الاجتماعي والشبكي زمن الكورونا: حين تتحول الأجساد إلى شبكات افتراضية للوباء

بشرى زكاغ

 

في عالم معولم كالذي نحياه راهنا، ترسخت سردية اجتماعية وتقنية شديدة التماسك والتأثير، تفيد زيادة التشبيك والتكاثف وربط العلاقات البعيدة والقريبة على حد سواء، يسميها «جون توملينسون» John Tomlinson "بالمرتبطية المعقدة"، بما هي تقوية لأواصر الترابط العالمي والمحلي عبر الشبكات، حيث السلع، ورؤوس الأموال والبشر والمعرفة والصور والجريمة والمخدرات والأزياء والفيروسات والأمراض والملوثات... تتدفق بسهولة ويسر عبر الحدود والفضاءات، إما افتراضيا عبر الشبكات وتكنولوجيا المعلومات، أو جسديا من خلال إنفاق كمية من الوقت والمال عبر شركات الطيران، وبالفعل لم تعد الصين بعيدة عنا عبر آلاف الأميال، بل بزمن الطيران فقط؛ أي بضع الساعات التي نقضيها في تناول الوجبات والمشروبات المجانية، وتصفح المجلات وبيع السلع المعفاة من الرسوم وعرض الأفلام.

وفي الوقت الذي أصبحت فيه شبكات التنقل والاتصال والمعلومات وحالة التقارب الاجتماعي التي اختلقتها أكثر تأهيلا وتمكينا، عبر قاعات المغادرة في المطارات، والمراكز التجارية، والطرق السيارة، ومحطات التزود وخدمة السيارات، وشبابيك صرف النقود والقطارت السريعة..، كان من المرجح أكثر أن تؤدي إلى تغيير طبيعة ونطاق المخاطر التي قد تجلبها، وإذا كانت المرتبطية تدل حقا على التقارب المكثف كحالة تكنواجتماعية جديدة، فذلك يشير إلى أن "المجتمع الحديث هو مجتمع متنقل، وأنه لم يعد بالإمكان تصور العالم الحديث من دون...الأنماط الجديدة من النقل والسفر عبر المسافات البعيدة"[1]. وعليه، فالتقارب الكثيف للشبكات والفضاءات قد جعل منا كبشر بَدْوا رحلا بأسلوب جديد، إذ صرنا نقفز من شبكة إلى أخرى ومن منظومة تقارب إلى أخرى، ومن فضاءات قريبة ومحلية إلى أخرى معولمة ومتباينة، "فتتغير الفضاءات وتتشعب تحت أقدامنا دافعة بنا إلى تكوين مغاير"[2].

لقد تحولت التجربة المكانية إلى تجربة زمانية، والأجساد البشرية إلى شبكات افتراضية، "فثمة اليوم حركة افتراض   virtualisation عامة لا تصيب المعلومة والاتصال فحسب، بل تصيب أيضا الأجساد وسير الاقتصاد والأطر الجماعية للحساسية وممارسة الذكاء"[3]. نتيجة منطقية للتحسينات التي أدخلتها التكنولوجيات على الحركة، "فمن وحيدات الخلية إلى الطيور والثدييات، فتحت تحسينات الحركة بحسب "جوزيف رايشهولف Joseph Reichholf" فضاءات أكثر اتساعا دوما وإمكانات متزايدة لوجود الكائنات الحية"[4]، وكما كنا نتشارك سابقا شيئا من الذكاء والعادات والطباع مع جماعاتنا الهووية والثقافية، فقد صرنا اليوم نتشارك افتراضيا جسدا متصلا مع الذين يرتبطون بالشبكات الافتراضية والقنوات الاتصالية وشبكات النقل الجوي والأرضي وغيرها، إلى ما وراء الحدود والمحيطات.

