العرب والنهضة بين قرنين: الدروس والعبر المستفادة

مفيد الزيدي

 

"مصر الجديدة لن تخترع اختراعا ولا تبتكر ابتكارا! فمصر الجديدة لن تقوم إلا على مصر القديمة! ومستقبل الثقافة في مصر لا يقوم إلا على ماضيها البعيد القريب".    طه حسين

يواجه العرب اليوم على أعتاب الألفية الثالثة العديد من التأزمات المجتمعية والفكرية والاقتصادية بعضها ذو جذور قديمة وبعضها متفاعل مع حركة التاريخ الالحديث. ورغم كثرة الكتابات حولها في سبيل تشخيصها، وبيان مسارتها، فإن حلولها باتت مستعصية. تطرح إشكالياتها الكثير من التساؤلات أمام المفكرين العرب، وتدور بشكل جوهري حول سؤال محوري: لماذا أخفقنا بينما نجح الآخرون؟ وكيف نستطيع تجاوز الإخفاق نحو النهضة واكتساب الرفعة في المستقبل؟.

لا يمكن الحديث عن نهضة أو مشروع نهضوي عربي دون التوقف عند تجارب الماضي، ومحاولة استذكار مسيرة قرنين من الزمن بكل نجاحاتها وإخفاقاتها، دروسها وتجاربها، ومحاولة فحص مرجعياتها الفكرية وأدواتها الثقافية بدءا من النهضة الأولى في القرن التاسع عشر باعتبارها الانطلاقة المؤسسة بعد طول سبات وركود في الذهنيات العربية بحكم التسلط الأجنبي، ثم محاولة أخذ الدروس من النهضة الثانية بعد الحرب العالمية الثانية وما تعرف بمرحلة الاستقلالات العربية والخلاص من الحكم الأجنبي المعاصر، وبداية مرحلة التنمية والتحديث في المجتمع العربي. وبذلك فإن عملية المقارنة واستشفاف العبر بروح متفهمة وعقل يدعو للإصلاح ويسعى للنهوض يحقق وظيفة التاريخ الذي يقدم الدروس للشعوب والأمم الحية كما مرت أوروبا بمرحلة من الانقطاع الفكري والصراع الاجتماعي والسياسي أخذت تبحث عن النهضة فحققت ما أرادت رغم أنها قدمت الكثير إلا أنها تجاوزت ذلك، وحققت نهضتها بشكل متصاعد. وكذلك الحال مع اليابان التي مرت أيضا بفترة ضعف وانحلال إلا أنها استفادت من درسها الإنساني وتجاوزت ذلك في نهضتها الحديثة وامتلكت عناصر القوة والمنعة وأصبحت تمثل نموذجا للدولة الناهضة عالميا.

1 – النهضة العربية: دروس الماضي.

مر العرب بمرحلة من الاحتكاك مع الغرب في إطار البحث عن فرص الانعتاق من حال السبات والسكون، وحصل التقدم مع الحملة الفرنسية على مصر، وصحوة الفكر العربي على مقولات الحرية والإخاء والمساواة، وحصل نوع من التجاذب الفكري والحضاري بين أمة تسير نحو الحداثة، وأخرى لتستعمر فتؤثر وتثير هواجس النهضة وإرهاصاتها وكأنها تقول له ذذغنك تعيش في زمن غير زمنك وعصر غير عصرك، فتنكسر العزلة بين مصر والعرب من جهة والغرب من جهة أخرى، وبدأت مسيرة الاقتباس من الغرب التي لم تنته من ذلك الوقت حتى الآن في نمط المعيشة وروح الحضارة[1] حتى بدا وكأن عدم قدرة الشعوب على عدم اللحاق بالغرب واكتسابها علومه ومعارفه يطيح بكل طموحاتها وجهودها من أجل النهوض والنمو.

وأخذت بوادر اليقظة الفكرية طريقها في مصر لتحدث تأثيرها الواضح من خلال الآراء والمفاهيم الجديدة التي جاءت بها الثورة الفرنسية بشكل خاص والتي تؤكد على الليبرالية وانتشارها في البلاد الغربية الخاضعة آنذاك للدولة العثمانية، وبدأت النخب الاجتماعية والسياسية تطلع على الثقافة العربية والفكر الليبرالي للمرة الأولى[2].

