الفنّ تحرّراً من الأوهام وتأسيساً لإرادة الحياة

 منصف الوسلاتي

 

المقدّمة

قد لا يكون لنا من وافي القوّة في التدبير حتى نعقد قولاً، غير مألوف، على النّظر في مسألة الفنّ والحريّة، بعد أن تبسّط القوم في مدارستها وقلّبوها على غير وجه بما ليس عليه بمزيد، لولا أن نطلب أفقاً نأنس إليه ضماناً لبعض الخصوصيّة في التناول والمعالجة، على أنّ ذلك لا يتسنّى، في تقديرنا، ما لم نُثبّت قولنا بقرينة دالّة أو بسياق مخصوص. من أجل ذلك تلمّحنا في ما أشار إليه سارتر من ناحية، وما قضى به نيتشه من أخرى، ما يكون أوكد للزوم ما نسعى إليه.

فإذا ما تدبّرنا إشارة سارتر القاضية بالترابط الوثيق بين حريّة الإنسان وقدرته على التخيّل[2] حتى لا فكاك بينهما، تبيّن لنا أنّ الحريّة تقوم من الإنسان مقام الشرط "الترانسندنتالي"، ما أخذنا بالاعتبار الدلالة الأصيلة لهذا المفهوم ونحونا بها إلى ضرب من النظر الفلسفي لا يتمثل الحريّة إلّا تحت هذا الشرط الذي يندّ، في تقديرنا، عن كلّ استغراق ميتافيزيقي يسوّغه مفهوم الطبيعة البشريّة. وحين نتبسّط في إشارة سارتر تلك، ونستزيد في بيانها على النحو الذي تكون فيه وافية بمقصودنا، نتلقّف التشريط بين التخيّل والحريّة ونقدّر أهميته، لا من جهة تأصيله الفلسفي لفعل التخيّل في ما هو إنساني واعتباره أمارة على التميّز والاقتدار من بعد تحريره من الاستغراق الميتافيزيقي فحسب، بل أيضاً من جهة ما يوطئه من سبيل باتجاه الانفتاح على الفنّ باعتباره الأفق المجسّد لهذا التشريط والمرسّخ له.

أمّا إذا استأنسنا بما قضى به نيتشه من ضرورة رفع الفنّ إلى مقام الحاجة بالنسبة إلى الحياة[3] حتى يتسنّى للإنسان أن يقبل عليها إقبال المتذوّق لحسنها بعد أن أعرض عنها وزهد فيها طلباً لحقيقة مهلكة ومميتة أبان عنها نعي موته كما أبانت عنه أزمة علومه وعدميّة ثقافته وانسداد الأفق لولا فسحة الفنّ، تلمّحنا السبيل الذي بحسبه نؤمّن خصوصيّة تناول المسألة قيد النظر، وذلك من جهة ما نتأوّله صميماً في المعالجة بتعيين وضع للفنّ يكون فيه شرط إمكان تحرّر الإنسان من الأوهام وأساس انفتاحه على الحياة في آنٍ واحد. ولعلّ ما يسوّغ تأويلنا هذا ما استشعره بعض الدارسين، ضمن سياق تعليقه على تصوّر نيتشه لفعل الخلق الفنّي، من دلالة تقضي بملابسة هذا الفعل لفعل الحياة عينها لا ينفكّ عنه ولا ينسرح منه، ملابسة معقودة على حركة دائبة بين الخلق والتجاوز لا تخلص إلى قرار[4]، الأمر الذي يجعل من الفنّي فعلاً حيويّاً تماماً كجعله الحياة فعلاً فنيّاً. وحتى نبيّن هذه الملابسة بين الفعلين، استناداً إلى مبدأ التجاوز وما يترتّب عنه ضرورة من تأسيس على جهة الخلق ومن نقد على جهة التحرّر، تخيّرنا سياق الفكر النيتشوي أفقاً ممكناً في معالجتنا لما تأوّلناه صميماً في علاقة الفنّ بالحريّة.

الفن إطاراً مرجعيّاً للتفلسف

تقتضي مقاربة مسألة الفنّ، ضمن سياق الفكر النيتشوي، الاستجابة إلى شرطين أساسيين: يتمثل الأوّل في ضرورة تمييز الفنّ عن الفنون الجميلة وتجنّب إمكانيّة الخلط بينهما، وهو أمر اضطلع ببيانه نيتشه منذ مؤلف "نشأة التراجيديا"[5]، معتبراً الفنون الجميلة مجرّد محاكاة للطبيعة، وتُستوفى في إبراز فنيّة الطبيعة ونموذجيتها دون اعتبار للفنّان، في حين أنّ شأن الفنّ، في تقديره، يظلّ معقوداً على إبراز اقتدار الفنّان وتميّزه.

