الإسلام والغرب ومعيقات الحوار

د.إدريس لكريني

أجمعت جل النقاشات التي جرت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة منذ سنة 1998 إلى حدود سنة 2001 بصدد الحضارات الإنسانية, على إيجابية التنوع الثقافي كعامل محوري في إغناء تطور وتقدم الإنسانية, وضرورة تفعيل الحوار بين مختلف هذه الحضارات.

وقد شكل الأمين العام الأممي لجنة تمكنت من إنجاز وثيقة في الموضوع قدمت للجمعية العامة التي أقرتها بدورها بالإجماع، وكانت هذه الأخيرة قد تبنت قرارا لها رقم 22 في دورتها رقم 53 بتاريخ 4 نونبر 1998 تضمن إعلان سنة 2001 سنة للحوار والتعايش بين الحضارات، وقد اعتبرت معظم القوى الدولية والشعوب المحبة للسلام والتسامح هذا الإعلان بمثابة رد عملي صارم من جانب المجتمع الدولي على كل الخطابات التي تدعي وتشجع وتتبنى الصراع والصدام بين مختلف الحضارات الإنسانية.

غير أنه وفي الوقت الذي كانت الجهود الدولية والإقليمية تجري فيه على قدم وساق نحو تعزيز الحوار بين الحضارات المحلية والإقليمية والدولية، وخلق جو مناسب لذلك، أعادت أحداث نيويورك وواشنطن بتاريخ 11 سبتمبر 2001 نظرية “هنتنغتون” المرتبطة بصدام الحضارات بقوة إلى الواجهة، حيث تداولها العديد من الدارسين والإعلاميين والسياسيين والعامة أيضا في الغرب، واعتبرها البعض منهم “نظرية” توقعية وصائبة.

أولا: موقع الإسلام ضمن “نظرية” صدام الحضارات

ظهرت “نظرية” صدام الحضارات لأول مرة في مقالة للباحث الأميركي “صامويل هانتينغتون” ضمن عدد لمجلة الشؤون الخارجية صيف سنة 1993، قبل أن يطورها في شكل كتاب صدر له سنة 1996، وقد حاول من خلالها تحديد ملامح الصراع الدولي القائم بعد نهاية الحرب الباردة، ففي هذه “النظرية” يرى الباحث أن الصراعات الدولية في عالم ما بعد الحرب الباردة ستكون صراعات بين الأمم والمجموعات الثقافية والحضارية المختلفة لا بين الدول، وهو بذلك يؤكد على العنصر الثقافي كمحور أساسي للانقسامات بين الشعوب، خصوصا مع تنامي بروز الهوية الثقافية أمام ما يشهده العالم من تحديث وتنمية اقتصادية.

وقد حدد الباحث بعض العناصر التي اعتبرها أساسية ومحورية في تحديد المجال الثقافي أو الحضاري كالدين والموروث التاريخي المشترك والامتداد الجغرافي…

فمحور “النظرية” إذن هو أن الصراعات الدولية ستنتقل من طابعها الإيديولوجي والاقتصادي الذي ساد في فترة الحرب الباردة إلى صراعات محورها الثقافات والحضارات، وهو على عكس “فوكوياما” الذي تحدث عن “نهاية التاريخ” وانتصار الغرب الرأسمالي أمام المعسكر الشرقي الاشتراكي المنهار، اعتبر أن الخطر لا زال يتهدد هذا الغرب، وأن الصراعات ستشتد من جديد خاصة على المستوى الثقافي والذي يعد أحد أخطر أسباب ومظاهر الصراعات الدولية، وأن هذه الصراعات ستجري بين المجال الحضاري الغربي وبين بقية المجالات الحضارية الأخرى (الكونفشيوسية، البوذية، الإسلام…) ولم يستبعد إمكانية إقدام هذه الحضارات على تشكيل تحالفات لمواجهة الغرب.