فأفاق العرب من مرحلة الرتابة والسكونية في المجتمع والفكر في ظل التحكم العثماني المستمر وبروز رد فعل إصلاحي من قوى سلفية وليبرالية في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين تبلورت بالنهضة الحديثة، وشكلت الكتابات الأولى للمفكرين العرب دعوات إصلاحية لتأسيس خطاب نهضوي عربي يستوعب التحدي الذي حمله الجانب الحضاري في توسع الغرب وإمبرياليته، والحوار الذي تم على أساس الخروج من التقليدية إلى الاستنارة في الفكر العربي.

وقد وجد المفكرون العرب الذين شددوا على الفكرة القومية والسعي من أجل الوحدة على أساس اللغة والإقليم، وإحياء العربية وآدابها، ودور العلم والعقل، والسعي للتحديث بناء على قاعدة ليبرالية أوروبية، واعتبار الحداثة إلحاقا بركب الحضارة الأوروبية الذي يجسد التقدم الغربي الرأسمالي.

أما رواد النهضة العرب الذين أكدوا على جانب الحداثة من النهضة فقد حذوا حذو أوروبا وحاولوا تطبيق نماذجها بهدف التقدم والنهوض تعبيرا عن إعجابهم بالتقدم الأوروبي والذي جسده الطهطاوي وخير الدين التونسي وأديب إسحق والرافعي وغيرهم، وتأكيدهم على الحرية والديمقراطية والمساواة والعدالة والاستفادة من دروس التجارب الأوروبية وعناصرها ونماذجها التي صيغت على أساسها نماذج الحرية والمساواة والتقدم، ومحاولة تجاوز العصور الوسطى والإقطاع والتسلك الكنيسي والاستبداد الأباطري، فتبنى رواد النهضة وفلاسفتها حتى في المراحل اللاحقة بمختلف اتجاهاتهم الفكرية وتياراتهم السياسية صورة فلاسفة التنوير الذي مهدوا للثورة الفرنسية كصورة مثالية للحرية والعقل والعدالة الاجتماعية والعلم والديمقراطية والدستور والحياة البرلمانية.

فشكلت النهضة عصرا جديدا في الواقع العربي خلال القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين في حالة وعي جديدة لدى الأنتلجنسيا حول إشكاليات تم صياغتها كثنائيات مقارنة بالآخر الغربي الأوربي وهي التأخر والتقدم، الديني والعلماني، الجهل والعلم، الاستبداد والديمقراطية، القومية والعالمية، وهذه الإشكاليات كانت قد شغلت النهضويين العرب في المشرق العربي حينذاك.

وعلى الرغم من ذلك الإعجاب الكبير من قبل النهضويين العرب نحو الغرب في ظل توسعه الرأسمالي إلا أنه مثل نموذجا للتقدم والعلم من جهة أخرى فانقسم المفكرون العرب والسياسيون بين أعداء للغرب ومعجبين به، وكان أمل النهضويين هو الاستقلال إلى جانب العلم، والعدالة إلى جانب التنمية، والتقدم إلى جانب الحرية، ولكن ظل السؤال المطروح بعد كل هذه الفترة هل تحقق كل ذلك؟ رغم إنجاز الاستقلالات العربية بعد نضال مرير وطويل.

ولكن الدولة القطرية عجزت عن توفير الأمن والاستقرار، واختفت العدالة بمفهومها الحقيقي، وغابت الحرية الفردية وظلت التبعية للغرب، وتراكمت الديون الخارجية وازدادت الصراعات العربية-العربية في جانبها السياسي وحتى الفكري، وانتشرت البطالة وخاصة في صفوف الشباب، وازداد الفقر والفقراء في الوطن العربي، بينما ازداد الغنى والأغنياء في طبقة قليلة أيضا تحكمت بالثروات العربية وظلت الأمية منتشرة، وغابت فلسفة التعليم والتعليم العالي الحقيقية على الرغم مما تحقق في الجانب الآخر (الغربي) من تقدم هائل وثورة في الاتصالات والمعلوماتية والمواصلات والإعلام والمعارف والعلوم عموما بحيث يصف المفكر محمد عابد الجابري الواقع العربي الراهن بأنه شبيه بما رفعوه الرواد النهضويين العرب الأوائل في باريس ولندن في الوحدة العربية، أو الوحدة الإسلامية، كالوقوف أمام الغرب وتدخلاته، وتحرر المرأة، ونشر التعليم، وامتلاك الصناعة والتكنولوجيا، ومحاربة التخلف، والوقوف أمام الاستبداد والظلم والمطالبة بالشورى والديمقراطية[3]، وكأن عجلة التاريخ تعود من جديد حيث لازالت هذه القضايا تتفاعل عربيا وهي قوام عنوان النهضة في نهاية القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين وما زالت مطروحة وقائمة وتفعل فعلها المؤثر في الراهن العربي على مختلف الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشكل محير[4].

2 – النهضة الأوروبية: من القروسطوية إلى الصناعتية

لا بد أن ندرك أن النهضة الأوروبية تمثل درسا بليغا ليس للأوروبيين فحسب الذين ما انفكوا يدرسون هذه المرحلة بعمق وتحليل، بل هي درس للأمم الأخرى على الرغم من القول بأنها تختلف في خصائصها ومسببتها عن غيرها نظرا لطبيعة تكوين المجتمع الأوروبي وخصائصه ولا سيما مع المجتمعات الشرقية ومنها العربية، وأنه لا يصح إجراء المقارنات بهذا الخصوص إلا أن مثل هذا القول يصح إذا كان الهدف هو تجسيد هذه النهضة ومحاولة نقلها إلى نهضات أخرى تبحث عن نماذج جاهزة لها، أما في حالة الدرس والاستفادة من أجل الكشف والاستيعاب فهذا وارد بل يصبح واجب فخبر التاريخ أفضل درس للإنسان العاقل، فالنهضة الأوروبية تجاوزت مرحلة عقيمة وطويلة في التاريخ الأوروبي هي العصور الوسطى كانت فيها أوروبا متخلفة سلطويا ومجتمعيا، وحاولت تجاوزها فكريا وإنسانيا، والانطلاق نحو مرحلة مختلفة جديدة في التاريخ الأوروبي تستوعب فيها دروس المرحلة السابقة في الاستبداد، والنزاعات والحروب، والتخلف والجمود، وظهرت بديلا عنها تيارات الفكر، والجامعات، والمدارس، والنقابات والحرف، والدراسات اللاتينية، وحركة الطباعة، ودراسة الفلسفة ونشوء المدن، وكانت ثمرة العبور الأوروبي من الفكر القروسطوي إلى الفكر الحديث في عصر النهضة، ونبذ رموز التخلف الماضية نحو عهود الحرية والديمقراطية والعدالة والأمن[5].

وبذلك جاءت النهضة الأوروبية "كثورة" مستكملة أسسها ومقوماتها من مفهوم الثورة بكونها تغييرات جذرية اقتصادية وسياسية وفكرية وبعد عهود من الاستبداد والظلم والتخلف، تشكلت الهوية الغربية (الأوروبية) تاريخيا في القرن الثامن عشر بعد أن استوعبت دروس القرون الثلاث السابقة واعتمدت التنوير والحداثة انتصارا للعقل والحرية ضد الانحلال والتخلف والاستبداد (والخرافات) وعلى هذا الأساس فإن عقد المقارنة بين النهضتين العربية والأوروبية يشير إلى أن العرب النهضويين أرادوا الاستفادة من التجربة الأوروبية وناصروا عصر التنوير الأوروبي أمثال الطهطاوي والتونسي وقاسم أمين وشبلي شميل وفرج أنطوان ولطفي السيد وطه حسين وسلامة موسى ولويس عوض وزكي نجيب محمود وفؤاد زكريا وغيرهم، وصياغة مشروع نهضوي عربي متكامل ربما كان مرده الأساسي تلك الصلة الحضارية التي تولدت مع الثورة الفرنسية، وحملة نابليون وضرورات الاقتباس من الغرب من أجل النهوض الحضاري. ويمكن مقارنة ذلك التطور التاريخي في العصور الوسطى والحديثة بين العرب وأوروبا بالشكل الآتي:

مراحل التطور التاريخي بين العرب وأوربا في إطار النهضة

العرب

أوروبا

622-1258م

ازدهار وقوة العالم الإسلامي (دولة الرسول + الخلافة الراشدة + الدولة الأموية + الدولة العباسية)
476-1500م

العصور الوسطى (الإقطاع-التسلط الكنيسي – التخلف المجتمعي – الاستبداد الأباطري)

1260-1517م

بدايات مرحلة الانكسار والتبعية

الدولة المملوكية في المشرق العربي ودول البربر الثلاث في المغرب العربي
1500-1789م

النهضة الأوروبية (تحرر الفكر + التجارة + التنوير)

1517-1918م

قيام الدولة العثمانية وحكم الوطن العربي (القوة + الإصلاح + الاستبداد + القومية والانهيار)
1789-1914م

الثورة الفرنسية+الثورة الصناعية (الحرية + الفكر+الديمقراطية+الصناعة+البرجوازية الحديثة)

1918-1945م

(الانتداب + استعمار ما بين الحربية التجزئة والضعف)

1914-1945م

مرحلة ما بين الحربية

(الماكنة العسكرية + الأنظمة الشمولية)

1945-2000

(الاستقلالات العربية+التحديث الوطني+التنمية).

1945-2000

(الصناعة+التقانة+الاقتصاد الحر+العولمة)

ولكن لا بد من الانتباه إلى أن الغرب في إطار علاقاته مع الشرق قد يمثل نموذجا فكريا وسياسيا لدى النهضويين العرب، إلا أنه في واقع الحال يتحول إلى نمط المستعمر في علاقاته مع الشرق فلا يسمح بتجاوز الخطوط الحمراء في عملية البناء والتحديث، وتدل تجربة محمد علي باشا في مصر باعتبارها أول مشروع نهضوي في العصر الحديث في محاولته بناء دولة من جيش قوي وحديث، وقاعدة علمية واقتصادية ومصانع حديثة، وزراعة متطورة، ومدارس حديثة، وبعثات إلى أوروبا عسكرية ومدنية، واهتمام بالإصلاح والبناء والتجديد، فاصطدم بالسلطة العثمانية والغرب وتم حصر تجربته، والتضييق على سلطته، وضرب مشروعه النهضوي، مما أشار إلى أن المشروع النهضوي لا يتوقف ويتعثر في الداخل بل نتيجة مقاومة القوى الخارجية الغربية[6].

قد تكون النوايا متشابهة بين النهضتين العربية والأوروبية إلا أن الظروف والمقومات مختلفة، النهضة الأوروبية انطلقت من تجارب مريرة عاشتها الشعوب الأوروبية في العصور الوسطى زادت عن عشرة قرون ومثلت نهضة فكرية وسياسية واجتماعية تبعتها تغيرات في ظل الثورة الفرنسية طابعها فكري وإنساني، ثم تحولات في الثورة الصناعية نموذجها رأسمالي اقتصادي. أما النهضة التي أرادها العرب النهضويين وكأنها محاولة "نقل واقتباس" من بيئة خارجية "غربية" إلى البيئة العربية في ظل انعدام شروط ومقومات النهضة، وعدم تفاعل عناصر الثورة، واستمرار الاستبداد والهيمنة الأجنبية، والتخلف الاقتصادي فلم تكتمل الشروط على النمط الأوروبي النهضوي، وبحث العرب عن نتائج وحلول دون أن يحللوا المسببات ويضعوا الذهنيات النابعة من الأرضية العربية، وبذلك حاولوا تجاوز "المرحلة التاريخية" بكل ظروفها وتعقيداتها فاختلفت البدايات كما انتهت النهايات بين نهضة أوروبا ونهضة العرب.

فكان مأزق النهضة العربية أساسا في محاولتها إنجاز مشروع حضاري في ظل غياب فاعل تاريخي، وغياب أسس المجتمع المدني وآلياته ودوره في عملية التغيير، وأعطت زخمها للدولة في ذلك، فالبعض من المفكرين أرادوا "الحداثة" في ظل غياب البورجوازية النامية القادرة على استنفاد السوق الوطنية، ولم يحققوا النهضة الصناعية ومقوماتها الأساسية[7].

3 – النهضة اليابانية: الاقتصاد والتقانة مقابل السياسة.

إن في إحداث مقارنة بين النهضة العربية وكل من النهضة الأوروبية واليابانية أمر مطلوب، سواء من حيث الأسس والنتائج، فالنهضة اليابانية التي تثار حولها اليوم العديد من التساؤلات وتكتب التحليلات في محاولة استكشاف أسرارها والاستفادة من دروسها قد بنيت أساسا على حركة التحديث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر وتحديدا في الثلث الأخير منه وحولتها من دولة ضعيفة إلى دولة أخرى تمتلك القوة وتستكمل بناءها السياسي والاقتصادي والصناعي، واستفادة النهضة الثانية المعاصرة من النهضة الأولى تلك والتي نادت باستلهام تقانة الغرب ونبذ ثقافته الاستهلاكية، والتأكيد على الروح اليابانية المحافظة، فاستفادت من الموروث الإيجابي للنهضة ولم تحدث انقطاعات إلا مع الجوانب السلبية منها، فأساس تجربة اليابان أن النهضة كانت سلمية تستند إلى مقومات تنموية شاملة يستفيد منها المجتمع بأكمله، في حين أن النهضة مطلع القرن العشرين كانت تقوم على تحديث الجيش، وخدمة أهداف عسكرية مما قادت إلى شيوع النزعة الشمولية التوسعية التدميرية وأسقطته بالتالي تحت الاحتلال الأجنبي، فاستفادت النهضة المعاصرة من دروس التاريخ، وشيدت على أسس تنموية شاملة لحركة المجتمع الياباني بحيث يستفيد منها المجتمع بكل شرائحه وطبقاته ويحقق لها وحدتها وقوتها ومكانتها أسيويا وعالميا[8].

وقد رأى أحد المفكرين اليابانيين أن اليابان أعجبت بالثقافة الأجنبية على عكس العرب والصين، وأدى بها هذا الفضول إلى إحساس بالتفوق الخلقي والتدني الفكري على عكس العرب والصينيين، فلم يشعروا بذلك بل شعروا بتفوق فكري ولذلك لحق اليابانيون بالرأسمالية في القرن التاسع عشر عكس العرب الذين كانت لهم فرص أكبر في سبيل ذلك ولم يستغلوها[9].

لقد كانت التجربة اليابانية المعاصرة حية فاستفادت السلطة الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية من دروس المواجهة مع القوى الكبرى في الحرب والانتقال إلى مواجهة من نوع جديد على الصعيد الاقتصادي، والسعي لبناء نهضة اقتصادية، وانتقلت خلال عقود قليلة من دولة منهكة وفقيرة إلى "معجزة اقتصادية" ومن حكم إمبراطوري عسكرتاري شمولي، إلى دولة ديمقراطية دستورية تحتكم للإدارة الشعبية في سياساتها الداخلية والخارجية مما وفر لها الاستقرار والأمن والقوة بالداخل والخارج[10].

وبذلك أهملت اليابان الإمبريالية والتوسع والعسكرة واتجهت نحو التحديث والحداثة، والتصنيع والديمقراطية والعلم، واكتسبت مقوماتها الأساسية للنهضة الحديثة، ولم يندفع اليابانيون في حماسة للاقتباس الأعمى من الغرب إلى حد يدعوهم للتخلي عن طروحاتهم وأنساقهم الثقافية الوطنية بل نجحوا في الموازنة بين الوافد والتقليدي الموروث في موازنة معقولة جعلتهم أمة متقدمة تقنيا وعلميا ومعجزة عالميا[11].

وأقامت النهضة اليابانية ركيزة على أساس خصوصيتها لا تنفصم عن التراث وتتفاعل مع الحاضر وآفاقه، ولذلك بات الدرس الياباني في غاية الأهمية لعالم الجنوب والعرب خاصة في الاستفادة من العلم والتقانة على أساس الحضارة المعاصرة، وعدم الإغراق بالماضي والتراث، والحفاظ على الهوية على أساس النهضة، وعدم الإغراق بالماضي والتراث، والحفاظ على الهوية على أساس النهضة، ولكن مع الانفتاح والتطلع إلى الحضارة ومجالاتها كشيء أساسي دون الانعزال وعدم التفاعل، ويصف المفكر محمد جابر الأنصاري هذه التجربة بقوله:

" إن أكبر الأخطاء المميتة التي وقع فيها عقلنا هو أنه لم يميز بين شيئين منفصلين تماما: الاستعمال الغربي والحضارة الغربية، نحن تصورنا الاثنين شيئا واحدا على الرغم من الفارق الهائل بينهما، فخسرنا الحضارة ولم نهزم الاستعمار!! اليابان اكتسبت الحضارة وهزمت جيوش الغرب الاستعماري.. أما نحن فهجمنا على الاستعمار دون سلاح الحضارة فخسرنا المعركتين"[12].

فبروز التجارب الآسيوية حرية بالدراسة فمثلا الصين لها تجربة نهضوية مختلفة عن اليابان والنموذج الغربي، فهناك تحديث دون مشروع حضاري نهضوي، وتم اختيار متطلبات النهضة وفق النموذج الصيني، وتكوين "اشتراكية السوق" من رأسمالية السوق كنمو اقتصادي، والاشتراكية كنمو إيديولوجي سياسي[13].

إن دروس التجربة اليابانية تقدم للعرب درسا بالتنمية والنهضة باعتبارها نمطا تاريخيا وعالميا جديدا على العرب ينبغي دراستها بعناية ودقة وفهم آلياتها ومحركات نهضتها حتى نعيد تأسيس النهضة والانطلاقة الاقتصادية والحضارية العربية على أسس جديدة، ويبدو بوضوح هذا الفهم مؤخرا في الدراسات التي صدرت عربيا ومنها الدراسة المتميزة للدكتور محمود عبد الفضيل التجربة الآسيوية والدروس المستفادة.

4 – العرب بين قرنين: الدروس والتجارب المستفادة.

لقد انتقل العرب في ظل الليبرالية في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين إلى مرحلة جديدة خاض فيها الصراع الإيديولوجي مع التيارات الأخرى التي سادت الساحة آنذاك، ومحاولة التطبيق وفق نموذج غربي في بعض الأقطار العربية، والتحول إلى قضايا قومية واجتماعية وسياسية في أقطار أخرى، واتخذ هذا الاتجاه مسارا للتقدم ومقياسا للحضارة والمدنية والخروج من الذات إلى الموضوعية، والانفتاح على الخارج والاستناد إلى قاعدة المفاهيم والأفكار التي سادت في عصر النهضة بأوروبا[14].

وقد اتخذ هدف النهضة التخلص من التخلف والتجزئة من أحل التحرير والاستقلال ثم الوحدة العربية وعبرت عنها التيارات السياسية والفكرية في إطار مشروع تحديث الواقع العربي مما تتطلب إعادة نظر في المشروع النهضوي العربي، وطرح تساؤل بعد أكثر من قرن ونصف لماذا لم يحقق المشروع أهدافه؟

وبات المطروح اليوم بأنه لا بد من تكامل مقومات وعناصر المشروع النهضوي العربي بأفق حضاري وهي الديمقراطية والعدالة الاجتماعية والتنمية المستقلة، والوحدة العربية، والتجدد الحضاري، بحيث لا يمكن إدراك نهضة حقيقية إلا بالوحدة وسواء كانت بداياتها اقتصادية أو تجارية، أو في إطار مؤسسات المجتمع المدني. ثم إن الديمقراطية تحقق المشاركة الشعبية لمختلف التيارات والاتجاهات الفكرية والسياسية لتحقيق الاستقرار الداخلي والتقدم، ولا يمكن تحقيق ذلك دون التنمية المستقلة وامتلاك القرار التنموي الوطني، وإنهاء التبعية للغرب، ووضع الخطط التي تخدم المجتمع المحلي في ظل إرادة وطنية، وأيضا لا بد أن يتبعها تحقيق لمبدأ العدالة الاجتماعية في المساواة بين المواطنين على أساس التوزيع العادل للثروات الوطنية والقومية لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والأمن الوطني، وتصبح الوحدة البوتقة التي تصهر ذلك وتأتلف فيها الأمة متجاوزة التحديات الداخلية والخارجية. فالوحدة أساس التنمية، تجعلنا نواجه الآخر بقوة[15] موحدين غير مجزئين، أقوياء بدلا من ضعفاء أو نستكمل شروط وجودنا وعناصر تكاملنا من خلال توحدنا.

وهنا لا يمكن أن تتحول الوحدة إلى عمال آلياتي سياسي أو عسكري بل بفعل ديمقراطي ولنأخذ التجربة الأوروبية في الوحدة بدأت عام 1951 بتأسيس الاتحاد الأوروبي للفحم والصلب من ست دول أوروبية، ثم عام 1957 تأسيس السوق الأوروبية المشتركة في روما من قبل الدول الأعضاء في الاتحاد، ثم عام 1979 اختيار أعضاء انتخابات البرلمان الأوروبي، ثم عام 1992 إنشاء اتفاقية الاتحاد الأوروبي في ماستريخت، ثم عام 1997 تنفيذ الوحدة النقدية الأوروبية بين رؤساء دول وحكومات الاتحاد الأوروبي، ثم عام 1999 في اعتماد اليورو الوحدة النقدية لأوروبا.

فعملية التحديث والنهضة العربية أصابها الاختلاف في واقع الحال وارتباك فهي لم تستطع تحقيق النهضة الصناعية والتكنولوجية كالنموذج الياباني ولا الثورة الجذرية الشاملة واعتناق عقيدة جديدة كالنموذج الصيني ولا الدول الديمقراطية العصرية مع الحفاظ على التراث الروحي كالنموذج الهندي، وكلها أمم آمنت بالوحدة القومية وحققت التحديث، فالوحدة العربية أساس عملية النهضة والحديث وبدونها لا يمكن الحديث عن ذلك بشكل عقلاني وسليم.

ثم استمرار معركة ما بعد الحداثة على الرغم من التناقضات الفكرية الواسعة المطروحة والاختلاف في أجنحتها حول المبادئ التي تسعى إلى إرساءها في الممارسة لا سيما بعد محاولات هدم تجارب المشروع الحداثي الغربي.

فضلا عن أن المشكلة التي تواجه العرب اليوم تتعلق بالتجديد الأصيل والإبداع والاستجابة لتحدي العولمة من نقد أوضاع العرب المتخلفة لبناء مجتمع عصري بثقافة عصرية، ويفترض ذلك تجديد الثقافة العربية وتمثل التجديدات التكنولوجية، والاهتمام بالتعليم العالي والبحث العلمي، والإنتاج الأصيل والإبداع، ووقف هجرة الأدمغة العربية إلى الخارج[16].

وثبت أن الديمقراطية اليوم ضرورة للعرب في مواجهة الأزمات المجتمعية والسياسية والاقتصادية والتحديات الخارجية ورغم التشاؤم المطروح في الخطاب الثقافي العربي حيال تجسيد الديمقراطية في الوطن العربي إلا أن العمل المدني في المجتمع يمكن أن يقصر الفجوة ويجسر الهوة بين الرافضين والداعين إلى الديمقراطية في المشهد العربي الراهن.

إن العرب سواء قبلوا أم لم يقبلوا سيدخلون العقود القادمة أمام تحديات من نوع جديد وهي ثورة المعلومات والتقنيات والتي أصبحت عنوانا للنهضة في مفتتح القرن الواحد والعشرين تحتاج إلى ضرورات الإنتاج وامتلاك العقل والعلم والاتصال مع شبكة المواصلات والاتصالات العالمية والمساهمة في صياغة العالم الجديد في ظل التنمية والديمقراطية والتقدم والتكنولوجيا إنها أصبحت المقومات والأسس للنهضة، وبالتالي بات واضحا أن بغير وحدة العرب واستقلالية قرارهم الاقتصادي والتنموي، وعدالة مجتمعاتهم، والمشاركة الشعبية والسياسية الحرة والحقيقية، والتجدد الحضاري لا يمكن دخول القرن الجديد ونحن نبحث عن النهضة، فالنهضة حسب أولوياتها وشروطها كل واحد أما إن تقبلها أو ترفضها جميعا، وأعتقد ليس من الحكمة والعقل اختيار الطريق الآخر لأنه سيعني الانتحار.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 [1]- أحمد عبد الرحيم مصطفى، حركة التجديد الإسلامي في العالم العربي الحديث، ط2، مكتبة الفلاح، الكويت، 1977، ص21-48.

[2] - عبد العزيز الدوري، التكوين التاريخي للأمة العربية، دراسة في الهوية والوعي، ص31، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1986، ص141-412.

[3] - مفيد الزيدي، الخطاب التاريخي العربي المعاصر، البحرين الثقافية، السنة 6، العدد 21، المنامة، يوليو/تموز 1999، ص31-44.

[4] - علي محافظة، أسس النهضة العربية الحديثة، في: معن بشور وآخرون، الواقع العربي وتحديات قرن جديد، المحرر، إبراهيم العجلوني، ط1، عبد الحميد شومان، عمان، 1999، ص220-221.

[5] - وجيه كوثراني، النهوض العربي: أزمنته وأزماته، معن بشور وآخرون، ص225-226، محمد عابد الجابري، المشروع النهضوي العربي، ط2، المركز، بيروت، 2000، ص7.

[6] - مفيد الزيدي، بدايات النهضة في أوروبا أواخر العصر الوسيط، دراسة في المجتمع المدني، مركز الوثائق والدراسات الإنسانية، السنة 8، العدد8، نمو مشروع نهضوي عربي حضاري، فاس، 23-26 نيسان/أبريل 2001.

[7] - عبد العزيز الدوري، تعريف المشروع وتجاربه وتطوره، بحوث ندوة نمو مشروع نهضوي عربي حضاري، فاس، 23-26 نيسان/أبريل 2001.

[8] - محمد بن أحمودة، مشروع الحداثة السياسية من خلال كتاب الإسلام وأصول الحكم، لعلي عبد الرزاق، في: أثر الثورة الفرنسية في فكر النهضة، مصطفى التواتي وآخرون، ط1، العربية محمد علي الحاصي للنشر والتوزيع، تونس، 1991، ص84-88.

[9] - مسعود ضاهر، إسهامات الفكر الياباني في النصف الثاني من القرن العشرين، البحرين الثقافية، السنة 8، العدد 27، المنامة، كانون الثاني/يناير 2001، ص111-113.

[10] - نقلا عن: شارل عيساوي، تأملات في التاريخ العربي، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1991، ص179-196.

[11] - مسعود ضاهر، المصدر السابق، ص101-110.

[12] - قيس النوري، اليابان: تجربتها الفذة والبيئة الدولية: الدلالات الاجتماعية والثقافية لمعجزة الانبعاث الياباني، آفاق عربية، السنة 18، العدد 5، بغداد، أيار 1993، ص87.

[13] - نقلا عن: نفيد الزيدي، شرق وغرب: صراع حضارات أم تعدد ثقافات، اليرموك، العدد 63، أربد، أيلول/سبتمبر 1999، ص13-14.

[14] - محمود عبد الفضيل، العرب والتجربة الآسيوية الدروس المستفادة، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، 2000، ص218-220.

[15] - Michael C. Hudson, ‘’Democracy and Foreign Policy in the Arab world’’, David Garnham and Mark Tessler [eds], Middle East, Indiana Series in Arab and Islamic studies, 1995, pp.197-206.

سعدون حمادي، العقل والنهضة: مناقشة أخرى لموضوع الأصالة والمعاصرة، في بومدين بوزيد وآخرون، التنوير والنهضة في الفكر العربي المعاصر، ط1، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999، ص241-242.

[16] - عبد العزيز الدوري، تعريف المشروع وتجاربه وتطوره، بحوث ندوة نمو مشروع نهضوي عربي حضاري نهضوي.

المصدر: https://www.aljabriabed.net/n71_03zaydi.(2).htm

 

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك