مستقبل الحضارة الاسلامية في ظل العولمة
عقيل حسين المنور
الاحداث الاخيرة التي عصفت بالعالم الاسلامي دعت المفكرين المسلمين أن يهتموا بموضوع مستقبل الحضارة الاسلامية، والعولمة الاقتصادية هي أعلى أشكال الامبريالية، والعولمة الثقافية تحاول أن تغطي على سيئات جشع القوى الطاغية. ولا خلاص من هذه الحالة العالمية المتردية الا بتعاليم الدين التي تدعو الى عالمية تعترف بهوية الشعوب.
ومن المهم في هذا المجال تطوير الاعلام الاسلامي للوقوف بوجه محاولات التشويه المتعمدة لديننا وواقعنا وقيمنا الحضارية.
من موضوعات الساعة التي تهم المسلمين هو» مستقبل الحضارة الاسلامية في ظل العولمة «. إن هذا الموضوع في غاية الأهمية، خاصة بعد الأحداث المحزنة التي صوبت
ـ
* _ وزير الشؤون الدينية بجمهورية إندونسيا.
بسهامها الدامية إلى قلوب المسلمين في فلسطين وأفغانستان وكشمير، وأخيراً غزو العراق على مرأى ومسمع منا، ونحن عاجزن عن فعل شيء سوى الهتافات والمطالبة بوقف الحرب، بينما العدو المغرور يمضي قدماً في طريقه واضعاً أصابعه في أذنيه لا يسمع هتافات العالم الى أن حقق غرضه وسقط العراق في يده بعد أن أحدث فيه من التخريب والتدمير ما هز كيان الأمة الإسلامية وأوجعه في الصميم، لأنه يعني تدمير حضارة كنا نعتز بها، حيث كانت بغداد عاصمة الدولة الإسلامية العباسية لمدة خمسة قرون من القرن الثاني الهجري حتى القرن السابع الهجري، حين تعرضت للغزو البربري من هولاكو وجنكيز خان، والآن كأنما يعيد التاريح نفسه وتسقط بغداد في يد العدو البربري» المتحضّر «في القرن الواحد والعشرين. إن كلمات الثقافة والحضارة والعولمة كثيراً ما نردّدها، ولكننا نادراً ما نهتم بحقيقة الثقافة وحقيقة الحضارة من المنظور الإسلامي. وهذا ما سأحاول أن أقف عنده.
١ـ مقومات المجتمع الصالح في الإسلام
جاوز الإسلام المدى وبلغ القمة وهو يفرض آدابه ويضع قواعده للمجتمع السليم الصحيح، وذلك بالتعايش المترابط في ظل حياة تسودها الرحمة ويظللها الأمن، فيبادر أولا إلى إرساء قواعد المجمع على أسس من الإيمان بالله والقيام بعبادته وأداء حقه، ووعد على ذلك بالتمكين للأمة الإسلامية وللمجتمع الإسلامي في الأرض فقال تعالى:
(وَعَـدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مـِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهـِمْ أَمْنًـا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بـِي شَيْئًا وَمَـن كَفَرَ بَعـْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئـِكَ همُ الْفَاسِقُونَ (.
ولكن المجتمع الصالح المؤمن لابد له أن يرتكز في حياته على آداب ومقومات هي ثمرة الايمان وعطاء العبادة يقول الله تعالى في مقومات المجتمع الصالـح: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بـِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُـبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا (.
طوال مسيرة الإسلام على مدى ١٥ قرناً تكونت المجتمعات الإسلامية المثالية، متفرقة في أنحاء البلاد حتى أصبح تعدادها حوالي مليار و٢٠٠ مليون مسلم يعيشون على مساحة واسعة تزيد على أضعاف مساحة الصين وحدها. طوال هذه المسيرة تمكنت الأمة من تشكيل ثقافة إسلامية راسخة وحضارة عريقة… وكان المسلمون رواد الحضارة بينما كانت أوربا تعيش في ظلمات الجهل والتأخر والبربرية في العصور الوسطى.