أمّا الشرط الثاني، فيتعلّق بضرورة تجاوز التقليد القاضي باستيفاء حقيقة الفنّ انطلاقاً من موقف المتقبّل، وهو ما أثبته نيتشه من خلال نقده للفلاسفة الذين اقتصروا في تصوّرهم لحقيقة الفنّ على رؤية المتقبل مهملين بذلك رؤية المبدع[6]؛ الأمر الذي أدّى في تقديره إلى تعلّق الفلاسفة، ضمن إطار مقاربتهم للمسألة الجماليّة، بهمّ ربط الجمال بخاصيّتي الكليّة واللّاشخصيّة، ثمّ تأويل التجربة الفنيّة تأويلاً أخلاقيّاً صرفاً. ولنا في موقف "شوبنهاور" مثال عاضد لذلك الهمّ، ولا سيّما أنّه يعمد إلى استغراق دلالة الذات الحقيقيّة في المتقبل بعد أن تكون قد تخلّصت من الأنا الإمبريقي وتجاوزت فرديتها وتعلّقت بالموقف التأمّلي الذي يجعل من العالم محض مشهد، وما يترتب عن ذلك من استحالة الفنّ، في تقديره، إلى تعليق لإرادة الحياة والتحرّر منها جرّاء ما تسبّبه للإنسان من عذاب وألم[7]. وإزاء موقف "شوبنهاور" يُؤكّد نيتشه أنّ الخلط بين الفنّ والفنون الجميلة من جهة والاقتصار على موقف المتقبّل في تحديد حقيقة الفنّ من أخرى، يؤدّيان ضرورة إلى جعله سبيلاً للانحطاط وأساساً للعدميّة. من أجل ذلك يعمد نيتشه إلى مقاربة الفنّ على نحو يجعله مجالاً لتجلّي اقتدار الإنسان وأساساً لتعلّقه بالحياة، فضلاً عن تحرّره من أوهام الحقيقة كما ترسّمت معالمها الفلسفيّة ضمن الأفق الميتافيزيقي.

وضمن سياق تدبّر خصوصيّة تصوّر نيتشه لمسألة الفنّ، يمكننا الاستئناس بتحليلات "دولوز" لذلك التصوّر، والتي ضمنها نتميّز مبدأين أساسيين: يتمثل الأوّل في وجوب الفصل بين الفنّ والفائدة، إذ ليس شأن الفنّ أن يشفي أو يهدّئ كما اعتقد ذلك أرسطو حين تمثّل فنّ المأساة كتطهير، بل شأنه أن يكون مثيراً لإرادة الاقتدار باعتبارها إرادة "إثباتيّة" مرتبطة بقوى فاعلة حيويّة، أي إرادة حياة، وهو أمر لا يمكن لنا أن نتمثله إلّا إذا تعلّق تفكيرنا في الفنّ بموقف المبدع الفاعل وتجاوزنا موقف المتقبل الارتكاسي. على حين أنّ المبدأ الثاني يتمثل في ضرورة جعل الفنّ مجالاً يجسّد أعلى إمكانيّات القدرة على التزييف، إذ شأنه أن يقدّر العالم ويعظّمه بوصفه خطأ وكذباً، وأن يجعل من إرادة الخداع مثلاً أعلى استجابة منه لمنطق الحياة باعتباره مجال إرادة الفنّان[8] وموضوع إقباله الفنّي. وإذا كانت حقيقة الحياة تتجسّد في قدرتها على الخداع والتمويه والإبهار والإغواء، فإنّ شأن الفنّ أن يبدع أكاذيب تجعل الفنّان مقتدراً على التزييف والخداع بكيفيّة تصير معها الإرادة الفنيّة إرادة خداع تثبت نفسها في الزائف والخاطئ، وذلك ما يرفع الزائف إلى مستوى القدرة الإثباتيّة العليا. بهذا المعنى يتحوّل ما هو خاصيّة ملازمة للحياة إلى اقتدار يميّز إرادة الفنّان، إرادة تعارض وتنافس في الوقت ذاته المثل العليا التي يوفّرها الدّين والعلم والأخلاق والميتافيزيقا بوجه عام.

بهذين المبدأين يحدّد دولوز خصوصيّة تصوّر نيتشه لمسألة الفنّ. ولكن رغم أنّ هذا التحديد يُعدّ في تقديرنا على قدر كبير من الوجاهة والأهميّة إلّا أنّه يظلّ غير وافٍ بمقصودنا، لأنّه بقدر ما يوفّر لنا الكيفيّة التي بحسبها نتمثل المقصود النّيتشوي من مقاربته للفنّ، فهو لا يمكّننا من تحديد وضع الفنّ بالنّسبة إلى تفكير نيتشه وفلسفته، إذ لا يتعلّق الأمر لدينا بتلمّح معالم الموقف النّيتشوي من الفنّ فحسب، بل يتعلّق، فضلاً عن ذلك، بتحديد الوضع الذي يحوزه الفنّ، والذي بمقتضاه يكون إطاراً مرجعيّاً للفكر النّيتشوي ونموذجه الأساسي، نموذجيّةً يمكن أن نتبيّنها انطلاقاً من مفهوم "أرضيّة الفنّ" كما تمّت صياغته من طرف "كريمار مارييتي"[9].

يقضي هذا المفهوم بتنزيل الفنّ منزلة الإطار المرجعي أو المجال الأصيل الذي يتحرّك ضمنه فكر نيتشه الفلسفي، إذا أخذنا بالاعتبار الخاصيّة الإنشائيّة للفنّ التي تتعيّن كأرضيّة يتأسّس عليها فكر نيتشه ويتحرّك في إطارها. ويمكن أن نستدلّ على ذلك بمؤلّف "كتاب الفيلسوف" الذي يعلن، في تقدير "كريمار مارييتي"، عن الموقف القاضي باعتبار الفنّ أرضيّة لفعل التفلسف وأساساً أصيلاً له، وذلك من جهة كونه فعلاً لا زمانيّاً[10]. بهذا المعنى نتبيّن نموذجيّة الوضع الذي يحوزه الفنّ ضمن إطار الفكر النّيتشوي، وضعاً يُعلّل اعتباره إطاراً مرجعيّاً أو منظوريّة، رغم أنّ ذلك يظلّ، في تقدير نيتشه، مشروطاً بالعلاقة التي تصل منظوريّة الفنّ بمنظوريّة الحياة.

الفنّ سبيل التفلسف إلى الحياة

انطلاقاً من مختلف مؤلفات نيتشه عموماً[11] ومن مؤلّف "العلم المرح" تخصيصاً يمكن لنا أن نتبيّن طبيعة العلاقة التي تصل الفنّ بالحياة، فضلاً عن تبيّن الأسباب المقتضية لها. ففي مستوى الفقرة (339) من هذا المؤلّف يعمد نيتشه إلى توسّل استعارة "المرأة" بهدف بيان مقوّمات الحياة، حيث التحجّب والإغواء وما يرتبط بذلك من تعدّد الإمكانيّات والاحتمالات الجميلة التي تجعلها "واعدة" و"محتشمة" و"ساخرة"[12]، وبما أنّ الجسد بما هو كائن حيّ حامل لهذه المقوّمات وشرط إمكان الإبداع الفنّي ترتّب عن ذلك استحالة الإبداع إلى استجابة لمقتضيات الحياة، وهو ما يعني اعتبار الفنّ مجال الكذب والخطأ والوهم جرّاء تعلّقه بالمظهر وبالسّطح. وعندما يعتبر نيتشه الفنّانين نماذج يجب محاكاتها، فذلك لكونهم يعرفون كيف يكذبون ويغالطون ويعطون للأشياء سطحاً وجلداً وحجاباً، كما يمنحونها لوناً وتدرّجاً[13]. ومن هذا المنطلق لا يكون الفنّ، في تقدير نيتشه، محاكاة للطبيعة بل خلقاً للأشكال، إذ ليس للطبيعة داخل أو خارج، وليس لها فوق أو تحت[14]، إنّه خلقٌ لا ينشئ سوى عالم من الظاهر والكذب، وهو بذلك يعارض الخلق الإلهي[15] في مدلوله اللّاهوتي، تعارضاً يُعلّل براغماتيّاً بالاستجابة لمنطق الحياة، حيث الصّيرورة وحيث الكاووس، الأمر الذي يوجب على الفنّ التزييف البراغماتي حتى يكون الانسجام مع هذا الضرب من المنطق من خلال الخلق والإنشاء، وذلك ما يجعل من الفنّ مجال السّطح[16] والظاهر من جهة، ومجال الكذب والوهم من أخرى.

أن تكون للفنّ علاقة وطيدة بالسّطح، فذلك أمر يمكن أن نتبيّنه انطلاقاً من مقاربة نيتشه للإغريق، حين أكّد أنّ قيمتهم تكمن في وقوفهم عند "السّطح"، وذلك لا يعني أنّهم سطحيّون وأنّهم لم يستطيعوا النفاذ إلى العمق، وفق التقدير المتافيزيقي، بل يعني أنّهم كانوا "سطحيين لفرط عمقهم"، إذا ما أخذنا بالاعتبار الاقتضاء الأستيطيقي الذي يستغرق الكيان في السطح[17].

وضمن إطار تأكيد العلاقة بين السّطح والعمق يعمد نيتشه إلى توسّل مثال "السّمك الطائر" في لعبه عند قمّة الأمواج، وكأنّهم بذلك يقدّرون السّطح باعتباره أفضل ما في الأشياء، هذا السلوك يُعدّ نموذجيّاً بالنّسبة إلى "رجال الأعماق" وبالنّسبة إلى نيتشه. فمن كان عميقاً، يقدّر أهميّة السّطح ويدرك قيمته[18]، وأنّ هذا التقدير يظلّ من بعض الوجوه تقديراً "للخفة"[19] وتقديراً للظاهر باعتباره مجال الحقيقة ضمن سياق فكر يتّخذ من الفنّ إطاره المرجعي.

لا يعني الظاهر عند نيتشه المقابل لما هو واقعي وحقيقي كما هو الأمر في مجال الميتافيزيقا، ولا يعني أيضاً نفي الواقع والانصراف عنه، بل يعني "الانتقاء" و"الإثبات" و"التصويب"، وهو بذلك يجعل من الحقيقة حاملة لدلالة جديدة، فهي ظاهر واقتدار[20]. ولكن إذا كان الفنّ مجال "السّطح" و"الظاهر" أستيتيقيّاً وفلسفيّاً، فإنّ ذلك يستوجب ضرورة اعتباره مجال الوهم والكذب[21]، وذلك على أساس أنّ الفنّ، بما هو اقتدار، يمكّن من إنشاء عالم من الأشكال بعد تشكيل ظلمات "الكاووس" الذي يُمكّن الإنسان من "العيش" والإقبال على الحياة، بما أنّ العيش الممكن لا يكون، في تقدير نيتشه، إلّا بفضل الأوهام[22] والكذب. غير أنّ كذب الفنّ يختلف عن كذب الميتافيزيقا، فالوهم والكذب في مجال الفنّ يوجبان تقدير الحياة وإبراز قيمتها، في حين أنّ كذب الميتافيزيقا يدينها ويحطّ من شأنها. ومن هذا المنطلق نتبيّن كيف أنّ "الوهم الجيّد" هو الذي يظلّ وفيّاً للأرض والحياة، وهو ما ينزع إلى تأسيس الفنّ.

إنّ ربط الفنّ بالسّطح والظاهر من جهة، وربطه بالكذب والوهم من أخرى، هو الذي يُعلّل العلاقة الضروريّة التي تربطه بالحياة وبمقتضياتها، سواء بالنّظر إلى الصّيرورة والكاووس والأخلاقيّة، أو بالنظر إلى الحجاب والإغراء الجميل الذي يميّزها. وعلى هذا الأساس فإنّ "استعارة المرأة" التي توسّلها نيتشه لتمييز الحياة، هي التي تمكّننا من تمثّل طبيعة العلاقة التي تربط الفنّ بالحياة، لا سيّما إذا ما تمثّلنا هذا الارتباط ضمن أفق فكري[23] يُعلّل انسجام الفنّي مع الحيوي وتوافقهما انطلاقاً من رفض الضرورة والغائيّة ورفض الجوهر والثبات والمكوث عند السّطح والظاهر باعتبارهما مجالي العمق والحقيقة، ثمّ تعليل ذلك انطلاقاً من الوهم والكذب. وفي هذا السّياق يجب تمثّل استعارة "المرأة" على نحوين مختلفين: "الحياة امرأة" و"الحقيقة امرأة". فإذا كانت الاستعارة الأولى تجعلنا نتبيّن العلاقة الضروريّة بين الفنّ والحياة، والتي بمقتضاها يكون الفنّ أساس تقدير الحياة والإقبال عليها، فإنّ الاستعارة الثانية تجعلنا نتبيّن الكيفيّة التي بحسبها يستحيل الفنّ في علاقته بالحياة إلى أساس لنقد الميتافيزيقا وفضح أوهامها. ومن هذا المنطلق يعتبر دريدا[24] أنّ استعارة "المرأة" استعارة نموذجيّة سواء في بُعدها النّقدي أو في بُعدها التأسيسي. فأمّا البُعد التأسيسي، فيمكن أن نتبيّنه انطلاقاً من اعتبار تحجّبها وإغرائها، خِداعٌ وكذب يؤسّس لفنٍّ وفكرٍ يقدّران الظاهر والجمال وما يترتّب عن ذلك من قدرة إثباتيّة تعظّم الحياة: "الحياة امرأة "، وأمّا البُعد النّقدي، فيتجلّى من خلال اعتبار التحجّب والإغراء دعوة إلى التعلّق بالحقيقة من خلال تجاوز السّطح والنفاذ إلى الأعماق، كما لو كانت الحقيقة محجوبة بحجاب الظاهر الزائف الكاذب، وأنّه يكفي إزاحة هذا الحجاب حتّى تتجلّى الحقيقة في عمقها ونقائها. بيد أنّ هذه الدعوة تعبّر في تقدير نيتشه عن جهل "بالحقيقة" و"المرأة"[25] على حدٍّ سواء، وأنّ هذا الجهل يؤدّي إلى ضلال الفكر والفلاسفة وتردّيهم في الأوهام العالقة بالميتافيزيقا، وهو ما يوجب ضرورة الفضح والتعرية ثمّ التحطيم والتجاوز والتحرّر بناءً على تمثل جيد لمجازيّة "الحقيقة امرأة".

إنّ ما يميّز "المرأة" أنّها سطح بلا عمق، ظاهر بلا جوهر، ولكنّ تحجّبها يوهم بوجود هذا العمق ويغري المقبل عليها بمتعة الاكتشاف من خلال النفاذ إليه، وإذا ما اعتقدنا ميتافيزيقيّاً في العلاقة الضروريّة بين الحقيقة والعمق أو الحقيقة والجوهر، ترتّب عن ذلك وجوب الإقرار بأنّ المرأة بلا حقيقة، وأنّ هذه اللّاحقيقة تمثل حقيقتها[26]. وبناء عليه تصبح "المرأة" استعارة نتبيّن من خلالها لا حقيقة الحقيقة، وهو ما لم تتبينه الميتافيزيقا، ولذلك نجدها ضلّت سبيلها وكانت الدوغمائيّة نتيجة هذا الضلال. من هذا المنطلق نتبيّن كيف تمكّننا استعارة المرأة في مضمونها التأسيسي من جعل الفنّ أساس تقدير الحياة، كما تمكّننا في مضمونها النّقدي من كشف أوهام الميتافيزيقا وبيان تهافتها سعياً للتحرّر منها، وذلك ما يجعلنا نستخلص أنّ تقدير الحياة يظلّ ضمن سياق الفكر النّيتشوي مشروطاً بنقد الميتافيزيقا والتحرّر منها.

الفن تحرّراً من الميتافيزيقا

لا تقتصر مقاربة مسألة الفنّ لدى نيتشه على تأكيد علاقته الضروريّة بالحياة فحسب، بل تتجاوز ذلك لتشمل اضطلاعه بنقد الميتافيزيقا عبر نقد أشكالها الأساسيّة حيث الأخلاق والدّين والفلسفة والعلم، وذلك على أساس أنّ هذه الأشكال تظلّ، في تقدير نيتشه، علامة دالّة على الانحطاط، من جهة كونها تجسّد النزوع المضادّ للنزوع الفنّي[27].

أمّا فيما يتعلّق بنقد الأخلاق، فيمكن أن نتبيّنه انطلاقاً من وضع "الكذب" في مجال الفنّ الذي يضطلع بمهمّة تركيز الطاقات الحيويّة وتهيئتها بهدف انخراطها في صراع مع الحقيقة، على حين أنّ الكذب في مجال الأخلاق ينشد كبت الحقيقة وإدراجها في النسيان بكيفيّة تصبح معها الأخلاق نسياناً للحقيقة ثمّ نسيان ذاتها كمشروع نسيان الحقيقة[28]، وأمّا فيما يتعلّق بنقد الدين، فيتجلّى من خلال الكشف عن الأوهام العالقة بالدّين التي زيّفت آمال البشريّة، إذ جعلتها تتعلّق بعالم ما ورائيّ خفيّ، متجاوزة بذلك الحياة على أساس إدانتها وذلك بما تتوفر عليه من صفات زائفة ولا أخلاقيّة. وشأن الفنّ إزاء هذه الأوهام أن يجعل الإنسان مقبلاً على الحياة إقبالاً جماليّاً يبرز قيمتها وعظمتها كما يجعله مخلصاً للأرض، ولكن دون حمل الأرض على معنى عرقي (قومي)، لأنّ الأمر يتعلّق بمعنى فلسفي تكون فيه الأرض المقابل للعالم الماورائي، أو الحياة الأخرى كما يتصوّرها الدّين[29].

وأمّا فيما يتعلّق باعتبار العلم علامة دالة على الانحطاط ونزوعاً مضادّاً للفنّ، فيمكن أن نتبيّنه انطلاقاً من الوضع الذي آل إليه العلم حيث التردّي في الأزمة نتيجة الخروج بغير عودة من مجال الفنّ والإنشاء، الذي اعتبره هايدغر "Le sol natal de la ratio" من جهة، والانصراف عن الحياة إلى الحقيقة من جهة أخرى. وإزاء هذا الوضع لا سبيل أمام العلم للخروج من الأزمة إلّا بمعالجته على أرضيّة الفنّ أو من منظور الفنّ، وذلك على أساس أنّ أرضيّة الفنّ هي أرضيّة الحياة[30].

بهذا المعنى نتبيّن كيف أنّ العلم والدين والأخلاق تجسّد النزوع المضادّ للفنّ باعتباره نزوعاً مضادّاً للحياة. وبما أنّ هذه الأشكال تمثل مقوّمات الميتافيزيقا في تقدير نيتشه ترتّب عن ذلك ضرورة اعتبار الميتافيزيقا نزوعاً مضادّاً للفنّ والحياة وعلامة على الانحطاط، سواء من جهة إعراضها عن الحياة والتعلّق بالحقيقة أو من جهة إدانتها للحياة والتعلّق بما وراءها. وإزاء هذا النزوع الميتافيزيقي يكون الفنّ شرط إمكان اتقاء تبعات الحقيقة: "لنا الفنّ كي لا تهلكنا الحقيقة"[31]، فضلاً عن كونه يُعدّ البرادايم الذي تزول بحسبه التقابلات الميتافيزيقيّة باختلاف ضروبها، وما يترتّب عن ذلك من اعتبار يقضي بضرورة الإقبال على الحياة إقبالاً جماليّاً يقدّر قيمتها في ظلّ زوال الاعتقاد في الحياة الأخرى أو العالم الماورائي.

إنّ "برادايم" الفنّ يرسّخ القناعة التي تفيد بأنّه بدون إنسان لا وجود للعالم ولا وجود للمعنى، وأنّه في مستوى الفنّ يرتبط إبداع الأشكال بوضع الدّلالة وإرساء القيمة[32]. من هذا المنطلق نتبيّن الوضع المزدوج للفنّ ضمن فكر نيتشه، حيث يكون الفنّ سبيل الإقبال على الحياة وتقدير قيمتها من جهة، وشرط إمكان نقد الميتافيزيقا بجميع أشكالها وأساس مجاوزتها والتحررّ منها من جهة أخرى. وبهذه المنزلة المتميّزة يحوز الفنّ وضع الإطار المرجعي بالنّسبة إلى فكر نيتشه وفلسفته، وهو ما يجعل من هذا الفكر "تذوّقاً" وما يجعل من فلسفته فنّ "حياة".

إذا كان مفهوم التذوّق قد استغرق فلسفيّاً ضمن الحقل الأستيطيقي، فإنّ ذلك من شأنه أن يفقده القسم الأكبر من قيمته وصلاحيته النّظريّة، إلى الحدّ الذي يفقره ويختزله اختزالاً يحدّ من إمكانيّة توسّله في غير المجال الأستيطيقي، كما يحول دون تمثّل وضعه الفعلي ضمن سياق الفكر النّيتشوي[33].

يحوز التذوّق ضمن سياق هذا الفكر وضع المعيار الذي نقيّم بحسبه الظواهر الثقّافيّة بشكل عام، سواء أكانت فنيّة أم كانت دينيّة أم فلسفيّة، وهو ما يعني تحرير "التذوّق" من قيود فلسفة الفنّ والأستيطيقا. وعلى هذا الأساس نتبيّن تميّز مدلول التذوّق ووضعه لدى نيتشه مقارنة مع مدلوله ووضعه ضمن التفكير الأستيطيقي بصفة عامّة والتفكير الألماني تخصيصاً، ولا سيّما أنّ تقييم ظاهرة ما بغاية تذوقها أو عدم تذوقها يظلّ مشروطاً لدى نيتشه بطبيعة علاقة تلك الظاهرة بالحياة. فلا يكون تذوّق الظاهرة إلّا إذا توفّرت على تقدير للحياة وإبراز لعظمتها، وبناء عليه يكفّ التذّوق لدى نيتشه عن أن يُستغرق في المجال الأستيطيقي، ليكون "إيتيقا الحياة"[34]، وذلك على أساس أنّ الذّوق هو المحدّد للقيمة بصفة عامّة، تحديداً يرفعه إلى مستوى المعيار النّقدي إزاء "الحكم" وتقييم الأشياء والظواهر، إذا ما أخذنا بالاعتبار من يجوز له ضبط مقتضيات التذوّق كمعيار للتقييم.

من أجل ذلك يُؤكّد نيتشه في مستوى مؤلّف "الفجر" على أنّ المفكّر المتميّز والمختلف هو من يحقّ له الاضطلاع بهذا الضبط، ولا يكون هذا المفكّر متميّزاً إلّا إذا أعرض عن الميتافيزيقيا في إدانتها للحياة، وعن الأستيطيقا التي تستغرق "التذوّق" في الجماليّات وتُخضع مقتضياته لشروط "ملكة الحكم" والتعقّل. وبهذا الإعراض المزدوج يكون هذا المفكّر متميّزاً بتذوّقه ومختلفاً عن غيره من المفكّرين بإعراضه عن الحقيقة معتبراً أنّ حقيقة ظاهرة أو خطأها يظلّ ثانويّاً مقارنة مع مسألة القيمة التي تُقاس بالنّظر إلى الحياة، والتي تتحدّد شروط إمكانها في التذوّق، وهو ما يعني استحالة هذا "التذوّق" إلى معيار نقدي للتمييز والتقييم. بيد أنّ ذلك لا يعني اعتبار "التذوّق" ملكة، شأنه في ذلك شأن بقيّة الملكات، لأنّ ما يميّز التذوّق، في تقدير نيتشه، يتعيّن أساساً في كونه يظلّ مشروطاً بشروط فيزيولوجيّة، باعتباره يمثّل قوّة من قوى الجسد وعلامة من علامات اقتداره. وبناء عليه فإنّ التذوّق، بما هو تقييم، لا يعني مجرّد تحديد قيمة الظاهرة أو تحديد انعدام تلك القيمة، بل يعني الانخراط في علاقة صراع ديناميكي مع بقيّة قوى الجسد، إنّه صراع يعبّر عن حضوره ككائن حيّ في كلّيته[35]. بهذا المعنى لا يكون التذوّق كفعل تقييم مشروط بالحياة فحسب، بل يكون التذوّق فضلاً عن ذلك مجسّداً لفعاليّة الجسد، بما هو كائن حيّ، وكاشف عن العلاقة الضروريّة بين التذوّق والحياة في فكر نيتشه، علاقة مؤسّسة لتصوّره للفلسفة باعتبارها "فنّ حياة".

خاتمة

إذا كانت الفلسفة وفق المعقوليّة الميتافيزيقيّة تنهض بمهمّة البحث عن الحقيقة والسّعي إلى اكتشافها، فإنّ الفكر النّيتشوي يجسّد، في تقديرنا، نموذجاً متميّزاً لمعقوليّة مختلفة تجعل من الفلسفة فنّ حياة[36]. على أنّ ذلك لا يتسنّى إلّا ضمن إطار مراجعة نقديّة للتربية الفلسفيّة التقليديّة بغاية تجاوز مضمونها "الزهدي "القاضي" "بتذويت" الإنسان، حيث الانسحاب إلى الداخل والإعراض عن العالم ونفيه، وما يترتّب عن ذلك من تعلّق "بالتأمّليّة" وتهميش للحياة. بهذا المعنى تكون الفلسفة، كـ "فنّ حياة" لدى نيتشه، اعتراضاً صارخاً على المثال الزهدي سواء في امتداده الفلسفي الميتافيزيقي النّظري، حيث الانطواء و"الانسحاب داخل الجوهر المفكّر"، أو في امتداده العملي الأخلاقي والديني، حيث التعلّق بفرضيّات ميتافيزيقيّة تجعل الإنسان يعتقد في أنّ الصدق والخير معقودان على عالم ما بعد الحياة. وعلى هذا الأساس يكون "فنّ الحياة" قوام فكر فلسفي يضطلع بمهمّة نقديّة من جهة السّعي إلى مجاوزة الميتافيزيقا والتحرّر منها، فضلاً عن اضطلاعه بمهمّة تأسيسيّة من جهة جعل الفلسفة "دربة على الحياة" وانفتاحاً عليها، وتذوّقها تذوّقاً يبرز قيمتها من ناحية، ويحرّرها فنيّاً من عوالق أوهام الميتافيزيقا من ناحية أخرى.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]- نشر هذا المقال في مجلة يتفكرون الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 14

[2]ـ انظر:

Sartre (J. P.) L’imaginaire, Ed. Gallimard, Paris 1940. P. 47.

[3]ـ انظر:

Nietzsche (F), Le Livre du philosophe, Ed, Aubier- Flammarin, Paris 1969. P. 51.

[4]ـ انظر:

Juszezak (Josef), Les sources du symbolisme, Ed. seds, Paris 1985. P 47.

[5]ـ انظر:

- Nietzsche Friedrichvolumes (1), La naissance de la tragédie, Fragments posthumes, (Automnes 1869-printemps 1872), textes et variantes établis par Girgio Colli et Mazzino Montinari, tra. de L’allemand, par Michel Haar, Philippe Lacoue-Labarthe, et Jean-Luc Nancy, Gallimard, 1977. §2. p27

[6]ـ انظر:

- Nietzsche Friedrich: volumes (8), Par-delà bien et mal, la généalogie de la morale, textes et variantes établis par Giorgio Colli et Mazzino Montinari, trad.de l’allemand par Cornelius Heim, Isabelle Hildebrand et Jean Gratien, Gallimard, 1971.

«La seule chose que je veuille souligner, c’est que, comme tous les philosophes, au lieu d’envisager le problème esthétique en partant de l’expérience de l’artiste (du créateur), Kant a médité sur l’art et le beau du seul point de vue du «spectateur» et qu’il a ainsi introduit sans s’en rendre compte le spectateur lui-même dans le concept de «beau». G. M, §6. p294.

[7]ـ انظر:

- Arthur. Schopenhauer: Le monde comme volonté et comme représentation. Trad. Roos, P.U.F. Paris, 1966. III. § 33 et § 36.

[8]ـ انظر:

Gille, Deleuze; Nietzsche et la philosophie, P.U.F, Paris, 1982. P. 170.

انظر خاصّة في مستوى الهامش والإحالة إلى نيتشة، من خلال مؤلفي G.M وV.O

[9]ـ انظر:

- A.Kremer-.Marietti: «Le terrain de l’art» in nouvelles lectures de Nietzsche, Textes recueillis par D.Janicaud, l’Age d’Homme, 1985. P. 61.

[10]ـ انظر: المعطيات السابقةنفسها، ص 61.

[11]ـ انظر ما أوردته Kofman Sarah: ضمن:

Nietzsche et la métaphore, Payot, Paris, 1972. P. 47.

[12]ـ انظر: نيتشه

Nietzsche Friedrich: volumes (6), Le Gai Savoir «la Gaya Scienza» Fragments Posthumes (Eté 1881-Eté 1882), textes et variantes établis par Giorgio Colli et Mazzino Montinari, tra. de l’allemand par Pierre Klossowski, édition Revue, Corrigée et augmentée par Marc B. De Launay, Gallimard, 1982.

«Mais peut-être cela fait-il le charme le plus puissant de la vie: elle est couverte d’un voile tissé d’or, un voile de belles possibilités, qui lui donne une allure prometteuse, réticente, pudique, ironique, apitoyée, séduisante. Oui, la vie est femme!» G.S. § 339. p231.

[13]ـ انظر: نيتشه G.S§ 299، ص 203/204

[14]ـ انظر: ما أوردته Kofman، المرجع المذكور أعلاه، ص 47.

[15]ـ انظر:

- Jean Granier: Le problème de la vérité dans la philosophie de Nietzsche, Seuil, Paris, 1966 p.525.

[16]ـ انظر: المعطيات السابقة نفسها، ص 524.

[17]ـ انظر: نيتشه G.S Préface à la deuxieme edition، ص 27.

[18]ـ انظر: نيتشه G.S § 256، المعطيات السابقة نفسها، ص 183.

[19]ـ انظر:

Fabrice Zimmer: «Nietzsche. Prophéte du dandysme»? In Magazine littéraire N°383 janvier 2000 P 63.

[20]ـ انظر: Deleuze, Nietzsche et la philosophie المرجع المذكور سالفاً، ص 117.

[21]ـ انظر: نيتشه G.S, II §107.، ص 132/133

[22]ـ انظر: نيتشه P.B.M §59.، ص 74.

[23]ـ انظر:

Nietzsche 1844-1900 Etudes et témoignages du cinquantenaire, Société française d’Etudes

Nietzschéennes, 1950 p.185.

[24]ـ انظر:

- Jacques,. Derrida: Epérons les styles de Nietzsche, Flammarion, Paris 1978. pp. 52/53.

[25]ـ انظر: المعطيات السابقة نفسها، ص 40.

[26]ـ انظر: المعطيات السابقة نفسها، ص 39.

[27]ـ انظر:

La Volonté de puissanceessai d’une transmutation de toutes les valeurs; (études et fragments), trad.d’Henri Albert, Librairie Générale française, le livre de poche, 1991.

«Notre religion, notre morale, notre philosophie sont des formes décadentes de l’humanité tendance contraire: l’art».

نيتشه، V.P. المصدر المذكور سالفاً، السفر الثاني، §545 ص 368

[28]ـ انظر: نيتشه Granierالمرجع المذكور أعلاه، ص 529.

[29]ـ انظر:

Nietzsche 1844/1900 Etude et Témoignages au cinquantenaire

المرجع المذكور سالفاً، ص183 / 184.

[30]ـ انظر: A. Kremer- Marietti: «Le terrain de l’art»، المرجع المذكور سالفاً، ص 67.

[31]ـ انظر: ما أورده Granier، ص 527 ""Nous avons l'art afin de ne pas mourir de la vérité

[32]ـ انظر:

Kofman: Nietzsche et la métaphore

المرجع المذكور سالفاً، ص 52.

[33]ـ انظر:

- Jean François Groulier «Toute vie est lettre pour des goûts et des couleurs»

Magazine littéraire N°383 Janvier 2000 p. 56.

[34]ـ انظر: المعطيات السابقة نفسها، ص 56.

[35]ـ انظر: المعطيات السابقة نفسها، ص 58.

[36]ـ انظر:

- Wilheim Schmid, «La Philosophie comme art de vivre», In Magazine littéraire N°298 Avril 1992, p. 57.

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك