الإسلام وفرص الحوار مع الغرب
إبراهيم محمد جواد
توطئة
قال الله تعالى ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليم خبير) . الحجرات 13.
تشير هذه الآية الكريمة إلى حكمة الله البالغة في التنوع الجنسي للبشر بين ذكر وأنثى لضرورة استمرار النوع البشري، والتنوع العرفي. فتعدد الشعوب والقبائل ليتعارفوا فيما بينهم ويتعاونوا على استخراج كنوز الأرض، ويقوم بينهم التنافس الشريف فتبرز المواهب وتظهر الطاقات وتتعدد التقاليد والعادات وتتنوع المفاهيم والثقافات.
كما زود الله سبحانه عباده بالعقل والعلم، وأمرهم بلغة الحوار والخطاب لتكون وسيلة التعارف والتفاهم فيما بينهم.
من هنا كان الحوار بين الناس بمختلف أجناسهم وأعراقهم ضرورة بشرية تؤدي بهم إلى التعرف على نيات بعضهم البعض، والاتفاق على أسلوب التعامل واسس التعاون ونبذ التنازع والصراع فيما بينهم.
وقد ساق التفاهم بين أفراد الجنس البشري إلى قيام المجتمعات المتجاورة، وتعقد العلاقات بينهما مما زاد في أهمية الحوار، وأرسى كثيراً من الأسس التي ينبغي أن يقوم عليها ، وغدا الحوار ضرورة اجتماعية وإنسانية لا غنى عنها ولا يمكن أن يقوم تفاهم وتعارف وتعاون بدونه.
الإسلام والحوار
ولا شك أن افضل الأسس اللازمة للحوار هي ما جاءت بها الأديان، التي قدمت للبشرية مفاهيم الاخوة والتعاون والإحسان والحرية والعدالة والمساواة، وربطت كل تلك المفاهيم بالإيمان بوحدانية الخالق ووحدة الجنس البشري مهما تعددت القبائل والشعوب وتنوعت المجتمعات.
( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء) النساء: 1.
إن وحدة النوع البشري التي رسختها الأديان، استلزمت توسيع دائرة التعارف والتفاهم والتعاون، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالحوار المستمر، وكلما تعقدت العلاقات، وتنوعت المصالح، ازدادت أهمية الحوار لاستمرار التعاون، ودفع أسباب التنازع ودواعي الصراع.
ولم يصدع هذا الحوار ويقف دون استمرار التفاهم والتعاون، إلا طغيان الأهواء الناجمة عن ضعف الإيمان. لذلك كانت رسالة جميع الأنبياء إرساء دواعي الإيمان، والدعوة إلى التوحيد، والتذكير بوحدة الجنس البشري.
إن التركيز على هذه الأسس ضروري في كل زمان ومكان، فهي الجسر القوي الراسخ، الذي يعبر منه جميع الناس إلى التفاهم والتعاون، وعليه تقوم الأسس السليمة للحوار الجاد النافع.
ومن هنا فإن الإسلام ـ باعتباره استمراراً للأديان السابقة وختاماً لها ـ قد أسس للحوار بنيانا شامخا، وأقام له كياناً سامقاً وشاناً رفيعا، وجعله ركنا مهماً لقيام المجتمع العالمي المسلم وعلاقته بالمجتمعات الإنسانية الأخرى.
نلمس ذلك مما تضمنه القرآن الكريم من حوارات عملية بمختلف المستويات وفي شتى المجالات، حوارات الخالق مع خلقه، ومع أنبيائه، وحوارات الأنبياء مع أقوامهم، وحوارات الأفراد فيما بينهم.
والقرآن الكريم بحد ذاته حوار عملي مع البشرية جمعاء في كل زمان ومكان، يخاطب الناس جميعاً ليذكرهم بخالقهم ومربيهم، ورازقهم وحافظهم، والذي هو مصدر كل المواهب والطاقات التي يتمتعون بها في أنفسهم، مصدر كل الخيرات والنعم التي يحصدونها من الطبيعة التي تحيط بهم.
يذكرهم بربهم ويدعوهم بأسلوب فريد إلى الإيمان به وتوحيده، والتوجه إليه بالشكر والطاعة والعبادة، دون قهر أو إكراه، بل بمطلق الحرية الشخصية والقناعة العقلية واليقين القلبي، الإرادة الخاصة التي لا سيطرة لأحد عليها، ولا حق لأحد بالتسلط عليها.
ورغم أن جوهر الإسلام يتلألأ في أركان ثلاثة:
ـ الإيمان بالخالق (العقيدة السليمة).
ـ العروج إلى الخالق (العبادة الصحيحة).
ـ الإحسان إلى الخلق (السلوك الحسن).
فما أن تظلك مظلة الإسلام حتى تجد نفسك سابحاً في فضاء واسع من جمال الله وجلاله، قد صفا قلبك، واطمأن فؤادك، وهدأت في جوانحك رياح الآلهة المزعومة، واستراحت جوارحك من نصب التشتت والتوزع، ومن عواصف التنازع والصراع، فتعيش في سلام مع نفسك بالإيمان، ومع ربك بالعبادة، ومع الناس بالخلق الحسن، تعرج إلى الطاف الخالق الجليل، وتسبح في نعم الرزاق الكريم، وتسري مع نفحات الرحمن الرحيم. فأي جلال وجمال أوضح من جلال الله وجماله، وأي إسراء وعروج أفضل من الإسراء في الطافه، والعروج إلى نعمه، وأي سلام أهم من السلام الداخلي؟.. سلام الإنسان مع نفسه وربه، والسلام الخارجي المبسوط بين جميع خلق الله، على رياض الإلفة والمحبة والإحسان والتعاون والتناصح.
إلا أن هنالك ركناً رابعاً يظلل هذه الأركان الثلاثة، ويحميها من عوامل الضغط والإكراه ووسائل القهر والتسلط، ليترك لكل إنسان حرية الاختيار، فيهتف القرآن بوضوح:
( وقل الحق من ربكم، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر) الكهف: 29 ويؤكد (لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي) البقرة: 256 ويخاطب النبي الكريم بقوله سبحانه ( فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر) الغاشية: 22 ويقول له (وعظهم) النساء: 63.
فوظيفة الرسول كما حكى القرآن الكريم هي تذكير الناس وعظتهم ( يعظكم لعلكم تذكرون) النحل: 90.
وقد كان النبي(ص) مع قومه مصداقاً واضحاً لهذه التوجيهات الربانية، فكانت حركته العملية لا تتعدى دائرة العظة والتذكير وتفتيح العقول والقلوب على الحق دون أي ضغط أو قهر واكراه، فكان يقول في خطابه لهم ( إنما أعظكم) سبأ 46. ويقول لهم ( يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدىً ورحمةٌ للمؤمنين) يونس: 57.
وكان هذا الأسلوب من الوعظ والحوار هو سبيل كل الأنبياء والرسل مع أقوامهم دون استثناء، ونحن إذ لا يسعنا في هذا البحث أن ندرج كل حوارات الأنبياء التي وردت في القرآن الكريم فلا يفوتنا أن نشير إلى حوارين أو ثلاثة تفي بالغرض في هذا المجال.
الأول: حوار خليل الله إبراهيم عليه السلام مع ربه ذلك الحوار الذي خلده القرآن الكريم في آيات موجزات فقال: ( وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أو لم تؤمن! قال: بلى، ولكن ليطمئن قلبي، قال: فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءاً، ثم ادعهن يأتينك سعياً، واعلم أن الله عزيز حكيم) البقرة: 260.
فهذه صورة رائعة من حوار حي بين الله سبحانه وتعالى وبين خليله ونبيه إبراهيم عليه السلام يتوجه فيها المولى سبحانه وتعالى ببرهان عملي ينقل به خليله من درجة الإيمان إلى درجة الاطمئنان القلبي.
والثاني: حوار بين الخليل وقومه، يحكيه القرآن الكريم فيقول: ( وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وليكون من الموقنين. فلما جن عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رأى القمر بازغاً قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا اكبر فلما أفلت قال يا قوم إني بريء مما تشركون. إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) . الأنعام: 75-79.
ففي هذا المقطع من الحوار الشيق، يأخذ الخليل بأيدي قومه بشكل تدريجي رائع نحو الإيمان الصحيح، بعد الإدلاء بالحجة العقلية الدافعة التي لا مرد لها ولا مجال للشك أو الريب فيها.
والثالث: حوار نوح مع قومه الذين أخذت دعوته لهم وصبره عليهم ألف سنة إلا خمسين عاماً من عمره، يقدم لهم أنواع النصح والإرشاد، مستخدماً كل أساليب الموعظة والإنذار، فما ينفعهم النصح ولا تفيدهم الموعظة ولا يزجرهم عن غيهم الإنذار. ويسوق القرآن الكريم مقطعاً من أحد حوارات نوح مع قومه فيقول: (لقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم. قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين. قال: يا قوم ليس بي ضلالة، ولكني رسول من رب العالمين. أبلغكم رسالات ربي وأنصح لكم وأعلم من الله ما لا تعلمون. أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم لينذركم ولتتقوا ولعلكم ترحمون. فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين.. ) الأعراف: 59-64.
ويتكرر هذا المشهد من الحوار بين هود وقومه وبين صالح وقومه ولوط وقومه وشعيب وقومه وموسى وقومه وعيسى وقومه، وكل الأنبياء وأقوامهم فكذب بهم الملأ من أقوامهم وما آمن معهم إلا قليل.
أسس الحوار المثمر
من مجموع الحوارات القرآنية نستطيع أن نستخلص بعض الأسس التي لا يكون الحوار بين أي طرفين حواراً مثمراً ما لم تتوفر فيه هذه الأسس، التي ينبغي أن تكون واضحة وحية في ذهن كل من الطرفين المتحاورين. من هذه الأسس:
1 ـ الحرية الفكرية المطلقة المتحررة من أي ضغط أو إكراه، قال تعالى ( لا إكراه في الدين) البقرة: 256. وقال مخاطباً نبيه محمداً(ص) ـ وهو خاتم الأنبياء والرسل، ورسالته خاتمة الرسالات ـ: ( فذكر إنما أنت مذكر. لست عليهم بمسيطر) . الغاشية: 22.
وقال له كذلك: ( ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) يونس: 99.
وعلى هذا الأساس فإنه لا محرمات في الحوار، لا من حيث الأفكار ولا من حيث الأسلوب في طرحها، فلكل من الطرفين المتحاورين طرح ما يشاء من الأفكار، بالأسلوب الذي يشاء، ضمن برامج الحوار المتفق عليه، على أن يكون الطرح جدياً غير مشوب بهزل أو هزء أو تعريض، وأن لا يقصد به إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ولا نفع يرتجي من الحوار حوله.
2 ـ الرفق واللين في الخطاب، قال تعالى مخاطباً نبيه واصفاً أسلوبه في حواره مع قومه ودعوته لهم إلى ما أرسل به من الحق: ( فبما رحمة من الله لنت لهم، ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك) آل عمران: 159.
3 ـ الحوار بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخاطب الناس بما يألفون وينطلق في حوارهم مما يعرفون، ويتدرج معهم في الخطاب: ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة، وجادلهم بالتي هي أحسن) النحل: 125.
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) العنكبوت: 46.
4 ـ التزام الحوار العلمي بعيداً عن الجدل بالباطل: ( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم؟!) آل عمران: 66.
إن التزام العلم يسع الناس جميعاً، وإن الادلاء بالحجج والبراهين يستميل العقول والقلوب، ويفتح الأبصار والبصائر على الحق المبين، أما الجدال بالباطل فمضيعة للوقت وإزدراء بالعقل ومجافاة للحكمة، ولكنه مع هذا أسلوب كثير من الناس: ( ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير) الحجج: 8.
5 ـ عدم تعالي كل طرف على الآخر خلال الحوار، فلعل لدى الآخر حقاً يكتشف أثناء الحوار.
قال تعالى حاكياً قول النبي(ص) وهو يحاور المشركين من قومه: ( وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلال مبين) سبأ: 24. فإن الحوار بهذه النفسية أعون لكل من الطرفين على قبول الحق الذي يتكشف له، وصحيح أنه لابد أن أحد الطرفين على الهدى والطرف الآخر على الضلال، لكن ذلك ينبغي أن يتم التوصل إليه من خلال الحوار، لا قبله. إن الحق واحد لا يتعدد، ولكن الحوار بقلب يقظ وعقل مفتوح ورغبة وجدانية بالوصول إلى الحق سيوصل إليه حتماً.
6 ـ ليس من اللازم أن يكون الهدف من الحوار انتقال أحد الطرفين المتحاورين إلى موقع الطرف الآخر، بالتسليم له بكل منطلقاته بل لعل الأسلم في كثير من الأحيان أن يكون هدف الحوار التقاء الأطراف المتحاورة على ما يكشفه الحوار الصادق من النقاط المشتركة بين هذه الأطراف، ولعل هذا الهدف أقرب إلى التحقيق وأدعى إلى التعايش على أساس هذه المشتركات، وخاصة بين الأديان: ( قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم، أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً) آل عمران: 64.
( ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ـ إلا الذين ظلموا منهم ـ وقولوا آمنا بالذي انزل إلينا وأنزل إليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون) العنكبوت: 46.
7 ـ ليس من لوازم كل حوار الوصول إلى اتفاق ما، لكن من اللازم والضروري أن لا يكون الحوار مدخلاً إلى الصراع والنزاع، وإنما إلى مزيد من الحوار ومحاولات اللقاء والتعايش.
فبالتأني والصبر قد تتكشف الحقائق، وبالعصبية والعنف يزداد كل طرف تمسكاً بمنطلقاته الفكرية والسلوكية ورفضاً لما عند الآخر من أفكار وسلوك، وهذا بدوره يؤدي إلى مزيد من العزلة والتقوقع، فمزيد من التوجس والخوف، ثم إلى مزيد من الصراع والنزاع.
هذه بعض الأسس التي أرساها الإسلام للحوار، والتي ينبغي لكل من طرفي الحوار أن يعيها في فكره وسلوكه، لكي يكون الحوار حياً مثمراً مفيداً لكل الأطراف.
الحوار مع الغرب
إن الحوار مع الغرب ـ في هذا العصر ـ صعب وشائك جداً على كل المستويات وفي جميع المقاييس. وذلك لسببين اثنين لا ثالث لهما:
السبب الأول: قائم في المسلمين، وهو بعدهم العملي عن الإسلام، وخلافاتهم الشديدة حول كثير من مفاهيمه وأحكامه، لا في الفروع فقط، وأنما في بعض الأصول كذلك. مما يجعل الخطاب الإسلامي واهناً ضعيفاً مضطرباً ومفتقداً لعنصر الثبات واليقين، و الجاذبية التي تمتع بها خلال العصر النبوي.
ولهذا الواقع المتخلف أسبابه البعيدة، التي لا مجال في هذا البحث الموجز لتحليلها والإسهاب فيها، وإن كان ذلك لا يمنعنا من الإشارة السريعة إليها والتي يمكن أن نحصرها فيما نجم عن الانحراف المبكر والسريع في أسلوب الحكم الإسلامي، الذي تمثل في الانقلاب الكبير على ولي أمر المسلمين المنصوص عليه من قبل الله ورسوله، وتحكيم أهواء الناس وآرائهم في أهم مؤيد قانوني لنظام الإسلام، وأعظم حارس لمفاهيمه وأحكامه، ألا وهو الإمام الذي هو رأس الأمة وعقلها المفكر وقلبها النابض، فهجموا على منصب الخلافة واختاروا بأنفسهم من يتنسم هذا المنصب الخطير، والله سبحانه وتعالى يقول: ( وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) الأحزاب: 36.
وقد نجم عن هذا الانقلاب المبكر خلل خطير في المفاهيم، وعجز في الأحكام، وخطأ في التطبيق، واختلاف بين المسلمين شديد، فقدت الأمة معه وحدة الخطاب الإسلامي، ورصانته، وبالتالي بريقه وجاذبيته، فانتقضت عرى الإسلام بدءاً من عروة الحكم وصولاً إلى عروة المجتمع إلى أن اهتزت صورة الفرد المسلم، فتخلف المسلمون، وتخلّوا عن دورهم الريادي، ثم سقطوا في التبعية للغرب، في كل المجالات السياسية والاقتصادية والثقافية والسلوكية، ولم يبق من الإسلام لدى المسلمين إلا اسمه، وباتوا مصدر ازدراء للإسلام، مذ اصبحوا سفراءه الفاسدين الجاهلين.
فالمسلمون اليوم أحوج ما يكونون إلى حوار داخلي فيما بينهم، يعيد للإسلام رونقه، وللمسلمين وحدتهم واعتزازهم بدينهم، وتمثيله تمثيلاً صحيحاً سليماً في كافة المحافل الدولية.
والسبب الثاني: قائم في الغرب، وهو أستاذيته الفعلية على صعيد التقدم العلمي والتقني، وهيمنته العملية على أزمة الأمور في العالم سياسياً واقتصادياً، وإمساكه بكافة الخيوط التي تحرك الدمى الصورية في معظم أن لم نقل في كل دول العالم ومجتمعاته بل وأفراده.
وقد أوقعه هذا التفرد في وهم الأستاذية الفكرية والعقائدية، رغم إفلاسه الحضاري، وانحداره القيمي والأخلاقي وخوائه من الثقافة الغنية المفيدة، فإذا به ينجر بشكل فاضح إلى تغليب المصالح المادية على كل المفاهيم والقيم الروحية، وليس هذا فحسب، بل تغليب مصالحه الخاصة على مصالح كل المجتمعات الإنسانية الأخرى القائمة من حوله.
من هنا جاءت أوهام منظري الغرب، وخاصة الغرب الأمريكي، سواء فيما سمي (نهاية التاريخ) بمعنى أن الصيغة الفكرية والسياسية والاقتصادية التي توصل إليها المجتمع الأمريكي هي الصيغة النهائية التي لا محيص للعالم كله عن تبنيها، والتي لا تقبل أي تغيير أو تحوير أو تعديل، وعلى العالم كله قولبة مجتمعاته وفقها، أو فيما سمي (صراع الحضارات)، الذي وإن جاء بصيغة الجمع فالمقصود به حضارة مفردة بذاتها، هي حضارة الإسلام، ذلك أن الغرب الذي تعود دائماً أن يخوف شعوبه من عدو موهوم حتى يبقيه في حالة استنفار دائم، قد ابرز الإسلام كعدو أول بعد سقوط العدو الأول القديم وهو الشيوعية، وتفكك الاتحاد السوفياتي.
وربما ظن بعض الناس أن هناك فرقاً بين التسميتين، والحقيقة أنهما وجهان لعملة واحدة، فهما شعاران يكمل كل منهما الآخر، يختزلهما حالياً شعار (العولمة) الذي يعتبر السيف الغربي ـ بل الأمريكي ـ المصلت على رقاب كل المجتمعات المغايرة، والبعبع الذي يهدد بنفوذه وقدرته وتسلطه وإمكاناته المادية كل الحضارات الإنسانية الأخرى وأهمها على الإطلاق الحضارة الإسلامية.
ومع ذلك، ورغم صعوبة الحوار مع الغرب، فانه لا بديل ولا غنى عن الحوار معه، خاصة وأن هناك نقاط ضوء تدعو إلى التفاؤل، أشار إليها القرآن الكريم بقوله سبحانه: ( ليسوا سواء، من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين، وما يفعلوا من خير فلن يُكْفَروه والله عليم بالمتقين) آل عمران: 113-115.
نقاط الضوء هذه مهمة جداً، وهي التي تجذب إلى الحوار، وتحث على مواصلته، وعلى المسلمين أن يستبشروا بنقاط الضوء هذه، وأن ينفذوا منها إلى قلوب هؤلاء الصالحين، والحوار هو السبيل الوحيد.
نقطة أخرى يجدر الإشارة إليها في هذا المجال، وهي ضرورة التركيز على الحوار مع الشعوب، والتعويل عليها اكثر من التعويل على الحوار مع الأنظمة الغربية، لأن الأفراد والمؤسسات الشعبية اقرب إلى الاستجابة لنداء الحوار، والحوار معها أجدر بأن يعطي ثماراً حسنة وينتج تجاوباً فعالاً مجدياً.
بينما الأنظمة تسيرها خطط تهدف إلى الزعامة والسيطرة، وتقوم على الصراع مع الحضارات والثقافات من اجل إيقاف التاريخ عند أنظمتها الليبرالية الرأسمالية، وتستخدم في ذلك أساليب المكر والخديعة أحيانا، والقوة والقهر أحيانا أخرى.
فالحوار من وجهة نظر هذه الأنظمة ليس اكثر من إلقاء الأوامر من طرف وتلقيها وتنفيذها من طرف آخر، وما عدا ذلك فهو حوار مرفوض.
ولا يفوتنا أن نشير في ختام البحث إلى نقطة هامة لا ينبغي إغفالها وهي أن الوصول إلى الوفاق التام أو الجزئي ليس لازمة حتمية من لوازم أي حوار، وذلك لأن الكثير من الناس لا يتحركون وفق ما تميله عليهم عقولهم، وإنما مما تميله عليه مصالحهم الآنية، فهم في سبيل هذه المصالح الآنية العاجلة قد يسارعون إلى نسف عملية الحوار من الأساس أو إلى تعطيلها في بعض مراحلها قبل أن تثمر أو إلى نقض بنود أي اتفاق تم التوصل إليه.
وما ذلك إلا لأنه لا هدنة بين الخير والشر، فلكل منهما أئمة يدعون إليه ويجرون الناس إلى تياره:
فكما يوجد الأنبياء والأولياء والصالحون الذين قال عنهم الله سبحانه ( وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا) الأنبياء: 73. يوجد في المقابل المستكبرون والجبارون والسفهاء والمفسدون في الأرض الذين وصفهم الله سبحانه وتعالى بقوله:
( وجعلناهم أئمة يدعون إلى النار) القصص: 41. وهؤلاء يدعوهم تجبرهم واستكبارهم وعلوهم في الأرض إلى إنكار الحق وجحوده مهما كان بيناً واضحاً، وقد بين القرآن حقيقتهم فقال تعالى: ( فلما جاءتهم آياتنا مبصرة قالوا هذا سحر مبين، وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلوا، فانظر كيف كان عاقبة المفسدين) النمل: 13-14.
فإذا سدت سنة الله في الحوار من أجل التفاهم والتعايش، انفتحت سنة الله في الدفع، دفع الباطل بالحق، ودفع الشر بالخير، ودفع الإفساد بالإصلاح، ودفع العدوان بالجهاد.
لأنه لولا هذا الدفع لعم الظلام وانتشر الفساد في البر والبحر والجو، وتعطلت مسيرة الحياة البشرية على وجه الأرض أو تعسرت.
قال تعالى: ( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) البقرة: 251.
وقال سبحانه ( ولو لا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً) الحج: 40.
والحمد لله رب العالمين والله غالب على أمره ولكن اكثر الناس لا يعلمون