قيم التسامح ودورها في التعايش المشترك
قيم التسامح ودورها في التعايش المشترك
بقلم جورج ناصيف
لا بد استهلالا، ومن اجل ضبط المفاهيم وحدود دلالاتها المعرفية، من اقتراح تعريف للتسامح نتوافق عليه، وهو شأن بات سهلا بعد قيام منظمة الاونيسكو في 16 تشرين الثاني 1995 بصوغ مقاربة لفكرة التسامح قوامها ان التسامح هو احترام غنى وتنوع الثقافات في عالمنا، وقبول هذا الغنى وتقديره.
فالتسامح، من هذا المنظور، ليس وليد مساومة فكرية او دينية، او نتاج موقف تلفيقي يلغي الخصائص والمميزات الفريدة، ويقفز فوق الفوارق التكوينية. انه الاعتراف العميق بوجود التباينات، احترام هذه التباينات باعتبارها اثراء للجهد البشري، واصرار على التناضح الفكري بين التيارات والرؤى، وانقداح الذهن في عملية تواصل وحوار وإعمال فكر.
من هنا، كانت المعرفة شرطا اول للتسامح. المعرفة الحقة بالذات، بالتاريخ، بالهوية، بالشخصية التاريخية، ترفدها معرفة مكملة بالآخر، تاريخا وثقافة وحساسية وحضورا راهنا.
لا ينهض التسامح الحق ، لا التسامح الشكلي، البروتوكولي، القائم على المداهنة والتكاذب، الا على قاعدة المعرفة الرصينة. فالجهلاء لا يتسامحون، بالمعنى الوجودي العميق لا يتحاورون ولا يخصبون بعضهم بعضا بل يقفزون فوق الحقائق بتجاهلها من غير تفحّص نتائجها واملاءاتها.
والتسامح، اذ ينطلق من ان التعدد شرعة الهية وسمة الوجود، يتجاوز فكرة القبول السلبي، الاضطراري بالآخر، كما لو كان مجرد اضافة، الى فكرة ان الآخر شرط مؤسس للانا وان التسامح ليس هو السكوت عن الآخر، في انتظار ان تسنح لحظة الغائّه، بل استدعاء لهذا الآخر، محاورا وشريكا في تكوين الحقيقة التي تتشكل من هذه الشركة بالذات.
فالتسامح الذي يتقدم بوصفه تغاضيا مؤقتا عن الاختلاف، ليس تسامحا خلاقا، او مساهما في عمران الكون، بل هو رأفة القوي بالضعيف، ومنحة الجبار يخلعها على رقيق الحال، تلطفا وانعاما واحسانا.
والتسامح ليس خيارا بين خيارات، يمكن ان تستقيم الاحوال السياسية والدينية والحضارية في العالم بوجوده او انتفائه، ليس احتمالا بين احتمالات، بل هو الخيار الالزامي، المعبر الضروري اذا شاءت البشرية ان تنمو وتزدهر. انه القيمة التي تجعل الحياة ممكنة في الاساس، وقادرة على ان تهزم الموت والحروب والدمار. ففي غياب التسامح، لا ثقافة للسلام، ولا اساس فلسفيا للسلام نفسه.
والتسامح الذي يتراءى للكثيرين انه سمة لازمة للعلاقات بين الافراد، تتجاوز ضرورته الافراد الى الجماعات والشعوب والدول، فيغدو قيمة كونية بامتياز في العلاقات السياسية بين الدول، كما في المؤسسات الدولية، وفي علاقات الشعوب بعضها ببعض.
فالتسامح هو صنو اللاعنصرية بين الشعوب، وهو فضّ النزاعات سلمياً بين الدول، وصنو الاحتكام الى القانون الدولي في كل صنوف النزاعات.
اذا كانت هذه هي رؤيتنا للتسامح، في ابعاده الحقيقية، وميادين تطبيقه، فما هي شروط تولّده، كقيمة عليا؟
في ظني ان ثمة شرطين فكريين مسبقين يجب ان يتوافرا في كل ذهنية، حتى تشكّل تربة صالحة لنمو فكرة التسامح:
1) فكرة نسبية الحقيقة، وتنوّع سبل الوصول اليها، وأساليب التعبير عنها. فحتى في الشؤون الدينية، ثمة مساحة واسعة للقول بنسبية الحقيقة، اذا آمنا ان الوحي الالهي، في المسيحية والاسلام، شيء، فيما التعبير عنه تاريخياً، شيء آخر.
فالحقيقة الالهية ثابتة، مطلقة، لا تتبدل، تعلو على الحقائق النسبية، لكن فهمنا البشري لها، تعبيرنا عن هذا الفهم، يتبدلان ويخضعان لشروط الانتاج التاريخي لكل معرفة بشرية.
2) نزع الدوغما ( التعصب والتطرف ) عن افكارنا الدينية او الحضارية، بفتح ابوابها امام التطوّر والاخصاب. فالدوغما ليست الغاء لامكان الحوار والتلاقح، بل هي افقار للفكرة نفسها اذ تحيلها من كونها مدًى حياً، الى كونها جثة هامدة يحرسها اشباح التاريخ، عوض ان يحوطها ابناء الحياة.
فكيف تحاور الدوغما دوغما اخرى؟ انهما تتلاغيان، تتنافيان، عندما تنغلق الواحدة على نفسها لتنعزل داخل دائرتها، من غير انصات لغير صوتها وتأمل لغير صورتها.
على هاتين القابلتين، قابلية قبول نسبية الحقيقة، وقابلية تحرير الفكرة من الدوغما، يمكن تأسيس قاعدة التسامح التي تشكل ركناً اوّل في اركان ثقافة السلام.
هنا نبلغ سؤالاً اساسياً:
هل تنطوي الاديان السماوية على قيم تسامحية يمكن ان تقود المؤمنين الى التخلّق بأخلاق اهل السماء، والاشتراك في اعمار الكون؟
بالتأكيد، ويكفي ان نطوف في رحاب المسيحية والاسلام لنعثر على ثوابت قيمية تؤسس للتسامح والعيش المشترك.
في المسيحية
في المسيحية، قيم تأسيسية تنشئ لدى المؤمن بها شخصية حوارية، انفتاحية، تسامحية.
فالانسان هو على صورة الله ومثاله، جعل فيه الله نفساً حية، واقامه في الجنة في تشارك مع حواء التي هي نفس من انفاسه. فالانسان لم يخلق فرداً منكفئاً، بل "ذكراً وانثى خلقهما" (تك 8:3) وليست الخطيئة، بمفهومها اللاهوتي، سوى رغبة الانسان في ان يستمد كيانه من نفسه، لا من روح الله، وان ينغلق فلا يتلقي المحبة التي تنشئه. الجنة هي لبوث الانسان في "حوار" مع الله، في وضعية التلقي للحب، وفي التكامل مع سائر الخليقة التي عهد الله الى الانسان ان يسميها باسمائها.
في العهد القديم، كان العدل في صلب تعاليم الانبياء، كما كانت الدعوة مباشرة الى التزام شؤون الفقراء والارامل والايتام.
يقول ارمياء النبي "ويل لمن يبني بيته بغير عدل، وعلياءه بغير حق، ويستخدم قريبه بلا اجرة ولا يوفيه ثمن عمله" (ارميا 13:22) وفي اشعياء النبي نقرأ: ويل للذين يشترعون شرائع الظلم والذين يكتبون كتابة الجور ليحرفوا حكم المساكين ويسلبوا حق بائسي شعبي لتكون الارامل مغنما لهم" (اشعيا 1:10).
في الانجيل، يعلن يسوع ان الناس متساوون "ليس هناك عبد ولا سيد، رجل ولا امرأة، بل الكل واحد في المسيح".
وجاء في رسالة يعقوب: "ها ان اجرة العملة الذين حصدوا حقولكم، تلك التي بخستموهم اياها، تصرخ وصراخ اولئك الحصادين قد بلغ أذني رب الجنود". (يعقوب 4:5).
وفي أعمال الرسل "وكان الذين آمنوا جماعة واحدة يجعلون كل شيء مشتركا بينهم، يبيعون املاكهم ويتقاسمون الثمن على قدر احتياج كل منهم". (اعمال 44:2).
وفي تعاليم يسوع المسيح، ما يؤسس لهذه الغيرية المطلقة، التي تذهب أبعد من التسامح الى بذل الذات عن الآخر:
فردا على سؤال الفريسيين الذين تساءلوا ما هي الوصية الكبرى في الشريعة، أجاب: "أحبب الرب إلهك بكل قلبك وكل نفسك وكل ذهنك. تلك هي الوصية الكبرى والاولى. والثانية مثلها: أحبب قريبك حبك لنفسك". (متى 34:22)
وفي عظة على الجبل، يعلن: "لا تدينوا لئلا تدانوا. فكما تدينون تدانون. ويكال لكم بما تكيلون. لماذا تنظر الى القذى الذي في عين أخيك، والخشبة التي في عينك أفلا تأبه لها؟ (متى 1:7-2).
في المسرى نفسه من تقديم الذات للآخر، جاءت تعاليم آباء الكنيسة تحض على العدل وتوزيع الثروة واحترام الحق في الحياة.
يقول القديس باسيليوس: "من يأخذ ثياب انسان يدعى سالبا، والخبز الذي تحتفظ به هو ملك للجائع، وللرجل العريان هو الرداء الذي تخفيه خزائنك، ولحافي القدمين هو الحذاء الذي يبلى عندك وللبائس والفقير هو المال الذي تحويه خزانتك".
ويقول القديس يوحنا فم الذهب: "الخيرات ليسـت مـلــكا لـك، انـها ملك مشترك لك ولأخيك. كما السماء والارض وكل شيء آخر هو مشترك".
يبقى ان جوهر المسيحية هو ان الله افتدى الانسان، على الصليب، حتى تكون له الحياة أوفر، وان الانسان مدعو الى ان يقدم نفسه مبذولا في سبيل كل آخر.
في هذا الجوهر، ثمة قيمة أعمق من التسامح، على عمقه، بل منها يمكن للتسامح ان يكتسب مداه الابعد والابقى.
في الاسلام
والانسان، في الاسلام، هو خليفة الله.
والتأسيس الاسلامي لحقوق الانسان، على ما كتب د. رضوان السيد، بدأ بالعودة الى استخدام المقولة القرآنية حول الاستخلاف الالهي للانسان على الارض.
ففكرة التكريم الالهي تستند الى ان الانسان كرّم من الله بأربع كرامات: كرامة الانسانية (سورة الاسراء /7)، كرامة الاستخلاف (عدة سور)، كرامة الايمان (سورة المنافقون/ 8)، كرامة العمل (سورة التوبة / 105).
والمسيحية والاسلام، لالتقائهما على تكريم الانسان بوصفه خليفة الله، واعتباره قيمة ذاتية، كائنا حرا، ودعوتهما الى انماء الارض انماء مشتركا، على قاعدة العدل، انما يشكلان منبعا ومصدرا لفكرة التسامح الذي يغتذي، اذذاك، من مصدر إلهي.
أن تكون مسلما حقا، ومسيحيا حقا، يعني ان تذهب في ايمانك الى مقاصده العليا، الى الاعلاء من قدر الانسان، ورفض اي استغلال او اقلال من كرامته، ككائن مخلوق على صورة الله.
يبقى سؤال مشتق من السؤال الأعم:
كيف نحمي التعايش في العالم ؟
ثمة مداخل عدة، نكتفي منها بالاشارات:
نحمي التعايش باشاعة ثقافة دينية مؤسسة على قيم التسامح.
نحمي التعايش بنزع السياسة عن الدين، ومنع توظيفه في صراعات سياسية.
نحمي التعايش بتثقيف ديني متبادل، يجرد الدين من ثقل التاريخ والتصورات النمطية المشوهة في المخيلة الشعبية.
نحمي التعايش القائم على التسامح، بالذهاب الى الدين الواحد، اي الايمان الواحد، بالرب الواحد، بالمعاد الواحد، وبالارض الواحدة حِرثا للخليقة الواحدة.
المصدر: شبكة الحوار الاسلامي المسيحي
المصدر: http://www.islamic-sufism.com/article.php?id=86