وبخصوص مكانة الإسلام ضمن هذه “النظرية”، “فهنتنغتون” يرى أن “التكتل الحضاري الإسلامي” قد يواجه التكتلات الحضارية المجاورة له (المسيحية الغربية، الكتلة السلافية المسيحية الأرثذوكسية، الكتلة الإفريقية والكتلة الهندوسية)، وفي سبيل تبرير وتأكيد هذا الطرح الأخير يتقدم الباحث بمجموعة من “الحجج”، فهو يذكر أن الكتلة الإسلامية مشتتة ولا تمتلك مركزا قويا مؤثرا وقادرا على التحكم في ضبط القوى الإسلامية الداخلة في صراعات مع حضارات أخرى (الشيشان، البوسنة، كشمير، فلسطين…) والغريب في الأمر أن هذه الحجة التي تطرح في الواقع مظاهر ضعف الدول الإسلامية وعدم قدرتها الحالية على تحدي الغرب، تتناقض ومقولته هذه التي تقر بخطورة الإسلام على باقي الحضارات.

والجدير بالذكر أن “هنتنغتون” عند حديثه عن “الخطر الإسلامي” لا يحذر الغرب فقط من “الحركات الإسلامية المتطرفة”، بل يتحدث أيضا عن “خطر” الدين الإسلامي نفسه.

ويضيف بأن هناك حالات عديدة من العنف تورط فيها المسلمون في العالم على امتداد التاريخ البشري القديم والحديث، أكثر من أية حضارة أخرى، بالشكل الذي يزعم معه بأن الإسلام دين مواجهة وحروب، و هو لا يميز في ذلك بين الحالات التي كان خلالها المسلمون مظلومين أو جناة.

ولاحظ أيضا أن التطور الحضاري للكونفشيوسية والبوذية يسير في اتجاه متسارع نحو الحوار والتعايش والتنافس الودي مع الغرب عبر تحقيقه لإنجازات اقتصادية وسياسية هامة، في حين تتجه معظم القوى والحركات الإسلامية نحو المزيد من الانطواء على الذات ومواجهة الحضارة الغربية وتحديها، بالشكل الذي يجعله يقر في الأخير بأن الصدام بين الإسلام والغرب حتمي الحدوث. ويضيف أنه أمام هذا الوضع يتعين تدعيم التعاون والوحدة بين أبناء الحضارة الواحدة؛ وخصوصا بين أوربا والولايات المتحدة الأميركية وتخفيف حدة التناقضات فيما بينها لمواجهة هذه المخاطر المقبلة.

وإذا كان الدين يعد أحد أهم مقومات الحضارة إلى جانب عناصر أخرى (القيم المشتركة، سبل التفكير…)، فالملاحظ هو نسبية مقولة “هانتغتون” التي تزعم بنوع من الإطلاقية أن لكل حضارة دينها الخاص بها وتضفي طابع الانسجام على أي من هذه الحضارات، فليس بالضرورة أن يكون لكل حضارة محددة دين معين، فداخل الهند _مثلا_ تتعايش العديد من الديانات، وفي أوربا ذاتها كما في الولايات المتحدة الأميركية لم يعد الدين أحد المقومات الرئيسية للحضارة الغربية “الرائدة”، فهي تضم بداخلها تعددا دينيا ولا دينيا. والحضارة الواحدة _الحضارة الإسلامية على سبيل المثال_ قد تضم أعراقا مختلفة ومتباينة، كما أن أبناء الحضارة الواحدة يمكن أن تلحقهم تمايزات ثقافية مهمة أحيانا.

ومن جانب آخر، تظل هذه النظرية نسبية في مجملها، فالحضارات الإنسانية نفسها شهدت بداخلها توترات وحروبا دامية، فالحضارة الغربية مثلا عرفت حربين مدمرتين في القرن الماضي، كما أن الحضارات البشرية على اختلافها شهدت تاريخيا علاقات صراع وحوار ومنافسة وتعايش…

وعموما تعددت وتباينت ردود الباحثين العرب والمسلمين والغربيين أيضا على هذه “النظرية”، فهناك من شكك في مصداقيتها بناء على أن العالم يشهد حاليا صراعات تنطوي على خلفيات وأبعاد سياسية واقتصادية واضحة المعالم أيضا بين مختلف الدول، في حين لاحظ البعض أن هناك صدامات خطيرة تجري داخل المجال الحضاري الواحد وليس بين حضارات مختلفة، بينما اعتبر آخرون أن تصور “هانتينغتون” للحضارات والثقافات سطحي للغاية، فيما أشار أحدهم أن الغرب بإصراره على الصدام يتطلب المواجهة.

وبالرجوع إلى موقع الإسلام ضمن تصور “هانتينغتون” لصدام الحضارات، أكد العديد من الباحثين العرب والمسلمين على الطبيعة التواصلية والحوارية للإسلام وحضارته من جهة، فيما أكد بعضهم على الصفة “العدوانية” التي طبعت الحضارة الغربية سواء في مرحلتها المسيحية أو العلمانية من جهة أخرى.

ويبدو مما سبق أن هذه “النظرية” وخاصة في تهويلها ومبالغتها في تصوير الحضارة الإسلامية كحضارة خطيرة وعدوانية، تنم عن تشبع صاحبها بالأفكار التي حملتها بعض الدراسات الاستشراقية المغرضة؛ التي ربطت بمواقفها الاستعلائية والاحتقارية تجاه العرب والمسلمين، والحضارة الإسلامية بالقتل والعنف والتخلف…

والواضح أن “نظرية” “هنتنغتون” استفزازية للغاية وتنم عن خلفيات سياسية أكثر منها معرفية أكاديمية وعلمية، وتحمل في طياتها خلفيات عدائية للثقافات والحضارات الأخرى، ذلك أنها تنحو إلى التعبئة والتصعيد وشحن العداء إزاء مختلف الحضارات الكبرى في العالم.

ولعل هذا ما يدفعنا إلى القول بأن هذه “النظرية” كتلك التي جاء بها “فوكوياما” حول “نهاية التاريخ” تندرج ضمن سياق توفير المرجعية الفكرية وإعداد المناخ العام اللازم للغرب عامة وللولايات المتحدة بخاصة لتعزيز الهيمنة على العالم وإطالة أمدها، وذلك من خلال تحديد أعداء جدد، والتهويل من مخاطر وتحديات جديدة خاصة بعد الفراغ الاستراتيجي الذي خلفه رحيل الاتحاد السوفييتي عن الساحة الدولية.

ثانيا: الصورة النمطية للإسلام في الغرب وبعض تداعياتها

منذ فترة الفتوحات الإسلامية الأولى والعلاقات بين الإسلام والغرب يشوبها نوع من الالتباس والغموض والفهم الخاطئ، حيث ظل الإسلام في نظر العديد من الغربيين ذلك الآخر البربري الغازي والحاقد والمحارب…

ولذلك نجد عدة دراسات استشراقية استهدفت منذ عدة عصور وإلى الآن الإسلام وتوخت تشويه صورته في الغرب والعالم.

وقد ارتبط سوء فهم الغرب للإسلام من خلال عدم التمييز بين ما هو من صلب الدين وما هو ناتج عن الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (التجارب والممارسة البشرية). ويتمظهر هذا الفهم الضيق والمنحرف للإسلام من خلال وضع الإسلام ضمن إطار ما يعرف “بالاستبداد الشرقي” وتعميم التشدد والقسوة والتعصب و”الإرهاب” واللاعقلانية والتخلف على الثقافة الإسلامية برمتها.

وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي في بداية التسعينيات من القرن الماضي، برز تيار فكري في الغرب يجعل من الإسلام عدوا للغرب بديلا عن الشيوعية، وفي نفس السياق تم تداول عدة مصطلحات تم ربطها بالإسلام من قبيل “التعصب الإسلامي”، “التطرف الإسلامي”، “الإرهاب الإسلامي”، “الخطر الإسلامي”، “الخطر الأخضر”… وقد أسهمت في ترويج هذه المصطلحات الدعاية الإعلامية المعادية والدراسات الاستشراقية، هذا زيادة على الدعاية الصهيونية السوداء التي نجحت في رسم صورة مشوهة وقاتمة عن الإسلام والمسلمين والعرب في الغرب، وذلك من خلال تزوير الحقائق التاريخية، في ظل فراغ أفرزه عدم التواجد الإعلامي والثقافي العربي والإسلامي الفاعل هناك.

ويبدو أن بعض الأطراف في الغرب تخشى بشكل جدي “الخطر الإسلامي” بالنظر إلى مرونة الإسلام وعالمية هذا الأخير الذي جاء للعالمين.

ورغم كون معظم أنظمة البلدان الإسلامية تربطها علاقات ودية مع الغرب، ورغم المشاكل السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها معظم هذه البلدان، فإن هناك داخل الغرب من يبالغ في إثارة الخوف والقلق من “الخطر الإسلامي”، عبر استنتاجات خاطئة تضفي طابع التطرف والتشدد ومعاداة الغرب على كل مسلم أينما كان، بناء على سلوكات استثنائية يقدم عليها بعض الأشخاص أو الجماعات، وهو الأمر الذي يدفع بالغرب إلى ممارسة مختلف الضغوطات على معظم هذه البلدان بهدف صد أية تحولات “مريبة” تحصل بداخلها، أو تحجيم أي دور استراتيجي لها والحؤول دون امتلاك هذه الدول “الديكتاتورية” لأسلحة نووية مخافة سقوطها في أيدي “الإرهابيين”، وهو ما يعطي انطباعا أوليا بأن علاقة الغرب بالإسلام علاقة أمنية يشوبها الحذر.

ومن المؤكد أن تجاهل الغرب بصفة عامة والولايات المتحدة الأميركية بصفة خاصة لتطلعات الرأي العام في البلدان الإسلامية مع تزايد هذه الضغوطات التي أشرنا إليها، أسهم بدرجة كبيرة في تصاعد العداء نحو الغرب داخل الأوساط الشعبية في العالمين العربي والإسلامي؛ وعزز من تنامي خطاب الهوية الثقافية الذي يزيد من توتر العلاقة بين الغرب والإسلام.

وقد أعادت أحداث 11 ستمبر علاقة الغرب بالإسلام إلى الواجهة من جديد، وأنعشت “نظرية” “هنتنغتون” المرتبطة بصدام الحضارات، وأحبطت إلى حد ما كل المحاولات والجهود التي توخت التسامح والتعايش والحوار بين مختلف الحضارات البشرية. ففي ظل هذه الأحداث أصبح مألوفا وعاديا إصدار حكم متعجل بالإدانة على جميع العرب والمسلمين، وأصبحت الجاليات العربية والإسلامية في الغرب موضع شك وغموض، وتخص بإجراءات أمنية مستفزة ومتميزة، وفي هذه الظروف تشكلت صورة سوداء عن الإسلام في الغرب، حيث تجاوزت الاتهامات الخاصة بعمليات “إرهابية” القائمين بها إلى كل المسلمين والعرب بل إلى الإسلام ذاته..

حقيقة أن أصحاب القرار في الغرب عامة والولايات المتحدة الأميركية بصفة خاصة، يصرون على التمييز بين الإسلام كدين و”الإرهاب” كسلوك، ويجهرون باحترامهم للإسلام كدين ويؤكدون أن حربهم ليست حربا ضد الإسلام _وهو ما تفرضه المجاملات الديبلوماسية الرسمية_ وأن العرب والمسلمين أضحوا رقما ملحوظا في المعادلة الديموغرافية والسياسية الغربية (وجود حوالي 7 ملايين عربي ومسلم في الولايات المتحدة الأميركية وأكثر من 10 ملايين منهم في أوربا الغربية) وهو ما يجعل الإسلام في الغرب، كما يرى بعض الأكاديميين والساسة الغربيين، لم يعد ذلك الآخر لأنه يتواجد داخل الجسم الغربي ويعيش بين أفراده.

لكن المشكل هو أن الغرب يشهد بروز اتجاهات داخل الحقل السياسي والفكري تحمل قدرا كبيرا من العداء العلني للإسلام قد تجد لها طريقا نحو أصحاب القرار السياسي ليتم تبنيها سياسيا وبشكل علني (نشير إلى أن رئيس الوزراء الإيطالي سيلفيو بيرلوسكوني صرح بتفوق الغرب وتخلف الحضارة الإسلامية، كما تحدث “جورج وولكر بوش” عن إحياء الحروب الصليبية..).

إن الغرب الذي يمتلك كل مقومات القوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية، يحاول قدر الإمكان تحجيم قوة الدول الإسلامية ويرفض أية دعوة للمسلمين لتبني هوية متميزة، معتبرا ذلك نوعا من الخروج عن قيم الحوار والتسامح وتحريضا على العنف، مع ممارسة ضغوطات كبيرة على أنظمة البلدان الإسلامية والعربية باتجاه إقصاء “الحركات الإسلامية” التي يرى أنها تحمل برامج راديكالية وعدائية نحو الغرب، بل إن اعتدال هذه الحركات في خطاباتها تجاه الغرب لم يشفع لها أمامه، في حين نجد الحركات اليمينية المتطرفة الغربية التي تحمل برامج وأفكارا هدامة وعنصرية علنية تجاه الحضارات الأخرى، تعمل بكل حرية في إطار الدساتير الغربية ويتنامى بريقها داخل المشهد السياسي الغربي بشكل مثير. والعولمة التي يتحكم في دواليبها الغرب القوي والمتفوق هي بصدد نشر ثقافة أحادية تسهم في تغريب الشعوب غير الغربية واستفزازها من خلال الترويج لمفاهيم غربية وتكريسها دوليا كمفهوم الديمقراطية الذي يربطه الغرب بالمؤسسات بدل الفعالية؛ وكذا مفهوم “الإرهاب” الذي يسعى من خلاله إلى تكريس تجريم أي عمل عنيف ولو كان في إطار المقاومة، مع التركيز على “إرهاب” الأفراد وغض النظر عن إرهاب الدولة، ونعتقد في هذا الصدد أن هذه العولمة في أبعادها وخلفياتها هي بمثابة سلوك ثقافي، اقتصادي وسياسي صراعي غربي “مهذب ولطيف” يحرض على الصراع مع باقي الحضارات الأخرى من خلال إيقاظ الشعور القومي، خاصة وأنه يستهدف الترويج لثقافة واحدة دون اعتبار لثقافة الآخر، ومن ثم فالعولمة هي جزء لا يتجزأ من آليات هذا الصدام والصراع والتي تجاهلها “هنتنغتون” في أطروحته.

كما أن القانون الدولي كضابط مفترض للعلاقات الدولية يعكس في الواقع مصالح الغرب ورؤيته، سواء بالنظر لأصوله ومصادره أو عند إعماله وتطبيقه.

فمصادر هذا القانون في ارتباطها بالجانب الشكلي ووفقا لما اعتمدته المادة 38 من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية تتحدد في:

أ‌- الاتفاقات الدولية العامة والخاصة التي تضع قواعد معترفا بها صراحة من جانب الدول المتنازعة.

ب- العادات الدولية المرعية المعتبرة بمثابة قانون دل عليه تواتر الاستعمال.

ج- مبادئ القانون العامة التي أقرتها الأمم المتمدنة.

د- أحكام المحاكم ومذاهب كبار المؤلفين في القانون العام في مختلف الأمم.

ومعلوم أن هذه المصادر وحسب تصنيفها الوارد في المادة السابق ذكرها، تعكس في الواقع موازين القوى الغربية المهيمنة إبان النصف الأول من القرن الماضي، ذلك أن معظم دول العالم لم تساهم في بلورتها بحكم خضوعها للهيمنة الاستعمارية في تلك الفترة.

وعلى مستوى تطبيق هذا القانون الدولي، فإن ذلك غالبا ما يعكس إرادة الغرب القوي والمتحكم في دواليب المؤسسات الدولية السياسية والعسكرية والاقتصادية المسؤولة عن صياغة قرارات إستراتيجية دولية في مجالاتها.

فالاتفاقيات الدولية وإن كانت تنطوي على أهمية كبرى باعتبارها أداة لربط العلاقات وتشجيع التعاون الدوليين، تأتي في غالبيتها غير متكافئة وتعكس مصالح الأطراف القوية: (اتفاقيات السلام العربي – الإسرائيلي، اتفاقيات الصيد البحري السابقة بين المغرب وإسبانيا…)، والمتتبع لما يجري في الساحة الدولية من أحداث منذ رحيل الاتحاد السوفيتي، يلمس بسهولة حجم التدخلات الزجرية بشتى أشكالها والتي استهدفت الدول الإسلامية والعربية في كل من العراق، السودان، ليبيا أفغانستان، الصومال، فلسطين… باسم هذا القانون.

وعموما يوجد في الغرب عدة خطابات حضارية: فهناك خطاب يتوخى رسم صورة مشوهة عن الإسلام والمسلمين، وآخر يتبنى الحوار والتواصل مع الإسلام ويميز أصحابه بين الإسلام كدين والإسلام كممارسة وتجربة بشرية قابلة للنقاش..

ومن خلال ما سبق، يمكن القول إن صراع الغرب مع الإسلام هو واقع وجار في الميدان على مختلف الواجهات من خلال السياسات التعسفية التي تستهدف محاصرة الإسلام والتضييق على المسلمين في كل مكان، وهي السياسات التي تغطيها التصريحات الرسمية المزيفة الداعية للحوار والتعايش، وهي سياسات تنطوي على خلفيات اقتصادية وسياسية وعسكرية.

فالنزوع نحو التفوق والهيمنة الحضارية للغرب، والتخويف من البديل الحضاري والسياسي المرتقب للعالم الإسلامي، دفع بعدد كبير من النخبة السياسية المحافظة إلى تبني منطق الصدام الحضاري، ويظهر أن بروز “نظريات” من قبيل “نهاية التاريخ” و“صدام الحضارات” في الغرب ما هي إلا مداخل واهية لتبرير هيمنته وتأكيد تفوقه.

إن الغرب تعددي في خطاباته وممارساته تجاه الإسلام، وفي المجتمع الإسلامي هناك نفس الشيء، فهناك خطابات تتبنى الحوار والتواصل وهناك خطابات أخرى تتبنى المواجهة والتصدي؛ في حين نجد اتجاهات تؤمن بضرورة الحذر والتحفظ من الآخر المجهول.

ثالثا: نحو تصحيح صورة الإسلام في الغرب

إن موقف الغرب من الإسلام هو سلوك طبيعي بالنظر إلى الصورة النمطية المفزعة التي قدمت وتقدم له حول الإسلام والمسلمين بشكل خاطئ ومنحرف ومنكر للحقائق.

أمام واقع هذه الصورة النمطية للإسلام والمسلمين التي أصبحت مترسخة في أذهان معظم الغربيين، أضحى العمل نحو تصحيحها عملا ملحا وضروريا، ويحتاج لمجهودات جبارة.

وتصحيح هذه المعطيات المغلوطة التي تعطي انطباعات سيئة عن كل ما هو عربي وإسلامي، والتي زادت مع ظروف أحداث 11 سبتمبر، لا تتوقف فقط على الشكوى من عدم فهم الغرب للإسلام وللمسلمين، بل يتطلب ردود فعل مناسبة وفعالة؛ تتوخى تغيير هذه الصورة التي رسمها تراث من الفكر الاستشراقي منذ زمن بعيد، والدعاية الصهيونية، في ظل غياب عربي وإسلامي شبه تام عن الساحة الإعلامية والثقافية الغربية، عبر تقديم صورة حقيقية عن الثقافة الإسلامية والعربية، بتوظيف كل الإمكانيات المادية والمعنوية.

وللإشارة فإن إسرائيل أعلنت في أواخر شهر أغسطس 2001 عن تخصيص مبلغ مائة مليون دولار لتحسين وتلميع صورتها في أوساط المجتمع الأميركي، بعد أن شعرت بأن تلك الصورة أخذت في الاهتزاز منذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية في شهر سبتمبر 2000، وفي نفس السياق خصصت الولايات المتحدة الأميركية مبلغ 20 مليون دولا لتحسين صورتها في العالم عقب أحداث 11 سبتمبر.

ويمكن إجمال أهم الإجراءات الكفيلة بتصحيح صورة الإسلام والمسلمين في الغرب فيما يلي:

1- التعريف بقيم التسامح للحضارة الإسلامية، والتي تتمحور حول الحوار والتواصل لا الحروب والمواجهات، والمساهمات الكبرى والمتواصلة للحضارة الإسلامية في التراث الثقافي والفكري العالمي، وذلك من خلال السبل المتاحة من منابر إعلامية مكتوبة ومرئية ومسموعة، وإصدار الكتب، حول الموضوع، المترجمة للغة الغرب، والترويج للكتب الغربية المنصفة للإسلام، وإجراء إعفاءات جمركية للمنتجات الثقافية والفكرية العربية التي تخدم هذه الأهداف عند تصديرها للخارج، واستغلال شبكة المعلومات السيارة (الإنترنيت)، التي تستثمرها إسرائيل بشكل كبير ومتقن لتشويه صورة العرب والمسلمين…

2- مراجعة الخطابات السياسية والثقافية العربية والإسلامية المنغلقة والمتشددة التي تولد سوء الظن بين أبناء الحضارات المختلفة، وتوخي خطاب مرن في مواجهة الغرب والتعلم من إنجازاته وثقافته، أسوة بما أنجزته بعض الدول: كوريا الجنوبية، سنغافورة، اليابان ماليزيا، الصين، التايوان، إندونيسيا.. بدل تبني خطابات الانعزال خوفا من الغزو الثقافي للآخر، خاصة وأن الإسلام ذاته يأمر بالتعارف والتواصل المستمر مع الشعوب كافة، علما أن الاتجاهات التي تمنع من الإطلاع على ثقافة الغير، تمنح الفرص لبعض الأصوات بالغرب لوصم الإسلام بالانغلاق وعدم التسامح.

3- الاعتراف بأن تشجيع خطاب التطرف من قبل البعض هو أمر ضار بالمسلمين قبل أن يكون ضارا بالغير.

4- ضرورة تحسين وإصلاح الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية بالدول الإسلامية التي غالبا ما تكون المسؤول الأول والرئيسي عن ظهور الخطابات المتشددة والمتطرفة وعن تبني أفكار “المتطرفين”.

5- ضرورة الإيمان بمبدأ المساواة بين كافة الحضارات الإنسانية.

6- العمل على إبراز نقط الالتقاء مع الثقافات الأخرى عوض التركيز على محاور الخلاف، وفتح حوار في هذا الشأن مع النخبة المثقفة في الغرب.

7- توحيد الخطاب الحضاري الإسلامي تجاه الغرب، بدل تعدد وتباين الخطابات التي تدعي إحاطتها بالثقافة الإسلامية والتي تخلق حالة من الالتباس في أذهان الغربيين. ففي هذا الشأن تمكنت الدول الأوربية _في إطار الاتحاد الأوربي_ من بلورة سياسة ثقافية أوربية موحدة رغم الاختلافات العرقية والثقافية فيما بين هذه الدول، وتزامن ذلك مع تحقيقها لتكامل اقتصادي ومالي ووضع برامج تربوية لحماية الموروث الثقافي الأوربي المشترك في مواجهة العملاق الأميركي والعالم، في حين لم تستطع الدول الإسلامية والعربية بعد تنسيق برامجها وسياساتها الثقافية والتربوية والإعلامية؛ بالشكل الذي يسمح لها برفع خطاب حضاري وثقافي موحد في مواجهة الغرب، تبرز فيه أن التطرف هو ظاهرة قد تلحق كل الحضارات بدون استثناء وأن للعرب وللمسلمين خصائص معينة في اللغة والعادات… لها بعدها الحضاري والتاريخي لكنها لا تسيء لأحد.

8- يجب على الجاليات العربية والمسلمة المتواجدة في الغرب أن تنظم نفسها، بالشكل الذي يجعل منها قوة مؤثرة في الساحة الغربية قادرة على فرض احترام الغرب للحضارة الإسلامية، وكذلك من خلال تقديمها لسلوك حضاري راق.

9- إقناع الغرب كافة بأن مصالحهم الحقيقية هي في إقامة علاقات ودية مع العرب والمسلمين وليس في معاداتهم.

10- عدم إسقاط السياسات الأميركية التعسفية تجاه الأقطار العربية والإسلامية على الغرب برمته، وإقناع الغرب بأن استياءنا وانتقاداتنا تنصب على سياسته لا على ثقافته وحضارته.

11- تشجيع الغرب على الدخول في شراكة حقيقية مع العرب والمسلمين يتم بموجبها تقديم الدعم الاقتصادي والتقني للدول العربية والإسلامية في إطار من التعاون واحترام مبدأ السيادة.

12- كما أن فتح الحوار مع الآخر يتطلب بداية إجراء حوار وتواصل مع الذات من خلال الإيمان بحق الاختلاف واحترام الرأي الآخر، وتحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بهذه البلدان، بالإضافة إلى رفع خطاب حضاري يحمل حدا أدنى من الاتساق والانسجام.

خاتمة:

إن الأصل في عمق وطبيعة الحضارات هو التحاور والتشابك والتواصل، ولذلك فإن الصراع حتى وإن اتخذ مظهرا ثقافيا غالبا ما تكون وراءه دوافع سياسية واقتصادية أكثر منها ثقافية، وهي الخلفيات التي طالما عكرت صفو الحوار بين الحضارات، ولعل الأحادية الثقافية التي تروج لها بعض الجهات داخل المجتمع الغربي وتلقى تجاوبا في الأوساط الشعبية والرسمية لن تصمد أمام التاريخ.

لقد شهد المجتمع الدولي تداخلا وتعددا في العلاقات بين مختلف الشعوب والأمم في شتى المجالات والميادين بالشكل الذي يجعلنا نستبعد كليا “نظريات” المواجهة أو القطيعة لحساب التواصل، لكن التصريحات والسلوكات المستفزة الاستثنائية التي تصدر من حين لآخر عن بعض الجهات التي تعتقد أنها تمثل الغرب برمته أو تلك التي تعتقد أنها تمثل الإسلام والمسلمين، يمكن أن تشوش على هذا التواصل الحوار الضروريين والحتميين.

المصدر: https://meo.news/%D8%A3%D9%81%D9%83%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A2%D8%B1%D8%A7...

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك