اللغة غير موجودة في الدماغ
حوار مع سيلفان أورو
ترجمة: محمد وهابي
ع إ: تمثل أحد أكبر المشاريع العلمية للقرن العشرين في اكتشاف بعض القواعد الصورية الأصلية المحددة لكل اللغات، وهذا برنامج نعام تشومسكي. في كتابكم العقل واللغة والمعايير تصرون على موقف يخالف موقف تشومسكي العقلاني المتمثل في الإقرار بوجود قوانين كلية تتحكم في كل اللغات.
س أ: ليس من المستبعد وجود بعض مبادئ التنظيم الكبرى التي تخضع لها كل اللغات. يجب أن تكون اللغة منظمة كي نفهمها. كما أنه ليس من المستبعد وجود رسو بيولوجي للغة. غير أني حاولت أن أبين أن هذا لا يكفي للإحاطة بتنوع الظواهر اللغوية. هناك عدد من الأخطاء في برنامج تشومسكي تعود إلى تكوين سيء في الفلسفة. إن تشومسكي لساني كبير، لكنه ليس فيلسوفا جيدا، فحين يتحدث عن العقلانية يخلطها بفطرية بسيطة. إن العقلانية تؤكد أن المعارف الصحيحة تنتج عن ضرورة منطقية. والتجريبي هو الذي يضطلع بإمكان حدوث وضعنا في العالم. صحيح أن اللغة دعامة العقلنة، غير أن هذا الأمر لا يلزم اللغة بأن تصير شفافة لذاتها وقابلة للاختزال إلى نسق منطقي. هل تخيل لغة تامة وكلية تشتغل وفق قواعد حسابية أمر يصدق؟ لقد أجاب العقلانيون عن هذا السؤال بالإيجاب، وما فعله تشومسكي هو الانضمام إلى الأوتوبيا التقليدية بشكل مبتذل، غير أن الإنجازات الكبرى لفلسفة القرن العشرين في هذا المجال حسمت هذا الأمر بنقضه، لأن اللغة وإن كانت وسيط التفكير فإنها جزء من عالم الاصطناع.
ع إ: ماذا تقصدون بالاصطناع؟
س أ: لقد كانت مساهمة الفيلسوف الأمريكي كوين (W-V-I-Quine) حاسمة في هذا المجال، فهو يدافع عن أطروحتين مهمتين تؤديان بنا إلى تأويل مسألة الاصطناع في اللغة. تدل الأولى على استحالة رسم حد بين حقائق الفعل وحقائق العقل، بين "الأحكام التركيبية" و"الأحكام التحليلية" على حد قول الفلسفة الكلاسيكية، مما يعني أننا غير قادرين في معارفنا على التمييز القطعي بين ما يعود للغة وما يعود للعالم الخارجي. نعلم أن اللغة مغايرة للعالم، ولكننا لا نقدر على تخصيص حد دقيق لذلك.
وتتعلق أطروحة كوين الثانية بما أسماه غموض الترجمة أو تقلب المرجع. لنفسر هذا الأمر بشكل بسيط: إذا وجدتم نفسكم داخل قبيلة تجهلون لغتها، وقال لكم أحد أفرادها كلمة وهو يشير إلى "الخبز"، فستفترضون أن الكلمة التي نطق بها هي "الخبز" لأنه يبدو أن تجربة العالم هي التي تخصص المعنى للكلمة المستعلمة. غير أنه من الممكن أن يكون ذلك الشخص نطق بشيء آخر: "خذ" أو "إنه لي" أو "إنه لذيذ" [..].
بعبارة أخرى، لا يكفي العالم لتثبيت مرجع اللغة. وهذا يعني أننا دائما في مواجهة اللغة بما لا يعوض. هناك على الدوام نوع من التردد في الترجمة، ولسنا أبدا متيقنين من وجود تحديد مطلق للمعنى، وهذا هو اصطناع اللغة.
يدل الاصطناع على أن اللغة موجودة دائما وعلى أننا غير قادرين على جعلها شفافة في ذاتها ولا على جعلها عقلانية كليا. وهذا لا يعني عدم قدرتنا على وصفها وتحديد ضوابطها، لكننا لن نبلغ أبدا تحويلها إلى صياغة عقلانية مجردة من كل ازدواجية.
ع إ: ما هي نتائج هذا المنظور التجريبي من أجل فهم اللغة؟
س أ: إحدى هذه النتائج ما أسميه التصنيف الضمني النحوي، أي أن النحو في وضعية خضوع للغة وليس العكس. فمهما كان النحو غنيا، لا يمكنه التنبؤ بكل أحداث اللغة ولا بكل طرق الكلام لدى المتكلمين.
إن قواعد النحو تنتج لغة اصطناعية غير ملزمة، غير أن هذا لا يحول دون تطور اللغة. فالنحو مجرد أداة أو عارض يمكننا بشكل أو بآخر من وصف جزء من نشاطنا اللغوي وضبطه.
ع إ: حين تتحدثون عن النحو، هل يتعلق الأمر بالنحو الشائع أم بالنحو الصوري عند اللسانيين؟
س أ: ليس هناك اختلاف طبيعي ولا قطيعة جذرية بينهما. يقوم النحو على وجود ضوابط في اللغة، ويتمثل في اكتشاف وحدات اللغة ومنحها قواعد تجمعها. هذه الخطوة تتفاوت درجة دقتها ومعياريتها، ولكن المبدأ واحد.
ع إ: هل يمكن الاستدلال على فكرة التحديد الضمني هذه؟
س أ: ليس هناك استدلال مطلق كما هو الحال بالنسبة للقضية في الرياضيات، ولكن هناك حجج قوية تساندها.
الحجة الأولى: عدم التنبؤ بالتغيرات اللغوية. فلا يوجد أي قانون يسمح بالتنبؤ بمستقبل اللغة. وهذا يعني بالنسبة لواقع اللغة أن خطاباتنا العلمية لا توجد في الوضعية نفسها لحساب الفلكي بالنسبة لمسار أحد النجوم. بل يمكن مقارنتها في أحسن الأحوال بخطابات الاقتصاديين.
المسألة الثانية: كل الأنحاء الموضوعة أصابتها المجاوزة في لحظة معينة بواقع اللغة الحية. فالنحو اللاتيني لا يتلاءم مع اللغات المشتقة عنه.
أخيرا، هناك ظواهر اللاانعكاس التي لم تول العناية اللازمة. يتعلق الأمر بالآتي: إذا ترجمتم نصا من لغة "أ" إلى لغة "ب" ثم إلى لغة "ج"، وأعدتم أخيرا ترجمة النص الذي حصلتم عليه إلى اللغة "أ"، فإنه لا نصيب لكم في إيجاد النص الأصلي. لماذا؟ لأنكم حين تنتقلون من لغة لأخرى تتخذون جملة قرارات حول شكل وحول دلالة الكلمات. وهذه القرارات غير قابلة للانعكاس. يشبه الأمر هنا تقريبا مبدأ الديناميكا الحرارية، حيث لا انعكاس لبعض الظواهر الفيزيائية. أظن أن فكرة اللاانعكاس ضرورية لأنها تدخل الزمانية في اللغة. إن أطروحة التحديد الضمني تتضمن تاريخية واصطناعية اللغة. فاللغة خاضعة للتاريخ وللتطور ولظواهر اللاانعكاس.
ع إ: هل هذا يعني أن اللسانيات محكوم عليها أن تعيش تحت سيادة الاحتمال؟ لأنه برفض فكرة القوانين الكلية، يجب إلغاء كل برنامج موحد للغة وفتح المعرفة اللسانية على تنوع اللغات وعلى المعرفة الموسوعية والتصنيفية للغات.
س أ: ما هي الممارسة التي تقترب منها اللسانيات بشكل أكبر؟ سيقول أحد أتباع تشومسكي إنها الرياضيات طبعا ومعها كل نظرية اللغات الصورية. أما بالنسبة للنظرية التجريبية، فإن اللسانيات تقترب أكثر من البيولوجيا والتاريخ.
نحن قادرون طبعا على رصد التصنيفات وعلى التعميم وملاحظة الضوابط، بيد أنها ضوابط لا تفضي إلى قوانين أو إلى حساب. حين أنتقد العقلانية، أنتقد بشكل معين اختفاء القدرات اللغوية للإنسان في ملكة أعم هي ملكة الحساب.
تقر التجريبية بوجود أنساق منظمة، ولكنها ليست خارج التاريخ. سنكون على خطإ إن قابلنا باختصار شديد التجريبية والعقلانية، وقلنا إن التجريبية لا تؤمن بالأنساق والعقلانية لا تؤمن بالتاريخ. إنها لمفارقة أن نرفض تفسير المعارف الإنسانية بتاريخها في الوقت الذي اكتشف فيه علماء الكونيات أن الكون كله له تاريخ [..] أن تكون تجريبيا اليوم معناه أن تؤكد أن هناك تاريخا للطبيعة كما أن هناك تاريخا لمعارفنا وأنها تعود إلى مجال الثقافة واختراع التقنيات الإدراكية.
ع إ: ما هي ترجمة البرنامج التجريبي بلغة برنامج البحث؟ لقد ارتبط برنامج تشومسكي بتطور الحاسوب وبالرغبة في خلق نوع من البرنامج المولد لكل لغات العالم. أي أمر بالنسبة للبرنامج التجريبي؟
س أ: إن الانتصار للبرنامج التجريبي اليوم معناه الانتصار لبرنامج [خارجي ] يتمثل في التصريح بأن معارفنا لا يمكن تفسيرها إلا بواسطة بنية الدماغ وحدها. نعثر هنا على مسألة وضع الحدود بين الفطري والمكتسب. لنضرب مثلا يتعلق بظهور قوة الحساب عند الإنسان. تدل مجموعة من التجارب اليوم على أن الطفل في شهوره الأولى إذا قدمنا له ثلاثة أشياء عوض خمسة يدرك العدد. هناك من يستنتج من هذا أن القوة الحسابية شيء فطري في الإنسان. أظن أن هذا التأويل مغلوط.
إن الكائن البشري يدرك الترقيم بتلقائية، والحيوانات كذلك: المفروض أن الأسد يعرف أن هناك فرقا بين غزالتين وخمس. غير أن هذا لا يعني أن الحساب كله وكذا الرياضيات تشتق من هذه القوة الأصلية. فلكي تتطور الرياضيات لا بد من انطلاق ثقافة واختراعات وتاريخ. ربما كانت نقطة الانطلاق مسجلة في القدرات الفطرية لدماغنا، ولكن التكنولوجيات الإدراكية –من قبيل الرياضيات واللغات- تولد مع الاختراع ومع الثقافة ومع التاريخ. لقد خضع علم الحساب للمعالجة اليدوية للأحجار. وكان على الإنسان، لكي يظل الحساب موجودا، أن يدرك الترقيم، غير أن الحساب ليس ممارسة فطرية. فإذا بدلت هذا باللغة، ظننت أنها أجهزة تكنولوجية، ظهرت في توسيل الجسم البشري الذي تطور بعد ذلك كثيرا بفعل الكتابة وبتصور قائمة للكلمات، ثم مع تأسيس الأنحاء والمعاجم التي يجب أن تدرك كوسائل تكنولوجية قادرة على إدراك وضبط تواصلنا.
ع إ: إذا كان لا بد من الإقرار بوجود قدرات أصلية مسجلة بالدماغ البشري ينضاف إليها التطور الثقافي، فلم إقامة هذا التقابل الجوهري بين البرنامجين العقلاني والتجريبي؟
س أ: تدل الأعمال الراهنة لبولوجي (Ursula Bellugi) انطلاقا من المرسمة المخية أن مناطق الدماغ نفسها تشتغل سواء حين نتكلم أو حين يعبر الأبكم عن اللغة بالحركات. وهو ما يدفع إلى الظن بتخصيص عصبي للغة مستقل عن المنطقة المادية المشتغلة. أن يكون هناك تخصيص بيولوجي للغة، أظن أن الكل يتفق حول هذا الأمر. ولكن السؤال المطروح يتمثل في الآتي: هل سيساعد ذلك على تفسير اللغة؟
أظن أن برنامج تشومسكي فاسد من هذه الجهة بزعمه أن ذلك يكفي لتفسير اللغة. فمثله كمثل من يظن أن تشريح اليد سيفسر لنا اختراع البيانو والإيقاع. أما بالنسبة للتجريبيين، فإن وجود قيود واحتمالات مسجلة في الطبيعة لا يحول دون الأخذ بفكرة ازدهار التكنولوجيات الإدراكية. أظن أن هناك فعلا برنامجين مختلفين للبحث. يتمثل أحدهما في تسريب اللغة إلى اللغات الصورية أي إلى الرياضيات. ويعد الثاني اللغة مجال اصطناع، وإذن فاللسانيات علم تجريبي. إني أحاول عدم اتخاذ موقف مجزإ بالنسبة لأحد مظاهر النظرية اللسانية. إني أبين بواسطة ما أسميه المجسم المربع للتصديق أن أنماط التصديق قد تميل إلى هذه الجهة أو تلك [..].
ع إ: ما هي في نظركم الرهانات الكبرى للسانيات في المستقبل؟
س أ: أرى أربعة رهانات. أولها نوع من التحدي العلمي يروم تأسيس إعلام قابل للاشتغال على مجموع لغات العالم وعلى أصنافها وتطورها. هناك عمل كبير لوصف اللغات يجب أن ينجز. ففي منطقة الأمازون وحدها هناك أكثر من مائة وأربعين لغة لم توصف بعد!
يقوم الرهان الثاني على التكنولوجيات اللسانية. إن علينا إخضاع أشكال التواصل للآلة من أجل التحكم في التوسع الهائل المعاصر لكمية المعلومات التي تنقلها اللغة [..] كما أننا ملزمون بتطوير المعالجة الآلية للغة، وتقريب معرفة اللغة المكتوبة والكلام من الآلات. وهذا سيسمح بالانتقال مباشرة من الشفهي إلى الكتابي وهو ما ستتولد عنه أرباح إنتاجية جمة. إنها الحدود التكنولوجية للقرن الواحد والعشرين التي تخفي رهانات كبرى اقتصادية وعلمية وكذا رهانات الحضارة. فكما أن اللغات التي لم تسلح بمعاجم وأنحاء أصابها التهميش، سيحدث الشيء نفسه للغات التي لن تستفيد من تجهيز إعلامي، ستفقد بالتدريج أهميتها وأثرها.
يقوم التحدي الثالث على توضيح الجذور البيولوجية والثقافية للغة، وهنا تعارضنا مع الذين يؤكدون وجود جينة اللغة ومع الذين يرون في اللغة إنتاجا ثقافيا.
أما الرهان الرابع فعلاجي أو طبي، إذ يروم تذليل مجموع الأعطاب اللغوية: من تمتمة وعسر قراءة وعي ومشاكل من هذا القبيل.
بينما الرهان الأول يعالجه اللسانيون، فإن الثلاثة الآخرين يفترض إنجازها تنسيقا بين ممارسات مختلفة، فقلما ارتبطت مدارس الأورطوفونيين بالدراسات اللسانية، وهذا شيء يؤسف له. يجب معالجة تلك الرهانات مجتمعة