الإسلام و الغرب
حسن حنفي
كان لاوربا دور الاستاذ مرتين، مرة في الفترة اليونانية، والثانية في العصر الحديث، وكان للعالم الاسلامي فيهما دور التلميذ، والعالم الاسلامي تولى دور الاستاذية مرة واحدة في الاندلس، ولابد أن يستعيد هذا الدور مرة أخرى في عصرنا، بعد أن تعرت أمريكا واتضحت طبيعتها المستكبرة.
وفي هذا المجال لابد من استخدام كل السبل لتغيير الصورة النمطية التي يخلقها الغرب عن العالم الاسلامي في ذهن الشعوب الغربية.
أولاً - المنهج
١ - موضوع الإسلام والغرب ليس موضوعاً جديداً برز بعد حوادث ١١ سبتمبر الأخيرة في نيويورك وواشنطن، بل هو موضوع قديم منذ انتشار الإسلام
منذ أربعة عشر قرناً، أو يزيد حول شاطئ البحر الأبيض المتوسط في الجنوب ثم الشمال ووراثته للإمبراطورية الرومانية. إذا قوي الشاطئ الشمالي الأوروبي، اتجه بالغزو نحو الشاطئ الجنوبي الأفريقي. وإذا قوي الشاطئ الجنوبي الإفريقي امتد أثره إلى الشاطئ الشمالي الأوربي طبقاً للمثل المعروف «الروم إذا لم تغز غزيت». وفي أثناء الحروب الصليبية أتى الغزو من الشمال الغربي،
الشاطئ الأوربي إلى الجنوب الشرقي، الشاطئ الآسيوي في الشام. ونجح الجنوب والشرق، مصر والشام في صد العدوان. وفي العصر الحديث أتى العدوان من جديد من الشمال والغرب، من أوربا وإسبانيا والبرتغال إلى الجنوب والشرق، إلى إفريقية وآسيا عبر البحار والمحيطات، بحركة التفات نحو العالم القديم بعد أن أخفق الاختراق في القلب في فلسطين. وقامت حركات الاستقلال الوطني في إفريقية وآسيا بالتحرر من الاستعمار الغربي الحديث. وشاركت أمريكا اللاتينية في ذلك بعد أن أراد الغرب الإسباني احتلال الشرق الآسيوي عن طريق البحر، عبر الأطلنطي، فوصل إلى القارتين الأمريكيتين، وتم احتلالهما والقضاء على سكانهما الأصليين. وحلت محلهما أكبر عملية اصطياد بشرى من إفريقية إلى أمريكا، لإعمارها بعد استعمارها.
٢ - فالصراع بين الشرق والغرب منذ الصراع بين فارس والروم، وفتوحات الاسكندر في قلب آسيا، والصراع بين الشمال والجنوب منذ الصراع بين روما وقرطاجة، ثم الصراع حول البحر الأبيض المتوسط بشاطئيه الشمالي الأوربي. والجنوبي الإفريقي عبر المرحلة القديمة اليونانية الرومانية ثم الوسيطة المسيحية الإسلامية ثم الحديثة الاستعمارية التحررية، صراع قديم مازالت جذوره متأصلة في اللاوعي الحضاري حول البحر الأبيض المتوسط. هذا الإرث التاريخي، والتراكم الثقافي جعل شاطئ البحر الأبيض المتوسط كفارسين متبارزين عبر التاريخ، ندان خصيمان لا غلبة لأحدهما على الآخر. فنشأت بين الضفتين علاقة محبة وكراهية، الأثر المتبادل بين الشمال والغرب من ناحية والجنوب والشرق من ناحية أخرى. وهو ما يعرف في الأدبيات الحالية باسم «الإسلام والغرب» وهو تقابل بين حضارة ومنطقة جغرافية، والأصح بين حضارتين، الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية أو بين منطقتين جغرافيتين، بين الغرب والشرق، بين ريح الغرب وريح الشرق، بين الريح الغاربة والريح القادمة. لذلك تعثر حوار الشمال والجنوب، والحوار العربي الأوربى، وكل محاولات تأسيس حضارات شرق أوسطية، أو متوسطية ليس فقط بسبب الكيان الصه
يوني الملتبس، فهو الغرب وسط الشرق، والشمال وسط الجنوب، ولكن بسبب هذا الإرث التاريخي الطويل. وربما يكون مصير محاولات الشاطئ الإفريقي العربي أو الآسيوي التركي الانضمام إلى الاتحاد الأوربي وكذلك محاولات برشلونه أن تلقى المصير نفسه إذا لم يتم التخفف من هذا الإرث التاريخي القديم المتراكم في الأذهان والقابع في اللاوعي الثقافي لشعوب المنطقة والذي يطفو بين الحين والآخر على السطح كما هو الحال هذه الأيام.
وربما أن الفترة الوحيدة التي عاشت فيها الضفتان الشمالية والجنوبية نموذج حوار الحضارات هي الفترة الأندلسية التي عاش فيها العرب والبربر، المسلمون واليهود والنصارى في غرناطة وأشبيلية وقرطبة وطليطلة، وخُلِقت حضارة إنسانية واحدة تنصهر فيها الثقافات المتعددة. وهو ما عرف في تاريخ اليهودية باسم العصر الذهبي. وعرف الغرب بعد خروج العرب والمسلمين من الأندلس محاكم التفتيش للمفكرين والعلماء. ولم تبدأ نهضة الغرب الحديثة إلا بفضل الترجمات التي تمت في طليطلة وفي صقلية وفي بيزنطة للتراث العربي الإسلامي العلمي والفلسفي والعمراني من العربية إلى اللاتينية مباشرة أو عبر اللغة العبرية، وعندما كان الإمبراطور فردريك الثاني يتحدث العربية في بلاطه ويراسل عبدالحق بن سبعين.
٣ - إن التأصيل التاريخي لعلاقة الحضارتين العربية الإسلامية والحضارة الغربية، بين الإرث التاريخي الذي يثقل الكاهلين ويمنع من التحرك نحو النموذج الأندلسي الجديد، حوار الثقافات. كما أنه يساعد على القضاء على أسطورة الجواهر الثابتة للحضارات، والشخصيات القومية للشعوب، الدوائر المغلقة التي تتناطح فيما بينها، مرة غالبة ومرة مغلوبة. ويتجنب الوقوع في إصدار الأحكام المطلقة التي لا تراعي المراحل التاريخية، والظروف الاجتماعية والسياسية التي تنشأ فيها كل حضارة. والغرب معروف بنسبية الأحكام في دراساته الخاصة به. وفي الخارج، يطلقها على الحضارات اللاغربية. في الداخل يحلل تاريخية حضارته ومسارها في الزمان والمكان، وفي الخارج يدرس الحضارات اللاغربية في جوهرها خارج الزمان والمكان. في الداخل يتجنب أحكام القيمة ويفضل أحكام الواقع بدافع الموضوعية والحياد. وفي الخارج يطلق أحكام القيمة مما يكشف عن التحيز واتباع الأهواء. فالمعيار المزدوج ليس فقط في الممارسات السياسية بل أيضاً في النظرة العلمية للحضارات.
٤ - وكثير من الأحكام التي أطلقها الغرب على الحضارة الإسلامية إنما هي وليدة الاستعمار الحديث وصراع القوى بين الغرب الاستعماري والدول الإسلامية التي تتحرر منه لتنال استقلالها. وقد وضح ذلك في الاستشراق التقليدي وفي العلوم الاجتماعية الغربية الحديثة خاصة علوم أنثروبولوجيا الثقافة. ومن هذه الفترة الحاضرة بدأ تعميم الأحكام على الماضي والمستقبل وقراءة تاريخ الحضارة الإسلامية ومستقبلها من منظور صراع القوى الحالي، وتهميش أي دور حضاري للإسلام وتعظيم دور الغرب. فالاستعمار ليس استعماراً عسكرياً أو سياسياً أو اقتصادياً فقط، بل هو أيضاً استعمار ثقافي. وبعد أن نالت الشعوب الإسلامية استقلالها، استمر الغزو الثقافي الغربي، وكما ظهر عند المنبهرين بالغرب مما سبب شق الصف الوطني بين الانبهار بالغرب الحديث والانبهار بالتراث القديم. وانقسمت الثقافة الوطنية إلى قسمين، قسم يدافع عن الجديد، وآخر عن القديم. الأول تمثله النخبة، والثاني تتمسك به الجماهير. وقد يصل حد الخلاف إلى القتال بينهما كما هو الحال في الجزائر.
٥ - ومن الظلم المقارنة بين الثقافتين الإسلامية والغربية في لحظة واحدة. إذ تعيش كل ثقافة في مسار تاريخي خاص. فالثقافة الغربية مرت بثلاثة عصور، القديمة والوسطى والحديثة. في العصر القديم لم يكن الإسلام قد ظهر بعد أو انتشر. فورث الحضارة القديمة اليونانية واللاتينية وتراث الآباء اليونان واللاتين، ترجمة وتعليقاً، وشرحاً وتلخيصاً، وعرضاً وتأليفاً، وقراءة وتأويلاً. وانتحالاً وإبداعاً. وفي العصور الوسطى نشأت الحضارة الإسلامية الزاهرة في عصرها الذهبي، عصر المتنبي والبيروني والتوحيدي وابن سينا وابن الهيثم، وهو ما يقابل العصر الوسيط الأوربي. ثم بدأ عصر الشروح والملخصات في الحضارة الإسلامية التي استدعت بالذاكرة ما أبدعته قديماً بالعقل. وهي فترة العصور الوسطى بالنسبة لها، العصر المملوكي التركي العثماني، عصر التدوين الثاني. وهو العصر الذي بدأ فيه الغرب الترجمة من العربية إلى اللاتينية للعلوم الرياضية والطبيعية والفلسفية الإسلامية، والتي كانت وراء النهضة الأوربية الحديثة. فالعصور الوسطى الأوربية من القرن السابع حتى القرن الرابع عشر الميلادي تقابل عصرنا الذهبي في القرون السبعة الهجرية الأولى، والتي أرخ لها ابن خلدون. والعص
ور الحديثة الأوربية من القرن الخامس عشر حتى القرن الواحد والعشرين تعادل عصورنا الوسطى، من القرن الثامن حتى القرن الرابع عشر الهجري. فكل حضارة الآن تعيش لحظة تاريخية مختلفة عن الأخرى نظراً لاختلاف مساريهما التاريخي. الآن العصور الحديثة الغربية التي بدأت منذ الإصلاح الديني في القرن الخامس عشر، وعصر النهضة في السادس عشر، والعقلانية في السابع عشر، والتنوير في الثامن عشر، والعلم في التاسع عشر تنتهي في أزمة القرن العشرين وما بعد الحداثة في القرن الواحد والعشرين. وعصورنا الوسطى التي بدأت منذ ابن خلدون في العصر المملوكي التركي العثماني، عصر الشروح والملخصات والموسوعات الآن تنتهي منذ فجر النهضة العربية الحديثة والحركات الإصلاحية في القرن الماضي والتي منها خرجت حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار الأوربي، والتي بعدها تم إنشاء الدول الحديثة.
٦ - والغالب على صورة الحضارة الإسلامية في الغرب الصورة النمطية التقليدية الموروثة عن العصر التركي المملوكي العثماني، الصورة التي أعطتها تركيا للغرب في أوج الامتداد الآسيوي في شرق أوربا حتى أبواب فيينا. وهي الصورة التي تناقلها الاستشراق التقليدي في القرن التاسع عشر. هي صورة الحضارة الإسلامية النمطية بعد أن فقدت تعدديتها منذ القرن السادس، وقضاء الغزالي على العلوم العقلية في القرن الخامس فأصبحت العقيدة واحدة هي الأشعرية، والشريعة واحدة وهي الشافعية. وأعطى الحاكم أيديولوجية القهر للسلطان في «الاقتصاد في الاعتقاد»، وإيديولوجية الطاعة للناس في «إحياء علوم الدين»، وشرع الاستيلاء على السلطة بالشوكة دون الحصول عليها بالبيعة. أخذ الغرب صورة الإسلام الذي يثبت المعجزات وليس قوانين الطبيعة، والسحر والخرافـة وليس العقل والبرهان، وحقوق الراعي وواجبات الرعية وليس حقوق الرعية وواجبات الراعي. عرف الغرب الإسلام التقليدي الشائع، ثقافة الأغلبية التي أفرزتها الفرقة الناجية، فرقة السلطان وليس ثقافة الأقلية ثقافة الشعب التي تم تهميشها والصمت عنها وتدوينها من خلال خصومها. لذلك فإن مهمة المفكرين المعاصرين والباحثين في التراث إبراز
الجوانب المستبعدة منه، والمهمشة فيه، العقلانية عند المعتزلة وابن رشد، والمصالح العامة عند الحاكمية، وفقه الخروج على الحاكم الظالم، والعلوم العقلية الخالصة الرياضية والطبيعية، وليست النقلية الخالصة مثل علوم الفقه. وهو ما سماه المعاصرون «الإسلام المستنير».
٧ - وبعد أن يتم تحرير الصورة المرئية للحضارة العربية الإسلامية من مرآة الغرب، يتم تحرير الغرب من مرآة ذاته، والقضاء على أسطورة الثقافة العالمية، ولبيان أن الحضارة الغربية حضارة تاريخية نشأت في زمان ومكان معينين ولشعوب بعينها لها أصولها في الحضارتين اليونانية الرومانية وفي الثقافتين اليهودية والمسيحية، ثم تفاعل هذين المصدرين مع البيئة الأوربية نفسها وثقافاتها المحلية وأساطيرها الشعبية ودياناتها الوثنية. صمت عن مصادره الشرقية من أجل الإيحاء بأسطورة «المعجزة اليونانية» التي ورثتها المعجزة الأوربية، الخلق العبقري الأصيل على غير منوال. صبت فيها حضارات العالم القديم والوسيط كلها، من الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين ومصر القديمة، ثم كانت الحضارة الإسلامية أحد مكوناتها في مطلع عصورها الحديثة. وفصل العلم عن تاريخه حتى يظل العلم إبداعاً أوربياً خالصاً. وأوحي بأنه يتميز بالعقل والعقلانية، والعلم والعلمية، والإنسان والإنسانية. الغرب وحده هو الذي اكتشف الإنسان والتاريخ واتهم الحضارات بأنها حضارات الله أو الحاكم، وحضارات الأبدية والخلود. فتربت عنصرية دفينة في أعماق الوعي الأوربي، ظهرت في النظريات العرقية في الق
رن التاسع عشر، وفي المركزية الأوربية منذ العصور الحديثة وما سمي بالكشوف الجغرافية. فأوربا مركز العالم، وغيرها ما وراء البحار. أوربا هي «المتروبول» وغيرها «الكومنولث». أوربا هي الذات وغيرها هو الموضوع كما هو الحال في الاستشراق. ثم تتحول هذه الثنائية من الواقع إلى القيمة. فتصبح أوربا على حق، وغيرها على باطل كما هو الحال في الحركات الأصولية، مبادئها لنفسها وعكسها لغيرها، العلم والعقل والإنسان والتقدم داخل حدود أوربا وحدها. وتتكسر هذه المبادئ خارجها، وتتحول إلى نقيضها، الجهل والخرافة وخرق حقوق الإنسان والتخلف وهو أعلى درجة من درجات العنصرية الثقافية.
٨ - هذا التأصيل التاريخي للحظات الصراع ولحظة الحوار بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط الشمالية والجنوبية وحتى بعد انضمام «الغرب الجديد» عبر الأطلنطي إلى الشمال والغرب في مواجهة الجنوب والشرق، لا يمنع من إمكانية بروز لحظة حوار أخرى في المستقبل القريب «حوار الثقافات» بدلاً من «صراع الحضارات». لقد أدت أوربا دور الأستاذ مرتين، الأولى: في اللحظة اليونانية، والثانية: في اللحظة الحديثة. وكانت الحضارة العربية الإسلامية هي التلميذ في كلتا الحالتين، فأرسطو هو المعلم الأول والفارابي هو المعلم الثاني. وبطليموس هو الأول، وابن الهيثم بطليموس الثاني. وفلاسفة التنوير المحدثون الطهطاوي وخير الدين التونسي هم المعلمون الجدد، والنهضة العربية الحديثة نتاج لها. وأدت الحضارة الإسلامية دور المعلم مرة واحدة، في الأندلس، عندما تمت الترجمة من العربية إلى اللاتينية وكانت العصور الحديثة الغربية التلميذ. ويبقى للحضارة الإسلامية أن تقوم بدور الأستاذ وأن يقوم الغرب بدور التلميذ مرة ثانية ربما هي هذه اللحظة الراهنة. فمنذ حركات التحرر الوطني وإفريقية وآسيا وأمريكا اللاتينية تحمل لواء الـمثل التي تكسرت على حدود أوربا الجغرافية، مثل الحرية والا
ستقلال، والاشتراكية والعدالة الاجتماعية. وتكمل مسارها من حقوق الإنسان إلى حقوق الشعب، من حرية الفرد إلى حق الشعب في تقرير المصير، ومن استثمار المواد الأولية إلى السيطرة الوطنية عليها، ومن المركز الواحد، المركزية الأوربية إلى عالم متعدد المراكز في باندونغ ودلهي والقاهرة والجزائر وبلجراد. أصبحت دول العالم الثالث تمثل ثلاثة أرباع الأصوات في الأمم المتحدة، تمثل الإنسانية الجديدة. وتكون مع الصين أربعة أخماس سكان المعمورة. والآن يتعرى الغرب الجديد ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية التي تربعت على عرش العالم ذي القطب الواحد وباسم العولمة واقتصاد السوق، والعالم قرية واحدة، وثورة الاتصالات وتقانة المعلومات، والتنظيم والإدارة، والقوة العسكرية، ونهاية التاريخ ببقاء الرأسمالية بعد سقوط النظم الاشتراكية. ظهر جبروت الأحادية في مؤتمر دوربان عندما انسحبت الولايات المتحدة مع إسرائيل منه، رافضة حتى الاعتذار لاصطياد ملايين من الأفارقة وجرهم عبيداً بالسلاسل إلى «الغرب الجديد» لاعماره، استعمار البشر لإعمار الأرض، ورافضة مساواة الصهيونية بالعنصرية على الرغم من كل ممارسات الكيان الصهيوني من إرهاب منظم ضد شعب فلسطين، اغتيال القادة
وقتل النساء والأطفال، وتدمير المنازل، وتجريف الأراضي. اجتمعت القوة والظلم، الجبروت والعدوان. فكان من الطبيعي أن يتصدى إرهاب الأفراد إلى إرهاب الدول. إرهاب الأفراد نتيجة طبيعية ورد فعل على إرهاب الدول. وبتعبيرات الستينيات في أمريكا اللاتينية إرهاب الأفراد هو الإرهاب المحرر ضد إرهاب الدول، الإرهاب القاهر.
ثانياً - الموضـوع
بعد هذا التأصيل التاريخي في المنهج تأتي عناصر الموضوع التي ينشأ فيها التوتر بين الثقافتين الغربية في الشمال والإسلامية في الجنوب على شاطئ البحر الأبيض المتوسط والتي تسبب سوء فهم الشمال للجنوب. ولما كان الإسلام صلب ثقافة الجنوب، ارتبط سوء الفهم به دون التفرقة بين ما هو من صلب الدين، وما هو ناتج عن الظروف الاجتماعية والسياسية، بين ما هو من جوهر الدين، وما هو من صنع التاريخ. وأهمها:
١ - ربط الإسلام بالإرهاب والعنف والعدوان وعدم الاعتراف بالآخر، والتكفير، وتقسيم العالم إلى دار إسلام ودار حرب، دار إيمان ودار كفر، إسلام وجاهلية. الله أو الطاغوت. والجهاد قمة هذا العدوان، والاستشهاد أداته. والحقيقة أن هذه صورة مشوهة. فالإسلام دين التحرر من القهر والعدوان بفعل التشهد، والإعلان أنه «لا إله إلا الله» أي المبدأ الواحد الشامل الذي يتساوى أمامه الجميع ضد الجبروت والطغيان وآلية العصر المزيفة، القوة، والثروة، والجاه، والشهرة، والجنس، والترف، والثروة، والعدمية. والعنف نوع من المقاومة المشروعة للاحتلال والظلم بعد سد كل السبل، القرارات الدولية، والشرعية الدولية. ودار الإسلام ودار الحرب هي بلغة العصر التقابل بين العدل والظلم، الاستعمار والتحرر، العدوان والمقاومة. فالجهاد للدفاع وليس للهجوم، للمقاومة المشروعة للعدوان، الطرد من الأوطان. والاستشهاد هو تفضيل الحياة الكريمة على حياة الذل، الحياة الأبدية على حياة الخنوع. وفي كل حضارة شهداؤها من المقاومة ضد العدوان وحركات التحرر الوطني حركات مشروعة لمقاومة الاحتلال. وهو لفظ قرآني يعني الردع. فالاستعداد ليس للحرب بل لإرهاب العدو ومنعه من الظلم والعدوان.
٢ - ربط الإسلام بالقسوة في التعامل مع البدن والآخر بوجه عام، قسوة الشريعة الإسلامية في الحدود: القتل، والصلب، والرجم، وقطع اليد، والجلد، والتغريب، حدود الردة والقصاص والسرقة والزنى وشرب الخمر. والحقيقة أن هذه الصورة إعلامية صرفة لتشويه الإسلام كدين وثقافة. فالشريعة الإسلامية كل لا يتجزأ. ولا تنفصل الحدود عن الفروض والكفارات. فالحدود تأتي في النهاية وليست في البداية، والحقوق تسبق الواجبات. فمن حقوق المسلم الكفاية أي إشباع الحاجات الأساسية من طعام وشراب وإسكان وتعليم وعلاج وعمل وزواج مبكر. يكفلها بيت المال. فلا قطع يد عن جوع أو بطالة أو إذا كان المجتمع كله سارقاً. كما أن الغاية من الحد ليس التطبيق بل الردع والمنع والزجر، ودرءاً للحدود بالشبهات. والقصاص في كل القوانين حماية للحياة. وقانون العقوبات جزء من القوانين العامة.
٣ - أما التعصب والتشدد ورفض الحوار والتصلب في الرأي فهي ممارسات حانقة ومواقف غاضبة حتمتها الظروف النفسية والاجتماعية والسياسية للمجتمعات العربية الإسلامية التي تضيق بالمعارضة وبالرأي الآخر، إقصاء في مقابل إقصاء، واستبعاد ضد استبعاد. في حين أن الاختلاف حق شرعي، وموضوع لعلم الخلافيات، وحلها في التعارض والتراجيح. ولا يوجد كتاب سماوي حاور المخالفين مثل القرآن الكريم الذي حاور إبليس والكفار والمشركين والمنافقين والصابئة والوثنيين، الحجة بالحجة، والرأي بالرأي، والبرهان بالبرهان. وما لا دليل عليه يجب نفيه عند المناطقة المسلمين. والكل راد والكل مردود عليه. الاختلاف سنة الطبيعة والحياة من أجل إيجاد الوحدة السارية وراءه. الوحدة في التنوع، والتنوع في الوحدة.
٤ - وقد عمم الغرب ما سماه بالأصولية على الثقافة الإسلامية كلها، واعتبرها أصولية. ويعني بها رفض الجديد، والتمسك بالقديم، العودة إلى الأصول ورفض الحداثة، والحرص على المظاهر والأشكال، وممارسة العنف في الداخل والخارج، وتكفير المجتمع. ويستشهدون بقول ابن خلدون أن العرب، ويقصد الأعراب، إذا استولوا على دولة أسرع إليها الخراب. فالبداوة ضد الحضارة، والبدوي أسعد في الخيمة منه في القصر، وعلى «الهجن» منه في العربات الفارهة الحديثة، وفي «البر» منه في البحر والجو، وفي القبيلة منه في الدولة. والحقيقة أن الأصولية تيار في كل حضارة له مميزاته وعيوبه. إذ إنه ينبه على مخاطر الاغتراب، وفقدان الهوية، والانبهار بالحداثة والثمار، وترك الأصول والجذور. وهي ليست بمفردها بل في حوار مع الإصلاحية أو في صراع معها. وهما تياران صحيان، يصحح بعضهما الآخر. الأصولية في الغرب أيضاً رفض للحداثة وقيم المجتمع الاستهلاكي. والعود إلى الحياة البدائية كان نموذجاً للتحرر منذ روسو، عود إلى الطبيعة والبراءة الأولى.
٥ - ويتهم الإسلام باللاعقلانية وبالإيمانية الشديدة مما يؤدي إلى الاتكالية والإيمان بالقضاء والقدر والسلبية والاستسلام وترك السعي للرزق والعمل في الدنيا والكدح فيها ومقاومة مظاهر الفساد فيها. وقد اتهم رينان وليون جوتيه كل الحضارات السامية بالتناقض والجمع بين النقيضين وغياب الاتساق والاستدلال، وتطابق المقدمات مع النتائج. تجمع ولا تفرق، تخلط ولا تميز. وهو اتهام غير صحيح، وإسقاط من بعض التيارات الدينية على الإسلام. فالإيمان برهان عقلي وتصديق قلبي. ليس فيه ما يتجاوز العقل كما هو الحال في العقائد المسيحية مثل التثليث الأقرب إلى السر أو في اليهودية كالاختيار والعهد وأرض الميعاد، حب الله لأبنائه غير المشروط بطاعة أو تقوى أو صلاح. كان هناك المعتزلة العقلانيون، والأشاعرة الإيمانيون، وابن رشد العقلاني في مقابل ابن سينا الإشراقي. بل إن زعيم السلفيين المحدثين ابن تيمية يثبت اتفاق العقل والنقل في «درء تعارض العقل والنقل» و «موافقة صحيح المنقول لصريح المعقول». وعندما يدرس البيروني حضارة الهند فإنه يقيسها بالعقل في كتابه الشهير «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرذولة». والعقل مناط التكليف، والنظر أول الواجبات،
والقياس مصدر من مصادر التشريع، وإيمان المقلد لا يجوز، والتقليد ليس مصدراً من مصادر العلم. بل إن الغرب الآن قضى على عقلانيته واتهمها بالصورية والتجريد، والشكلانيـة والفـراغ. وآثر اللامعقول والتناقض ونقائض العقل، إرادة القوة، الحياة، الوجود الإنساني، الاشتباه و «موت الإله» وقلب القيم، والخبل كما قال فايرآنبد في «وداعاً أيها العقل» و «ضد المنهج».
٦ - ويقال إن الإسلام حضارة دينية تنتمي إلى العصور الوسطى اليهودية المسيحية في حين أن الغرب وحده هو صاحب الحضارة العلمية ومؤسسها. الدين والأخلاق، التصوف والزهد صناعة الشرق، والعلم والحضارة، والسياسة والمدنية صناعة الغرب. الشرق مهد السحر والخرافة والفراسة والكهانة وقراءة الطالع والفنجان وضرب الودع والتنجيم. والغرب وحده هو الذي نقل المعرفة من الوهم إلى الطبيعة، الإسلام هو ألف ليلة وليلة، وبساط الريح، وعلاء الدين، والمصباح السحري، وليالي شهرزاد، وغناء الجواري والقيان، حضارة الكهف، كما وصف شبنجلر في مقابل حضارة السهم، الحضارة الغربية. وهو تعميم خاطئ. فقد نشأ العلم في حضارات الشرق القديم، في الصين والهند وفارس وحضارات ما بين النهرين ومصر القديمة، الطب والخزف في الصين، والرياضة والمنطق في الهند، والنظم السياسية في فارس، والفلك في حضارات ما بين النهرين. وازدهرت العلوم الرياضية، الفلك والحساب والجبر والهندسة والموسيقى، والعلوم الطبيعية، الطب والصيدلة والكيمياء والنبات والحيوان والمعادن في الحضارة الإسلامية. وكانت هذه العلوم في ترجماتها اللاتينية وراء نهضة العلم الغربي الحديث. فالوحي والعقل والطبيعة شيء واحد في النم
وذج الحضاري الإسلامي. كما أن مظاهر الكهانة وقراءة المستقبل موجودة في كل حضارة، الكاهن في مصر القديمة، والعراف في الهند، والتنبؤ بالمستقبل عرفه شيشرون عند الرومان، وكاهنة معبد دلفي عند اليونان. وقد جعلها كاسيرر كلها أشكالاً رمزية وأنماطاً متعددة للمعرفة.
٧ - وروج الغرب لمفهوم «الاستبداد الشرقي» ووضع الإسلام فيه. فالنظم الإسلامية كلها تقوم على الاستبداد، وراثية أم عسكرية، وإسرائيل وحدها، هي واحة الديموقراطية في المنطقة مثل إيران أيام الشاه. فكل نظام غربي هو ديموقراطي بالضرورة، وكل نظام شرقي هو استبدادي بالضرورة. عرف الشرق القديم واحداً فقط هو الحر، الله أو السلطان. وعرف اليونان طبقة واحدة هي الحرة، طبقة السادة. وعرف الغرب الحديث أن كل فرد حر كحق طبيعي. طاعة السلطان من طاعة الله. وأهل الحل والعقد نخبة. والشورى غير ملزمه. وما أكثر فقهاء السلطان في كل عصر بأشخاصهم ومؤسساتهم مثل دور الإفتاء، أو من خلال أجهزة الإعلام الحديثة. والحقيقة أن هذا الحكم يجافي الواقع والتاريخ، الإسلام والحضارة. فالشهادة إعلان للحرية بفعل النفي «لا إله» ثم الإثبات «إلا الله». وأعظم شهادة كلمة حق في وجه إمام ظالم. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي وظيفة الحسبة أي الرقابة والنقد والبلاغ والإعلان، والنصيحة في الدين واجب شرعي. والشورى ضد الاستبداد في الرأي، فلا خاب من استشار. وطاعة الحاكم مشروطة بطاعة الله. فالإمامة عقد وبيعة واختيار، والعقد شريعة المتعاقدين. إذا خرج الحاكم عن شروط العقد،
خرج المحكوم عليه بعد استنفاذ النصيحة والحسبة. فالبيعة من الناس، من علمائهم ومن أهل الاختصاص، العالمين بالمصالح العامة. الشورى كيف لا كم، واحترام الرأي الآخر بصرف النظر عن الأغلبية والأقلية، وهو المفهوم الكمي الذي تقوم عليه الديموقراطية الغربية إلى حد قهر الأغلبية للأقلية. وتسلط رأس المال، والمركزية الأوربية، والهيمنة هو تفريغ للنظم الديموقراطية الغربية من مضمونها.
٨ - ويقال إن الحضارة الإسلامية لم تعرف «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» والذي لم يعلنه إلا الغرب الحديث مرتين، بعد الثورة الفرنسية وبعد الحرب الأوربية الثانية. عرفت حقوق الله، وحقوق السلطان. فالله هو الإنسان الكامل، والسلطان هو الإنسان الأوحد. هي حضارة تعرف الواجبات أكثر مما تعرف الحقوق وكما عبر عن ذلك محمد بن عبدالوهاب في "كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد". والحقيقة أن هذا اتهام باطل. فكل حضارة بها نزعة إنسانية في مقابل النزعة الإلهية والنزعة الطبيعية. ويمثلها كونفوشيوس في الصين، وبوذا في الهند، وسقراط عند اليونان، والمسيحية كقراءة جديدة لليهودية، والإسلام في نظرية الإنسان الكامل، وخلافة الإنسان الله في الأرض، والصفات المشتركة بين الإنسان والله مثل: العلم والقدرة والحياة والسمع والبصر والكلام والإرادة، مطلقة في الله، ونسبية في الإنسان، مجازاً في الله، وحقيقة في الإنسان، قياساً للغائب على الشاهد. فالإلهيات إنسانيات، والإنسانيات إلهيات. وقد عرفت الصوفية نظريات وحدة الشهود ووحدة الوجود. وعرفت الشريعة حقوق الإنسان في مقاصدها كما عبر عن ذلك الشاطبي، وضع الشريعة ابتداء، الضروريات الخمس، الحياة والعقل والد
ين والعرض والمال. وفي الأثر من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً، ومن قتل نفساً فكأنما قتل الناس جميعاً. وذكر الإنسان في القرآن بحدوده وعظمته. في واقعيته وفي مثاليته. وهو الإنسان المعياري وليس الإنسان النسبي، الإنسان الذي يتجاوز حدود الأقوام والشعوب والأجناس والأعراق، مثال الله في الأرض وليس الإنسان الذي لا يوجد إلا داخل الحدود الجغرافية للغرب، وخارجه لا توجد إلا الطبيعة أو القبائل أي الشعوب البدائية موضوعاً للمتاحف أو لعلوم الأنثروبولوجيا الثقافية. وإذا كانت الثقافة العربية والإسلامية قد عرفت مفهوم الواجبات دون الحقوق فإن الحضارة الغربية قد قامت على مفهوم الحقوق دون الواجبات. العربي الإسلامي عليه واجب دون أن يقابله حق. والأوربي له حق دون أن يكون عليه واجب.
٩ - ويقال: إن وضع المرأة في الإسلام لا يتفق مع حقوق المرأة في العصر الحديث. فهي الأنثى في مقابل الذكر، الزوجة المطيعة للزوج والأم الولود والبنت القاصر التي في حاجة إلى ولي، فلا نكاح إلا بولي، ميراثها وشهادتها نصف ميراث وشهادة الرجل. ولا تكون قاضية أو رئيس دولة. والرجال قوامون على النساء. تضع الحجاب، وتمكث في المنزل كما يفعل الطالبان. وتتعدد الزوجات لرجل واحد، وتكون رهينة الطلاق كحق مطلق للرجل. والحقيقة أنها صورة مسرحية سينمائية من الحياة الشعبية تبتسر وضع المرأة في الشريعة وفي الواقع المعيشي. فالشريعة أتت في بيئة لم يكن للمرأة فيها حق الحياة. كانت توأد عاراً. فرد الإسلام لها حق الحياة. لم يكن لها نصيب في الميراث ولا تعد شهادتها. فجعل لها الإسلام النصف تدريجياً حتى يتعود العرب، ثم إكمال النصف الآخر اقتداء بروح الإسلام. وجعل لها الإسلام شخصية اعتبارية في الحفاظ باسمها وبحقها في الممارسات التجارية وفي التعليم والعمل والاشتراك في شتى نواحي الحياة الاجتماعية. ولها الحق في اختيار شريك حياتها، قبولاً أو رفضاً، وحق طلب الطلاق في حالة عدم استيفاء حقوقها أو النيل منها كما هو الحال في قانون الخلع. وحق الإجهاض والشذوذ
الجنسي والعري مرتبط بالحضارة الغربية وحدها دون باقي الحضارات التي تقوم على حق الحياة للأفراد وللنفس والجنس الطبيعي وحرمة الجسد.
١٠ - ويقال: إن الإسلام لم يعرف المواطنة، والمساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وإن الهوية هي الهوية الإسلامية وليست الهوية الوطنية، والنظام الإسلامي هو نظام «الملة» الذي عرف في الدولة العثمانية والذي أدى إلى مذابح الأرمن، نظام الطوائف، الأغلبية والأقلية والذي ينتهي في الغالب إلى الحروب الطائفية كما هو الحال في لبنان والسودان ومازال التوتر قائماً في أندونيسيا وباكستان ومصر. ويشار إلى الجزية. وأهل الذمة، وأهل الكتاب، فالنصارى واليهود أهل الكتاب، في ذمة المسلمين، عليهم الجزية في مقابل العيش في أمان، والمساهمة في تكلفة الدفاع في مقابل الإعفاء من الجندية. والحقيقة أن هذه أيضاً صورة مبتسرة للتعددية في المجتمع الإسلامي. فالملل في المجتمع الإسلامي متساوية في الحقوق والواجبات مثل الأفراد بصرف النظر عن ملته، وكما نص على ذلك «ميثاق المدينة». المجتمع الإسلامي بطبيعته متعدد يحكمه قانون العدل. وهناك أشياء انتهت بتقادم الزمن مثل الجزية كضريبة للدفاع، وأهل الكتاب الآن مواطنون ينخرطون في سلك الجندية. ولم تعد تستعمل هذه المصطلحات التي نحتها الفقهاء القدماء مثل أهل الكتاب وأهل الذمة، فالولاء اليوم للوطن، والحق والواجب
للمواطنة وللمواطن. وما حدث في الدولة العثمانية كان دفاع الدولة عن الحركات الانفصالية وليس اضطهاد الأغلبية للأقلية. والحروب الأهلية تحركها المصالح والقوى المتصارعة باسم الدين والملة. وقد تقدم فقه الملل الآن في الاجتهادات الإسلامية المعاصرة وصولاً إلى المواطنة والمساواة في الحقوق والواجبات.
١١ - وما يقال عن الطوائف والملل يقال على الأجناس والأقوام والشعوب والقبائل والتي سماها الغرب الأقليات العرقية التي يحددها لون البشرة، والتقابل بين الأبيض من ناحية والأسود والأصفر والأحمر من ناحية أخرى. ويبدو أن الغرب يسقط تصوره العنصري على باقي الحضارات، عنصرية الرجل الأبيض، «الواسب» في الولايات المتحدة في القمة، البيض الأنجلو سكسونيون البروتستانت، وفي القاعدة السود الأفارقة، والشيكانو الإسبان، وما بينهما الملونون، العرب والآسيويون، العنصرية التي تجلت في النازية في ألمانيا والفاشية في إيطاليا. وقام الغرب بعدة مشاريع موجهة لإثبات عنصرية العرب عبر التاريخ وصورة السودان في كتب التاريخ، ودور العرب في تجارة الرقيق في إفريقية، وحكام المغرب مثل مولاي إسماعيل، وحكام مصر مثل محمد علي، والحرف السوداء في الوطن العربي. والحقيقة أن هذه صورة مشوهة للتاريخ. فقد اعتبر الإسلام العنصرية والقبلية من تراث الجاهلية. والعروبة ليست بأب وأم وإنما هي اللسان. ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى والعمل الصالح. وكان بلال مؤذن الرسول أسودَ حبشياً. وكان النجاشي ملك الحبشة النصراني نصيراً للإسلام والمسلمين، وإليه كانت الهجرة الأولى. وعند
ما قضى نحبه صلى عليه الرسول كأخ للمسلمين. الكل لآدم وآدم من تراب. العبيد هم عباد الله. والعبودية كانت نظاماً شائعاً لدى الفرس والروم في الحضارات القديمة حاول الإسلام انتزاعها من النفوس. فلا يجوز استرقاق من يعرف القراءة والكتابة ولا الأم بفعل الأمومة. وإن تحرير الرقاب إحدى الكفارات عن الذنوب مما يدل على أن الاسترقاق كبيرة من الكبائر. وإذا كان رق الأفراد قد انتهى بقي رق الشعوب، واستغلال الدول الكبرى الدول الصغرى. وقد انتهت الحرب الأهلية في أواخر القرن التاسع عشر بسبب العبيد، بين الشمال والجنوب.
١٢ - وتوصف الشخصية العربية في التراث الغربي، في الأنثروبولوجيا والأدب، بالكذب والنفاق والتآمر والخسة والغدر وعدم الوفاء، والكسل والتبعية والعبودية، وعدم الإحساس بالزمن والتراخي والترهل وقبول الضيم والتعود على القهر والفقر، والخضوع والاستسلام، والقبول بأقل القليل. الكلام الطيب يرضيه، وشراء الخواطر يريحه. كما أنه حسي في تصوره للدنيا والآخرة، مادي في تعامله مع الغيب، في تصوره للجنة والنار وأمور المعاد. وهو معروف بالبذخ والبخل بالتبذير والتقتير في آن واحد. يعيش في الماضي ويجتره، وينقل عن الآخرين إبداعاتهم. وهي صور فولكلورية شعبيـة مـن أجل السخرية من الآخرين. يلصقها الغرب بالآخر دائماً، بالشرقيين على الإطلاق، والإيطاليين والإسبان، بل وبالهنود والصينيين. الهدف منها جعل الآخر في مرتبة أقل، وإحساس الأوربي بالتفوق والعظمة أمامه. وهي صفات الأقليات كآليات للدفاع عـن النفس، ألحقت باليهود أيضاً عبر التاريخ. وفي حماس الدفاع عن النفس يمكن أن يقال العكس كما يصور ذلك شعر المديح والفخر. فالعربي مغامر يؤثر الآخرة على الدنيا، والموت على حياة الذل، كريم مع الغرباء، وفي العهد إلى آخر ما هو معروف في أدبيات الشعوبية القديمة.
ولتحقيق هذا التوضيح للصور النمطية التي يخلقها الغرب للحضارة العربية الإسلامية يمكن استعمال الأدوات الآتية:
١ - إنشاء قناة فضائية باللغات الأجنبية لعرض الصور الصحيحة للحضارة العربية الإسلامية وإذاعة عربية باللغات الأجنبية للغرض نفسه.
٢ - تبادل الأساتذة والباحثين والطلاب بين الجامعات العربية والأوربية للاحتكاك المتبادل والتعرف على المصادر.
٣ - القيام بمشروعات بحثية مشتركة بين الجانبين حول نشأة هذه الصور النمطية وكيفية التخلص منها.
٤ - صياغة عدة مشاريع بحثية حول "حوار الحضارات" من باحثين عرب وأوربيين لتبديد هذه الصور النمطية وتقديم الصور الصحيحة.
٥ - عقد ندوات ومؤتمرات دولية حول هذه الموضوعات باشتراك باحثين عرب وأوربيين ونشرها باللغات الأجنبية وتصحيح الأحكام الشائعة على الحضارتين العربية والأوربية. ونشر أعمالها بالعربية واللغات الأجنبية.
٦ - الرد على الاستشراق وعلوم الأنثروبولوجيا الثقافية وعلوم الإنسان بوجه عام، والكشف عن نشأة هذه الصور النمطية وتطورها وتكلسها حتى أصبحت أحكامها شائعة مقبولة عند الناس.
٧ - وضع الصور الإسلامية الصحيحة على شبكة المعلومات؛ حتى تصبح متاحة للجميع في عصر ثورة الاتصالات.
المصدر: https://iranarab.com/Default.asp?Page=ViewArticle&ArticleID=558&SearchSt...