لقد كان هذا حديث الأمس، أما الآن فقد تغير الحال وأصبحت الأمة الإسلامية متفرقة في كل مكان تعيش مأزقاً حضارياً يضيق عليها الخناق، وأصبحت من الضعف بحيث تجرأت عليها القوى العالمية التي أصبحت تسود العالم بثرواتها، وفكرها وثقافتها للهيمنة على أرضها ونهب ثرواتها بل وتهديد المستقبل الحضاري للأمة الإسلامية بأكملها.
مفهوم الثقافة
١. لغة
الثقافة لغة هي التسوية والتهذيب، والتقويم، والخدمة، والظفر، والفطنة، وسرعة أخذ العلم وفهمه وثبات المعرفة بما يحتاج إليه.
٢. اصطلاحا
هي مجموعة العلوم والفنون والمعارف القطرية التي تؤلف الفكر الشامل للإنسان فتكسبه أسباب الرقي والتقدم والوعي فتطبع سلوك الفرد وتوجهه بطريقة لا شعورية. هذا بالإضافة إلى أن الثقافة هي عبارة عن نتائج لعلاقة الفرد بالمجال الروحي والاجتماعي الذي ينمي فيه وجوده العقلي والنفسي.
٣. الثقافة في المفهوم الإسلامي:
أما الثقافة الإسلامية بالمفهوم العام» فهي علم يبحث مقومات الأمة الإسلامية العامة المتعلقة بماضيها وحاضرها والتي تتكون من الدين الإسلامي واللغة العربية والتاريخ والتراث والأرض والحكم والحضارة وأنماط السلوك وأساليب الحياة المشتركة المتنوعة «.
وبالمفهوم الخاص بأنها علم يبحث في مقومات الدين الإسلامي وآثار تلك المقومات في الماضي والحاضر والمصادر التي استقيت منها هذه المقومات بصورة إجمالية مركزة.
وبالمعنى المميز: » معرفة التحديات المعاصرة المتعلقة بمقومات الأمة الإسلامية ومقومات الدين الإسلامي بصورة مقنعة وموجهة «.
وقد أدرك السلف أهمية هذه الثقافة وارتباطها بالدين فمنذ اعتناقهم للإسلام أوقفوا حياتهم على فهمه وتبليغه، وكانت أهمية دراسة اللغة العربية وتعلمها همهم الأول لأنها عون هذا الدين. واتسعت أنواع المعارف لدى المسلمين كلما اتسعت الفتوحات. مما زاد في اتساع الثقافة الإسلامية بدخول الكثير من المعارف المتعلقة بمختلف الفنون والصناعات وعلوم الرياضيات والجغرافيا والفلك والهندسة والطبيعيات… الخ. فدرسها المسلمون وحذقوها وأضافوا إليها المؤلفات حتى كانت مؤلفاتهم فيها هي أساس النهضة الأوربية الحديثة.
تعريف الحضارة:
الحضارة مصطلح جديد نوعاً ما في استخدامه الاصطلاحي، ولكنه من حيث مضمونه قديم قدم الإنسان وظرفيه الزماني والمكاني، لأنه في النتيجة يطرح علاقة منسجمة بين هذه الأركان (الإنسان والزمان والمكان)، يتحدد فيها دور وتأثر كل طرف فيها وتأثيره.
الإنسان هو أساس الحضارة، ومحورها وقطبها ومرتكزها، وهو الخصم والحكم.
والحضارة للإنسان: شاملة له، لكله، لأبعاده، لمخزونه، لشعوره، لكل ذرة فيه، مرئية وغير مرئية، محسوسة ونفسية، وأهم ما تتصف به الحضارة: » الانسانية «، وأخطر ما يهددها ويتوعدها: » اللاإنسانية «.
ويرى الشيخ محمود عكام تعريفاً آخر للحضارة فيقول:
الحضارة من» حَضَر «، والحَضر يرمي إلى» الحضور «، أي: الوجود بكل معناه في الزمن الراهن والمكان القائم على عكس» البدو «الذي يشير إلى شيء من عدم الوضوح.
فالحضر ليس مدنية أو مدينة، بل هو أعم وأشمل؛ لأن المدنية جزء من الحضور، وهي تختص بنظام الجماعة، وشكلية تكتنف هذه الجماعة، وترتيب الصيغ في برنامج العلاقات فيها. ولهذا: ليست الحضارة: Civilization وإنما هي» حضور «، لأن الأولى مدنية تعبر عن مظهر من مظاهر الحضارة وشكل من أشكالها، وجزء من أجزائها، وتبقى الدلالة الثانية هي الأشمل والأعمق لها تغطي كل الإنسان، في كل مظاهره سواء أكان فرداً أم جماعة [١].
