حوار الفكر المغربي الإسباني النداء الضروري والاستجابة الممكنة
محمد بلال أشمل
الحديث عن "حوار الفكر المغربي الإسباني" حديث بالمستقبل وبالإمكان، وذلك لأن "الفكر المغربي" لم يجرب النظر فيما لدى الغير آحادا، حتى إذا فعل، فهو لا يدأب عليه، ولا يجعله القاعدة في العمل، والمستقر.
وهكذا يتم الحوار مع "الفكر الفرنسي" ومع "الفكر الألماني" –بالوساطة الفرنسية طبعا- وغالبا ما يعتقد أن هذا الحوار جار مع كامل "الفكر الغربي" وأن موضوع الحوار، يمثل فيه القلب النابض.
أما الحوار مع "الفكر الإسباني"، فلا نعلم أن دعوة تنادت به، أو قلما جرى به مداده، أو بحثا جعله مدار دراسته. ولذلك ترانا نقول إن الحديث عن "حوار الفكر المغربي الإسباني" حديث بالمستقبل وبالإمكان؛ لأنه حوار غير موجود، مع وجود دواعيه، وحوار ممكن مع وجود موانعه. أو قل إن "حوار الفكر المغربي الإسباني" نداؤه ضروري، واستجابته ممكنة، مع وجود دواعيه وموانعه، واقتدار على كيفياته، ورغبة في تحصيل ثماره، فلنفحص على وجه الاقتضاء ما المقصود بـ"الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني" وما هي دواعي هذا الحوار وموانعه وكيفياته وثماره؟
1 – ما المقصود بـ"الفكر المغربي"؟
قد يكون من الصعب تحديد المقصود من "الفكر المغربي" بالنظر إلى كثير من الاعتبارات، ومن سائرها:
*أن "الفكر المغربي" يتسع ليشمل مطلق الزمان الذي ظهر فيه، فهل هو الفكر الذي ظهر في الماضي أو في الحاضر أم هما معا؟ ومن ثم ينبغي تحديد السقف الزماني لهذا الفكر، من أين يبدأ، وإلى أين يمتد؟
*أن "الفكر المغربي" يتمدد ليسع مطلق المكان الذي ظهر فيه، فهل هو الفكر الذي ظهر في "الغرب الإسلامي" أم في "المغرب الأقصى" أم في شمال إفريقية، أو بلاد المغارب، ومن ثم ينبغي تحديد الرقعة الجغرافية إلى أين تمتد به؟
*أن "الفكر المغربي" يقتدر على التكلم بأربع لغات، على أقل تقدير، اثنتان منها وطنية هما العربية والأمازيغية، والباقيتان أجنبيتان هي الإسبانية والفرنسية، مع عدم امتناع تكلمه بلغات أخرى لم نقف على خبرها. وإذا كان من شبه المؤكد أن لغة "الفكر المغربي" كانت هي العربية باعتبارها لغة توحيدية وطنية قبل التعين السياسي والجغرافي للمغرب، فإن مسألة تحقيق ما إذا كانت الأمازيغية مرافقة لها في ذات الشأن، مسألة محفوفة بكثير من المصاعب ولها أن تحسم حتى يتم التعرف على مدى إسهامها في تكوين "الفكر المغربي" عبر التاريخ. أما لغاته الأجنبية فلم تظهر إلا بظهور الاستعمار وبعده غداة الاستقلال وإلى اليوم؛ فبأية لغة يتكلم "الفكر المغربي"، أهي العربية وحدها؟ أم معها الأمازيغية؟ أهي اللغة الوطنية أم اللغات الأجنبية؟
*أن "الفكر المغربي" يحتمل دلالة اشتماله مختلف الثمار التي أنتجها "العقل المغربي" من أدب وفلسفة وفنون وعلوم… فما هي الأقرب إلى تمثيله؟ وهل لديه تلك الثمار بقوة الإبداع أم بمحض الاتباع؟ أهناك أدب وفلسفة وفنون وعلوم "مغربية" تستحق أن تنسب إليه نسبة امتلاك أم هي "موجودة في المغرب" وجود استهلاك؟
ومع وجود هذه الصعوبة في تحديد "الفكر المغربي"، واحتساب الاعتبارات السابقة، يمكن القول إن المقصود بهذا الفكر، على الأقل كما يراد منه في سياق الحوار الممكن إجراؤه مع الفكر الإسباني، هو الفكر المتبلور في بلاد المغرب الأقصى، على يد مفكرين منتمين إداريا وإراديا إلى مجاله السيادي، ومن ثم يخرج من عين الاعتبار قبيل من الفكر وأصحابه ظهروا خارج ذلك المجال، لأنهم ينتمون إلى مجال آخر هو مجال "الفكر العربي" الأوسع زمانيا ومكانيا ودلاليا.
وكما خرج هؤلاء بحكم المجال السيادي، سيخرجون أيضا بحكم المجال الزماني؛ لأن المجال الأول لم يظهر إلا حديثا –ولنقل مع التحدد القطري السياسي لدول المعمور العربي- والمحصلة الأولية أن المفكرين المقصودين هم المفكرون المعاصرون الذين إن عاشوا أو قضوا، ففي دائرة المغرب وطنا سياسيا وجغرافيا.
أما المحصلة النهائية، فهي أن انشغال أولئك المفكرين المعاصرين سيكون، حتما أو احتمالا، بقضايا تتصل، بصفة خاصة، بسياق المغرب وبظروفه الماضية أو الحاضرة، حتى إذا كانت تتصل بسياق قومي أو عالمي، فبمنظور مغربي وطني.
وبافتراض حدوث الحوار المذكور، على الاعتبارات المؤقتة التي أسلفنا، لا شيء يمنع من حدوثه بتجاوز الاعتبار الزمني، كأن يدور موضوع الحوار على قضية تنتمي إلى عصر الموحدين، وعلمها كابن رشد (1126-1198)، أو عصر المرينيين وعلمها كابن خلدون (1332-1406)، إذ أن هذين العلمين ينتميان إلى دائرة الغرب الإسلامي، دون الانتماء إلى دائرة الزمان المعاصر، مع انتماء إشكالياتهما، بكيفية من الكيفيات، إلى فضاء المغرب سواء كوحدة وطنية، أو وحدة إقليمية، أو وحدة قومية؛ فقط ينبغي اشتراط أن الفكر المحاور هو فكر معاصر ينتمي إلى السياق الوطني المغربي والإسباني داخل التحدد الجغرافي والسيادي الراهن.
وحصر "الفكر المغربي" بمجال جغرافي وسيادي محدد، وبأفق معاصر مترتب عنه، لا يعني البتة التنادي بـ"خصوصية مغربية"، ومن ثم الانغلاق على مجمل "الفكر العربي" المرتبط به ارتباط كلية ووحدة، والاكتفاء بما لديه من مغانم، ولكنه يعني النظر في فكر اجتزأ سياقا معينا، هو السياق المغربي ماضيا وحاضرا؛ فمضى يشتغل به اشتغال الناقد المتفحص، وبذا الحال يراد له إقامة الحوار مع فكر إسباني هو الآخر مشتغل بالسياق الإسباني، وينتمي في نهاية المطاف إلى "الفكر الغربي" انتماء "الفكر المغربي" إلى "الفكر العربي".
أما اللغة المتعددة التي يتكلم بها هذا الفكر، إن صح وجودها، فهي اللغات الوطنية، العربية كلغة توحيد، والأمازيغية كلغة مؤالفة، واللغات الأجنبية الإسبانية والفرنسية والإنجليزية كلغات رافدة.
وقبول تعدد لغات "الفكر المغربي" الوطنية والأجنبية، الحقيقية منها والمفترضة، لا يعني القضاء على هويته، ولا حتى جعله تابعا لغيره، وإنما يعني قبول حالة واقعية هي التعدد اللغوي والثقافي في المغرب واجه شرا عارما هو آفة الاستعمار، واحتاج خيرا عميما هو ضرورة التواصل مع الغير المختلف عنه. ومن يدري؟ فلعل تعدد لغات "الفكر المغربي" إن وجدت، سعت في إغنائه، وأمدته بزخم جديد يضمن له استمرار الحياة، وكسب مزيد من الناظرين في مساحات جغرافية وسيادية متنوعة.
غير أنا إذا كنا نقبل بتعدد لغات "الفكر المغربي"، الوطنية والأجنبية، فإنا قد لا نقبل تعدد ثماره؛ ليس بمعنى السعي في قطع نسل "الفكر المغربي" والإبقاء على فصيلة من الأفكار نؤمن بها، وندعو غيرنا لمناصرتها، ولكن بمعنى حصر ثماره فيما نراه المستوفي بقصدنا في الحوار الذي نتصوره ممكن القيام بين فكر وطني وفكر أجنبي. فلو كان المقصود بـ"الفكر المغربي" الأدب والفن والفلسفة والعلم لكان الأولى التنادي بحوار بين الأدب المغربي والأدب الإسباني، أو الدعوة إلى إقامة معرض للفن المغربي والفن الإسباني، أو السعي في إنجاز تناظر بين الفلسفة المغربية والفلسفة الإسبانية، أو تهيئة المجال لاستعراض آخر النظريات في العلم المغربي والعلم الإسباني.
أما وأن الأمر يتعلق بجوهر كل ذلك، فمن الأكيد أن المسألة سترتبط بشيء آخر هو "فلسفة الأدب" و"فلسفة الفن" و"فلسفة الفلسفة" و"فلسفة العلم"، مرتبطة الواحدة منها، كما الأخرى، بالسياق المغربي؛ حتى أن الأمل قد يمضي إلى المدى الذي يرجى فيه إقامة حوار دائم يرى فيه المغرب وإسبانيا كـ"فكرة" وكـ"مشكلة"، انطلاقا من الأدب والفن والفلسفة والعلم، ومن ثم يمضي إلى مقارنتهما بما تقتضيه المقارنة المثمرة. وهاهنا ينبغي القول إن مشكلة النسبة في "الفكر المغربي" –حسب ما تحقق لدينا- هي نسبة صحيحة بالقدر الذي يكون فيه صاحب هذا الفكر مرتبطا بالسياق المغربي، آمالا وآلاما؛ ولا قيمة بعدئذ للغة التي يكتب بها، ولا الموطن الذي منه تم التفكير في الظرف المغربي، وفوق كل هذا وذاك لا قيمة لمسألة "الإبداع" أو "الاتباع" التي قد تثار ما دام الشأن المغربي حاضر، ويصار إلى التفكير فيه.
وعلى هذا، إن "الفكر المغربي"، هو الفكر الذي يعتمد الرؤية الكلية للأدب والفن والفلسفة والعلم مع الاعتماد كليا على ما يؤسسها جوهريا في علاقة بالسياق الوطني، أو هو "روح" الأدب والفن والفلسفة والعلم وقد ارتبطت بالقدر المغربي شرا أو خيرا إن "ارتباطا مغربيا" أو "ارتباطا بما في المغرب".
وجملة القول، إن المقصود بـ"الفكر المغربي"، الفكر الذي ينشغل مفكروه بقضايا المغرب بلغات وطنية أو بلغات أجنبية؛ ممن فلسفوا الواقعة الأدبية والفلسفية والفنية والعلمية، وارتبطوا في ذلك بالسياق الوطني، بآماله وآلامه.
إذا كان هذا هو المقصود من "الفكر المغربي"، فما المقصود بـ"الفكر الإسباني"؟
2 – ما المقصود بـ"الفكر الإسباني"؟
مثلما كان صعبا تحديد المقصود من "الفكر المغربي"، قد يكون من الصعب أيضا تحديد المقصود من "الفكر الإسباني" بالنظر إلى كثير من الاعتبارات الممكن تشابهها مع الفكر السابق، ومن أهمها:
*أن "الفكر الإسباني" يتسع ليشمل مطلق الزمان الذي ظهر فيه، فهل هو الفكر الذي ظهر في الماضي أو في الحاضر أم هما معا؟ ومن ثم ينبغي تحديد السقف الزماني لهذا الفكر، من أين يبدأ، وإلى أين يمتد؟
*أن "الفكر الإسباني" يتمدد ليسع مطلق المكان الذي ظهر فيه، فهل هو الفكر الذي ظهر في "الغرب الأوروبي" أم في "شبه الجزيرة الإيبيرية" أم في الدول الإيسبانوفية بأمريكا اللاتينية، ومن ثم ينبغي تحديد الرقعة الجغرافية إلى أين تمتد به؟
*أن "الفكر الإسباني" يقتدر على التكلم بتسع لغات، على أقل تقدير، واحدة أصل هي اللاتينية، وأربعة وطنية هي القشتالية والكطلانية والباسكية والجليقية، والباقي أجنبية هي العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية، مع عدم امتناع تكلمه بلغات أخرى لم نقف على خبرها. وإذا كان من شبه المؤكد أن لغة "الفكر الإسباني" كانت هي اللاتينية باعتبارها لغة أصل قبل تشظيها القومي إلى لغات محلية، فإن مسألة تحقيق ما إذا كانت العربية مرافقة لها في ذات الشأن، مسألة محفوفة بكثير من المصاعب ولها أن تحسم حتى يتم التعرف على مدى إسهامها في تكوين "الفكر الإسباني"؛ لا سيما وقد انطوى التاريخ الإسباني على المرحلة العربية الإسلامية مدة ثمانية قرون، ودخلت إلى القشتالية، على سبيل المثال، عدة آلاف من الكلمات العريبة، وتنودي بمن نعتبرهم وجوه الفكر العربي في الطب والفلسفة والتصوف والأدب أعلام "الفكر الإسباني" كابن رشد وابن طفيل وابن مسرة وابن البيطار وابن الزقاق وابن عربي وابن خلدون وابن حزم…
[1] كما يصنع مثلا الأستاذ أبيان مع ابن رشد وابن خلدون في التاريخ النقدي للفكر الإسباني[2].
أما لغاته الأجنبية فلم تظهر إلا بسطوع نجم إسبانيا في سماء الاستعمار وبعده غداة استقلال البلدان التي كانت تدور في فلكها الإمبريالي وإلى اليوم لاحتياجها المصلحي مع دول المجد الإمبريالي أو دول أمريكا اللاتينية الناطقة بالقشتالية؛ فبأية لغة يتكلم "الفكر الإسباني"، أهي القشتالية وحدها؟ أم معها اللغات الكطلانية والباسكية والجليقية؟ أهي اللغات الوطنية أم اللغات الأجنبية؟
*أن "الفكر الإسباني" يحمل دلالة اشتماله مختلف الثمار التي أنتجها "العقل الإسباني" من أدب وفلسفة وفنون وعلوم… فما هي الأقرب إلى تمثيله؟ وهل لديه تلك الثمار بقوة الإبداع أم بمحض الاتباع؟ أهناك أدب وفلسفة وفنون وعلوم "إسبانية" تستحق أن تنسب إليه نسبة امتلاك أم هي "موجودة في إسبانيا" وجود استهلاك؟
ومع وجود هذه الصعوبة في تحديد "الفكر الإسباني"، واحتساب الاعتبارات السابقة، يمكن القول إن المقصود بهذا الفكر، على الأقل كما يراد منه في سياق الحوار الممكن إجراؤه مع "الفكر المغربي"، هو الفكر المتبلور في إسبانيا الإيبيرية، على يد مفكرين منتمين إداريا وإراديا إلى مجاله السيادي، ومن ثم يخرج من عين الاعتبار قبيل من الفكر وأصحابه ظهروا خارج ذلك المجال، لأنهم ينتمون إلى مجال آخر هو مجال "الفكر الغربي" الأوسع زمانيا ومكانيا ودلاليا.
وكما خرج هؤلاء بحكم المجال السيادي، سيخرجون أيضا بحكم المجال الزماني؛ لأن المجال الأول لم يظهر إلا مع أخذ قشتالة زمام التوحيد الإيبيري –ولنقل مع التحدد القطري السياسي لممالك أراغون وقشتالة ونبرة وجليقية، ثم انسلاخ البرتغال عن جسم المعمور الإبيري- والمحصلة الأولية أن المفكرين المقصودين هم المفكرون الذين شهدوا مرحلة استرجاع الأراضي الإيبيرية من يد الحكم العربي الإسلامي في الأندلس، واستواء قشتالة وأراغون قوتين موحدتين في إسبانيا.
أما المحصلة النهائية، فهي أن انشغال أولئك المفكرين المعاصرين سيكون، حتما أو احتمالا، بقضايا تتصل، بصفة خاصة، بسياق إسبانيا وبظروفها الماضية أو الحاضرة، حتى إذا كانت تتصل بسياق أوروبي أو عالمي، فبمنظور إسباني وطني.
غير أنا نقدر أن الشعور بإسبانيا كمشكلة وكألم لم يظهر إلا مؤخرا عقب انهزام إسبانيا أمام الولايات المتحدة الأمريكية عام 1898، وبذلك يكون المفكرون المقصودون هم مفكري "جيل 98" وليس غيرهم لأنهم أكثر مفكري إسبانيا شعورا وإدراكا للسياق الإسباني[3].
وبافتراض حدوث الحوار المأمول بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني"، على الاعتبارات المؤقتة التي أسلفنا، لا شيء يمنع من حدوثه بتجاوز الاعتبار الزمني، كأن يدور موضوع الحوار على قضية تنتمي إلى عصر فيليب الثاني Felipe II (1527-1598) وعلمها كالقديسة تيريزا اليسوعية S..Teresa de Jesus (1515-1582)، أو عصر نيرون Neron (68-37) وعلمه كـ"سينيكا" Séneca (4-65)، إذ أن هذين العلمين ينتميان إلى دائرة الفكر الإسباني، دون الانتماء إلى دائرة الزمان المعاصر، مع انتماء إشكالياتهما، بكيفية من الكيفيات، إلى فضاء إسبانيا سواء كوحدة وطنية، أو وحدة إقليمية، أو وحدة قومية؛ فقط ينبغي اشتراط أن الفكر المحاور هو فكر معاصر ينتمي إلى السياق الوطني الإسباني داخل التحدد الجغرافي والسيادي الراهن، منذ ظهور "جيل 98" إلى الآن.
وحصر "الفكر الإسباني" بمجال جغرافي وسيادي محدد، وبأفق معاصر متأخر عنه، لا يعني البتة التنادي بـ"خصوصية إسبانية" أو "عرقية إسبانية محض"، ومن ثم الانغلاق على مجمل "الفكر الغربي" المرتبط به ارتباط كلية ووحدة، والاكتفاء بما لديه من مغانم، ولكنه يعني النظر في فكر اجتزأ سياقا معينا، هو السياق الإسباني ماضيا وحاضرا؛ فمضى يشتغل به اشتغال الناقد المتفحص، وبذا الحال يراد له إقامة الحوار مع فكر مغربي هو الآخر مشتغل بالسياق الوطني، وينتمي في نهاية المطاف إلى "الفكر العربي" انتماء "الفكر الإسباني" إلى "الفكر الغربي".
أما اللغة المتعددة التي يتكلم بها هذا الفكر، إن صح وجودها، فهي اللغة اللاتينية كلغة أصل، والقشتالية كلغة توحيد، والكطلانية والباسكية والجليقية كلغات تاريخية إقليمية، واللغات الأجنبية العربية والفرنسية والإنجليزية والألمانية كلغات رافدة.
وقبول تعدد لغات "الفكر الإسباني" الوطنية والأجنبية، الحقيقية منها والمفترضة، لا يعني القضاء على هويته، ولا إنكار تعدديته، ولا حتى جعله تابعا لغيره، وإنما يعني قبول حالة واقعية هي التعدد اللغوي والثقافي في إسبانيا واجه شرا عارما هو آفة الإقليمية –حتى أن الكتابة بالكطلانية مثلا أمر واقع لا دفع له أمام آمال التوحيد اللغوي والسياسي- واحتاج خيرا عميما هو ضرورة التواصل مع الغير المختلف عنه. ومن يدري؟ فلعل تعدد لغات "الفكر الإسباني" إن وجدت، سعت في إغنائه، وأمدته بزخم جديد يضمن له استمرار الحياة، وكسب مزيد من الناظرين في مساحات جغرافية وسيادية متنوعة.
كما أن قبول ذلك التعدد اللغوي في "الفكر الإسباني" لا يمنع اشتراط القشتالية لغة الاطلاع، ومن ثم لغة الحوار والكتابة المقصودة مع "الفكر المغربي"[4] ولو كان المفكر كطلانيا لأن المفكر المغربي غالبا لا يحسن من اللغات الإيبيرية إلا القشتالية، أما ما عداها، فلا. وإذا كان ولا بد من الاطلاع والحوار مع فكر إسباني مكتوب بغير ذلك اللسان، فلا يكون أمامه إلا الوسائط إما القشتالية ذاتها أو باقي اللغات الأوروبية. وبذلك يكون المقصود بلغة الفكر الإسباني في هذا السياق هي اللغة القشتالية لأسباب أولاها أن هذه هي لغة إسبانيا الإمبريالية؛ بها استعمرت، وبها تفاوضت على الاستقلال، وبها حافظت على الجامعة الإيسبانية Hispanidad، وثانيها أن المفكر المغربي لا يحسن غيرها من اللغات الإيبرية، على يدها تعلم، وبثقافتها تأثر، وعلى ذكريات حمايتها نشأ، وعلى مجدها قاتل أجداده وآباؤه "الروخوس" في الحرب الأهلية لعام 1936-1939.
غير أنا إذا كنا نقبل بتعدد لغات "الفكر الإسباني"، الوطنية والأجنبية، فإنا قد لا نقبل تعدد ثماره ومرادنا حصر ثماره فيما نراه المستوفي بقصدنا في الحوار الذي نتصوره ممكن القيام بين فكر وطني وفكر أجنبي. فلو كان المقصود بـ"الفكر الإسباني" الأدب والفن والفلسفة والعلم لكان الأولى التنادي بحوار بين الأدب الإسباني والأدب المغربي، أو الدعوة إلى إقامة معرض للفن الإسباني والفن المغربي، أو السعي في إنجاز تناظر بين الفلسفة الإسبانية والفلسفة المغربية، أو تهيئة المجال لاستعراض آخر النظريات في العلم الإسباني والعلم المغربي.
أما وأن الأمر يتعلق بجوهر كل ذلك، فمن الأكيد أن المسألة سترتبط بشيء آخر هو "فلسفة الأدب" و"فلسفة الفن" و"فلسفة الفلسفة" و"فلسفة العلم"، مرتبطة الواحدة منها، كما الأخرى، بالسياق الإسباني؛ حتى أن الأمل قد يمضي إلى المدى الذي يرجى فيه إقامة حوار دائم ترى فيه إسبانيا والمغرب كـ"فكرة" وكـ"مشكلة"، انطلاقا من الأدب والفن والفلسفة والعلم، ومن ثم يمضي إلى مقارنتهما بما تقتضيه المقارنة المثمرة. وهاهنا ينبغي القول إن مشكلة النسبة في "الفكر الإسباني" –حسب ما تحقق لدينا- هي نسبة صحيحة بالقدر الذي يكون فيه صاحب هذا الفكر مرتبطا بالسياق الإسباني، آمالا وآلاما؛ ولا قيمة بعدئذ للغة التي يكتب بها، ولا الموطن الذي منه تم التفكير في الظرف الإسباني، وفوق كل هذا وذاك لا قيمة لمسألة "الإبداع" أو "الاتباع" التي قد تثار ما دام الشأن الإسباني حاضرا، ويصار إلى التفكير فيه.
ومع كل ذلك، وبالنظر إلى ما أسلفناه من علاقة المفكر المغربي بالقشتالية، فإنا نشترط هذه الأخيرة كلغة القضايا المأمول أن تكون موضوع الحوار.
وعلى هذا، إن "الفكر الإسباني"، هو الفكر الذي يعتمد الرؤية الكلية للأدب والفن والفلسفة والعلم مع الاعتماد كليا على ما يؤسسها جوهريا في علاقة بالسياق الوطني، أو هو "روح" الأدب والفن والفلسفة والعلم وقد ارتبطت بالقدر الإسباني شرا أو خيرا إن "ارتباطا إسبانيا" أو "ارتباطا بما في إسبانيا".
وجملة القول، إن المقصود بـ"الفكر الإسباني"، الفكر الذي ينشغل مفكروه بقضايا إسبانيا باللغة القشتالية؛ ممن فلسفوا الواقعة الأدبية والفلسفية والفنية والعلمية، وارتبطوا في ذلك بالسياق الوطني، بآماله وآلامه.
إذا كان هذا هو المقصود من "الفكر الإسباني" فما هي دواعي الحوار بينهما؟
3 – دواعي الحوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني؟
قد تكون هناك دواع عدة لإجراء حوار بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني" وحسبنا الوقوف على ما يظهر لنا منها بعظيم الأهمية. ومن سائرها ضرورة تعديد مصادر التلاقح الثقافي، وتكثير فرص الحوار الحضاري، وتجريب الديموقراطية اللغوية والفكرية، والحوار الاستراتيجي.
قد يحتمل أن تكون هذه الدواعي من قبيل البديهيات في عالمنا الحديث، ولكنا نؤكد عليها لسبب بسيط هو غياب بعضها من اعتبارات التداول الثقافي المغربي؛ ذلك أن الناظر في هذه الثقافة، ولا سيما شعابها في الفكر الفلسفي والتاريخي والاجتماعي والديني، لا يلقى أي صدى لما يمكن أن يؤشر على ما ذكرنا اللهم إلا ما خص بعض المشاهير المكرورة في تاريخ الأدب والفن والفلسفة والاجتماع. حتى إذا حدث وتم تداولها فبغير لغاتها الأصلية وإنما بلغة وسيطة هي في غالب الأحيان اللغة الفرنسية نظرا لخضوع الثقافة المغربية للهيمنة الظاهرة والخفية للفرانكوفونية. إن التعدد الثقافي والحضاري هاهنا، لا يؤخذ إلا كسبا من الزاوية التداولية الفرنسية وليس هو بالاجتهاد الذاتي القائم أولا وأخيرا على لغة ذلك التعدد الثقافي والحضاري. يكفي أن تتردد في المنابر الفرانكولونية أسماء معينة كـ"إسماعيل كاداري" I.Kadaré (1936) فيُمضى إلى التنادي بها في تداولنا الثقافي، وهذه المأوية الخاصة بميلاد "لوركا" Garcia Lorca (1898-1936) مثلا؛ وهي ما هي عليه من بعد إنساني بخصوصية إسبانية، لم يعن بها لدينا إلا لما تردد ذكرها داخل الأوساط الثقافية الفرنسية، وتم اعتماد المكتوب الفرنسي في التذكير بصاحبها. المبادرة المغربية في مجال التعدد والحوار الثقافي والحضاري نادرة، وإن وجدت فبإيعاز من الصدى لا أخذا للصوت والمسؤولية يتحملها المثقفون المغاربة ولا سيما الإيسبانوفيون منهم الساكتون عن روائع الفكر الإسباني المعاصر إلا لماما وما تعلق منه بأعلام الأدب داخل الدائرة الأمريكولاتينية كـ"بورخيس" J.L.Borges (1899-1986) و"بابلو نيرودا" P.Neruda (1904-1973).
لنقف قليلا عند ما سميناه بدواعي الحوار بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني".
3-1-تعديد مصادر التلاقح الثقافي:
ففيما يتصل بمسألة "تعديد مصادر التلاقح الثقافي"، يبدو لي من غير المعقول عدم الاطلاع على ثمار "الفكر الإسباني"، ومن ثم الحوار معه، ونحن نشرف على أرضه، ولا تبعدنا عن ضفته إلا بضعة كيلومترات مائية قليلة. لسنا ننكر على "الفكر المغربي" مضيه إلى الاطلاع على ثمار الفكر الفرنسي ولا الألماني ولا الإنجليزي على بعد مجالها الجغرافي، وقصر تاريخ ارتباط أقدارها بالقدر المغربي؛ فهذا عين تحقق تعدد مصادر التلاقح الثقافي، ولكنا نرجو له العناية بـ"الفكر الإسباني" نظرا للقرب الجغرافي، وتكثف الارتباط التاريخي بالسياق المغربي عبر الزمن منذ فتح الأندلس إلى اليوم بالإضافة إلى أسباب أخرى سيرد ذكرها بعد قليل.
ولئن كان ذلك الفكر قد استطاب ثمار الفكر العربي في السابق، وأخذ منها ما استعان به على نهضته، فالأولى أن يكون حالنا معه اليوم مثل حاله معنا بالأمس دون عقدة دونية، أو مركب نقص، أو خشية انمساخ أو خوف انمحاء..
إن تعديد مصادر التلاقح الثقافي سيوفر للفكر المغربي أدوات عدة للمقارنة والتمييز بين ما يعرض عليه من ثمار الفكر العالمي، ولن يخشى عليه بعدها من أي تأثير يمس جوهر شخصيته ما حافظ على مقومات تلك الشخصية من رياح التقليد؛ فالتلاقح الثقافي مثله في ذلك مثل التلاقح الحادث في الطبيعة لا يمسخ عناصرها ولكنه يهبها هيئة أخرى وحياة مغايرة.
3-2-تكثير فرص الحوار الحضاري:
أما فيما يخص "تكثير فرص الحوار الحضاري"، فالأمر هو الآخر على البداهة. وليلاحظ هاهنا أن هذا الداعي ناتج عن الداعي السابق، ذلك أن اعتماد الكثرة في مصادر التلاقح الثقافي يهيئ الكثرة في فرص الحوار الحضاري أيا ما كان بعدها الجغرافي، ودلالتها الثقافية.
وليس صحيحا ما يمكن ادعاؤه من انتهاء عصر الثقافات المتعددة، ومن ثم "حوار الحضارات"، فـ"العولمة" المستحدثة بإرادة القوة والجاه، لن تستطيع وضع حد للطابع الفسيفسائي للحضارات؛ لا من حيث تعاقبها الزمني، ولا من حيث مضامينها الثقافية، لا سيما وأن نقد "التوحيد الحضاري" جار إلى غاياته في نسف الأسس الفكرية الميتافيزيقية التي يقوم عليها.
وإذا كان لنا من ضرورة إلى اعتماد تعدد فرص الحوار الحضاري فيرجى القيام به بمنطق المنظارية لا الأفضلية؛ وهو المنطق الذي، ولا شك، يسعفنا بالقوة الكافية لكي ندعو إلى وضع السياق الحضاري الإسباني موضع المحاورة الحضارية المسترسلة بيننا وبين جيراننا، وعبرهم بباقي السياقات الحضارية الأوروبية والأمريكولاتينية.
هذا دون الإشارة إلى أن السياق الحضاري الإسباني هو الوريث الفعلي للحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، مما يرى معه النظر إلى المسألة من زاوية استئناف الحوار الحضاري إذا كنا نريد الحفاظ على دورة التاريخ الطبيعية كما نعرفها من خلال ميلاد الحضارات وزوالها، لا النظر إليها من زاوية الانقطاع لاعتبارات عقائدية أو سياسية أو ثقافية أو غيرها.
وهكذا نعتبر تكثير فرص الحوار الحضاري من الدواعي الضرورية لإقامة حوار بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني" على أسس من الندية والتفاهم والبحث عن آفاق إنسانية أكثر غنى وأوسع دلالة.
3-3-تجريب الديموقراطية اللغوية والفكرية:
وفيما يتعلق بالداعي الثالث، فليلاحظ أن تكثير مصادر التلاقح الثقافي واعتماد فرص الحوار الحضاري، يترتب عنهما ولا ريب، تجريب للديمقراطية اللغوية والفكرية في أروع معانيها. وإذا كانت هناك من ضرورة الآن في الثقافة المغربية، فهي الكف عن اعتبار "الفرنكوفونية" الوسيلة الوحيدة للتخاطب مع العالم، والنظر إليه من خلالها؛ إن في شؤون الفكر أو في غيرها من الشؤون. إن الناظر في المتن الإحالي للتأليف المغربي في مجال الفلسفة والفكر عموما، لا بد وأن تدهشه تلك الواحدية اللغوية الفرنسية التي تطغى عليها –مع قليل من الاستثناء- على الرغم من تحول القطبية الفكرية والثقافية من باريس إلى عواصم أخرى.
ونفس الشيء جار بالنسبة لأسماء محددة من حصاد "الفكر الفرنسي" حيث يتم ترداد نظراتها في الدين والفن والاجتماع والفلسفة.. حتى إذا حدث وتم إيراد نظرات أخرى من الفكر الألماني أو الإنجليزي، فبواسطة الفرنسية دونا عن غيرها.
ولذلك فإن تكثير مصادر التلاقح الثقافي، وتعديد فرص الحوار الحضاري يساهمان بكيفية فعالة في إحداث تلك النقلة النوعية في المرجعية الفكرية والثقافية المغربية، ومن ثم توفير الديمقراطية الفكرية واللغوية اللازمة لانتعاش "الفكر المغربي"، وانفلاته من أسر الواحدية الضيقة التي يرتهن إليها مع ما يستتبع ذلك من التعرف على أنماط أخرى من الأسئلة، وإمكانيات جديدة للإجابة عنها. وهاهنا يتهيأ الاطلاع على "الفكر الإسباني" ليمدنا بما يحتمله من إشكاليات وحدوس لا شك في قيمتها الفلسفية والحضارية والثقافية؛ إن محصناها، استخرجت لنا ذخائرها أو صغائرها بقدر انتفاعنا من الدرس النقدي في أقصى تجلياته.
3-4-الحوار الاستراتيجي:
أما فيما يتصل بـ"الحوار الاستراتيجي" فإن تعديد مصادر التلاقح الثقافي، وتكثير فرص الحوار الحضاري، وما يترتب عنهما من تجريب الديموقراطية اللغوية والفكرية، يضع اللبنات الأساسية لحوار استراتيجي موغل في المستقبلية على بعدين، البعد الأول داخلي وثيق الصلة بالثقافة المغربية، واهبا إياها ذاتا جديدة، وصفاتا متجددة، والبعد الثاني خارجي وثيق الصلة بالثقافات العالمية، مهيئا لها أسباب الاتصال والتواصل. وكلاهما، البعد الأول كما البعد الثاني، بقادر، ولا ريب، على أن يجعل، مع مرور الوقت، من القيم الثقافية والفكرية الحاصلة بالحوار، قيما اجتماعية وسياسية واقتصادية مثل التسامح والتسالم والتعايش والتبادل والتشارك.. فليس يمتنع انقلاب الحوار الفكري المؤسس على أخلاق المناظرة وآداب الاختلاف، إلى سلوك متسامح وإرادة في التعايش، ورغبة في التشارك، وجنوحا إلى السلم.
ولو أردنا ترجمة الحوار الاستراتيجي مع "الفكر الإسباني" إلى وقائع فليس لنا الابتعاد عما يبدو لنا عين البداهة. إنا نصدح بعلاقة الفكر بالحياة والثقافة بالسياسة وبالتزامنا الوطني، وتفوتنا بداهة البداهات أن هناك أرضا مغربية ما زالت محتلة وواجبنا الوطني وضع الأسس الفكرية لتحريرها والتزامنا بإدراك فكر محتلها ونقد أسس احتلاله لها –وهي بالمناسبة كثيرة عقائدية وفكرية وتاريخية- ومن المدهش حقا أن الذي يحتل تلك الأرض هي بقايا من تلك الإسبانيا الرسمية التي تتشبث عبثا بأمجادها الإمبريالية. فكيف لا نمضي إلى محاولة الحوار مع فكرها والنظر فيما ينطوي عليه من قضايا ومن إشكاليات تكون هاديتنا في فهم وإدراك حالة "الاحتلال" حتى نمضي إلى وضع المخارج النظرية والفكرية للاستقلال انطلاقا من عقيدة وطنية ودينية بانية.
قد تكون تلك هي دواعي الحوار بين "الفكر المغربي" ونظيره الإسباني، فما هي الآن موانع ذلك الحوار؟
4 – موانع الحوار بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني"؟
لا يمتنع أن توجد كثير من الموانع الحائلة دون إجراء حوار بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني"، ولكنا نجتزئ بهذه كمثال عما يمكن أن يوجد من موانع وهي كالتالي:
4-1-السيادة اللغوية الفرنسية على "الفكر المغربي"
ما كنا عبرنا عنه بتجريب الديموقراطية اللغوية والفكرية لم يكن إلا داعيا من دواع ممكنة لإقامة حوار بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني". نفس الداعي يصبح عائقا أمام حوار مأمول من ذلك القبيل متى علمنا أن هناك "استبدادا" ما يمارسه اللسان الفرنسي على ثقافتنا وفكرنا؛ حتى بات بالأمر المعروف والمشهور. وإذا كانت هناك مبررات في الماضي تسمح بذلك الاستبداد "المتنور" فإن الحال اليوم تبدل لصالح التعدد اللغوي ومن ثم لصالح التعدد الفكري والثقافي.
إن "الاستبداد المتنور" الذي يمارسه اللسان الفرنسي يصبح عامل إعاقة للفكر المغربي لما يمنع عنه رؤية الأشياء، وإدراك الحقائق بما يقتضيه النظر الحر، والتفكير المنطلق إلى عوالم الإبداع الحقيقي.
وقد يقول قائل: ومن يضمن أن يسلم "الفكر المغربي" مما ذكرت فيما لو أتيح له الحوار مع "الفكر الإسباني"، والجواب هو أن بين الأمرين فرق كبير. فعلاقة "الفكر المغربي" باللغة الفرنسية علاقة التزام والضخ اللغوي في "الفكر المغربي" قلب حتى بنية التراكيب في الجملة العربية المكتوبة عند معظم المؤلفين المغاربة، فكيف لا يقلب حتى طرائق التفكير لديهم ويسرب إليها قيمه وأفكاره ومعتقداته وأحكامه. أما "الفكر الإسباني"، فمدعو ليكون موضوع الحوار وليس استبدالا لهيمنة بهيمنة ولا استبدادا باستبداد..
"الفكر المغربي" في هذا الشأن مبادر يتعقب القضايا ويثير الأسئلة ويولد الإشكاليات وعينه على السياق المغربي وقلبه على المصير الوطني؛ أي أنه حتى وهو يحاور فكرا أجنبيا يظل في جوهره فكرا مغربيا وطنيا محافظا على استقلاله وشخصيته. وهذا ما لا يقع في علاقة "الفكر المغربي" باللغة الفرنسية ولواحقها الفكرية والإيديولوجية. يناقض "الفكر المغربي" قضايا نظرية ولا تعرف هل هي مرتبطة بالسياق الصيني أم بالسياق المغربي والتعلة هاهنا أن الأمر يتعلق بالسياق الإنساني لا الوطني وهذا حق أريد به باطل؛ فلو كان الأمر صحيحا لما سمي عندنا "الفكر المغربي" بهذا الاسم بل باسم آخر قديكون "الفكر الفلسفي الموجود في أرض المغرب الأقصى" ويشتغل به أناس مغاربة، وحتى هذا غير صحيح في نظري بالمرة نظرا لأن هؤلاء لهم سمات خاصة تجمعهم بغيرهم من المغاربة ومن ثم فأي تفكير صادر عنهم ينطبع بما يجمعهم بأولئك ويميزهم عن الباقي.
4-2-العناية بالأدب والإعراض عن الفكر:
وليست الهيمنة اللغوية والفكرية الفرنسية على الثقافة والفكر المغربيين بمانع لحوار ممكن بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني"، بل يمنعها أيضا هذه العناية بالأدب والإعراض عن الفكر التي يقبل عليها بعض المثقفين الإسبانوفيين أيضا حتى اعتقد النظار أن إسبانيا ليس فيها إلا هذا الشعب المعرفي دون غيره، أو أن هذا أفضل ما فيها. ولعل جائزة نوبل للآداب التي حصل عليها "سيلا" Cela (1916-) وقبله فيسينتي أليكسندري Vicente Alexandre (1898-1984) غطت الغابة بما فيها، وكانت وبالا على باقي شعاب المعرفة كـ"الفلسفة الإسبانية" مثلا؛ بحيث وقع في ظن الناس أن اللغة الإسبانية ليست قادرة على العطاء ومن ثم التميز إلا في الآداب أما في غيره فلا.
إن عناية المثقفين الإسبانوفيين بالآداب الإسبانية وحتى الأمريكولاتينية أمر محمود ويحقق غايات التلاقح الثقافي وأهداف الحوار الحضاري التي نرجوها، ولكن تلك العناية ينبغي أن تشمل باقي شعاب المعرفة الإسبانية ولا سيما المعرفة الفلسفية في أوسع معانيها حتى نعرف المفكر الإسباني والنص الفلسفي الإسباني والإشكالية الفلسفية الإسبانية.
ولذلك على المثقفين الإسبانوفيين وبخاصة المثقفين المشتغلين بالفكر الفلسفي –إذا وجدوا- القيام بواجب تعريف الناس بثمار هذا الفكر وإجراء هذا الحوار معه نقدا وتحليلا ومقارنة، وإلا لظلت معرفتنا بالحياة العقلية في إسبانيا محدودة بما يكتب فيها من رواية أو يمثل فيها من مسرحية أو ينشد فيها من شعر، ومن ثم ما كان يمكن أن يكون عائقا في حالة الغياب، يصبح أكثر إعاقة في حالة الحضور؛ لأنه يصدر ذلك الحضور بصيغة معينة أو بقالب معين وهو هنا حضور إسبانيا بالأدب وليس بشيء آخر سوى الأدب.
4-3-أسبقية الحوار السياسي على الحوار الفكري:
ولعل من الموانع الهامة التي تحول دون إجراء الحوار المأمول مع "الفكر الإسباني" أسبقية الحوار السياسي على الحوار الفكري. لقد شهدت إسبانيا مرحلة عصيبة بدأت بالحرب الأهلية وسيادة الحكم الاستبدادي للجنرال فرانكو Franco (1892-1975) وانتهت برحيله وبداية مرحلة الانتقال الديموقراطي. وهي، بلا ريب، تجربة سياسية فريدة من نوعها في أوروبا. ولكن الوعي المغربي لم يدرك منها إلا فترة النهاية للمرحلة الفرانكية وبداية المرحلة الانتقالية وما تمخضت عنه من دولة المؤسسات.
أما المرحلة السابقة عنهما فالراجح أن لا اهتمام بها لديه، حتى إذا حدث وكان فالغالب أنه وعي بالمعايشة لا بالتأمل كما حدث للنخبة الوطنية في الشمال غداة تمرد العسكر على الحكومة الجمهورية يوم 18 يوليوز 1936. ولذلك فاهتمامه بمرحلة الانتقال الديموقراطي كان أكثر من اهتمامه بغيرها من المراحل السابقة دون أن ينصب اهتمامه على الأسس الفكرية والفلسفية التي تسندها بل على جانبها السياسي فقط.
إن الحوار بين الساسة ورجال الإعلام والاقتصاد من كلا الضفتين جار وفي مختلف تجلياته، ولكن الحوار بين مفكريهما غائب، وأغلب الظن أنه سيظل كذلك ما لم تبذل مبادرات في هذا الشأن مستقبلا[5].
هذا التركيز على الحوار السياسي وإغفال الحوار الفكري يشكل في نظري إحدى أهم الموانع التي تحول دون إجراء الحوار المأمول بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني".
وقد كانت تجربة الانتقال الديموقراطي التي عاشتها إسبانيا مناسبة طيبة لكي يمضي "الفكر المغربي" إلى تطارح قضاياها الفلسفية والتاريخية ولكن اكتفى منها بجانبها السياسي والقانوني وخسر من ثم فرصة ذهنية لمعرفة الأصول النظرية لأي تحول سياسي وحضاري.
كان الفكر السياسي المغربي مهموما بمسألة الديموقراطية، ولذلك اهتم بما يتعلق بها في إسبانيا، ومع انشغاله بقضية التجديد الفكري والانبعاث الحضاري لم يعمل النظر في تجربة الانتقال الديموقراطي كتجربة فكرية ومن ثم كثمرة تاريخ طويل من صراعات الفكر والقيم والاختيارات[6].
4-4-عدم وجود "فلسفة إسبانية"
من بين الموانع التي نرى لها الوجاهة في صرف "الفكر المغربي" عن إجراء حوار مع "الفكر الإسباني" ما يعتقد من عدم وجود "فلسفة إسبانية" أو "عدم إسهام الإسبان في الفكر الغربي". ويجب أن نقرر أولا أن ما ذكرناه انتهى إلينا عن طريق الافتراض لا عن طريق الواقع الموضوعي؛ بمعنى أنه ثمرة تحليل للمرجعية الفكرية المغربية، وليس تقريرا لواقع معين صرح به أهل النظر في "الفكر المغربي"؛ فالمرجعية الفكرية المغربية حافلة بأعلام الفكر الإنساني عدا أعلام "الفكر الإسباني" وخاصة ممن تعاطوا للفكر الفلسفي؛ حتى لأن الواقف على ذلك يفترض أن "الفكر المغربي" لا يتداول العلم الفلسفي الإسباني إلا لاعتقاده أن لا إسهام له في منظومة الفكر الغربي[7].
ويمكن أن يكون لما ذكرنا سبب واحد أو عدة أسباب من بينها عدم اطلاع "الفكر المغربي" على المتن الفلسفي الإسباني ومن ثم اعتقاده أن لا وجود لشيء اسمه "الفلسفة الإسبانية" أو على العكس من ذلك، اطلع على ذلك المتن ولكن تصديقه لبعض نظار "الفكر الإسباني" بعدم وجود تلك الفلسفة حمله على تكذيب أي اعتراف بكيان مستقل لها، ومن ثم لم يحفل بالبحث عن إسهامها في الفكر الإنساني المعاصر[8] وركز على أعلام آخرين ولا سيما الفرنسيين والألمان والإنجليز. ولعله ذهب مذهب من يرون خضوع "الفكر الإسباني" للتأثير الفرنسي وبالغ في ذلك وأحب الارتواء من المنبع معرضا عن الجدول.
وكيفما كان الحال، ليس مرادنا الدفاع عن وجود أو عدم وجود فلسفة إسبانية[9] ولا الانخراط في السجال المشهور حول "العلم الإسباني" كما دشنه "مينينديث إي بيلايو" Menédez y Pelayo (1856-1912) وأثراه مفكرون إسبان آخرون، ولا الدفاع عن وجود مدرسة فلسفية إسبانية باسم "مدرسة مجريط" كما صنع "مارياس" (1914)، ولا حتى إيراد آخر الأطروحات النقدية للأستاذ "أبيان" J.L Abellán (1933)[10] أو تحليلات الأستاذ "جوستافو بوينو" Gustavo Bueno لإمكانية وجود فلسفة إسبانية[11].
وإنما حسبنا الإشارة إلى أن "الفكر المغربي" لا يردد أي صدى للفكر الإسباني حتى كأنه يزعم بغياب صوته من كورال الفكر الغربي، وهذا في نظرنا يكفي لكي يكون أقوى مانع يحول دون أي حوار مستقبلي بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني".
ولذلك نعتقد أن المناسبة قد حانت لكي يعمد "الفكر المغربي" إلى تحقيق ما افترضنا أنه يفترضه؛ أي عدم وجود "فلسفة إسبانية" أو عدم وجود "إسهام إسباني" في الفكر الغربي؛ ومن يدري لعله يصل إلى نتائج تجعله يقلع عما ألفه من أسماء وإشكاليات ومفاهيم وتصورات تنتمي إلى الجغرافيا الفكرية الفرنسية والألمانية والإنجليزية.
ومع ذلك أثيرة لدينا تلك الفكرة التي رددها مؤرخ "الفكر الإسباني" الأستاذ "أبيان" أن الفلسفة والحقيقة لا وطن لهما ولكن الباحثين عنهما لهم وطن، ولذلك ينبغي البحث عن إسهام هؤلاء في الفكر الكوني[12]. ولما كان هؤلاء قد اشتغلوا بالفلسفة وبحثوا عن الحقيقة فينبغي البحث عن حظهم في الإسهام في الفكر الإنساني والغربي باعتبار إسهامهم قطعة أساسية تجب العناية بها[13] مع ارتباط بالسياق الإسباني، ووفق هذا الشرط ندعو إلى إجراء حوار بين "الفكر المغربي" والفكر الإسباني.
هي ذي إذن موانع الحوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني. ولكن ماذا يقع لو افترضنا سلامته من أية موانع، ألا يلزم من ذلك وجود كيفيات لإنجازه؟ فما هي إذن؟
5 – كيفيات إجراء حوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني:
هناك الكثير من كيفيات الحوار الممكن إجراؤه بين الفكر المغربي والفكر الإسباني ونكتفي منها بهذه التي تبدو لنا أقدر على تحقيقه بنجاح مثل الترجمة والدراسة النقدية للأعمال الفكرية الإسبانية، وإدراك النصوص الفلسفية في المتن الفلسفي الدراسي الثانوي والجامعي، وتنظيم ندوات فكرية بين مثقفين مغاربة وإسبان.
5-1-الترجمة:
فبالنسبة للترجمة، تعتبر من الكيفيات الناجعة لتحقيق المأمول من الحوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني؛ إنها كيفية ووسيلة في آن واحد؛ كيفية في التعرف على ثمار الفكر الإسباني، ووسيلة لتحقيق الحوار والتواصل معه ونيل الغايات المرجوة منه.
وكما نشطت الترجمة في تعريف الثقافة المغربية ببعض ثمار الثقافة الإسبانية في ميدان الأدب، هكذا يراد لها أن تنشط في مجال الفكر الفلسفي على الرغم من أن الأولى ما زالت هي الأخرى لم تخط الخطوات الحاسمة في ترجمة روائع الأدب الإسباني من كل العصور، واقتصرت على منتخبات منه غير ممثلة التمثيل الصادق للحياة الأدبية لدى جارتنا. هناك الكثير من الأعمال الأساسية في "الفكر الإسباني" تحتاج لمن يترجمها للقراء المغاربة، ومنهم للقراء العرب، وإذا كان لا بد من تحديد مواطنها فهي تلك التي توجد في الفكر التاريخي والفكر الديني والفكر السياسي. فتاريخ المغرب لـ"أنطونيو كانفاس ديل كاسيتو" A.Canovas del Castillo (1828-1897)[14] مثلا يحتاج إلى ترجمته إلى العربية لكي يتم إدراك حقيقة مهمة وهي ما تكون النظرة الاستعمارية الإسبانية في صيغتها الدينية الصليبية، وكتابات "دونوسو كورتيس" يحتاج لمن يربحها للعربية ليتم الاطلاع على الأصول المسيحية الدينية للمركزية الغربية التي حركت الإمبريالية الإسبانية للهيمنة على المغرب[15] وكذلك أعمال الاستعراب الإسباني في مجال تاريخ الفلسفة في الغرب الإسلامي أمثال الأب ألونسو Alonso، وآسين بالاسيوس Asin Palacios، وغيريرو Guerero، وتحقيق كثير من الفرضيات، وتمحيص كثير من الأحكام التي تنطوي عليها أعمالهم، ولا سيما في الرشديات الإسبانية التي يعرف عنها القليل ولا يُمضَى إلى تداركه بما يكثره من العلم الكبير. وكذلك الأمر في الفكر الفلسفي مع أونامونو (1864-1936) M.De Unamuno وأورتيغا إي غاسيت Ortega y Gasset (1883-1955) وخافيير زوبيري X.Zubiri (1898-1984) وغرسيه مورينتي G.Morente وخوليان مارياس J.Marias (1914) وغوستافو بوينو سانشيز Gustavo Bueno Sanchez وماريا زامبرانو Maria Zambrano (1904-1991) وفرناندو ساباتير F.Savater (1947) وأوخينيو ترياس E.Trias (1942).
إن ترجمة الأعمال الفلسفية والفكرية الإسبانية عمل جبار مهما قام به أولو العزم من التراجمة المشتغلين بالفكر الفلسفي، فسيظل عملا غير ذي أثر فاعل ما لم تنهض به مؤسسة للترجمة كل جهدها ينبغي أن ينصب على نقل أمهات الأعمال التمثيلية في "الفكر الإسباني" المعاصر ممن ارتبطت سياقاته بالسياق المغربي.
وفي انتظار إنشاء تلك المؤسسة، لا مناص من المبادرات الفردية النادرة والمتواضعة القائمة على الروح النبوية، وهي على ندرتها وتواضعها، تستطيع شق الطريق الطويل أمام "الفكر المغربي" لكي يقيم حواره المأمول مع "الفكر الإسباني".
5-2-الدراسة النقدية للأعمال الفكرية الإسبانية:
أما الدراسة النقدية للأعمال الفكرية الإسبانية فهي الأخرى إحدى الكيفيات الناجعة لتحقيق ما نرومه من حوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني. وبطبيعة الحال، إن ذلك الحوار، مستندا على الترجمة، سيقدم في اتجاه نقد "الفكر الإسباني" أفكارا ومفاهيم وتصورات وأحكاما..
ليست غايات الترجمة هاهنا تهيئة الشروط للفكر المغربي لكي يتشرب بمضامين "الفكر الإسباني" بكيفية انفعالية بل بكيفية تفاعلية دائبة على ترصيد مكامن القوة لترسيخها، ومكامن الضعف لتقويتها، وعاملة من ثم على تطوير الحدوس، وفحص الأحكام، وتقليبها على شرائطها العقلية وفق أصولها النظرية، ومقتضياتها الواقعية. وليست الدراسة النقدية إلا السبيل الوحيد لكي يرفع "الفكر المغربي" هذا التحدي فيمضي إلى إخضاع "الفكر الإسباني" لمنهجيته النقدية الحاسمة متى توفرت له على شروط علمية بالغة غاياتها من الدقة والإحكام.
ولا يخلو "الفكر الإسباني" من مواطن يشتهي "الفكر المغربي" أن يتناولها بالدراسة النقدية؛ إن أفكار "أونامونو" حول المغرب مثلا قد تجهد، بمفردها، الدارس الوطني وتستنزف أدواته التحليلية ومشاعره الوطنية، أما "الأصداء المغربية" عند "أورتيغا إي غاسيت" فالأرجح أن الواقف عليها في إمكانه استخراج المعالم الأولى لنظرية "أورتيغيانية حول المغرب[16] دون ذكر ما للرجلين من "لمع استعرابية" إن ساهمت في شيء، ففي إطلاعنا على ملامح الصورة التي يرسمها لنا "الفكر الإسباني" عربا ومسلمين ومغاربة.
وإذا وجد من ينهض بنقد تلك الأفكار، وتمحيص ما تنطوي عليه من أحكام، فسيكون "الفكر المغربي" قد خطا الخطوة الأولى لإقامة الحوار المأمول بينه وبين "الفكر الإسباني".
5-3-إدراج النصوص الفكرية في المتن الفلسفي الدراسي:
وإذا آمنا أن الدراسة النقدية قد تشكل إحدى الكيفيات الناجعة لتحقيق الحوار المأمول بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني" وهي مستقوية برصيدها في الترجمة، فلا بأس من إدراج النصوص الفلسفية والفكرية عامة في المتن الفلسفي الدراسي الثانوي والجامعي المغربي. إن صنيعا كهذا سيبذر البذار الأولى للشروط المستقبلية لأي حوار مأمول بين فكرنا الوطني والفكر الإسباني.
إن الطالب المغربي يعرف العلم الفلسفي الفرنسي والإنجليزي والألماني والهولندي والدانمركي، ولكنه لا يعرف العلم الفلسفي الإسباني ولا النص الفلسفي الإسباني؛ على الرغم من القرب الجغرافي لشبه الجزيرة الإيبيرية منا، وتضافر عدة عناصر تاريخية وثقافية وحضارية. وفي نظري، إن الوقت قد حان لكي تبادر الإرادة السياسية والإرادة الفكرية، وتلتقيا في عمل مشترك قوامه تنويع المتن الفلسفي المدرسي بمختلف الإسهامات الإنسانية ومنها الإسهام الإسباني في ميدان الفكر الفلسفي.
من المعقول جدا أن يعرف الطالب المغربي نصوصا أدبية من إسبانيا وأمريكا اللاتينية، إذا ما توفرت له، ولكن من المعقول أيضا أن يعرف نصوصا فلسفية منها؛ ففيم الإقدام على إدراج هذه والإحجام عن أخرى؟
إن الطالب المغربي الذي يتعرف على نماذج من الحياة الفلسفية والفكرية الإسبانية، ويستطيع أن تكون له القدرة على الدخول معها في حوار نقدي، هو من سيصبح في المستقبل ذلك المفكر الوطني الذي يقرأ ويناقش ويحاور ويكتب ويفكر.. ولذلك فمن المناسب أن نهيئ له الشروط لذلك وهو في مرحلة التحصيل العلمي، لا أن نحبسه ضمن تصور فكري وفلسفي محدود بجملة من الاعتبارات وراءها جانب من الاستبداد الفكري والديكتاتورية اللغوية.
5-4-تنظيم ندوات فكرية بين مثقفين مغاربة وإسبان:
أما تنظيم ندوات فكرية بين مثقفين مغاربة وإسبان فتعتبر الشكل الحيوي للحوار المأمول بين فكري الضفة المغربية والإسبانية؛ لأن الندوات مكان مناسب للتنادي بالأفكار والأطروحات وتداول للآراء والنظرات بكيفية مباشرة وسريعة، شفاهيا عبر النقاشات داخل أروقة الندوة أو على هامشها وبكيفية غير مباشرة عندما تطبع أعمال الندوة سواء باللغة العربية أو بالقشتالية أو بهما معا.
وأكاد أقطع أنه على كثرة ما التقى المثقفون المغاربة والإسبان، فلم يدر أي لقاء بينهم حول موضوع فلسفي أو فكري عموما إلا ما خص الأدب كعلاقة سرفانتس Cervantes (1547-1616) بالإسلام، أو شؤون "الهجرة" أو ظاهرة "قوارب الموت" أو "ذكريات تاريخية مشتركة".. أما اللقاءات ذات الطبيعة الفلسفية فلم نسمع أن لقاء ما دار حول موضوع فلسفي أو فكري على كثرة ما هناك من مواضيع فكرية وفلسفية ذات قدر عال من الراهنية والضرورة..[17].
صحيح إن المثقفين الإسبان في معظمهم، لا يعرفون عن الثقافة المغربية إلا شذرات متفرقة من الأعمال والأعلام[18]، وهذا ناتج بطبيعة الحال عن الجهل وعديد الأحكام الجاهزة[19]. ولكن جزءا من المسؤولية في ذلك يتحملها الفكر المغربي بلا ريب لأنه لا يقوم بمبادرة التعريف بثقافته في الأوساط الثقافية الإسبانية بالقدر الذي يستطيع فيه "الاسم المغربي" الانتشار في الفضاء الإيبيري الانتشار الذي يراد له على قدم وساق مع ثقافات البلاد الأخرى. ولا أرى أن هناك مانعا من المبادرة إلى ذلك الآن لو تهيأت العزيمة الصادقة والإرادة الحسنة في تحقيق نوع من التنادي الفكري والفلسفي بين الضفتين.
تلك في نظرنا كيفيات فاعلة لإجراء حوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني. فلننظر ما هي الثمار المتوقع جنيها من ذلك؟
6 – ثمار الحوار بين "الفكر المغربي" و"الفكر الإسباني"
على قدر ما يبذل من مجهود في إجراء الحوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني، بإدراك دواعيه، وتجويد كيفياته، وإزالة موانعه، نجني ثمارا مأمولة من ذلك الحوار ونتصورها كما يلي:
6-1-تنسيب الفكر الغربي:
إن تنسيب الفكر الغربي والقضاء على مطلقيته وواحديته الميتافيزيقية والسياسية والحضارية مبتغى ما بعده مبتغى يرجى من الحوار المأمول بين الفكر المغربي والفكر الإسباني؛ فلقد أتى علينا حين من الوقت نظرنا فيه إلى الفكر الغربي ككيان وجودي واحد فارض علينا سلطته، وقامع لنا بقوته، مع أن الإمعان في النظر إلى أوجهه الثقافية المتعددة، وحتى كياناته السياسية المختلفة، يعطي اليقين بأنه على تفرقة كبيرة لا حد لها، وعلى اختلاف واسع لا حصر له. وإلا لماذا هذا التناثر المذهبي الذي يعيشه الغرب، وتمضي إلى جمع أشلائه محاولات التوحيد السياسي في أوروبا، إلا استيقانا بأن غول التجزئة والاختلاف كامن في أحشائها، ويهددها في وجودها ومصيرها، ويجعلها لقمة سائغة في فم أعدائها الحقيقيين والموهومين[20].
من هنا ضرورة النظر في الفكر الإسباني لأنه جزء من ذلك الكيان المتجزئ بواقعه، المتوحد بآماله؛ إذ كلما شققنا رقاعه ناظرين في أبجديتها اكتشفنا أي حال من الخصوصية له يعيشها وتشكل عليه عبئا كبيرا يهرب به منها عبر التصريح الدائم بالانتماء إلى المنظومة الغربية[21] والكيان الأوروبي دونما تذكر للدرس الأورتيغياني القديم الذي كان يؤكد على أن إسبانيا أصبحت هي الإمكانية الأوروبية الوحيدة بعد أن تعبت أوروبا في فرنسا، واستنفذت نفسها في ألمانيا، وضعفت في إنجلترا"[22]. هذا إلى أن الفكر الإسباني هو أكثر قطاعات الفكر الغربي التصاقا بالثقافة العربية ومن المستحيل دراسة هذا الفكر بمعزل عن تفاعلاته الأولى مع الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس أيام عزها وسؤددها، وهو من كان الشاهد الأول على إسهام العرب المسلمين في التجديد الفلسفي والفكري لأوروبا في القرن الثاني عشر لما دأبت مدارس الترجمة فيه تنقل عيون المعرفة والعلم إلى الديار الأوروبية[23].
ثم إن الفكر الإسباني هو ما يصلح أن يكون موضوعا للاستغراب فيما لم آثرنا جعل الغرب موضوعا للدراسة بعد أن كنا نحن كذلك لديه[24].
6-2-إدراك البعد النظري لإسبانيا:
إن النظر في الفكر الإسباني نظرة فاحصة ودراسته دراسة نقدية واعية، لربما تؤتي أكلها ليس في تنسيب الفكر الغربي فحسب، وإنما في مساعدتنا على إدراك البعد النظري لإسبانيا باعتبارها جزءا لا يتجزأ من ذلك الفكر.
إن سؤال إسبانيا سؤال ما فتئ يلقيه ويعيده مفكروها وفلاسفتها، ونعتقد أن الوقوف عنده بعدة منهجية فاحصة تمكننا من معرفة ما تكون هذه الكينونة التي تسمى إسبانيا إلى درجة أنها أصبحت في رتبة "المشكل الفلسفي" حلوله مختلفة ومتضاربة.
وهكذا فقد كان الفكر الوطني الإسباني يستطيع تسمية مدينته الفاضلة خلال بحثه عنها؛ فهي "إسبانيا"، وكان يسبغ عليها كامل أوصافه، فهي "حيوية".. و"جوهرية".. على غير ما يقع لدينا عادة حينما نفكر في المجتمع المدني وليست لدينا أية فكرة عن لبوسه الواقعية إلا مؤسساته المجردة؛ تلك التي لم نفكر لها حتى في أرض صلبة تستقر عليها، فإنا نفكر في "المجتمع المدني" ويفوتنا أن ذلك المجتمع غير ممكن إلا في "مغرب حيوي" مسبوق بأطوبيا؛ إذ من الواجب التفكير في أي مغرب نريد، وبعد ذلك أي مجتمع نحلم بتحقيقه.. من هنا الإمكانية العظيمة التي يوفرها لنا الفكر الإسباني لما يقرأ متأملا فضاءه الجغرافي والتاريخي والحضاري بكل قيمه وحدوده وآماله، فعسى تلك الإمكانية تساعدنا على قراءة "المغرب" قراءة فلسفية، واستحضار سؤال الكينونة والمصير انطلاقا من أرض محدودة ومجردة هي الوطن المغربي متداخلة فيه إكراهات الإدارة ورغبات الإرادة.
إن الفكر الوطني الإسباني عند جيراننا جعل إسبانيا الذرية موضوعا لتفكيره؛ فـ"أنخيل غانيفيت" A.G (1865-1898) كتب الإيدياريوم الإسباني و"أورتيغا إي غاسيت" كتب إسبانيا اللافقرية و"مايزتو" R. de Maeztu (1875-1936) دعانا إلى إسبانيا جديدة..
والفكر الوطني هو الذي جعل إسبانيا جغرافية لشعره، فـ"أنطونيو ماشادو" A.Machado (1875-1936) حلم بإسبانيا جديدة وتغنى بشبابها، و"أونامونو" مجد ذكرها وغنى لإله إسبانيته..
والفكر الوطني هو الذي جعل إسبانيا تاريخا لتأملاته؛ فأورتيغا إي غاسيت قدم تأملات الكيخوطي و"أونامونو" بسط تصوراته حول نواة الوطنية في الأصالة و"رامون مينينديث بيدال" R.M.Pidal (1869-1968) حول إسبانيا حلقة وصل بين العالم المسيحي والإسلام و"أمريكو كاسترو" A.Castro (1885-1972) حول عمقها التاريخي في تاريخ إسبانيا..
والفكر الوطني هو الذي جعل إسبانيا فضاء لإشكالياته؛ فـ"إنترالكو" L.Entralgo (1908) هو الذي شكلها في "إسبانيا كمشكلة" و"كالفو سيرير" C.Serer نفى عنها المشكل في إسبانيا بلا مشكلة.. وهكذا تجد عند جيراننا الذخيرة الأساسية لبدئ التفكير الفلسفي في "المغرب" وجودا ومصيرا وما يستتبع ذلك من تدبير المجال المفهومي، وإلحاقه بخلفياته السياسية والثقافية.
6-3-إدراك الآخر في صورته الإسبانية، وبعده الأوروبي:
ومن الثمار المرجوة من الحوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني إدراك الآخر في صورته الإسبانية وبعده الأوروبي. ويخيل إلي أن الوقت قد حان متى صار في استطاعتنا إدراك الكينونة الإسبانية في بعدها النظري والفكري، الانتقال إلى معرفة من يسكنها روحا وثقافة وفكرا وفلسفة وحضارة. لن نزعم أن إسبانيا مجهولة من طرف المغاربة مثلما كان رأى "أورتيغا" أن المغرب، وبخاصة "الريف"، مجهول من طرف الإسبان، ومن ثم نمضي إلى ربحه للمعرفة التاريخية والجغرافية للعرب والمسلمين[25].
قد تكون إسبانيا أكثر المناطق معروفة لدينا نظرا لارتباط جزء من ماضينا بها، على عكس ما يقرره "مارياس" من أن هاته غير معروفة عموما[26]. ولذلك فلا مطمع في تصدر أية معرفة بها وإنما غرضنا معرفة من يكون هذا "الإسباني" الذي سكن وعينا ماضيا إما كـ"رومي" أو "نصراني" أو حاضرا كـ"بورقعة" أو "روخو" (أحمر، شيوعي) أو "إسبانيولي"، هذا الذي استعمر أرضنا وما يزال، وشكل نمطا من حياتنا وما يزال، وأدخلنا في دوامة صراعاته مرة في حرب "الإسبانيتين" عام 1936 ومرة بعد الانتقال الديموقراطي في حرب القوميات، وأصبح الآن في نظر شبابنا نموذج الخلاص من جحيم البلاد التي لا تكرم أهلها، يهاجرون إليه في قوارب الموت عملا بالقيمة المشهورة "الخدمة مع النصارى ولا الجلوس خسارة"!!
إن سياقات حضارية وثقافية متعددة تقتضي الآن التعرف على صورة "الإسباني" في وعينا، وضبط بعدها الأوروبي في شعورنا ولا شعورنا على السواء. وكما تعرفنا على "صورة المغرب" في الرواية الاستعمارية الإسبانية[27]، لم لا نمضي إلى التعرف على مزيد من جوانبها في "الفكر الاستعماري" الإسباني عسانا نستكمل حقيقتها ونعمل من ثم على تصحيحها في الذهن والواقع.
6-4-إغناء التجربة الحضارية المغربية:
ومن الثمار المرجوة أيضا من حوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني إغناء التجربة الحضارية المغربية. ليس هناك الآن من ناكر لهذه الثمرة في خضم التداول العالمي للخيرات الرمزية في ظل التطور التقني والعلمي والمعلوماتي. أما الادعاء بالاكتفاء الحضاري المغربي فهو بالأمر العبثي ولا يستعان به حتى على رفض الأساس الديني لتعارف الشعوب وتلاقي الحضارات، وأعظم ما يفحم به في هذا المقام هو دورة التاريخ وقهر الزمان اللذان يبديان أن الحضارات في شأن دائما رفعة وضعة، ميلادا وزوالا، قوة وضعفا.. ما يقدمه الفكر الإسباني من عصارة تجربة حضارية وثقافية مرتبطة الارتباط كله بالقدر الغربي، بقادر على وضعنا على الأقل على طريق التحدي الحضاري الذي ينتظرنا باستمرار أمام تسارع إيقاع التغير العالمي في الأوضاع السياسية والجغرافية والبيئية والثقافية. ثم إن الأمر يتعلق بإغناء التجربة الحضارية المغربية، لا بإفقارها، وذلك يعني أن على الفكر المغربي أن يفحص على وجه النقد الواعي بغاياته ومقاصده وآلياته، حصيلة الثمار التي ينتظر الانتفاع بها من الفكر الإسباني وإذاك هو مطالب أولا أن يمضي إلى إجراء حوار مع ذلك الفكر، وثانيا تحقيق النظر فيما لديه من ثمار؛ أهي طيبة نافعة له أم هي فاسدة ضارة له. هو من الغفلة الواضحة القول إن التجربة الحضارية المغربية ستغتني بمجرد الحوار مع الفكر الإسباني، أبدا ذلك أن هذا الحوار ذاته ينبغي أن يخضع لشروط نقدية واعية أقلها الانطلاق من فكرة الاختلاف كمؤسس للحوار في أفق الائتلاف كضامن للحوار، وشرط المؤالفة كمصير للحوار[28] بغض النظر عن موضوع الحوار وغايته وشروطه والقائمين به.
وما القول بإغناء تلك التجربة إلا على سبيل الإمكان الذي يراد له التحقق على شرط الدقة العلمية والوضوح الفكري والمقتضيات الواقعية، وليس قولا شعاريا منبهرا بالآخر يستبدل النموذج الفرنسي السائد بالنموذج الإسباني المنتظر، ولا قولا علميا مدعيا لوثوقية عمياء تضع نفسها فوق أي حساب أو مراجعة عقلية أو إيديولوجية.
****
تلك كانت محاولتنا في تعريف الفكر المغربي والفكر الإسباني وتقرير دواعي الحوار بينهما، ورصد موانعه، وتصور كيفياته، وافتراض ثماره. صنعنا ذلك وقد قدمنا الفكر المغربي على الفكر الإسباني تقديم مبادر إلى الحوار لا تقديم أفضلية؛ لا من حيث القيمة أو من حيث الرتبة. فمن زائد الكلام القول إن لكلا الفكرين خصائصهما ومن ثم مميزاتهما.
هذا مع علمنا أن النداء إلى الحوار آت من الفكر الإسباني؛ فقد كشف أورتيغا "سر" ابن خلدون[29] وناقش وجهة نظر ابن حزم في الحب[30]، ونوه "مونطفييث" Montavez بالجابري كمفكر مغربي معاصر عظيم الأهمية[31] وحصل العروي على الجائزة الدولية الثانية عشرة لحكومة كاطالونيا يوم 13 يونيو 2000 ببرشلونة.
الأمر الذي يقتضي من فكرنا الاستجابة له، ومن ثم يكون تقديم الفكر المغربي على الفكر الإسباني كمن يدعو الأول إلى الحوار مع الثاني، فهل نمضي إلى ذلك الحوار؟
عهد الإسبان بنا منذ 1860 أنا لا نحسن حمل السلاح كما ادعى "غالدوس B.Pérez Galdos (1843-1920) في عيطة تطاوين[32]، فلم لا نمضي إلى تجريب سلاح الفكر والحوار والمناظرة، ونثبت لهم، من ثم، زيف ادعائهم؟ لم لا ندخل العاصمة مجريط بوساطة الحوار الفكري وليس بوساطة "الترانفيا" كما دخل آباؤنا وأجدادنا إليها في الحرب الأهلية[33] أو قوارب الموت كما يدخل إليها الآن شبابنا؟ لم لا تكون لدينا نحن مهمة في إسبانيا بدل مهمة إسبانيا في المغرب كما كان يردد أونامونو وغيره[34]؟ ألا يمكن التفكير في الدخول إلى إسبانيا بقيم ثقافية وحضارية مغربية لمعالجة آفات العنصرية والأنانية الفاشية في نفوس كثير من الإسبان على غير ما دعا "أونامونو" إلى ملئ المغرب بساحات الثيران باعتبارها الطريقة السلمية للدخول إليه[35]؟ أترانا ننشط إلى الحوار بمنطق ضرورته لا كماله ونسفه، من ثم، ما زعمه في حقنا هذا الباسكي من أنا لسنا متحضرين ونذهب إلى الحرب كلعب وكمتعة ولا نقبلها كضرورة؟[36]
إليه عنا ما زعمه "أورتيغا" من عدم وجود مفكرين في إفريقيا باستثناء ابن خلدون[37]، فصاحبنا لم يكن يحسن العربية حتى يعرف فكرها في أصوله ومفكريها في منابعهم، ولو حدث أن عرفهم أساء فهمهم (كما صنع مع طه حسين مثلا). ولنذهب إلى الحوار، ولنبادر إليه ونكون عاملا فكريا تحريضيا خطيرا كما كانت بلادنا إلى عهد بريمو دي ريفيرا[38] ولكن بمعنى الدفع بالفكر إلى التفكير واللسان إلى التعبير؟
لكن ما هي أوجه نداء الفكر الإسباني للفكر المغربي؟ وما هي أشكال الاستجابة الممكنة من طرف الفكر المغربي؟
تلك أسئلة نتركها إلى مناسبة أخرى يكون فيها الفكر المغربي قد خطا خطوة أولى نحو الاستماع إلى أصوات أخرى من أصوات الفكر الإنساني، وأخذ مهلة التفكير في دواعي ومقتضيات وكيفيات وموانع وثمار الحوار بين الفكر المغربي والفكر الإسباني.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - انظر نفي أورتيغا إي غاسيت مثلا لإسبانية ابن حزم في تقديمه لترجمة إيميليو غرسية غومز لكتاب طوق الحمامة في:
Ortega y Gasset : Estudios sobre el amor, Alianza Editorial, Madrid, 1984, pags. 231-250.
[2] - راجع الصفحات الخاصة بابن رشد وابن خلدون في:
J.Luis Abellan : Historia critica del pensamiento espanol, Tomo 1, Segunda edicion Espasa Calpe, Madrid, 1988, pags.187-192.
[3] - قد يكون في ذلك بعض الإجحاف في حق مفكرين آخرين كـ"دونوسو كورتيس" مثلا، غير أن الذي يشفع لهم أن أولئك شعروا بها، وفكروا فيها بوضوح وبصفاء، فيما كورتيس جعلها ترسا في دولاب الإمبريالية المسيحية والحضارة الغربية، انظر:
Donoso Cortés : Politica y filosofia de la historia, Doncel, Madrid, 1976.
[4] - هل صحيح أن اللغة القشتالية ورقة حادة لقطع رؤوس "المحمديين" كما ادعى غالدوس في عيطة تطاوين، راجع:
Benito Pérez Galdos : Aita Tettauen, Alianza Editorial, Madrid, 1989, p.72.
[5] - من المناسب هاهنا التساؤل عما إذا كانت لجنة ابن رشد مبادرة سياسية أم فكرية؟
[6] - إحدى المقاربات المقارنة للتجربة الديموقراطية الإسبانية لم تتعرض لأصولها النظرية، راجع:
ـ عبد الحميد البجوقي: رأي آخر في الانتقال الديموقراطي (مقاربة مقارنة)، منشورات دفاتر الشمال، ط1، تطاون، 1998.
[7] - لا بأس من مراجعة أفكارنا حول غياب العلم الوطني في الكتاب الفلسفي المدرسي الإسباني، في مقالنا المنشور بالملحق التربوي لجريدة المنظمة، البيضاء، 21 نوفمبر، 1997.
[8] - لعل الفكر المغربي اطلع على كتاب صدر بالفرنسية عن "غاليمار" عام 1957 بعنوان بانوراما الأفكار المعاصرة وفيه، إلى جانب ثلة من المفكرين الأوروبيين والأسيويين، مفكرون إسبان كـأرانجورين، 1996. J.L.Aranguren (1909) ودورس D’Ors (1882-1953) ولاين إنترالكو Lain Entralgo (1908) ومارانيون G.Maranon (1887-1960) وأورتيغا إي غاسيت وأنامونو وزوبيري Zubiri (1898-1983) فانظره في الترجمة القشتالية لدى:
Gaëtan Picon : Panorama de Las ideas contempraneas, Ed. Guadarrama, Madrid, 1958.
[9] - استعرضنا في بحث قيد النشر بعنوان "هل من وجود لفلسفة إسبانية؟ كيف كان الإسبان يدافعون عن فلسفتهم الوطنية.
[10] - انظر:
J.L.Abellan : Historia critica del pensamiento espanol, 6 tomos, Espasa Calpe, Madrid, 1973-1993.
[11] - انظر: Gustavo Bueno Sanchez : Sobre el concepto de « Historia de la filosofia espanola y la posibilidad de una filosofia espanola », El Basilisco, n°10, 1991, p.3-25.
[12] - انظر: J.L.Abellan : Historia critica del pensamiento espanol, T 12, éd. Espasa Calpe, Madrid, 1988, p34.
[13] - انظر: Julian Marias : Los espanoles, Revista de Occidente, 2. Ed, Madrid, 1963, p.237.
[14] - انظر الطبعة الصادرة بتقديم مانويل فراغا M.Fraga في: A.Canovas del Castillo : Apuntes para la historia de Marruecos, éd. Algazara, Malaga, 1991.
[15] - على الأقل تلك التي جمعت في: D.Cortés : Politica y filosofia de la historia, Doncel. Madrid, 1976.
[16] - هو البحث الذي قدمناه للمؤتمر العالمي الخامس للإيسبانيستاس المنعقد بـ"سأتنافى" بغرناطة. انظر: Mohamed Bilal ACHMAL : (Ecos marroques en la obra de Ortega y Gasset, Apuntes para una posible teoria orteguiana sobre Marruecos), Congreso Internacional de Huspanistas, Santa Fe/Granada, 1999.
[17] - هل حضرت الجمعية الفلسفية المغربية أشغال المؤتمر الفلسفي الإيبيرو أمريكي المنعقد في شريس ومجريط بإسبانيا خلال شتنبر 1998 مثلا؟
[18] - هذا ثمرة استطلاع شخصي قمت به مع جمع غفير منهم في مختلف اللقاءات الإسبانوفية التي حضرتها، ناهيك عن مجموعة من المراسلات الشخصية مع غيرهم، وكلها تجمع على معرفة محدودة إن لم أقل منعدمة بكل ما يتعلق بالشأن الثقافي المغربي. وقد نشرت إلى حد الآن خلاصات الاستطلاع المذكور في حلقتين، انظر:
شذرات عن الثقافة المغربية من الضفة الآخرى، جريدة تطاون العامرة، العدد الأول، شتنبر/أكتوبر، 1999، والعدد الثاني، نوفمبر/دجنبر، 1999.
[19] - هذا رأي "غويتسلو"، انظر مثلا الحوار الذي أجري معه في المجلة المغربية للدراسات الإسبانية، عدد 2/1991، ص45-60.
[20] - لها دلالة عميقة تحذيرات البابا "يوحنا بولس الثاني" من مخاطر بعض تيارات الفكر المعاصر على الحضارة الغربية والعقيدة المسيحية مثل الانتقائية والتاريخانية والعلموية والبراغماتية والعدمية، ومضيه إلى كشف أخطائها وآفاتها على النشاط الفلسفي، انظر:
Carta Enciclica de Juan Pabo II : Fides et Ratio, éd. P.P.C, Madrid, 1998, p.93-98.
[21] - ينفي "مارياس" أن تكون إسبانيا خارج أوروبا ويعتبرها جزءا لا يتحزأ منها وينصرف من ثم إلى شرح الأسباب الكامنة وراء ذلك، انظر: Julian Marias : Cinco Anos de Espana, 3éd. Espasa Calpe, Madrid, 1952, p.43-46.
[22] - Ortega y Gasset : Espana como posibilicad, Obras Completas, t.I, Revista de Occidente, Madrid, 1957, p.138.
[23] - انظر بحث المستعرب الكبير الأستاذ "لومبا"، 1932، الذي قدمه إلى أسبوع الدراسات الوسيطية بـ"إستيا" في: Joaquin Lomba Fuentes : (Aportacion musulmana a la renovacion filosofica del siglo XII), Semana de Estudios Medievales, Estella, 1997, p.135-167.
[24] - هذه دعوة أستاذنا الكبير الدكتور حسن حنفي، فانظرها في كتابه مقدمة في علم الاستغراب، الطبعة الفنية، الدار الفنية، القاهرة، 1991.
[25] - انظر ما يقوله "أورتيغا" بصدد الريف في المصدر السابق، ص172.
[26] - هذا رأي "مارياس" فراجعه في:
Julian Marias : Los espanoles, Revista de Occidente, 2 éd., Madrid, 1963, p.12.
[27] - انظر الدكتور محمد أنقار في: بناء الصورة في الرواية الاستعمارية، صورة المغرب في الرواية الإسبانية، مكتبة الإدريسي للنشر والتوزيع، تطاون، 1994.
[28] - راجع نظراتنا حول الموضوع في دراستنا "من الاختلاف إلى المؤالفة"، مجلة فكر ونقد، العدد 20/1999.
[29] - انظر ذلك لدى: Ortega y Gasset : Obras Completas, II, Revista de Occidente, Madrid, 1957, p.669-687.
[30] - تجد ذلك في: Ortega y Gasset : Estudios sobre el amor, Alianza Editorial, Madrid, 1984.
[31] - هذا ما كتبه مونطافيث عن الأستاذ الجابري فراجعه في: Pedro Martinez Montavez : (Un importante pensador marroqui actual), Saber Leer, n°88, octubre, 1995, p.8-9.
[32] - انظر ملامح المورو لدى غالدوس، مصدر سابق، ص133.
[33] - اطلع على ما يقوله أثانيا (1880-1957) رئيس الحكومة الجمهورية خلال الحرب الأهلية الإسبانية في: Manuel Azana : La revolucion abortada, Obras Completas, t.3, éd. Oasis, México, 1967, p.84.
[34] - انظر ما قاله هذا الفيلسوف الباسكي عن مهمة إسبانيا في المغرب يوم 24 شتنبر 1910 ببلدية شلمنقة بمناسبة مرور مائة سنة على تأسيس "الكورتيس القاديسي" وإعلان دستور قادس المشهور:
Unamuno : Obras Completas IX, Escelicer, Madrid, 1971, p.268-269.
[35] - انظر مقالته المعنونة بـ"الدخول السلمي" ليوم 4 أبريل 1914 في المصدر السابق، ص943-944.
[36] - انظر مقال أونامونو الاستفهامي (أتصنع الحرب الشجعان؟) المنشور في الأمة ليوم 29 دجنبر 1915، مصدر سابق، ص1353.
[37] - هو رأي "أورتيغا" فانظره في مقاله المعنون بـ"ابن خلدون يكشف لنا السر" في:
Ortega y Gasset : Obras Completas II, Revista de Occidente, Madrid, 1957, p.669-687.
[38] - انظر ذلك عند: Julian Marias : (Espana ante la historia y ante si misma), en Historia de Espana, T.XXXIX, Espasa Calpe, Madrid, 1993, p.70.