الحضارات.. صلات وعلاقات
سليمان الدقور
ليس غريبًا أن يبرز اهتمام المفكرين على مدار التاريخ بقضية الحضارات، فإن سعة الوعي والاطلاع ووضوح الرؤيا وتحديد الأفكار، يأخذ باتجاه أدق القضايا وأخطرها في حياة الشعوب والأمم. من هنا نفهم اهتمام مفكرينا وعلمائنا بقضية الحضارات في نشأتها وبنائها ورقيّها وشهودها، أو انتكاسها وانهيارها وضمورها واضمحلالها. وعلى رأس هؤلاء المفكرين الذين جاءوا في وقت حرج من تاريخ أمتنا؛ الأستاذ مالك بن نبي، والأستاذ فتح الله كولن، حيث برز اهتمامهما -كغيرهما- بالغًا في مسألة استعادة الذات الفردي والجمعي للأمة، وإعادة الصياغة الحضارية وفق المنهج الإسلامي الرشيد.
ظهر جليًّا اهتمام المفكر مالك بن نبي في مسألة الحضارة؛ حيث تجد ذلك في معظم كتبه وكتاباته بناءً وتفصيلاً.
مسألة الحضارة
ظهر جليًّا اهتمام المفكر مالك بن نبي في مسألة الحضارة؛ حيث تجد ذلك في معظم كتبه وكتاباته بناءً وتفصيلاً. وقد حرص أن يبرز إشكالية الحضارة من ثلاثة جوانب:
1- من حيث تركيبها؛ أيْ دراسة العناصر المكونة لها.
2- من حيث وظيفتها؛ أيْ باعتبار وظيفتها ودورها في المجتمع.
3- من الناحية التاريخية الاجتماعية؛ أيْ دراسة كيفية نشأتها وتطورها وأطوارها.
ولأجل ذلك اهتم بدراسة الحركة التاريخية التي تمثل الحقل الذي تتولد فيه الحضارات، واستعرض كثيرًا من النظريات الغربية التي فسرت الحركة التاريخية. لكنه بعد رؤيته لها عاجزة عن تفسير ميلاد الحركة التاريخية التي تولدت فيها الحركة الإسلامية مع مجيء النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، رأى من الضروري إيجاد نظرية جديدة إسلامية؛ تفسر هذه الحركة وتحتوي في جوانبها المقومات والمبادئ الخاصة بها.
في ذات السياق، نجد هذا الاهتمام في أجلى صورة عند المفكر الإسلامي فتح الله كولن؛ حيث انطلق في ذلك من مستوى “رعاية الفرد إلى إيجاد المجموع”، وقد ظهر ذلك جليًّا في كتابين رئيسين شملا مقالات عدة له، الأول “ونحن نقيم صرح الروح”، والثاني “ونحن نبني حضارتنا”.
لكنه امتاز في بنائه ذلك بالتركيز على البناء العقلي الفكري، والبناء النفسي والروحي؛ فقدم ذلك في الجانب الفردي من خلال التربية الروحية والعلمية للفرد المسلم، ليخرج من جهله وجفاف روحه. وقدم ذلك في الجانب الجمعي، من خلال بناء المؤسسات العاملة على تحقيق الشهود الحضاري، والبعث الحضاري للأمة على أساس متين من التجهيز والإعداد والتخطيط والتنظيم، وعلى أساس متين من البناء التزكوي الروحي الساري في أعمالها ونتاجها، وقد حقق بذلك مبدأ “الصوفية الحضارية”، وهو مفهوم يحتاج إلى رعاية خاصة ودراسة مستقلة عند الأستاذ. وهو يعطي مفهومًا دقيقًا وجديدًا للحضارة كما يعرضه في كتابه “ونحن نبني حضارتنا” (ص12)، يقول: “هي مجموع النشاطات المتعلقة بتنظيم الحياة الإنسانية، أو التصورات الفكرية والاعتقادية والفنية لأي أمة، أو كل الأوصاف الخاصة بوجودها المادي والمعنوي”.
وعلى ذلك فهو يقدم أبعادًا ثلاثة للحضارة: فهي إما نشاطات تركِّز على الأعمال والمهام، وإما تصورات تركِّز على المكونات، أو أوصاف تركِّز على المخرجات والنتاجات. ويمكن أن نرتب تلك الأشياء الثلاثة في تصورات ومكونات، أعمال ومهام، مخرجات ونتاجات.
وفي السياق ذاته، يفرق بين صناعة الحضارة الإسلامية، وتحقيق النهضة الإسلامية، من منطلق التبعية. يقول: المطلوب “إعادة بناء الذات من جديد، وأن نبحث عن أسلوبنا الذاتي الحضاري بدل العرض الخلاب الذي نقوم به لما أنتجه غيرنا تحت اسم الحداثة والنهضة الإسلامية”.
بين السيرة النبوية ومبادئ الإسلام
نجد مشتركًا واضحًا عند كل من المفكرين الكبيرين في ضرورة التفسير الإسلامي للبعث الحضاري، لكن فارقًا دقيقًا بين رؤية كل منهما يمكن توضيحه بشكل مختصر كالتالي:
ففي الوقت الذي كان اعتماد مالك بن نبي على قيم الإسلام ومبادئه في صورها التجريدية، فقد كان اهتمام فتح الله كولن متجهًا إلى تجسيد السيرة النبوية في عناصرها العملية ونماذجها الواقعية، لبعث الصورة الحضارية من جديد في واقع الأمة.
فهو يؤكد في أكثر من مقال ودراسة، بل في كتابه “النور الخالد”، يبذل الجهد الكبير في التجسير القيمي بين مواقف النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، وما ينبغي أن يشكل ذلك من نموذج عملي لجيل اليوم لاستعادة دوره ومكانته.
ليس معنى ذلك أن مالك بن نبي لم يهتم بأحداث السيرة ومواقف الصحابة، لكنه في دراسته النخبوية المختصرة، كانت وقفاته إشارات مقتضبة حول بعض القضايا والجوانب التي تدعو إليها الحاجة.
بين الاستعمار وهدم الخلافة
قد تبدو الظروف السياسية والاجتماعية والفكرية متقاربة في البيئة التي عاش فيها كل من المفكرين الإسلاميين، لكننا وبالنظر إلى الاختلاف الزمني بينهما، وكذلك الاختلاف في البيئة الجغرافية، والاختلاف في اللغة؛ إلا أن الجامع المشترك في المستمد الحضاري -وهو القرآن الكريم- أثر تأثيرًا كبيرًا لنجد تشابهًا إلى حدٍّ كبير في أهم المشكلات التي يعالجها كل منهما، فضلاً عن التقارب الكبير في المنطلقات والغايات لكل منهما.
غير أن الظروف الخاصة بكل منهما من جهة، والظروف السياسية المتمثلة في الاستعمار الغربي للعالم العربي، وفي هدم الخلافة الإسلامية وإحلال العلمانية المتطرفة في تركيا من جهة ثانية، كل ذلك أدى إلى تباين واضح في تناول كل من مالك بن نبي وفتح الله كولن لمسألة الحضارة. ليس المجال هنا للمقارنة المفضية للمفاضلة، ولكنه توضيح من شأنه تسليط الضوء على أهم القضايا الأساسية التي شكلت الأبعاد الأساسية للنتاج الفكري لكل منهما.
فإذا كان خطاب الأستاذ مالك بن نبي خطابًا نخبويًّا لم يجد الاهتمام إلا في بعض الأوساط الفكرية والأكاديمية، فإن خطاب الأستاذ فتح الله كولن يعدّ خطابًا تعبويًّا استطاع أن يجد من يتبناه فيحققه واقعًا عمليًّا من خلال مجالات عدة؛ اقتصادية وفكرية وتربوية وإعلامية، وغير ذلك مما حققته مؤسسة “الخدمة” كما يسمِّيها هو.
إذا كان الهم الأكبر عند مالك بن نبي هو رؤيته للهزيمة النفسية والحضارية التي تعيشها الأمة والمتمثلة بـ”القابلية للاستعمار”، وما سبَّب ذلك من غياب لمفهوم “الثقافة”، وما تبع ذلك من حديثه عن “دور الدين في بناء الحضارات”، وعن “إشكاليات صناعة الحضارة: الإنسان، التراب ، الوقت”؛ فإن الهم الأكبر الذي شغل الأستاذ فتح الله كولن هو الآثار المدمرة التي حصدها الشعب التركي المسلم نتيجة تعرضه لتشويه ثقافته وتاريخه وقيمه.
فكان الواقع المهزوم الذي واجهه فتح الله أعمق أثرًا من الواقع الذي واجهه مالك بن نبي، ومن هنا كانت المهمة لديه، ذات اتصال مباشر بإعادة بناء الفهم الصحيح للإسلام، من أول مبادئه وقيمه إلى قمة تجلياته وآثاره.
وهو يعالج المشكلة الخطيرة التي وصفها مالك بن نبي بـ”قابلية الاستعمار” من خلال “إعادة البناء الاجتماعي المولِّد للعبقرية، والوسط المناسب؛ لتنشئة المبدعين، (أي البيئة العامة الحاضنة للقابليات)”، فهو يرد على بيئة ببيئة، لكنه يريدها بيئةً صالحةً، يسميها “الدائرة الصالحة” ومنها تبدأ صناعة القابلية، حتى لا نفسد النهضة بجهود علماء وأشخاص محدودين.
فكما صنعوا في هذه الأمة القابلية للاستعمار والاستضعاف والاستعباد، يجب أن نضع فيها -وهذه مهمة الصالحين والدعاة- ” قابلية الانبعاث”، ثم هو يقدِّم ما أُسميه بـ”معادلة الانبعاث الحضاري”؛
حرص كل من مالك بن نبي وفتح الله كولن على تقديم صورة واضحة عن العلاقة البينية داخل مكونات الحضارة الواحدة، كما هو الحال أيضًا في العلاقات البينية التي ترسم صورة العلاقات بين الحضارات.
1- محورها الإنسان المؤهل.
2- أثمن رؤوس أموالها الزمن بما فيه من حركة وعمل.
3- أقوى أسسها الحيوية دولة حرة مستقلة تشكل البيئة والنظام.
4- روحها ومحفِّزها ومحركها الدين.
وتعدّ هذه أهم أركان ظاهرة الحضارة. ويبقى الحديث طويلاً في بيان كثير من الظروف المحيطة بتشكل الأفكار وتكوينها لدى المفكِّرَين الكبيرين أطويه هنا، لأن بسطه يحتاج إلى وقفة ومناسبة مختلفة.
لذا ننتقل مباشرة لنتحدث عن قضايا ذات أهمية بالغة، مثل:
1- المشاريع النهضوية في العالم الإسلامي
إن إطلالة سريعة على تعدد المشاريع النهضوية في عالمنا الإسلامي، يؤكد أمرين اثنين، أولهما مدى إحساس عالمنا بما يعاني من تأخر حضاري، وثانيهما مدى إحساسنا بالحاجة إلى هذه المشاريع وأهميتها.
وهو إحساس في حقيقته، منسجم مع الحاجة النفسية النمائية للإنسان، إذ يحس بحاجته إلى تغيير واقعه والانتصار على ضعفه.
ولكن كثيرًا من هذه المشاريع، يبقى حبيس الكتب وعقول أصحابها ومن تأثر بها، ولم نرَ لها أثرًا عمليًّا ومشاريعيًّا يحقق النهضة وفق خطوات عملية واقعية.
في حين نرى الصورة مختلفة عند الأستاذ فتح الله كولن؛ حيث استطاع تحويل كثير من أفكاره إلى مشاريع تتكامل لتحقق النهوض الحضاري.
2- المشكلات التي تعاني منها الأمة
لا شك أن الأمم المهزومة، تعاني من مشكلات كثيرة يتولد بعضها قبل مرحلة الهزيمة، وهو ما يؤدي إلى هذه الهزيمة ويسوق إليها، وبعضها الآخر يستتبع هذه المرحلة من الهزيمة تكون هي سببا في وجوده وتكريسه وترسيخه في حياة الأجيال.
ويمكن النظر إلى هذه المشكلات في مستويين إثنين، المستوى الأول: ما تعانيه الأمة على مستوى الوجود، وتتمثل في طغيان الهوية الانهزامية العبثية. والمستوى الثاني: ما تعانيه الأمة على المستوى الاجتماعي، وتتمثل في الفقر، الجهل، الفرقة.
وهذا التصور عن هذه المشكلات، هو ما حرك في كثير من المفكرين الحرقة لتقديم المشاريع والمقترحات النهضوية للخروج من أزمة الأمة في جميع صورها.
وقد قدَّم مالك بن نبي بناءً فكريًّا ومشاريعيًّا للنهوض الحضاري، تمثَّل بناؤه الفكري في كتبه ومؤلفاته، ومشروعه العملي تمثَّل في الدعوة للوحدة الإفريقية التي سعى إليها، والائتلاف الإسلامي المتمثل بـ”كومنولث إسلامي”.
بينما فتح الله كولن قدَّم -إضافة للبناء الفكري- مشروعًا عمليًّا تجسد في فكرة “الخدمة”، وهذا شأن طويل يحتاج إلى تفصيل.
3- أهم ما تسعى إليه الحضارات
ما الذي تسعى إليه الحضارات عمومًا والحضارة الإسلامية خصوصًا؟
القاسم المشترك الإنساني كبير، ويبرز انعكاسه الحضاري في صور متحدة نحو تحقيق ما نحتاجه ويسعى إليه البشر عمومًا.
ويمكن تحديد الحاجة البشرية والحضارية، بقيم رخاء، هناء، بقاء. وهذه العناصر الاجتماعية التي يحتاجها الفرد ويحتاجها المجموع، يقابلها العمل وفق مشاريع نهضوية لتحقيقها، وتتمثل في محاربة الفقر، وتحقيق الطمأنينة، وتفادي أي دمار؛
• فمن أجل تحقيق الرخاء، لا بد من محاربة الفقر.
• ولأجل تحقيق الهناء الاجتماعي، لا بد من تحقيق الأمن ومحاربة الجريمة.
• ولأجل تحقيق البقاء الحضاري والاستمرار، لا بد من تفادي أي صورة من صور الصراع المؤدي للدمار.
وهذه محركات أساسية يجب أن يتضمنها أي مشروع حضاري، بل وكل مؤسسة تنشأ عن هذه المشاريع.
4- العلاقات بين الحضارات
حرص كل من مالك بن نبي وفتح الله كولن على تقديم صورة واضحة عن العلاقة البينية داخل مكونات الحضارة الواحدة، كما هو الحال أيضًا في العلاقات البينية التي ترسم صورة العلاقات بين الحضارات.
وتعدُّ هذه القضية من أكثر القضايا التي شغلت المفكرين، ليس على المستوى الإسلامي، بل على المستوى العالمي الغربي والشرقي.
وقد قُدِّمت أكثر من صورة عن هذه العلاقات والصلات، لكنها في الإطار الكلِّي، صورة تعبر عن غلبة القوة التي لا يحكمها الحق؛ فظهرت عدة نظريات تتحدث عن صراع الحضارات وصدامها ونهاية الحضارات.
وهذا هو كتاب “صامويل هنتنجتون” حاضر يقدم صورة عن إعادة صنع النظام العالمي الجديد، وكذلك ما نقرأه في كتاب “فرانسيس فوكوياما”: “نهاية التاريخ”.
وهناك دراسات تحاول تقديم جملة من التصورات للعلاقة بين أطراف متغيرة، ويمكن إجمال ذلك على النحو التالي:
الإزالة، الاستيعاب، التحالف، المهادنة، المشاغلة، التجنب، التوظيف، وإن الأساس في نجاح أي أمة في مسيرتها، وتحقيق أهدافها، هو قدرتها على معرفة الخيارات المتاحة أمامها، وقدرتها على التعامل معها. إلا أننا في حديثنا عن التصورات التي يقدمها كل من مالك بن نبي وفتح الله كولن لهذه العلاقات، نحاول أن نُجمل ذلك في الأشكال التالية:
تظهر الصورة العامة للعلاقات بين الحضارات من خلال عدة خيارات: الاستعداء، الاستلهام، الاستفادة، وتظهر القيمة الحقيقية لنوع هذه العلاقة من خلال الاستفادة، أما الاستعداء فمبني على الرفض التام وهو غير مقبول، والاستلهام مبني على القبول التام وهذا فيه صورة التبعية.
ويمكن لنا رسم الشجرة التالية التي تحدد نوع العلاقة في إطارها الكلِّي كما أفهمها عن المفكرين، وكما ينبغي أن تكون: فالعلاقة على أحد شكلين؛ الصراع والحوار، ويظهر في مستويين اثنين، ويأخذ الصراع أحد شكلين مع الذات ومع الآخر؛ الصدام والتدافع وهو المطلوب، وهو تعبير قرآني وهدفه توحيد الجهود، والعقيدة، والأخلاق السياسية، ويظهر فيه غلبة القوة واستثمارها للبناء.
ويقوم الحوار على تقديم القيم الإنسانية بمنظومة إسلامية، واستنهاض القيم الموجودة، والبحث عن القواسم المشتركة في المجتمع لا تدميرها. ويمكننا أن نكوِّن العلاقة بحسب التصور التالي:
العلاقة مع غيرنا والعلاقة مع أنفسنا أو مع الذات، وهي ما تحتاج إلى إعادة بناء من أجل بعث حضاري، كما ينبغي إعادة النظر في تصنيفات سادت منذ قرون في تراثنا الإسلامي مثل دار الإسلام ودار الحرب. فالأستاذ “كولن” يقترح في هذا الصدد مفهومًا آخر جديدًا ولافتا، دار التعايش أو دار الخدمة، عالم الخدمة حيث تكون الرحمة والمحبة هي الأساس، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في مكة والمدينة والحبشة. فنحن نريد إعادة صناعة الحضارية الإنسانية لتكون بعيدة عن الصراع والصدام والإقصاء والإلغاء.
المصدر: https://hiragate.com/%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%b6%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d...