١ - مقومات الحضارة:
أ - الغاية المناسبة للإنسان.
ب - السعة والاستيعاب.
ج - النقل والتوريث والمسؤولية.
١ - الغاية المناسبة للإنسان:
المناسبة المقصودة هي الانسجام بين طبيعة الإنسان وطبيعة الغاية، ولعل الإنسان إذ يفكر بغايته، أي بما من أجله وجد وخلق، لن يجد أولى من الذي خلقه برسم معالم هذه الغاية؛ لأن الخالق أعلم والصانع أدرى (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُـوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (.
ومن أولى مهام الحضارة أن تضع النقاط على الحروف فيما يتعلق بغاية الإنسان، وإلا تمزق هذا الإنسان وتبعثر وتعثر وضاع نظامه بين بداياته ونهاياته، وطاش صوابه بين منطلقات مرسومة ونتائج موهومة.
وجاءت حضارة الإسلام لترسم للإنسان غاية هي العبادة: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ (.
٢ - السعة والاستيعاب:
الحضارة سعة، وصاحبها مستوعِب وليس مستوعَباً، وغلبة الحضارة يعني اتساعها واستيعابها غيرها، والحضارات لا تتصارع، وإنما هي حضارة واحدة في النهاية، ولا تقوم الحضارة على رفض الحضارات، وإنما الحضارة هي التي تتحمل رفض أشباه الحضارات.
حين نتكلم عن الاستيعاب والسعة أسلوباً فردياً يعبر عن حضارة الفرد نذكر الأنبياء والمرسلين والمصلحين والمجددين، فنرى هذه السمة جلية فيهم، غزيرة في صدورها عنهم، فهي التطبيق الأمثل لنصوص السماء التي دعتهم إلى هذا وطالبتهم أن يتبنوه ديناً يدينـونه لله عزَّوجلَّ، فالقـرآن نصاً يقول: (وَقُولُـواْ لِلنَّاسِ حُسْناً (، (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (، (ادْعُ إِلـِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ (.
٣ - النقل والتوريث والمسؤولية:
وهنا تكمن الطامة الكبرى، والكارثة القائلة بالنسبة إلينا نحن من نجتر ونحكي. الحضارة ليست برنامجاً مسجلاً نعرضه لنتفرج عليه! وليست لوحة موروثة نعلقها، ولكنها فعل مستمر وعمل متتابع وتحقق مطرد، لقد أخفقنا – وهذا اعتراف – أن نكون الوارثين والخلف لمورّث وسلف حضر في عصره أيما حضور.
إن مشكلتنا في حضورنا، وليس في حضارتنا، فحضارتنا حضارة، ولكن الحملة الوارثين غائبون، حضارتنا ماثلة أمام أعيننا، ولكننا عنها غائبون ومشغولون بمـا يعود عليها بالرفض وفق قانون المنعكس الشرطي.
العولمة:
العولمة هي تنميط العالم، أو قولبة العالم، وفق مناهج الحياة الغربية، ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. فهي، في الحقيقة» تغريب «العالم، بحكم تأثير الحضارة الغربية على العالم، أو هي، لدى الدقة» أمركة «العالم، بحكم التأثير الأقوى لنمط الحياة الأمريكية حتى على أوروبا نفسها…
ومفهوم العولمة الذي يقوم على حمل العالم على الأخذ بالمناهج الغربية إنما هو مخالف لمفهوم» العالمية «الإنساني الذي يعترف بالخصوصيات الثقافية، وبتعدديتها، ويتيح حرية الاختيار الثقافي فيما بينها، على أساس تعايش الحضارات، وتلاقح الثقافات، ثم هو يحمل شروط التكافؤ في العلاقات الدولية، والانتفاع المتوازن بمعطيات التقدم التكنولوجي [٢].
والهدف الأساسي للعولمة هدف اقتصادي يستغل الأهداف السياسية والثقافية لخدمته، وهو تحويل العالم جميعه إلى سوق واحدة محتكرة للاقتصاديات الصناعية الهائلة، لا تتكافأ فيها الفرص، ولا تتساوى المقدرات، وإنما هي تأخذ، تحريفياً، بالمبدأ الداروني» البقاء للأصلح «فتجعله» البقاء للأقوى «… وهو قانون الغابة (القوي يأكل الضعيف)، وقانون البحر: (الكبير يبتلع الصغير). كل ذلك في ظل الهوة السحيقة الفارغة بين دول الشمال الصناعي ودول الجنوب النامي ومن حيث التقدم الاقتصادي والتكنولوجي… فالرأسمالية العالمية، بهذه العولمة، إنما تكمل حلقاتها التاريخية في» رسملة «العالم بأسره، وذلك بانتقالها الهيكلي من فرض علاقات التبادل غير المتكافئ مع العالم النامي إلى فرض العلاقات الانتاجية الرأسمالية الكاملة عليه، وذلك فيما يشبه علاقة المركز بالأطراف… فالعولمة الاقتصادية هي أحدث وأعلى أشكال الإمبريالية. وللعولمة الثقافية دور مزدوج، وهي توفير الغطاء الأيديولوجي للعولمة الاقتصادية، وتحويل الإنتاج الثقافي» المعولم «إلى سلعة عالمية مهيمنة.
للعولمة الثقافية أركانها الأيديولوجية التي تستوعب مفهوم الثقافة الشامل من حيث هو مرجعية فكرية تنبثق عنها مناهج السلوك، ونظم الحياة.
ثقافة هيمنة القوة
ولما كانت العلمانية إنما تعتمد العالم المادي، دون العالم الروحي فهي تعطي الاعتبار الأساسي للموارد المادية وما تولده من قوة مادية، ولما كانت الموارد المادية محدودة، بحكم محدودية طبيعتها في النظرة العلمانية، في مقابل المطالب البشرية غير المحدودة بفعل نمط الإنتاج والاستهلاك المنفلت، نشأ في المجتمعات العلمانية الصراع حول مصادر القوة المادية، من سلطة وثروة، وصار النفوذ لمن يمتلك هذه المصادر، أو بالأحرى لمن يحتكرها في حلبة الصراع الذي لابقاء فيه إلا للأقوى.
وكانت موجة الاستعمار، ثم آلية النظام الاقتصادي العالمي غير المتكافئة، والتي تتطور الآن إلى عولمة اقتصادية كاملة، هي امتداد طبيعي للبحث عن مصادر القوة المادية التي تعنيها الثقافة العلمانية بنظرية البقاء للأقوى.
إن الحربين العالميتين لم تكونا سوى صراع محموم بين الدول الغربية الكبرى على مناطق النفوذ في العالم لإحراز هيمنة القوة.
والسياسة الخارجية الأمريكية في الوقت الحالي هي أجلى مظهر لغطرسة القوة، وهي تقوم على استراتيجية عدوانية لإثارة الحروب والنزاعات حتى تضمن دوران صناعتها العسكرية بوصفها أكبر تاجر سلاح في العالم. ودليل على ذلك غزو أمريكا والحلفاء للعراق، دون الإصغاء إلى رفض شعوب العالم. إن غزو العراق إنما هو صفعة قوية للإنسانية، حيث عودة الصراع حول مصادر القوة المادية، للسيطرة على مصادر النفط بالقوة، بينما هذه المصادر إنما هي ثروة طبيعية حباها الله للشعب. ولكن القوى الغربية تأبى إلا أن تسيطر عليها ولو بطريق القوة، باستخدام السلاح المتراكم لديها، مهما كانت النتيجة من دمار شعب، الى ضياع حضارة بأكلمها، وما يعقب ذلك من خسائر في الأرواح.
العولمة وعالمية الدعوة الإسلامية:
إن الإسلام يدعو إلى العولمة، لكن في أسمى معانيها، لا عولمة الهيمنة و» الأمركة «.
١ - الديانات السماوية جميعا قد جاءت بالإصلاح، جاءت تبشر وتنشر ديناً معيناً. لكن الإسلام جاء من أجل نشر حضارة شاملة، وجاء في نفس الوقت ليعترف بخصوصية كل شعب. يقول تعالى: (ياأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا (.
وهنا الاعتراف بالخصوصية، مع الدعوة للقاء والحوار والتعاون من أجل خير الجميع.
فالحج إلى بيت الله الحرام فريضة واجبة لمن استطاع إليه سبيلا، وهو شكل رائع من أشكال العولمة: لقاء شعوب ولقاء أجناس متعددة، إنها العولمة بالمفهوم الإسلامي، فالحج اجتماع عالمي تحت لواء الإسلام، إنه لقاءات حضارية ثقافية فكرية، اقتصادية سياسية، تجارية علمية، ومنافع للناس، إنه كوكبية إسلامية واضحة.
وعالمية الدعوة الإسلامية أو العولمة في الإسلام وكونية الإسلام تبدو أوضح ماتكون في تـوجهات الإسلام، كما فـي قوله تعـالى: (قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْـرَى لِلْعَالَمِينَ ( (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا ( (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (.
وليس أدل على عالمية الدعوة الإسلامية من قيام رسول الله (ص) بتوجيه رسائل إلى مختلف الشعوب ودول العالم المعروفة في ذلك الزمان، يدعو الجميع إلى الإسلام. وعالمية الإسلام تقوم على مبدأ الحرية، حرية الفكر وحرية الرأي.
وفـي الاعـلام الإسـلامي لا كـذب، ولا خداع، ولا تلفيق خبر، يقـول تعـالى: (وَلاَ تَقْفُ مَالَيْسَ لَكَ بِـهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْع وَالْبَصَرَوَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (.
أما عن تأكيد الإسلام لهوية كل شعب حيث يتم الاعتراف بلغته التي تمثل أحد أهم أركان هويته فتبدو واضحة في قوله سبحانه وتعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ (.
ثم تبدو ما تحمله الدعوة الإسلامية من سمو في قوله تعالى: (وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (.
إن هذه التوجيهات الإلهية السامية، هي جوهر مايمكن أن نفعله وندعو إليه من عولمة إسلامية، العالم اليوم في أمس الحاجة إليها.
تكنولوجيا الاتصال في العالم الإسلامي والتصدي لأخطار العولمة
تكنولوجيا الاتصال في العالم الإسلامي والتصدي لأخطار العولمة موضوع يفرض نفسه بـإلحاح على الساحة الإسلامية في مختلف أنحاء العالم، فإذا كان العالم الإسلامي قد تعرض منذ بداية انتشار الدعوة للعديد من التحديات، حيث تتطور السهام التي تصوب تجاهه، فقد برز اليوم خطر لعله هو الأشد والأكثر خطورة، وهو خطر العولمة التي يتم توظيفها بمهارة لخدمة القوى التي تعلن صراحة: » إن الإسلام هو العدو «. ويسير في خطر مواز تماماً لخطر العولمة ذات التوجه المعادي للإسلام، ذلك السباق المحموم في مجال تكنولوجيا الاتصال، حيث تحتكر التكنولوجيا الاتصالية المتقدمة الدول الأكثر تقدماً، وهؤلاء أيضاً يوظفون تلك التكنولوجيا الاتصالية المتقدمة لدعم توجهات العولمة التي تحمل مفهوم معاداة الإسلام، ومحاولة هدمه. [٣] السباق المحموم بين الاتصال المتعدد القنوات، والحاسب الإليكتروني الذي أصبح وسيلة الإتصال بين الجماهير بسهولة يلغي عوامل الزمان والمكان. وهكذا نجد أنفسنا نواجه خطراً يهدد حقيقة وجودنا كأفراد، وكشعوب، وكدول إسلامية لها خصوصيتها، فقد نزعت الأقنعة عن الوجوه، وبدا العداء سافراً، وبدت الحرب أعمق أثراً، والحرب هنا تتخذ الإعلام والاتصال أحد أهم أسلحته
ا، وهكذا فرض على الأمة الإسلامية أن تدخل مجال صراع تكنولوجي اتصالي معلوماتي واسع، يستهدف عقل ووجدان الأمة الإسلامية بأسرها.
الإعلام الاسلامي
لاشك أن الإعلام الغربي قد نجح طوال القرون الماضية في صياغة عقول وتصورات الكثير من الغربيين بل والشرقيين أيضاً حول قضايا وصراعات العالم. ونحن في حاجة ماسة إلى الأخذ بزمام المبادرة في توعية الأمة يمثل هذه المكائد. ولابد من إدراك حقيقة أن الوقاية خير من العلاج، وأن وجود الجهاز الإعلامي الإسلامي، قادر على التعامل مع هذه المكائد وصدها يجب أن يكون في دائرة اهتمام المخلصين من الأمة. ولابد للإعلام الإسلامي أن يتمتع بالجرأة والمصداقية والعزم الصادق في التصدي لمحاولات تغييب وتعريف هذا الدين، ولذلك ينبغي لنا أن نبذل قصارى الجهد في إيقاف محاولات التشويه المتعمدة لديننا وواقعنا وقيمنا الحضارية المستمدة من الدين الإسلامي.
العولمة والحاجة إلى قمر صناعي إسلامي
إننا لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا إن العالم الإسلامي اليوم يعيش عصر التحديات الكبرى التي تذكرنا بالعديد من التحديات التي واجهناها على مدى تاريخنا الطويل العريق، حيث كانت تحديات التتار، وتحديات الحروب الصليبية، وتحديات الغزوات الاستعمارية الإنجليزية والفرنسية، ثم التحديات الصهيونية، وصولاً إلى تحديات تتحد فيها أطراف عديدة مما يجعلها تمثل تحدياً شبه دولي يشمل العقيدة، والثقافة، والاقتصاد، والأرض أيضاً، تحت راية ترفع اليوم عالياً، تعلن أن الإسلام هو العدو الأكبر لأوروبا والحضارة الغربية. والعصر كما هو معروف، عصر الاتصالات والمعلومات التي تبثها وسائل الاتصال المتطورة، التي تستخدم أعلى مستويات تكنولوجيا الاتصال
العابرة للحدود والقارات، إن القناة الفضائية الأمريكية الدولية المعروفة باسم (CNNCable News Network). والتي تقدم الأخبـار على مدى ٢٤ ساعة يومياً بأسلوب البث المباشر، والتي تزاوج بين تقنية الأقمار الصناعية والكابلات، غزت أكثر من ١٥٠ بلداً، والإذاعة المرئية تسيطر على عقول البشر في كل مكان في العالم، فنحن نتلقى ما تعرضه بشكل انفعالي غير عقلاني. وهي بالنسبة لأغلبية الناس المصدر الوحيد للمعرفة والحقيقة. إن المحتوى الإعلامي لأي جهاز اتصالي إنما يرتبط بمصالح من يقوم بالتمويل، وهذا ينطبق على جميع قنوات البث الإذاعي المرئي والإعلام المقروء في كل مكان في العالم، وهم في كل ذلك يعملون ويخططون ويذيعون وينشرون بشكل انتقائي يتسم في معظم توجهاته بالزيف، وهو يبدو أوضح مايكون عندما يكون الإسلام، والعالم الإسلامي هو الهدف.
الختام
ماذا علينا أن نفعل؟
الاتحاد أولا… فهذا الكم الهائل من المسلمين في أنحاء العالم، عندما تتوحد كلمتهم، يمكنهم تحقيق المعجزات. والدليل: أن ما حدث من غزو العراق في غفلة من المسلمين لعدم توحدهم ووقوفهم في وجه العدو كالبنيان المرصوص. لقد لاحظ العدو الفرقة وعدم توحد الصف فاستمر في تحقيق خطته. وحقق بذلك أمله بعد أنه كانت تهديدات بالقول.
إن مشكلة فلسطين وترسيخ توطين العدو المستعمر الصهيوني بها إنما هي عَرَضٌ لمرض موجود عندنا. وقد استخدم الأمريكيون هذا العرض (إسرائيل) لترسيخ أمراضنا. يقول الأستاذ جودت سعيد أنه سمع مالك بن نبي (رحمه الله) يقول: إن المسلمين حين يجتمعون في مؤتمراتهم يقولون إن المشكلة الأولى هي مشكلة فلسطين، ويغفلون المشكلة الأهم وهي مشكلة تخلف المسلمين، مشكلة عدم قدرتهم على حل مشكلاتهم فيما بينهم بالسلم، وبالطرق الشرعية دون استخدام السلاح.
إن الشعوب الإسلامية لديها القدرة على مقاومة إسرائيل، بل أمريكا حتى لا تتطاول وتنشب أظافرها وتتغلغل بمنطقة الشرق الأوسط وهي منطقة الثقل الإسلامي بغرب آسيا. يمكننا الوقوف أمام أمريكا بأسلوب آخر إذا اكتشفنا المرض الحقيقي. وهذا المرض كامن بداخلنا وصـدق الله تعـالى إذ يقول: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ (. إذن علينا ان نعالج أمراضنا قبل أن نوجه التهم إلى غيرنا.
إننا لا نستطيع أن نحقق النجاح المنشود في مجال الدعوة إلى عالمية الإسلام وتصحيح الأخطاء الشائعة عن الاسلام، والتصدي لأخطار العولمة المعادية للإسلام والمسلمين إلا إذا دخلنا العصر مسلحين بأسلحته، ونعني بها تكنولوجيا الإتصال المتقدمة، إنه سلاح العلم والتكنولوجيا معاً، إلى جانب ما تحمله الدعوة الإسلامية من مبادئ الحرية والمساواة والدعوة إلى العلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المراجع
١ـ احمد شلبي، مقارنة الأديان، الإسلام [٣]، القاهرة: مكتبة النهضة المصرية، الطبعة السادسة، ١٩٧٩.
٢ - باسم خفاجي، » الإعلام الغربي وتشويه حقائق الصراع «، في» البيان «العدد ١٢٦، صفر ١٤١٩هـ، ص ٥٦.
٣ - جودت سعيد، » مفهوم الجهاد في ضوء الحرية الفكرية والسياسة «، ص. ٤١، بيروت، دار الفكر المعاصر، الطبعة الأولى، ١٩٩٥.
٤ - عبد المجيد شكري، » تكنولوجيا الاتصال في العالم الإسلامي والتصدي لأخطار العولمة «، نحو إعلام إسلامي ومؤثر، ص. ١١٧ - ١٣٦، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى: منشورات القيادة الإسلامية العالمية، الطبعة الثانية، ٢٠٠٠.
٥ - عمر سليمان الأشقر: التاريخ الإسلامي بين الحقيقة والتزييف، الكويت: دار النفائس، الطبعة الثانية، ١٩٩٠.
٦ - محمد إبراهيم الدبك، قضايا في مرآة الإسلام، دبي، مطابع البيان التجارية، الطبعة الأولى، ١٩٨٥.
٧ - محمود عكام، » الحضارة ومفهومها في الإسلام «، الجزء الثاني، دمشق: المعاهد والكليات الشرعية للدعوة والإرشاد، الجمهورية العربية السورية، ١٩٩٧.
٨ - وفاء كفتارو، تاريخ الثقافة الإسلامية ونشأتها، مقالة مقدمة في الندوة العالمية لمجلس العالمات المسلمات بإندونيسيا، ٢٠٠٣.
٩ - يوسف القرضاوي، الخصائص العامة للإسلام، القاهرة: مؤسسة الرسالة، الطبعة الثالثة، ١٩٨٥.
الهوامش:
١ - الدكتور الشيخ محمود عكام، مقاله بعنوان» الحضارة ومفهومها في الاسلام «، مجمع ابي النور الإسلامي ص ٦٩٢ - ٧٠٥. الدورة التأهيلية العالمية الخامسة للأئمة والخطباء والمدرسين الدينيين من البلدان الناطقة بغير العربية، دمشق، ١٩٩٧.
٢ - د. ثريا يوسف إسماعيل. مقالة منشورة بمجلة ألو اندنوسيا الصادرة باللغة العربية، جاكرتا، العدد ١٠ - يونيو – يوليو ٢٠٠٠.
٣ - عبد المجيد شكري، نحو إعلام إسلامي، فاعل ومؤثر، الطبعة الثانية، الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى: منشورات القيادة الشعبية الإسلامية العالمية، ١٤٣٠ الموافق ب ٢٠٠٠.
المصدر: https://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=577&SearchSt...