بتجلية الموضوع, والإحاطة بأطرافه, كما اعتمدت على ما لم أسمعه مما أظن أنه من الأمور التي تحتاج إلى الكشف ورفع اللبس, وسيجد القارئ إن شاء الله الجواب عن تلك الأسئلة بما يبين مشروعية تأسيس الجمعيات والانخراط في الموجود منها في تفاصيل وقيود أذكرها .
و من تأمل مواقف المعترضين وجدها راجعة إلى واحد أو أكثر من أمور:
1- عدم الميل إلى العمل الجماعي لمقتض شخصي .
2- الاستغناء عن الجمعيات بوسائل أخرى يظن أنها كافية, ومنها العمل الفردي وبالتدريس والمحاضرات واستغلال المواقع الإلكترونية وغيرها .
3- الخوف من الوقوع في المحذور الناشئ عن مخالطة المخالفين في المنهج والعقيدة وتزكية عملهم .
4- إيثار السلامة بعدم التعرض للنقد والتشنيع ممن لا يرون المشروعية, ولأن هذا العمل ينجر عنه التفرق و الاختلاف, مع الخوف من أن يقع لهم ما وقع للكثير من الجمعيات في جمع الأموال و إنفاقها.
5- اعتبار تأسيس الجمعيات بدعة, أو حزبية مقنعة.
ولا أشك أن بعض ما تقدم من أوجه الاعتراض مبني على الجهل بحقيقة عمل الجمعيات, وما يمكن أن تحققه من الأعمال, وطريقة تأسيسها, إلى مسائل أخرى لم يحقق مناطقها كترك مجالسة المبتدع وهجرانه.
وقد راعيت هذا فتحدثت عن معنى الجمعيات, وحاجة الدعوة إليها, وما يمكن أن يعترض به على تأسيسها أو الانخراط في الموجود منها, والشروط التي ينبغي أن تتوفر في المشرفين عليها, ومجال نشاطها والأعمال التي تقوم بها.
أما إيثار السلامة من كلام الناس فمن ذا الذي يبتغي خلافه لو كان ذلك ممكنا؟, بل لو كان ذلك مشروعا بإطلاق, وقد تسبب الحرص على هذا الأمر من بعض الدعاة وما يزال في كثير من الانحرافات ليس هذا موضع الإشارة إليها, وقد ذكرت بعضها في المخرج من تحريف المنهج, وإرضاء الناس غاية لا تدرك, وينسب للشافعي رحمه الله أنه قال :"ليس إرضاء الخلق من سبيل, فانظر الذي فيه صلاحك فافعله", ولنكتف بهذا.
وأما من رجع موقفه إلى السبب الأول فلا كلام عنه إلا من حيث إن المؤمن إذا علم أن في مخالطة الناس ما يحقق مصلحة شرعية ترجح على ما يحققه له الانفراد من الصفاء والراحة النفسية ويبعد عنه الأذى الذي يحتمل أن يلحقه بسبب تلك المخالطة حسن به أن يخالط, فكيف إذا لم يكن هذا الأمر كذلك, من أن المخالطة حاصلة في شؤون الحياة المباحة, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :( المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم)(1), وقال ابن مسعود رضي الله عنه :" خالط الناس ودينك لا تكلمنه"(2) , وفي رواية عنه قال:" خالطوا الناس وزايلوهم في الأعمال" , وكاتب هذه الرسالة من الفريق الذي يفضل الانفراد, لكنه موقف طبعي, ينبغي أن نفرق بينه وبين الموقف الشرعي, ومقاومة نوازع النفس في مثل هذه الأمور مطلوب مرغوب, يترك المرء ما يرغب فيه إلى غيره لما فيه من مرضاة ربه ونفع أمته.
1- رواه أحمد والترمذي والبيهقي عن ابن عمر وهو حسن
2-علقه البخاري عنه في باب الانبساط الى الناس من كتاب الأدب والكلم بفتح فسكون الجرح
منذ ست عشرة سنة كنت أرقب متأسف عزوف المشتغلين بالدعوة في بلادي عن هذا الأمر, مع الاكتفاء بتنظيم الحلقات في البيوت التي يستضيفنا أصحابها وتحضرها طائفة من الشباب يدعوهم بعض الناس للاجتماع في داره, ثم صار الدعاة تستقبلهم جمعيات المصليات التابعة للمراكز الجامعية, ثم توسع الأمر إلى الاتحادات الطلابية, والجمعيات المحلية, وربما استضافت الجمعية من لا يوافق على نشاطها العام, وكيف يلتقي قبول المرء تقدم محاضرة تحت غطاء مثل هذه الجمعيات مع شكره لها في ختام محاضرته وتنويهه بعملها والحال أنه يعترض على مشروعية إنشاء الجمعيات أو الانخراط فيها, مع أن الجمعية حرة في اختيار نوع النشاط الذي تراه داخل قانونها الأساس, ألا يعد ذلك تناقضا واضطرابا في الرؤية ؟ .
تكلمت في هذه المسألة مع مجموعة من الإخوان وفدوا علينا من الجزائر العاصمة منذ ست عشرة سنة, ولا حاجة إلى ذكر أسمائهم, ولعلهم إن كتب لهم الاطلاع على هذه الرسالة يتذكرون هذا الذي قلته, وقد كانت الفتنة التي ضربتها هائجة مائجة
طلبت منهم التفكير في إنشاء هيئة للتنسيق والتشاور في مسائل الدعوة, ولاقى العرض منهم استحسانا, ثم لم يحصل شيئ وقد ذكرت اقتراحي هذا مرة أخرى لبعض الإخوة في شهر رجب من هذه السنة 1430 هـ في مجلس ضم بعض الفضلاء بالعاصمة, وتكرر هذا الأمر فكان مما اعتل به بعضهم من موانع الإقدام عليه خشية الاعتراض بأن يقال من خولكم هذا الحق دون غيركم؟, ومما اعتل به أيضا الخلاف الذي بين بعض الدعاة, وهكذا كما ترى ليس مانعا مقبولا, ولو روعي في الإقدام على الأعمال الصالحة لتعطل الكثير منها, فإن من انتظر اتفاق على شيئ فمن النادر أن ينهض به, والمبادرة إلى الخير تأتي في الغالب من فرد, ثم تتوسع, ويمكن لها وفق تقدير الله تعالى, ثم يقال في معارضة هذا المانع: من خول فلانا أن يفتي؟. ومن خول الأخر أن يحاضر أو يجرح ويعدل؟, ومن خول الثالث أن ينشئ مجلة؟, فما يجاب به هنا يجاب به هناك, وهو شعور الشخص بالمسؤولية عن الدعوة إلى الله مع ما يأنسه في نفسه من القدرة على العمل بعد الإخلاص لله تعالى فيه.
منذ الزمان الذي قدمت فيه اقتراحي إلى اليوم تأسست عشرات الجمعيات الوطنية وآلاف الجمعيات المحلية, فغطت ما يخطر على البال من أنواع المنكرات وما لا يخطر, كما غطت كثيرا من أعمال البر النافعة, لكن قل أن يكون نفعها خالصا وكان من أوائل الجمعيات التي ظهرت جمعية الزوايا والغرض من إنشائها لا يخفى على اللبيب,وقد تكلمت عنه في مقدمة كتابي المخرج, ولو أن تلك الهيئة التي اقترحتها أسست لكان للدعوة جمعية وطنية تتبعها فروع في المستويات المحلية, ولا تجنبنا بذلك كثيرا مما حصل في هذه الفتنة التي ضربتنا, وأورثت مجتمعنا شروخا يعسر أن تندمل, ومن آثار خلو الساحة من المرجعية هذا الانقسام والتعصب للأفراد, وما ترتب على العمل المرتجل من التضارب والاختلاف, وما أفضى إليه الغلو في التجريح بعد أن مارسه كل من هب ودب, وما أكثر الأوقات التي أنفقت فيما أحيط بالتزكية من المغالاة في اشتراطها, وقصرها على فلان وفلان, وقد جرد سلاح الجرح في وجه كثير من العاملين في حقل الدعوة, ينتقضون ويحذر منهم, ويُصطفى لهم من أوصاف النبز ونغوت القدح ما يتلقف ليملأ به الفراغ, وتغطى به البطالة, ويكون حصائد للألسنة الحادة بالسوء, فاجتمعت على بعض الدعاة المحاصرة من أكثر من جهة, ووجود هيئة للدعوة ولو مع الاختلاف داخلها, فإن ذلك خير من الاختلاف بدونها, وآثار هذا الخلاف بادية ألحظها في أوساط الشباب
كلما زرت ولاية من الولايات, وجلست إلى بعض فئاتهم, وقد نشأ عن ذلك فرقة وجدال وخصام, ومن الضار للدعوة أن يقع الارتباط بين المتبوعين والأتباع بما يشين من التعصب, فيؤدي ذلك إلى أن يحسب أحدنا الحساب الدقيق لكل مايصدر عن متبوعه حتى لا يخرج عما يريده, وقد يبلغ الحرص على استبقاء النفوذ مترلة الحرص على ترك قول الحق الذي فيه خلاف ما ذهب إليه الشيخ !!, وهذا تعصب اقتربنا به تعصب المتصوبة لشيوخهم, ومن أسس منهجنا مقاومة التعصب لغير المعصوم, مع التزام أدب الخلاف, ورعاية مقام العلماء, والصواب أن التقليد ممنوع من طالب العلم بعد تبين الحق له فضلا عن العالم, وهذا الذي ذكرته كان من أكبر الدوافع لي على تدوين كتابي المخرج من تحريف المنهج, فإن الأقربين أولى بالمعروف, والمنكر ينهى عنه كائنا من كان مرتكبه, وقد قلت فيه(1): " وحسبك تنفيرا من الاشتغال به أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم نهى أن يفضل على يونس وموسى بن عمران عليهما الصلاة والسلام, بل نهى عن المفاضلة بين الأنبياء على العموم, قطعا لدابر الجدال
1-المخرج من تحريف المنهج ص 4
حيث قال:(لاتفضلوا بين الأنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات ومن في الأرض, إلا من شاء الله, ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث, فإذا موسى آخذ بالعرش, فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور, أم بعث قلبي؟, ولا أقول إن أحدا أفضل من يونس بن متى)(1) , وإذا حصل مثل هذا التعصب فخير منه بكثير التعصب لمذاهب الأئمة المتبوعين الذين أطبقت الامة على فضلهم وعلمهم, وإن كان التعصب كله مذموما, لا شك أن وجود جمعية للدعوة سيزيل كثيرا من هذا الانحراف, ولكنني أعتقد أن ميلاد مثل هذه الجمعية اليوم عسير, وأخشى أن ينطبق علينا المثل العربي :" الصيف ضيعت اللبن":
أمرتهم أمري.بمنعرج اللوى .**** فلم يستبينوا النصح إلا الضحى الغد.
إن أعمال البر متعددة, فينبغي أن يكون للمهتمين بالدعوة إلى الله في كل منها سهم,"ومعلوم أن هذا الأمر في وقتنا لا يتم على أحسن الوجوه, بل لا يمكن إلا بالوسائل التي قررها أولو الأمر, وهو إنشاء الجمعيات التي أجيز لها أنها تعمل في مجال البر والإحسان, فلم الإعراض عن ذلك كله, وهو الطريق المتاح للقيام بهذه الأمور الخيرية؟, ألا يدخل ذلك في التعاون على البر والتقوى الذي كان المسلمون يقومون به من تلقاء أنفسهم؟, فلما ضعف هذا الوازع فيهم ساغ دعمه وتقويته بهذه الوسائل التي لا غبار على مشروعيتها فيما نعلم, قال الله تعالى : {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} المائدة: .انتهى (2)
وقد قلت في موضع آخر:" والمناسبة تدعوني إلى تنبيه المهتمين بالدعوة في بلدي إلى أمر نحن عنه غافلون, وقد يعرض عنه بعضنا لاكتفائه بما توفر له من وسائل العمل في هذه المواقع الإلكترونية وغيرها و وربما أعرض عنه ثان لميله إلى الانطواء والانقباض, وكل ميسر لما خلق له, لكن بعض إخواننا اعتبره بدعة, ورآه آخرون حزبية مقنعة, أو كونه يلزم منه العمل مع أهل البدع والمناهج الباطلة, والمقام الذي أنا فيه لا يسع الرد على هذه الهواجس والظنون
1-رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة
2- المخرج من تحريف المنهج ص100
وبيان وجه المشروعية, والأمر هو تأسيس الجمعيات العلمية والثقافية حسب التنظيم الذي وضعته الدولة, واستغلالها في نشر العلم الشرعي بتحفيظ القرآن الكريم, وعقد الحلقات والدورات العلمية, وإلقاء المحاضرات, وتأسيس المكتبات, وتقدم الخدمات النافعة للأمة, كالإصلاح بين الناس, والضمان في القروض الحسنة, وتنظيم أعمال التطوع المختلفة, وغير ذلك من وجوه الإحسان, على أن يتولى القيادة في هذه الجمعيات من له إلمام بالشرع, وقدرة على التسيير والتنظيم, والبصر بالواقع, وحسن السمعة في أوساط الناس, والقدرة على الاستقلالية في اختيار النشاطات المشروعية, وفيم الإعراض عن استغلال المراكز المعدة للمحاضرات كدور الثقافة وفروع المراكز الثقافية الإسلامية بالتنسيق مع القائمين عليها في الجانب الذي نرتضيه؟, وإنه لا مفر من تنوع أساليب الدعوة وولوج الأبواب واتخاذ الوسائل إلى المجالات النفعية و الخيرية التي تعضدها, ولا يجوز أن تترك مقدرات الأمة و النظم الملائمة يستغلها اللاهون والعابثون ، ويعرض عنها تحت غطاء ماتقدم أهل الدعوة الناصحون،ولا أرى العزوف عن هذه الوسائل إلا مضرا بالدعوة واضعا لها على الهامش،والواجب المؤقت تفوت مصلحته بخروج وقته، والله الهادي ولا حول ولا قوة إلا به "(1) انتهى
********
س1 : ماهي الجمعية ؟ .
ج1 : الجمعية منسوبة إلى مصدر وهو الجمع, يراد بها مجموعة من الناس يتفقون على القيام بعمل ما استنادا إلى قانون أساس ونظام تسيير يضعونه, وفي نظر قانون الجمعيات هي"اتفاقية تخضع للقوانين المعمول بها, ويجتمع في إطارها أشخاص طبيعيون أو معنويون على أساس تعاقدي,ولغرض غير مربح, كما يشتركون في تسخير معارفهم ووسائلهم لمدة محددة أو غير محددة من أجل ترقية الأنشطة ذات الطابع المهني والاجتماعي والعلمي والديني والتربوي والثقافي والرياضي على الخصوص "(2), انتهى, والمراد بالأشخاص المعنويين الجمعيات والهيآت فإنها يمكن أن تجتمع في اتحادات ونحوها.
1-مقدمة الجزء الثالث من العجالة في شرح الرسالة للمؤلف
2-القانون رقم 90-31 الصادر في 17-5-1411 الموافق ل4-12- 1990
س2:ما الفرق بين الجمعيات والأحزاب السياسية؟
ج2:الفرق بينهما أوضح من أن يوضح ،يشهد لذلك قانون الدولة المنظمة لكل منهما،والنظام الأساس الذي هو المرجع في مهامهما،والعرف جار على ذلك أيضا،وهذا لا ينفي أن بعض الجمعيات إنما أسست لتكون ردءا للأحزاب السياسية وعونا لها وبديلا عنها عند الحاجة،لكن هذه تصرفات الناس ولا تمثل حقيقة عمل الجمعيات واختصاصها ، يوضح ذلك القانون المتقدم في مادته الحادية عشرة"تتميز الجمعيات بهدفها وتسميتها وعملها عن أية جمعية ذات طابع سياسي ولا يجوز أن تكون لها أية علاقة بها،سواء أكانت تنظيمية أم هيكلية،كما لا يمكنها أن تتلقى منها إعانات أو هبات أو وصايا مهما يكن شكلها،ولا يجوز لها أيضا أن تساهم في تمويلها" . انتهى ، ولكن هذا إذا كان المراد بالسياسة المعنى الذي اصطلح عليه الناس ومرجعهم فيه الأهواء والآراء ، وعقد التحالفات الحزبية أما إن كان المراد بالسياسة في نظر الشرع فإنه إنما جاء لقيادة الناس وصلاح حالهم،فتجريده من هذا المعنى لا يصح، وعمل الجمعيات لا يخلو من هذا القصد، فإنها وسائل للإصلاح،وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:(كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما مات نبي قام نبي وإنه لا نبي بعدي...)الحديث (1)
وإذا كان هذا في بني إسرائيل فالشريعة الخاتمة الناسخة الباقية أولى أن يكون فيها ذلك،والقائمون على رعاية هذا المعنى هم العلماء والأمراء معا،وعدم وجود من يرعى الشرع من جانب الأمراء لا يلغي عمل الآخر ولا يعفيه مما يقدر عليه، بل هو الأصل في الإصلاح لقول الله تعالى:{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)} ] الحديد 25[ وقال ابن تيمية رحمه الله يرد على من فرق بين ما شُرع سياسة وماكان غير ذلك:"هذه السياسة إن قلتم هي مشروعة لنا فهذا حق ،وهي سياسة شرعية وإن قلتم:ليست مشروعة لنا فهذه مخالفة للسنة ثم قول القائل بعد: هذا سياسة إما أن يريد أن الناس يساسون بشريعة الإسلام،أم هذه سياسة من غير شريعة الإسلام فإن قيل بالأول فذلك من الدين وإن قيل بالثاني فهو الخطأ" (2)
1-رواه الشيخان عن أبي هريرة 2 -مجموع الفتاوى20-391
س3:لماذا تُنشأ الجمعيات ؟
ج3: يختلف الغرض من إنشاء الجمعيات بالنظر الى الحاكم الذي أذن في إنشاءها والجماعة الذين يقدمون على تأسيسها ، فالذي يأذن في إنشائها قد يهدف الى ما يأتي أو بعضه:
أ-تكوين روابط في المجتمع ليسهل عليه التعامل مع الأفراد عن طريق نقبائهم وزعمائهم كما هو الشأن في الاتحادات العمالية والروابط المهنية وغيرها وهذا أمر قديم معروف.
ب-وقد يكون غرضه استخدام تلك الروابط لتقوية حكمه ونظامه عن طريق الاستجابة لبعض مطالب نقابات تلك الروابط والجمعيات ، ومن ثم تجنيد الاعضاء في خدمة تلك الأغراض ،لعجزه هو عن تجنيدهم بطريق مباشر.
ج-وقد يستخدمها الحكام ليرسخوا ما يريدونه من قوانين ونظم يعترض عليها الناس لمخالفتها الشرع أو ما جرت به أعرافهم وعاداتهم،تحت زعم ما يعرف في هذا العصر بحركة المجتمع المدني الذي تعبر هيآته كما يقولون عن تطلعاته ورغباته !!
د-وقد يلجأ الى ذلك لتنشيط حركة خدمة المجتمع من خارج العمل الحكومي لأن الجهاز الرسمي لا يمكنه تغطية تلك الحاجات.
أما من جهة المنشئين فالأمر راجع الى قانون الجمعية الأساس الذي يودعونه ما يرمون إليه من تأسيس جمعيتهم ، من الأهداف القريبة والبعيدةن فتكوين الجمعية وسيلة يحكم عليها من خلال الغاية التي أسست من أجلها.
*****
س 4:هل تأسيس الجمعية من الوسائل المشروعة ؟
ج4:إذا عرفت الغرض المروم من تأسيس الجمعيات وكان تحقيقه متوقفا على إنشاءها لكون الحاكم يمنع ممارسته إلا عن طريقها فاعلم أن حكم الوسيلة يعطى حكم الغاية التي تفضي إليها،وقد يقدم عليها إذا كانت المصلحة المترتبة عليها أرجح من المفسدة الناشئة عنها،واذا كانت الموازنة بين المنفعة والمضرة هي المرجع في حكم الأعيان بحيث يجوز ماكان منها خالص المنفعة أو راجحها ، ويمتنع ماكان متمحض المضرة ، أو غالبها أو مساويا للمنفعة فكيف بالوسيلة غير الممنوعة الى المصالح الخالصة النفع؟فالوسيلة الى المطلوب مطلوبة فينبغي تحصيلها واعتمادها ومن هذا الباب قول العلماء إن ما لا يتم الواجب الا به فهو واجب
قال ابن القيم رحمه الله "وبالجملة فالمحرمات قسمان:مفاسد وذرائع موصلة إليها مطلوبة الإعدام كما أن المفاسد مطلوبة الإعدام والقربات نوعان:مصالح للعباد ، وذرائع موصلة إليها ففتح باب الذرائع من النوع الأول كسد باب الذرائع في النوع الثاني كلاهما مناقض لما جاءت به الشريعة ..." (1)
وقال القرافي :"واعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها ويندب ويكره ويباح،فإن الذريعة هي الوسيلة فكما أن وسيلة المحرم محرمة فكذلك وسيلة الواجب واجبة، كالسعي الى الجمعة والحج، وموارد الاحكام على قسمين: مقاصد وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في نفسها ووسائل وهي الطرق المفضية إليها وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحريم أو تحليل غير أنها أخفض رتبة من المقاصد في حكمها، فالوسيلة الى أفضل المقاصد هي أفضل الوسائل والى أقبح المقاصد هي أقبح الوسائل والى ما يتوسط متوسطة" (2)
هذا من حيث تأصيل المسألة أما من حيث تطبيقها على الموجود فقد قال بذلك كثير من أهل العلم منهم الشيخ العلامة ابن باديس وسائر أعضاء جمعية العلماء والشيخ العلامة ابن باز والشيخ صالح الفوزان والشيخ ابن عثيمين والشيخ عبد العزيز آل الشيخ والشيخ صالح آل الشيخ لكن كلام بعضهم جاء مطلقا في الجمعيات التي يتوفرفيها ما ينبغي شرعا،وبعضهم في خصوص جمعية بعينها رأوها مستوفية لما ينبغي توفره (3) وسأذكر فتوى هيئة كبار العلماء بعد
1-إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان 1-370
2-تنقيح الفصول وشرحه للقرافي ص 449
3-انظر كتاب منهج السلف الصالح في ترجيح المصالح للشيخ علي بن حسن الحلبي ص39 45
س5:كيف يحدد الغرض من إنشاء الجمعيات؟
ج5:يعرف ذلك بالنظر في قانونها الأساس الذي يعده فرد أو مجموعة من الأفراد ويتفق عليه المؤسسون فإن السلطات التي لها حق الموافقة على إنشاء الجمعيات واعتمادها لا توافق على ذلك ما لم تقدم الجمعية هذا القانون من جملة ما تقدمه ، وهذا القانون يمكن إدخال التعديلات عليه متى رغب أعضاء الجمعية في ذلك متبعين التنظيم المرعي في هذه المسألة ، وأضرب مثلا لذلك و ما تضمنه القانون الأساس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين المعاصرة فإن الغرض من إنشاءها أو بعث إنشاءها من جديد هو:
- نشر الفهم الصحيح لتعاليم الاسلام البعيد عن كل بدعة
- محاربة البدع وكل ما هو محرم بصريح الشرع
- محاربة الآفات الاجتماعية المختلفة حيثما كانت
هذا هو موضع التعاقد والتحالف في هذه الجمعية وما خالفه فهو من تصرفات الناس وآرائهم فلا عبرة به ، وماكان من الإجراءات التنظيمية ومنها مشاركة النساء فينبغي أن يتم على وفق الشرع بعيدا عما يرومه بعضهم من الجريان في حلبة مساواة الرجال بالنساء التي يدندن حولها كثير من الجهلة وبعض المحسوبين على العلم، لكن انضمام من لا علم عنده قد يجعله عرضة لتلك الأفكار فيتأثر بها،أما من كان له من العلم ما يقيه ذلك فلا مانع يمنعه،أما من انضم الى مكتب ولائي يقوده من له معرفة بالشرع والتزام المنهج الحق، فهذا إن شاء الله أبعد عن الريبة، وقد استفتي بعض كبار أهل العلم بمدينة النبي صلى الله عليه وسلم وذكرت له هذه التفاصيل فلم ير مانعا من الانخراط،بل رأى ذلك مطلوبا بشرطين:
1-أحدهما أن لا يُلزم المنخرطون بالبدع و المعاصي
2-أن يتولى التدريس أصحاب المنهج الحق،أخبرني بهذا من أثق به.
س6:ما الحاجة الى إنشاء الجمعيات في المجتمع المسلم؟
ج6:الحاجة الى إنشائها ماسة بمعرفة ما يأتي:
- تنظيم العمل بحيث لا يغدو بمبادرات يقوم بها من شاء متى شاء
- على أن هناك من الأعمال مالا يمكن الإقدام عليه إلا عن طريق الجمعيات لأن الحاكم يمنع كثيرا من النشاطات دون هيئة معتمدة يمكنها أن تحصل على الترخيص بذلك كإنشاء المدارس القرآنية والعلمية وتنظيم المحاضرات والأعمال التطوعية العامة وإنشاء المكتبات وتلقي الإعانات من الجهات الحكومية والخاصة وغير ذلك.
- وقد بين العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس شيئا من ذلك في مقال له بعنوان :(الخلافة أم جماعة المسلمين)(1) وكأنه رحمه الله قد جاءه من طريق الفراسة بعد سقوط الخلافة الإسلامية أن الحكم العام في الإسلام المرتبط بالسياسة قد أفلت من أيدي المسلمين،وأن السبيل الى المحافظة على شيئ منه هو تكوين جماعة للمسلمين تنتظم بلدانهم قاطبة ومما قاله فيه:"للمسلمين مثلما لغيرهم من الأمم ناحيتان ناحية سياسية دولية،وناحية اجتماعية أدبية ، فأما الناحية السياسية الدولية فهذه من شأن أممهم المستقلة،ولا حديث لنا عليها اليوم،وأما الناحية الأدبية الاجتماعية فهي التي يجب أن تهتم بها كل الأمم الإسلامية المستقلة وغيرها ،لانها ناحية تتعلق بالمسلم من جهة عقيدته وأخلاقه وسلوكه في الحياة،في أي بقعة من الأرض كان،ومع أي أمة عاش،وتحت أي سلطة وجد،وليست هذه الناحية الإنسانية المحضة دون الناحية الأولى في مظهر الإسلام، ولا دونها في الحاجة الى الحفظ والنظام،لأجل خير المسلمين على الخصوص وخير البشرية العام" وقال :"ولكن لنا جماعة المسلمين وهم أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين من الناحية والدينية والأدبية ويصدرون عن تشاور مافيه خير وصلاح،فعلى الأمم الإسلامية جمعاء أن تسعى لتكون هذه الجماعة من أنفسها بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخل الحكومات لا الحكومات الاسلامية ولا غيرها"
1-آثار الامام عبد الحميد بن باديس 5-382
- قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصرالسعدي رحمه الله وهو بصدد ذكر ما يؤخذ من أحكام وعظات من قصة شعيب في سورة هود عليهما الصلاة و السلام:"ومنها أن الله يدفع عن المسلمين بأسباب كثيرة قد يعلمون يعضها وقد لا يعلمون شيئا منها،وربما دفع عنهم بسبب قبيلتهم ، وأهل وطنهم الكفار كما دفع الله عن شعيب رجم قومه بسبب رهطه وإن هذه الروابط التي يحصل بها الدفع عن الإسلام والمسلمين لا بأس بالسعي فيها،بل ربما تعين ذلك لأن الإصلاح مطلوب على حسب القدرة والإمكان فعلى هذا لو ساعد المسلمون الذين تحت ولاية الكفار وعملوا على جعل الولاية جمهورية يتمكن فيها الأفراد من حقوقهم الدينية والدنيوية..." (1) انتهى ، وقد تعجل بعضهم فرأى أني ذكرت كلامه المتعلق ببلاد الكفر في الكلام على بلاد المسلمين والجواب أننا نفرق بين بلاد الإسلام وبلاد الكفر،لكن هذا لا يجعلنا نتجاهل أن كثيرا من أحكام الشرع غائبة عن حياة المسلمين في بلاد الإسلام،وهي متفاوتة في ذلك ونفع هذه الجمعيات غير خاف في تحقيق بعض المصالح وإحياء بعض الأحكام ودفع بعض المظالم، فإن صوت الهيئة يختلف في القوة والتأثير عن صوت الفرد،فكون كلام الشيخ عن بلاد الكفار لا يمنع توسيع نطاقه الى بلاد المسلمين في جانب الجمعيات غير السياسية، فإن وجودها مما ينصر به الإسلام ويكون سببا في تحقيق كثير من المصالح، ومجرد الخوف من تحول الجمعيات هذه الى أحزاب ليس كافيا في تعطيل المصالح المترتبة على إنشاءها،فإن القانون لا يسمح بذلك، ولسنا من الذين يرون ارتباط العضو في هذه الجمعيات برئيسها ارتباط بيعة كما يتضح من هذه الرسالة،بل هو ارتباط إداري تنظيمي بحت،فإن زاد عليه فهو ارتباط المرء بالعالم أو طالب العلم.
ومن ذلك القيام بالإصلاح بين الناس بالتخفيف عن المحاكم وتجنيب الناس طول الفصل في المسائل التي يتقاضون فيها،وهذا وإن كان بعض الدعاة وغيرهم يقومون به فرادى فإنه غير كاف،ولا مؤثر تأثير الصلح الذي تقوم عليه هيئة ولا يسع المقام ذكر هذه الفروق،وهكذا تجنيبهم نفقات الوكلاء والمحامين وغير ذلك،بل إني أرى أن تلك المقاضاة لاتجوز إلا إذا تعذر على المؤمن الوصول الى حقه من طريق الصلح لما ذكرته في كتابي عن الحزبية (2)
1- تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 3-215
2- انظر كتاب هل الحزبية وسيلة الى الحكم بما أنزل الله ص 47-50
- فإن قلت استطرادا:إن العلماء قد اختلفوا في لزوم التحكيم كما قال الشافعي رحمه الله:التحكيم جائز غير لازم، قال:لأنه لا يقدم آحاد الناس الولاة والحكام، ولا يأخذ آحاد الناس الولاية من أيدهم" وخالفه مالك رحمه الله فقال:"إذا حكم رجل رجلا فحكمه ماض وإذا رفع الى قاض أمضاه إلا أن يكون جورا بيّنا" (1)
- فالجواب أن كلام العلماء ينبغي أن ينزل منزلته،وأن ينظر إليه في محيطه وما رمى إليه قائله ، وإلا كان تحريفا له" فالشافعي رحمه الله قصد الاحتياط لمنزلة الحاكم في إقامة شرع الله، فإذا غلب على الأحكام أن تتم عن طريق الصلح والتحكيم كان في ذلك افتيات عليه،وقد يؤدي الى التفريط في الأحكام فتتناسى بسبب التنازل عنها عن طريق الصلح ، لكن هذا إنما يكون إذا كان ولاة المسلمين قائمين بالحكم الشرعي حامين لبيضة الإسلام ولا يخفى ما عليه المسلمون من التفريط في هذا المقام
- وإذا كان التحكيم قد شرعه الله تعالى لما فيه من مصلحة للحاكم نفسه وللقاضي إذ فيه تخفيف عنه،فإن فيه أيضا مصلحة للمتخاصمين حيث يجتنبون مشقة الترافع إليه، وانكشاف الأسرار التي يحسن أن لا تذاع والمحاكمات في هذا العصر تجري في العلن،ومن ذلك إمكانية التعافي في الحدود قبل بلوغها للحاكم لو كان الحكم الشرعي قائما، فلهذا قال العلماء إن أصله الجواز ولقول النبي صلى الله عليه وسلم:(الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا حرم حلالا أو حلل حراما،والمسلمون على شروطهم إلا شرطا حرّم حلالا او حلل حراما)(2)
لكن حكمه اليوم الوجوب للسبب الذي علمت والله أعلم
1-انظر أحكام القرآن لابن العربي 2-622
2-رواه الترمذي1352 وابن ماجة عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده وقال حسن صحيح ولعل ذلك لغيره ولكثرة طرقه
س7:أيهما أولى :جمعية ولائية أو بلدية ، أم الانخراط في جمعية وطنية ؟
ج7:الانخراط في جمعية وطنية معتمدة ، بتشكيل مكتب ولائي أيسر من تشكيل جمعية محلية لما في الأخيرة من الإجراءات الإدارية الطويلة والعراقيل المرتبطة بالتحقيق الإداري والأمني الذي كثيرا ما يخضع لأمزجة من ينجزونه لا لحقيقة الشخص الذي هو موضوع التحقيق ،ويترتب على هذا في الغالب أن لا يصل الى عضوية الجمعية من هو ذو قدرة علمية ومكانة اجتماعية تؤهله لتحقيق ما يراد من الجمعية عملا وتوجيها ، ولذلك فإن هذه الجمعيات المحلية لا تتجاوز في الغالب أن تكون مظلة لاستقبال بعض المشتغلين بالدعوة بين الحين والحين ، وقد تحقق بعض الأعمال النفعية ، والمهمة التي نريدها للجمعيات أوسع من هذا كما رأيت ، إنها مهمة علمية إصلاحية بالدرجة الأولى ، ولا يخفى على اللبيب أن كل من كان ذا اتجاه سني متميز كثيرا ما يُنبز بالوهابية (1) ونحو ذلك من الأوصاف التي تمنع الموافقة على عضويته في مكتب جمعية، فضلا عن قيادته لها ، أما تأسيس مكتب ولائي تابع لجمعية وطنية فإن فيه شيئا من المرونة إذ إن الاعتماد يقع من المكتب الوطني رأسا، وخير منه أن تؤسس جمعية وطنية تتبعها مكاتب ولائية ، فيجتنب كما يقال العمل مع المخالف في المنهج والتوجه ، وهذا ما كنا طالبنا به بعض إخواننا منذ أزيد من عقد ونصف، لو كان يطاع لتقصير أمر .
س8: ألا يكتفى في مجال الدعوة الى الله تعالى بما تقوم به المساجد من تقديم الدروس العلمية والمواعظ وبما يقوم به المتطوعون ؟
ج8: لا يكفي ذلك في أي من جانبي الكم والكيف، أما الأول فلأن معظم أئمة المساجد يكتفون بدرس الجمعة المتنازع في مشروعيته ،وبخطبة الجمعة والغالب عدم وجود مجالس الوعظ وتعليم العامة فضلا عن حلقات العلم المتخصصة التي كانت موجودة في بلادنا من قبل
- أما في جانب الكيف فلأن ما يقدم في معظم المساجد غير كاف في مجال نشر العقيدة الحقة والمنهج المستقيم لأسباب بعضها راجع الى ما عند الإمام من العلم،وبعضها راجع الى أسباب أخرى ترتبط بالتوجه العام الذي لا يخفى على اللبيب.
1-كان خصوم السنة يطلقون هذا الوصف على ابن باديس،كما أطلقوا عليه وصف العبداوية نسبة الى محمد عبده،فما جواب المفترين من المتأخرين،وقد أشبهوا المتقدمين،وهم يزعمون أنهم لابن باديس من المتبعين ؟ وانظر آثار عبد الحميد ابن باديس (5-102)
- ولأن الاكتفاء بعقد الحلقات في البيوت ،وإلقاء المحاضرات التي تأتي عرضا من غير برمجة يجعل العمل العلمي والدعوي غير منتظم ، كما يجعله يقتصر على فئة من الناس غالبا، وفي ذلك مافيه من التفريق ومآله غير خاف على البصير ، وإذا كان المرء يرتاح لمجالسة الموافق له كما جاء في الحديث المتقدم ذكره:(الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف) (1) فإن الارتياح لنشر الخير في الناس أعظم من ذلك .
- ولأن للجمعية أعمالا أوسع من أعمال أئمة المساجد منها دعم الدعوة بالأعمال الخيرية النفعية فإن للإحسان سلطانا على الإنسان،ونحن وإن كنا لا ينبغي أن نقدم على العمل لمجرد جلب الناس لدعوتنا ، لكن هذا أمر كاللازم للدعوات قصدنا ذلك أو لم نقصده ، قال الله تعالى {يا أيها الذي آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} الحج 77 ولك أن تبحث عن مدى ما يبذله إخواننا في مواقع النفع العام المختلفة كالتكافل وإعانة المحتاج ورعاية الأيتام وتزويج الأيامى والسعي في إصلاح ذات البين والنشاط في الكوارث والنوازل والملمات لاريب أن هناك جهودا تبذل لكنها فردية غير منظمة ولا مطردة.
- ومن ذلك استغلال إمكانات الأمة ومرافقها وشيئ من أموالها وعدم تركها لمن يستغلها في نشر البدع والترويج للباطل وبث اللهو والفساد،
- ومن ذلك تصحيح ما شاع على ألسنة بعض الناس عن دعوة الحق في بلدنا أن أصحابها من ذوي الانعزال والانطواء وهم أهل جدال وخصام بل سرى في أذهان الشباب أن السعي في النفع العام وفعل الخير هو منهج تلك الجماعة دون غيرها !!
س9:ألا يعتبر تأسيس الجمعيات مزاحما لرابطة الايمان التي هي أوثق الروابط عند المسلمين ؟
ج9: وهل عدم تأسيس الجمعيات يساعد على تقوية تلك الروابط، أم أنها تزداد تفككا وانتقاضا ؟ وقد علمت أن دعم تلك الروابط بالأعمال النافعة هي التي تبقي عليها وتعضدها وقد كانت من قبل قائمة في المسلمين يتعاونون عليها تلقائيا ، أما الآن فلا يخفى عنك الوضع على أن كون إنشاء الجمعيات يزاحم تلك الروابط غير مسلم كما سيتضح لك من كلام أهل العلم.
1-رواه البخاري 3336 عن عائشة ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة
-
- قال الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله :" كَانَ الْمُسْلِمُونَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ جَمَاعَةً وَاحِدَةً ; يَتَعَاوَنُونَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى عَنْ غَيْرِ ارْتِبَاطٍ بِعَهْدٍ وَنِظَامٍ بَشَرِيٍّ ، كَمَا هُوَ شَأْنُ الْجَمْعِيَّاتِ الْيَوْمَ ، فَإِنَّ عَهْدَ اللهِ وَمِيثَاقَهُ كَانَ مُغْنِيًا لَهُمْ عَنْ غَيْرِهِ ، وَقَدْ شَهِدَ اللهُ - تَعَالَى - لَهُمْ بِقَوْلِهِ : }كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِالله{ (3 : 110) وَلَمَّا انْتَثَرَ بِأَيْدِي الْخَلَفِ ذَلِكَ الْعَقْدَ وَنُكِثَ ذَلِكَ الْعَهْدُ ، صِرْنَا مُحْتَاجِينَ إِلَى تَأْلِيفِ جَمْعِيَّاتٍ خَاصَّةٍ بِنِظَامٍ خَاصٍّ لِأَجْلِ جَمْعِ طَوَائِفَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَحَمْلِهِمْ عَلَى إِقَامَةِ هَذَا الْوَاجِبِ : التَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى فِي أَيِّ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهِ أَوْ عَمَلٍ مِنْ أَعْمَالِهِ ، وَقَلَّمَا تَرَى أَحَدًا فِي هَذَا الْعَصْرِ يُعِينُكَ عَلَى عَمَلٍ مِنَ الْبِرِّ ، مَا لَمْ يَكُنْ مُرْتَبِطًا مَعَكَ فِي جَمْعِيَّةٍ أُلِّفَتْ لِعَمَلٍ مُعَيَّنٍ ، بَلْ لَا يَفِي لَكَ بِهَذَا كُلُّ مَنْ يُعَاهِدُكَ عَلَى الْوَفَاءِ ، فَهَلْ تَرْجُو أَنْ يُعِينَكَ عَلَى غَيْرِ مَا عَاهَدَكَ عَلَيْهِ ؟ فَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ تَأْلِيفَ الْجَمْعِيَّاتِ فِي هَذَا الْعَصْرِ ، مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ امْتِثَالُ هَذَا الْأَمْرِ ، وَإِقَامَةُ هَذَا الْوَاجِبِ ، وَمَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إِلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ ، كَمَا قَالَ الْعُلَمَاءُ ، فَلَا بُدَّ لَنَا مِنْ تَأْلِيفِ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ وَالْخَيْرِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ ، إِذَا كُنَّا نُرِيدُ أَنْ نَحْيَا حَيَاةً عَزِيزَةً ، فَعَلَى أَهْلِ الْغَيْرَةِ وَالنَّجْدَةِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يُعْنَوْا بِهَذَا كُلَّ الْعِنَايَةِ" الى أن قال :" اللهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنَّنَا عُنِينَا بِتَأْلِيفِ جَمَاعَةٍ يُرَادُ بِهَا إِقَامَةُ جَمِيعِ مَا تُحِبُّ مِنَ الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ، وَإِصْلَاحِ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا ، وَهِيَ جَمَاعَةُ الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ ، اللهُمَّ أَيِّدْ مَنْ أَيَّدَهَا وَأَعِنِ الْمُتَعَاوِنِينَ عَلَى أَعْمَالِهَا ، وَاخْذُلْ مَنْ ثَبَّطَ عَنْهَا ، إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْقَادِرُ ،الْقَوِيُّ الْقَاهِرُ ، الْعَلِيمُ بِمَا فِي السَّرَائِرِ" (1). انتهى
س10:ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم (لاحلف في الإسلام) فكيف يُشرع تأسيس الجمعيات وهي بمثابة الأحلاف ؟
ج10: بلى فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة) (2) ، والفقرة الأخيرة من الحديث تبين المراد من فقرته الأولى ، فلا حلف في الإسلام فيما خالف شيئا من تشريعاته كأن يتناصر الناس بالباطل
1-تفسير المنار لمحمد رشيد رضا (6-131)
2- متفق عليه من حيث جبير بن مطعم
أو يتوارثون بالتحالف وكأن يدخلوا في قانون جمعيتهم إقرار منكر من المنكرات أما إذا كان التحالف داعما ومقويا للتحالف الأصلي القائم بين المسلمين بمقتضى إسلامهم ودخولهم في عهد الإيمان فهذا لا ضير فيه ، فإنه مجرد توكيد لذلك العهد وحض عليه فهو كالحلف على فعل شيئ من الواجبات والمستحبات أو على ترك شيئ من المحرمات والمكروهات وقد أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم ما جرى التحالف عليه في الجاهلية من أمور الحق كما ترى،
قال النووي رحمه الله :" وَأَمَّا الْمُؤَاخَاة فِي الْإِسْلَام وَالْمُحَالَفَة عَلَى طَاعَة اللَّه تَعَالَى وَالتَّنَاصُر فِي الدِّين وَالتَّعَاوُن عَلَى الْبِرّ وَالتَّقْوَى وَإِقَامَة الْحَقّ فَهَذَا بَاقٍ لَمْ يُنْسَخ ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيث ( وَأَيّمَا حِلْف كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّة لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَام إِلَّا شِدَّة ) (1)
- وجاء في فتوى صادرة عن هيئة كبار العلماء بعد كلامها عن الحزبية والتحذير منها:"أما إذا كان ولي أمر المسلمين هو الذي نظمهم ووزع أعمال الحياة ومرافقها الدينية والدنيوية ليقوم كل بواجبه في جانب من جوانب الدين فهذا مشروع بل واجب على ولي أمر المسلمين أن يوزع رعيته على واجبات الدين والدنيا على اختلاف أنواعها" (2)
س11: ماذا لو اعترض على الانخراط في الجمعيات بأنه يترتب عليه مجالسة المخالف في المنهج والعمل معه فيكون في ذلك إقرار لعمله وتحسين لحاله عند الناس ؟
ج11:إذا كان قانون الجمعية الأساس يحتوي على مافيه مخالفة للشرع فلا يجوز الانخراط في الجمعية،ولا المشاركة في تأسيسها لأنه يكون تحالفا للتعاون على الباطل،وقد نهانا الله تعالى أن نتعاون على الإثم والعدوان،وأخبر أن من أبرز صفات المؤمنين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر،بخلاف صفات الكفار والمنافقين،فكيف يجوز للمسلم أن يكون عضوا في جمعية تتحالف على نشر المنكر أي منكر كان كالغناء والموسيقى أو مناصرة قضايا المرأة أو إحياء موسم من المواسم أو إقامة وعدة ونحو ذلك، أما إذا كان القانون الأساس لا يوجد فيه غير المقبول شرعا فلينظر في مشروعية الانخراط
1-شرح صحيح مسلم للنووي (16-82)
2-حقيقة الدعوة الى الله وما اختصت به جزيرة العرب لسعد بن عبد الرحمن ص69
فإذا كان المرء في القيادة وهو عارف بالشرع على النحو الذي يأتي تفصيله فلا محذور،أما غيره فإن القول بمنعه من غير تفصيل تنشأ عنه مفاسد لا تخفى إذ يلزم من ذلك أن يبقى هذا المحق بعيدا عن الناس غير مشارك لهم فيما يأتون من أعمال السير ولا متعاون معهم،وكفى بهذا تنفيرا من حاملي السنة الداعين إليها ، وإبقاء لها بعيدة عن إصلاح الحياة بها ، والقائل بالمنع لا يسلم رأيه من التناقض إن كان أستاذا في جامعة أو أي مؤسسة تعليمية.يقال له تحت أي مسؤول هو ؟ مديرا كان أو غيره،وماذا يفعل في جلسات تقويم للطلاب في تلك المؤسسات؟ ألا يحضر مجالس الاقسام ، ومداولات اللجان في شهادات الماجستير والدكتوراه، فيلتقي بمن لا يرغب في مجالسته ويجري بينهم التداول في تقويم الممتحن؟وماذا يقال عن الانخراط في الجمعيات التي يتوقف عليها بناء المساجد.والحال أن المنخرطين فيها من سكان الحي فينبغي على هذا الرأي أن يكونوا على هذا النحو من الأوصاف،وإلا قيل بمنع العمل معهم،فينفرد بها غيرهم فلا يجدون من ينبههم الى بعض المخالفات وقل مثل ذلك في لجان الأحياء،وجمعيات أولياء التلاميذ،ولجان الخدمات الاجتماعية التي تتولى خدمة العمال بالاستفادة من الأموال التي تخصصها الدولة وفق نسبة محددة بالقياس الى ميزانية كل قطاع من قطاعات الوظيف،ويلزم على هذا أيضا أن يقال بعدم جواز تولي منصب الإمامة لأن في الجهة الوصية على المساجد من فيه كذا وكذا من المخالفات،مع أن ارتباط الامام بتلك الجهة أقوى من ارتباط عضو الجمعية بها، بل إن الإمام قد تلزمه الجهة الوصية بما يخالف الصواب أحيانا، وقد يحضر مجلسا يجري فيه من اللغط ومخالفة الحق ما يجري،فأين هذا ممن أسس مكتبا ولائيا تابعا لجمعية وطنية أو أسس جمعية بلدية أو ولائية فإنه لا يلزم إلا بما في قانونها الأساس،وفي وسعه أن يضع هذا النظام بنفسه، أو يشارك في إعداده،أو يقترح تعديله وصلته بمن فوقه لا تتعدى الارتباط الأدبي واللقاء القليل،ولو افترضنا خلاف ذلك وتعارضت عليه طاعة الله مع ارتكاب مخالفة شرعية فإن بإمكانه أن ينهي علاقته بالجمعية في الساعة التي يريد ولذلك فالمعول عليه هنا ليس إلا معرفة الحق والتزامه حسب الاستطاعة.
ثم إن من يقول بعدم مشروعية هذا الانخراط بعد الذي سأذكره من الشروط يقال له:تحت أي نظام عام تمارس أنت نشاطك الدعوي أو التعليمي أو منصبك في الإمامة وغيرها؟وأيهما أخطر وأبعد عن الحق: أهذه الجمعية التي ليس في نظامها الأساس ما يخالف الشرع؟ والاعتراض إنما يأتي من تصرفات بعض أعضاءها وهي لا تلزم غيرهم،مع إمكان تسلم غيرهم القيادة، أهذا أخطر أم النظام العام الذي تعمل تحته،إن كان هناك من فرق-وهو موجود والله-فهو لصالح دعوانا لكن بعض إخواننا لا يتفطن لهذا المعنى أو يتفطن له ويخفيه،لكن الآخر يبديه ويخفي في نفسه ما الله يبديه هل فكر المانع من ذلك في مصدر راتبه الشهري من أين أتى؟ لعله لا يعارض أن مصدره يغلب عليه المكس، إن المسألة كلها راجعة الى أن بعض إخواننا يتعاملون مع واقعهم وكأنهم في قرن من القرون المفضلة،أو في عهد من العهود التي تلتها،وقد كانت بيضة الإسلام فيها محمية،وأحكامه في الجملة مرعية، ويجهلون أو يتجاهلون أن الأمة تمر بمرحلة استضعاف ولا حاجة بنا الى الكلام عمن استضعفها ،وكوننا لسنا من التكفريين ولا من الخوارج في شيئ،وأننا نبرأ الى الله من أعمالهم،فإن هذا لا يعني تعامينا عن الحقائق التي ينبغي أن نضعها في الحسبان ونحن ندعو الى الله ،إن مرحلة الاستضعاف هذه لها خصوصيات في وسائلها بل وفي بعض مضامين الدعوة نفسها من حيث الأولويات،فمن غفل عنها أو تجاهلها وقع في التناقض والاضطراب،قد يجلس بعضنا ومن حوله من يستمعون إليه ويقتنعون بقوله أو بمعظمه،فيرتاح ويظن أن الدعوة بخير،وقد يصدر فتوى فيشكر الله على توفيقه ويحمد للسائل عنايته بدينه،وقد يصب أفكاره في تأليف يصدره فينفع الله به فريقا من قارئيه،وقد يقنع نفسه بالتفاؤل ونحن من أهله،فلا يستسيغ أن يقول هلك الناس أو يقولها متحزنا،لكننا كثيرا ما ننسى كيفية التمكين للدعوة ونشرها في الناس، وبالخصوص في جمهور الأمة العريض الجاهل،ننسى أننا في بلد عدد سكانه عشرات الملايين،وأن أمتنا عددها يفوق المليار،فما نسبة هؤلاء المقتنعين الذين لا نكاد نخاطب غيرهم الى ذلك العدد الذي نحن مطالبون بمخاطبته،وإيصال الخير إليه،إن من لا يضع في الحسبان ظروف محيطه ومرحلة الاستضعاف التي ذكرتها قد يسيئ الى الدعوة من حيث يريد الإحسان والله المستعان.
ثم إن الأمر في مسألة هجران أهل الأهواء والبدع يختلف باختلاف الأحوال،وماهي من المسائل ذات الحكم النهائي القار الذي يتساوى فيها الهاجرون والمهجورون من غير فرق بين زمان وآخر وحال وآخر،وهي قبل ذلك من وسائل التأديب وتقليل الشر ووقاية النفس،وليست من المقاصد,وكلام السلف المرحومين ينبغي أن نضعه موضعه،وأن ننظر في المحيط الذي يثمر فيه.
قال ابن تيمية رحمه الله:" وَهَذَا الْهَجْرُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْهَاجِرِينَ فِي قُوَّتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَقِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِهِمْ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ بِهِ زَجْرُ الْمَهْجُورِ وَتَأْدِيبُهُ وَرُجُوعُ الْعَامَّةِ عَنْ مِثْلِ حَالِهِ . فَإِنْ كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ فِي ذَلِكَ رَاجِحَةً بِحَيْثُ يُفْضِي هَجْرُهُ إلَى ضَعْفِ الشَّرِّ وَخِفْيَتِهِ كَانَ مَشْرُوعًا . وَإِنْ كَانَ لَا الْمَهْجُورُ وَلَا غَيْرُهُ يَرْتَدِعُ بِذَلِكَ بَلْ يُزِيدُ الشَّرَّ وَالْهَاجِرُ ضَعِيفٌ بِحَيْثُ يَكُونُ مَفْسَدَةُ ذَلِكَ رَاجِحَةً عَلَى مَصْلَحَتِهِ لَمْ يَشْرَعْ الْهَجْرُ ؛ بَلْ يَكُونُ التَّأْلِيفُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعَ مِنْ الْهَجْرِ . وَالْهَجْرُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَنْفَعُ مِنْ التَّأْلِيفِ ؛ وَلِهَذَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَلَّفُ قَوْمًا وَيَهْجُرُ آخَرِينَ".(1)انتهى
وقال (2) :" فَمَنْ هَجَرَ لِهَوَى نَفْسِهِ أَوْ هَجَرَ هَجْرًا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِهِ : كَانَ خَارِجًا عَنْ هَذَا . وَمَا أَكْثَرَ مَا تَفْعَلُ النُّفُوسُ مَا تَهْوَاهُ ظَانَّةً أَنَّهَا تَفْعَلُهُ طَاعَةً لِلَّهِ".
وقد كانت جمعية العلماء المسلمين الجزائريين تضم بعض المرتبطين بالزوايا والإباضيين والموظفين في مجلس إدارتها الذي جدد بعد سنتين من تأسيسها،ولم يمنعها ذلك من الدعوة الى الحق ،ومحاربة الابتداع وظروف الدعوة يومئذ لا تختلف عن الظروف القائمة الآن في بلدنا،وإن كان الاستدمار قد طوى بنوده،وأخرج جنوده،بل إنها أخطر بالنظر الى المكانة التي يحتلها الطرقيون اليوم ومتانة صلتهم بالحكم، يقول ابن باديس رحمه الله (3) عن مجلس إدارة الجمعية :"لقد جاء مجلس الإدارة مؤلفا من جميع عناصر الأمة الجزائرية ممثلا لها خير تمثيل ففيه من العلماء المنتمين للزوايا كالمهاجي وأبي عبد الله والفضيل وفيه من العلماء الموظفين كابن عربية القاضي والمعمودي الوكيل الشرعي،وفيه من علماء القبائل الفضيل وفيه من علماء الإباضية أبو اليقظان،أفبعد هذا يقول قائل يلتزم الصدق:إن الجمعية إنما تمثل طائفة"؟ .انتهى لم أسق كلام ابن باديس إلا لأستأنس به في أن مراعاة ظروف الدعوة يقضي بتغير العلاقة مع المخالف رعاية للمصلحة،وأن جعل هذه العلاقة على وزان واحد في جميع الظروف خلاف الصواب، ونحن فيما ندعو إليه من الانخراط في الجمعيات وتأسيسها لم نصل الى ما ذكره رحمه الله،بل ظروفنا يتاح معها العمل فيما هو خير والحمد لله.
1-مجموع الفتاوى لابن تيمية(28-206)وانظر المخرج من تحريف المنهج(79-89)للمؤلف
2-مجموع الفتاوى لابن تيمية (28-207)
3- آثار الإمام عبد الحميد بن باديس (5-100)
س12:فإن قيل فقول الله تعالى: { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(69) } ]الأنعام 68-69[ وقد ألحق بعض أهل العلم أصحاب الأهواء بمن نصت عليهم الآية ؟
ج12: فالجواب أن هاتين الآيتين جاءتا بعد أن أنذر الله تعالى هذه الأمة بمثل العذاب الذي أرسله على مكذبي الرسل من الأولين،وعلى المتفرقين المختلفين في دينهم من أهل الكتاب ،ولما كان السكوت عن الباطل ومجالسة أهله من غير نكير ظاهره الرضا به نهى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم عن مجالسة الذين يخوضون في آيات الله حتى ينقطعوا عن ذلك ،وللعلماء في معنى الخوض قولان أولهما الكفر بالآيات والاستهزاء بها ،والثاني المراء والجدال والخصومة اتباعا للأهواء ،وهذا ان لم تكن الآية نصا فيه باعتبار زمان نزولها فإن عمومها يتناوله،وقد جاء ذلك عن ابن عباس فيها وفيما شابهها من آيات الكتاب الحكيم لكنها نص في المعنى الأول كما هو واضح.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَجْلِسُونَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُحِبُّونَ أَنْ يَسْمَعُوا مِنْهُ ، فَإِذَا سَمِعُوا اسْتَهْزَءُوا ، فَنَزَلَتْ. قَالَ : فَجَعَلَ إِذَا اسْتَهْزَءُوا قَامَ ، فَحَذَّرُوا وَقَالُوا : لَا تَسْتَهْزِئُوا فَيَقُومُ ..." وَقَالَ السُّدِّيُّ :" كَانَ الْمُشْرِكُونَ إِذَا جَالَسُوا الْمُؤْمِنِينَ وَقَعُوا فِي النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْقُرْآنِ فَسَبُّوهُ وَاسْتَهْزَءُوا بِهِ ، فَأَمَرَهُمُ اللهُ بِأَلَّا يَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ . وَقَالَ مُقَاتِلٌ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاضُوا وَاسْتَهْزَءُوا ، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ : لَا يَصِحُّ لَنَا مُجَالَسَتُهُمْ ؛ نَخَافُ أَنْ نَحْرِجَ حِينَ نَسْمَعُ قَوْلَهُمْ وَنُجَالِسُهُمْ فَلَا نَعِيبُ عَلَيْهِمْ فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِكَ { وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} وأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ الطبري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى{ وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} ونحو هذا في القرآن قال : أَمَرَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْجَمَاعَةِ ، وَنَهَاهُمْ عَنْ الِاخْتِلَافِ وَالْفُرْقَةِ ، وَأَخْبَرَهُمْ إِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ بِالْمِرَاءِ وَالْخُصُومَاتِ فِي دِينِ اللهِ (1)
1-انظر الدر المنثور للسيوطي وتفسير المنار (7-504) لمحمد رشيد رضا
وقال العلامة الشيخ بن ناصر السعدي:" المراد بالخوض في آيات الله: التكلم بما يخالف الحق، من تحسين المقالات الباطلة، والدعوة إليها، ومدح أهلها، والإعراض عن الحق، والقدح فيه وفي أهله، فأمر الله رسوله أصلا وأمته تبعا، إذا رأوا من يخوض بآيات الله بشيء مما ذكر، بالإعراض عنهم، وعدم حضور مجالس الخائضين بالباطل، والاستمرار على ذلك، حتى يكون البحث والخوض في كلام غيره، فإذا كان في كلام غيره، زال النهي المذكور.
فإن كان مصلحة كان مأمورا به، وإن كان غير ذلك، كان غير مفيد ولا مأمور به، وفي ذم الخوض بالباطل، حث على البحث، والنظر، والمناظرة بالحق". انتهى ،ثم قال في تفسير قوله تعالى: {وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ } ]الأنعام 68[
" يشمل الخائضين بالباطل، وكل متكلم بمحرم، أو فاعل لمحرم، فإنه يحرم الجلوس والحضور عند حضور المنكر، الذي لا يقدر على إزالته.
هذا النهي والتحريم، لمن جلس معهم، ولم يستعمل تقوى الله، بأن كان يشاركهم في القول والعمل المحرم، أو يسكت عنهم، وعن الإنكار، فإن استعمل تقوى الله تعالى، بأن كان يأمرهم بالخير، وينهاهم عن الشر والكلام الذي يصدر منهم، فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه، فهذا ليس عليه حرج ولا إثم، ولهذا قال:{ وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)} أي: ليذكرهم، ويعظهم، لعلهم يتقون الله تعالى. وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكِّرُ من الكلام، ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى. وفيه دليل على أنه إذا كان التذكير والوعظ، مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره، إلى أن تركه هو الواجب لأنه إذا ناقض المقصود، كان تركه مقصودا" (1)
ومما ينبغي استحضاره هنا أيضا قول الله تعالى :{ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)} ]النساء 140 [فقوله تعالى (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ) فهو تذكير للمؤمنين بما نزله الله في سورة الأنعام المكية ،وفيه تفسير للمراد بالخوض في تلك السورة وهو الكفر بآيات الله والاستهزاء بها وقيل إن المراد بما نزل ما يفهم من آيات عدة يتقرر بها المعنى المقصود تدل عليه صيغة نزل
1-تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1-194)
وقوله (إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ) يعني في المعصية لا في مقدارها فإن المؤمن لا يصير منافقا بمجرد مجالسة المنافقين وهم يستهزئون ويكفرون فأما مجالسة أهل المراء والخصومات من أصحاب الأهواء فملحق بذلك الأصل لأنه طريق إليه.
ومن ذلك قول الله تعالى { إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)} ]الأنعام 159[ فقد قيل معناها مفارقة الدين وهذا كفر بلا ريب وحمل على تفريقه ومعناه أنهم آمنوا ببعضه وكفروا ببعضه وهذا يدعمه ظاهر قوله تعالى{ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)} ]الروم 31-32 [فإن قوله تعالى (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بدل من قوله (مِنَ الْمُشْرِكِينَ) وقيل هم المشركون اتبعوا دينا باطلا وهم مع ذلك متفرقون فيه ،إذ عبد بعضهم الأصنام وعبد بعضهم الملائكة وهذا بعيد،وقيل هي شاملة لهم ولغيرهم من أهل الأهواء والبدع والضلال لأن صنعهم يترتب عليه تشتيت الدين وتفريقه ولأنهم على اختلاف دركاتهم تاركون لشيء من الدين قال الشيخ رشيد رضا في تفسيره المنار :" لِافْتِرَاقِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي دِينِهَا وَمَا تَبِعَهُ مِنْ ضَعْفِهَا فِي دُنْيَاهَا أَرْبَعَةُ أَسْبَابٍ كُلِّيَّةٍ :
(1) السِّيَاسَةُ وَالتَّنَازُعُ عَلَى الْمُلْكِ .
(2) عَصَبِيَّةُ الْجِنْسِ وَالنَّسَبِ .
(3) عَصَبِيَّةُ الْمَذَاهِبِ فِي الْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ .
(4) الْقَوْلُ فِي دِينِ اللهِ بِالرَّأْيِ .
وَهُنَاكَ سَبَبٌ خَامِسٌ قَدْ دَخَلَ فِي كُلٍّ مِنْهَا ، وَهُوَ دَسَائِسُ أَعْدَاءِ هَذَا الدِّينِ وَكَيْدُهُمْ لَهُ
فتبين بعد استعراض ما أثر من معاني هذه الآيات أنها في الكفار والمنافقين،نهينا عن مجالستهم في حال كفرهم واستهزائهم مع عدم الإنكار عليهم،وهكذا إذا عديت دلالاتها الى أهل الأهواء والابتداع فإن المحظور هو السكوت عنهم،ثم إن هذا النهي إنما هو في حالة اختيار مجالستهم من غير حاجة ولا مقصد دعوي،ولسنا بالمختارين فيما نحن بصدده مع ما لنا من غرض مشروع في هذه المجالسة إن كانت ،وبعد ذلك فحالتنا حالة استضعاف كما سبق
س13: ماذا عن غير المنخرطين في الجمعية ، ألا يعتبر ذلك تمييزا بين المسلمين بغير ما أذن الله أن يكون ؟
ج13: الانخراط في الجمعية عمل طوعي بعد أن يقتنع المرء بذلك ويعتقد أنه قادر على تخصيص جزء من وقته لخدمة الصالح العام ومن لم ينخرط فهو من جملة المسلمين لا مانع من تعاونه مع الجمعية بما يستطيع بل إن المنخرطين في الغالب إنما يتولون تنظيم أعمال الجمعية والقائمون بالعون المادي معظمهم من غير المنخرطين، ومن رغب في الانخراط فلا مانع يمنعه، لكنه متى انضم تعين عليه الالتزام بما في قانونها الأساس ، ومتى كان تخصيص المسلم جزءا من وقته أو قدرا من ماله أو بعض جهده مفرقا بينه وبين أخيه المسلم المقصر في ذلك أو في بعضه،وإنما الجمعية إطار قانوني فرضه الحاكم على من رام ممارسة بعض الأعمال ،فكان وسيلة والوسيلة تتبع الغاية كما تقدم .
س14:ما الذي ينبغي أن يتوفر من الشروط في عضو الجمعية ؟
ج14: قانون الجمعيات لا يشترط فيمن يؤسس الجمعية أو يديرها إلا أن يكون جزائريا متمتعا بحقه المدني والسياسي ليس له سلوك مخالف لمصالح كفاح التحرير الوطني،فهذا شرط قانوني يعم كل أنواع الجمعيات ، أما ما ينبغي أن يتوفر في أعضاء كل جمعية من الشروط فيخضع لنوعها ومهامها ولمنزلة العضو في سلمها وهناك فرق في هذه الشروط بين عضو عامل وعضو مؤيد وعضو قائد والشروط قسمان:
شروط عامة ينبغي أن تتوفر في جميع الأعضاء كي يقبل انتماؤهم الى الجمعية وهذه في الحقيقة راجعة الى الأهداف التي أسست من أجلها،فإن العضو إذا لم يكن مقتنعا بتلك الأهداف راغبا في التمكين لها.كيف ينخرط في جمعية أسست لتحقيقها؟ وليس معرفة هذه الأهداف بالمتعين على كل أحد،فإنه إذا لم يعرف فليتبع من يعرف،أو ليسأل من يعرف،وهذه الشروط من توفرت فيه يمكنه أن يحصل على العضوية في الجمعية،ومت أخل المنخرط بشرط منها نزعت منه صفة العضوية بالطريقة المحددة في قانونها
- أن يكون مكلفا بالغا عاقلا مع مراعاة ما اشترطه القانون الوضعي في السن
- أن يكون مسلما سنيا محافظا على الصلوات غير منتسب لفرق الابتداع
- أن يكون غير معروف بالمجاهرة بالفسق والفجور
شروط خاصة وهذه ينبغي أن تتوفر فيمن يتولى القيادة أعني بذلك أعضاء المكاتب على اختلاف درجاتها،بحيث لا يترشح لها إلا أهل العلم بحسب الإمكان، إلا أعضاء المكاتب الوطنية فلا يسمح بالعضوية فيها إلا لأهل العلم ، وعلى هذا الأساس أقيمت جمعية العلماء في عهد ابن باديس رحمه الله، فإن كان ولابد من وجود غيرهم فالشرط رجوعهم لأهل الذكر عند التنازع وهذه الشروط هي:
- أن يكون من أهل المعرفة بالشرع بحسب الإمكان
- أن يكون ذا قدرة على التسيير والتنظيم واختيار النشاطات المشروعة
- أن يكون حسن السمعة في أوساط الناس يثقون فيه ويطمئنون إليه
- أن يكون من أهل الصبر والأناة والتدرج
- أن يكون من أهل الصبر بالواقع ليعرف كيف يدير علاقته بالسلطات المحلية
س15:ماهو مجال نشاط الجمعيات ؟
ج15: مجال عمل الجمعيات يحدده قانونها الأساس كما تقدم ، لكن الذي نقصده من تأسيسها في الجملة هو بث العلم الشرعي الذي هو الطريق الصحيح للإصلاح، وهو منهج الأنبياء وهكذا العلوم التي لابد منها لفهم القرآن والسنة وسائر علوم الحياة النافعة ثم بقية أعمال البر النافعة للناس، ويمكن ذكر محاور من ذلك منها:
- تحفيظ القرآن الكريم وتجويده وترتيله
- عقد الحلقات العلمية
- تنظيم الدورات العلمية
- إلقاء المحاضرات الدورية
- تنظيم الدروس الاستدراكية للطلاب
- إنشاء المكتبات والمنتديات
- إنشاء المدارس التعليمية
- إنشاء المجلات وطبع المطويات
- فتح المواقع الالكترونية
- المشاركة في الاذاعة المحلية
- الإصلاح بين الناس
- الإجابة عن الاستفتاء
- ضمان القروض الحسنة للتخفيف من تعاطي الربا
- تنظيم المعارض
- تنظيم أعمال التطوع في الغرس والنظافة وغيرها
- تنظيم رحلات الاستكشاف
- المساعدة في أعمال الإغاثة في النوازل.
وقبل الختام أثبت كلمة للعلامة الفقيه الورع الشيخ ابن باز رحمه الله قالها بعد أن أورد الأدلة على حكم الصلح مع اليهود قال :"ما ذكرناه في الصلح مع اليهود أوضحنا أدلته الشرعية ...فأرجوا من فضيلة الشيخ يوسف وغيره من إخواني أهل العلم إعادة النظر في هذا الأمر بناء على الأدلة الشرعية لا على العاطفة والاستحسان" (1) .انتهى
والذين تحدثت معهم في هذا الأمر لم يبدوا دليلا وإنما ركنوا للرأي وللعاطفة ،فإن تنازلنا عن كل ماتقدم وانتهينا الى أن هذه المسألة المرتبطة بالمصالح والمفاسد والترجيح بينهما هي مما تختلف فيها الآراء لتفاوت الناظرين في الاحاطة بالواقع ،وفي قدرتهم على التعامل معه وتفاوت الحاجة إليها بين ولاية وأخرى ،فإن المطلوب فيها حينئذ هو ترك الانكار فكيف بالتجريح والهجران ؟.
قال المحدث الشيخ الألباني رحمه الله لبعضهم في مسألة جرى فيها الخلاف مع أن الحق مع غير من خاطبه بهذا القول قال (2):"ولما يئسنا منه قلنا له :إن فرضك على غيرك أن يتبنى رأيك وهو غير مقتنع به ينافي أصلا من أصول الدعوة السلفية وهو أن الحاكمية لله وحده،وذكرناه بقوله تعالى في النصارى{ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ(31)}]التوبة 31[
1-جريدة المسلمون (25-9-1415)بالنقل عن كتاب (مدارك النظر في السياسة)ص 166 للشيخ عبد المالك رمضاني
2-سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد السادس القسم الأول ص 30 الحديث 2507
ولهذا فحسبك أن يظل كل منكما عند رأيه مادام أن أحدكما لم يقنع برأي الآخر ،ولا تضلله كما هو لايضللك وبذلك يمكنك أن تستمر في التعاون معه فيما أنتما متفقان عليه من أصول الدعوة وفروعها" انتهى ،قلت فإن غاب عن المخالفين في هذه المسألة الاعتدال وصرفوا عن الانصاف ،وحيل بينهم وبين الورع بحجاب....فماهي ببدع من مسائل الخلاف والمرجع الله سبحانه.
س16:كيف الحال إذا آل أمر الجمعية أسست لخدمة الحق الى من سخرها لخدمة الباطل؟
ج16: هذا من الأسئلة العجيبة الغريبة التي سمعتها، وقد ذكرته في الأخير للمناسبة التي بينه وبين ختام هذه الرسالة ، والجواب أن على المرء أن يسعى في خدمة الحق بالوسائل المشروعة ،وأن يجتهد في أن يخلف على الناس من يواصل المسير،وليس له مما وراء ذلك شيئ فإن لله عاقبة الأمور ولو روعي هذا الهاجس ما بنى أحد مسجدا، ولا أقام مسكنا ولا اكتسب مالا، بل ولا عمر الدنيا من عمرها،وقد استعمرنا الله في الأرض ،والساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، ولا تقوم حتى لا يبقى على الأرض من يوحد الله والأيام يداولها الله تعالى بين الناس،فيرث بعضهم ملك بعض، كما قال تعالى { قُلِ اللهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(26)} ]آل عمران 26[ ،ثم يؤول الأمر كله لله { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)} ]مريم 40 [وقد قال موسى عليه السلام لقومه كما ذكره الله تعالى:{ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128)} ]الأعراف 128 [وقال تعالى { وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} ]الأعراف 137 [وقال تعالى:{ أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100)} ]الأعراف 100 [وقال تعالى:{ وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105)} ]الأنبياء 105[،ولو توفر في الناس الصلاح وأخذوا بالأسباب لأورثهم الله الأرض في الدنيا ،أما أرض الجنة فالمقطوع به أن ورثتها هم عباد الله الصالحون،نسأل الله تعالى أن يورثنا الجنة مع الذين أنعم عليهم من النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وكتبه بن حنفية العابدين بن محي الدين
معسكر في 24 شوال 1430 هـ
الموافق لـ 13 أكتوبر 2009 مـ