وفجأة تغير كل شيء، وبدت المخاطر البعيدة -مدينة ووهان الصينية- قريبة جدا حتى أقرب من كل أنحاء العالم الأخرى، تقاربت المسافات، انهارت الحدود والفواصل، ووجد الفيروس في الأجساد البشرية فرصة سانحة للتكاثر والامتداد، حدث اللقاء الذي استبعدته الفلسفة والإيتيقا طويلا بين الخلايا البشرية والحيوانية وانتهى الأمر، ولكن كيف؟، كيف لفيروس اكتفى سابقا بشبكة الخلايا الحيوانية فضاء للتكاثر والبقاء -من حيث إنه لا يوجد ولا يستمر إلا في ضيافة غيره-، أن يتسلل خفية إلى فضاء الخلايا البشرية، كيف نجح هذا الغائب الحاضر اليوم فينا وهَدم "الجدران الثقافية التي بناها الإنسان التقليدي من أجل أن يفصل "نفسه" (ادّعاءه الهووي) عن بقيّة الكائنات "الحية" حسب ترتيب أخلاقي لم يعد له اليوم ما يبرّره. ولأوّل مرة، في عصر الفيروسات، صار الجسم البشري هدرا عضوّيا أمام كل أنواع الهجومات الحيوية"[5]. التي صارت حرة ومتدفقة وغير مرتبطة بنظام خلوي محدد، وتتميز فيزيائيا بحرية وسيولة عائمة، يرافقها تفكك الحدود والموانع، إلى الدرجة التي يصبح فيها كل جسد حامل للفيروس مؤثرا فعليا أو افتراضيا في كل الأجساد الأخرى، القريبة والبعيدة على حد سواء والعكس بالعكس. ولذلك، وصف «ميشال مافيزولي» Michel Maffesoli في كتابه «Du Nomadisme» العالم الذي نحيا فيه جميعا هذه الأيام بأنه "أرض عائمة يلتقي عليها أفراد واهنون بواقع تنفذ إليه الموائع من كل مكان"[6]، ويذكر "رالف والدو إمرسون في مقالة له بعنوان: «الحذر» أن التزلج على جليد مائع يعني أن سلامتنا في سرعتنا"[7].

تمظهر الفيروس وحضر شبكاتيا وخرائطيا بذات السرعة في التمدد والانتشار، إذ عادلت سرعته قيمة بقائه -إذ لا يبقى إلا إذا تمدد-، ومضى يرسم خرائط عالم جديد سريع التشكل، "من أقسام بها بلدان وأقاليم وجهات إلى نطاقات بها مناطق موبوءة، ومدن إصابات فاشية، وبؤر انتشار جانح"[8]، ومضى في رحلته يحتل أرجاء وفضاءات وأجسادا، تتكاثر بذات السرعة التي طورها العالم الحديث، محولا الأجساد البشرية ذاتها إلى شبكات-وسائل وأدوات- للاحتضان، ومراتع للتمدد والبقاء، إذ ليس بوسعه -أي الفيروس- الحضور محسوسا ومرئيا إلا في الأجساد. محولا "المساحة غير المرئية المختبئة في أجساد الآخرين فجأة إلى دوائر حيوانية تنفث عناصر العدوى دون أي حواجز أخلاقية أو أمنيّة غير "شعور المسافة"[9]. ضمن حالة اجتماعية سائلة أو مفرطة في السيولة، مكنت للفيروس وجعلته أكثر استقلالا وحرية انتشاره، حيث صارت حدود الأجساد/الشبكات ضبابية مانعة عزل من في الداخل عمن في الخارج.

ومن القدرة على البقاء المتأتية له عبر التمدد والانتشار، حول الفيروس كثيرا من البلدان إلى سجون كبيرة، وأجبر الدول والجماعات على منع الحق في التنقل والاحتشاد والتواصل والتلاقي والتصافح..، لأجل حفظ الحق في الحياة، والحق في السلامة الجسدية، وفي الوقت الذي ساد فيه الحديث عن الحاجة إلى العزلة الاجتماعية، وفرضت دول كانت تفتح الباب على مصراعيها للتبادلات الاقتصادية والبشرية، الحجر الصحي على مواطنيها، بدعوى تقليص الرابط الاجتماعي إلى حدوده القصوية لمحاصرة الفيروس اللامرئي في الأجساد المرئية ومنعه من التمدد والبقاء، تزايدت الحاجة إلى "التضامن المتماسف"؛ أي ذلك الذي يحفظ مسافة الأمان الكافية بين الأجساد. نتيجة منطقية لزيادة التفاعل والتداخل بين العوالم الحيوية، لمتعضيات وخلايا قُدِّر لها أن توضع على الخط، وأن تتخلى عن فضاءاتها الطبيعية التقليدية، لتتواجد في فضاءات بشرية وشبكية أكثر امتدادا واتساعا، سواء عبر الموقعي أو الافتراضي.

كان ذلك بمثابة دعوة إلى البحث عن شكل جديد لبناء الرابط الاجتماعي وأشكال التواصل والتقارب، لا تحضر فيه الأجساد فعليا، بل افتراضيا فقط عبر الشبكات، بما هو وجود خصب وقوي يغني إبداعات الانوجاد والحضور، "ويفتح آفاق المستقبل ويحتفر آبارا من المعاني تحت سطحية الوجود الفيزيائي الآني"[10]، من ذلك مثلا ما ذهبت إليه «شيري تيركل» في كتابها وحيدون معا Alone togethe، والوحدة في الجماعة هنا تعني شكلا جديد من الجماعات أو المجتمعات المنعزلة موقعيا، والمتشابكة افتراضيا، من سمات التواجد فيها، أن يقف كل منا على بعد سلامة كافية عن الآخر، ونحن على علاقة مباشرة بالكل، سمح ذلك بالحديث عن متخيلات اجتماعية/معايير جديدة، ربطت أفراد الجماعات بعضها ببعض، بغرض تعويض العزل الجغرافي أو الزمني الحاصل في الموقعي.

وبالفعل، أصبحت الشبكات الافتراضية بشكل أو بآخر المكان الذي تعيش وتراقب فيه الأجساد زمن "الكورونا"، فالرسائل تروح وتأتي من دون وجه، والحوارات تتم من دون أن تتلاقى أطراف الحوار، وشرفات المنازل والأسطح منصات للعرض والفرجة، والبيوت والأماكن الحميمية نوافذ للفن والفعاليات، وتحركات الأجساد ومراقبتها وحصارها أصبح متاحا أيضا من خلال معلومات الشبكات -Big Data في الصين-. ظهر ذلك كنوع من رد فعل واستجابة لجوع الناس وافتقارهم إلى المجتمع المحلي المحضور والمحاصر، بل تعدى الأمر بالنسبة «لبوستر» Poster إلى حد اعتبار "أن المناطق الجغرافية الإلكترونية... تعيد تشكيل ما يعني أن نكون آدميين"[11]، حيث تجاوزت الشبكة الدور الأداتي، "ووفرت الأوضاع الملائمة لشكل من أشكال الممارسة المشتركة"[12]. افتراضيا والمتباعدة جغرافيا، بفعل تحول البيئة الاجتماعية في أرجاء العالم إلى نوع من "الفيروسفير" أو "الغلاف الفيروسي" مغطيا جغرافيا وخرائط متباعدة، ونقصد بالفيروسفير في هذا السياق، ما يمكن استخدامه كمرادف لواقع تفشي الفيروس في الفضاءات والأماكن وصولا إلى المدن والأقاليم وفيما وراء البحار.

إنه نوع من الوجود الاجتماعي الجديد ينبثق في زمن الكورونا وفضاء الشبكات، اعتمادا على تطبيقات الإنترنيت، والذكاء الآلي، وتجربة البيئة الشبكية الافتراضية، "إذ يمكنها بسهولة جدا أن تجعلنا نقضي الكثير من وقتنا الواعي موجودين في مكان آخر غير الموضع الذي نحن فيه جسديا"[13]. وأوضح توصيف لهذه الظاهرة الجديدة نجده عند «بيير ليفي» إذ يقول: "أيتها الكائنات البشرية، في هذا المكان وكل مكان، يا من جرفتكم حركة التهجير الكبيرة، أيها المزروعون في الجسم التشعبي للإنسانية، والذي يعكس نبضكم نبضاته العملاقة، يا من تفكرون مجتمعين ومبعثرين وسط القشرة الدماغية التشعبية للأمم...أهلا بكم في المسكن الجديد للجنس البشري. أهلا بكم في دروب الافتراضي!"[14].

 ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

لائحة المراجع:

-          بيير ليفي، عالمنا الافتراضي ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟ ترجمة رياض الكحال، المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2018

-     جون توملينسون، العولمة والثقافة: تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان، ترجمة إيهاب عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة، العدد 354، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أغسطس 2008

-          زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2016

-     فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة، الرباط: مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، 24 فبراير 2020، عبى الرابط الفلسفة-والكورونا-من-معارك-الجماعة-إلى-حروب-المناعة-7028 https://www.mominoun.com/articles

-     كاستيلز مانويل، شبكات الغضب والأمل، الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنيت، ترجمة هايدي عبد اللطيف، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2017

-     لوتشيانو فلوريدي، الثورة الرابعة، كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني، ترجمة لؤي عبد المجيد السيد، عالم المعرفة، العدد 452، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآثار، سبتمبر 2017

-          لاري راي، العولمة والحياة اليومية، ترجمة الشريف خاطر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2017

-     منير السعيداني، فيروس الكورونا في مختبر علم الاجتماع، موقع أكاديمية، 2020، على الرابط www.academia.edu/42217509/فيروس_الكورونا_في_مختبر_علم_الاجتماع

-                    Maffesoli Michel, Du Nomadisme: Vagabondages initiatiques, Paris: Le livre de poche, 1997, p132

 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] جون توملينسون، العولمة والثقافة: تجربتنا الاجتماعية عبر الزمان والمكان، ترجمة إيهاب عبد الرحيم محمد، عالم المعرفة، العدد 354، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، أغسطس 2008، ص14

[2] بيير ليفي، عالمنا الافتراضي ما هو؟ وما علاقته بالواقع؟ ترجمة رياض الكحال، المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار، 2018، ص25

[3] بيير ليفي، ص9

[4] نفسه، ص25

[5] فتحي المسكيني، الفلسفة والكورونا: من معارك الجماعة إلى حروب المناعة، الرباط: مؤمنون بلاحدود للدراسات والأبحاث، 24 فبراير 2020، عبى الرابط الفلسفة-والكورونا-من-معارك-الجماعة-إلى-حروب-المناعة-7028 https://www.mominoun.com/articles

[6] Maffesoli Michel, Du Nomadisme: Vagabondages initiatiques, Paris: Le livre de poche, 1997, p132

[7] زيجمونت باومان، الحداثة السائلة، ترجمة حجاج أبو جبر، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2016، ص287

[8] منير السعيداني، فيروس الكورونا في مختبر علم الاجتماع، موقع أكاديمية، 2020، على الرابط www.academia.edu/42217509/فيروس_الكورونا_في_مختبر_علم_الاجتماع

[9] فتحي المسكيني

[11] لاري راي، العولمة والحياة اليومية، ترجمة الشريف خاطر، القاهرة: المركز القومي للترجمة، ط1، 2017، ص181

[12] كاستيلز مانويل، شبكات الغضب والأمل، الحركات الاجتماعية في عصر الإنترنيت، ترجمة هايدي عبد اللطيف، بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1، 2017، ص 256

[13] لوتشيانو فلوريدي، الثورة الرابعة، كيف يعيد الغلاف المعلوماتي تشكيل الواقع الإنساني، ترجمة لؤي عبد المجيد السيد، عالم المعرفة، العدد 452، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآثار، سبتمبر 2017، ص102

[14] ليفي بيير، ص185

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AC%D8%AA%D9%85%D...

الأكثر مشاركة في الفيس بوك