التواصل والتواصل السياسي

عبد الجليل الأزدي

 

ومجمل القول إن الدراسات التي تدعي الانتساب للسانيات الاجتماعيات لم تنكب على دراسة الأبعاد التواصلية والتفاعلية لاشتغال اللغة في الخطاب السياسي، وارتهنت اهتمامها غالبا في مقاربات معجمية دلالية أو في تحليلات نصية. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، فإن الأبعاد المذكورة لم تتحول إلى موضوع للمعرفة ومجال للدراية إلا في سياق اللسانيات التداولية: وهي مجال معرفي يستثمر معطيات مجالات وعلوم إنسانية مرتبطة بالموضوع مثل علم النفس الاجتماعي، ويمكن قراءة مقترحاته في أفق لساني اجتماعي.

 

تطمح المداخلة الراهنة إلى إلقاء بعض الضوء على مكونات وأنساق التواصل عموما، والتواصل السياسي بصفة خاصة. وغني عن البيان أن أشكال وأنماط وأنساق تبادل الرسائل شديدة التنوع والاختلاف والتباين، بدءا من التواصل اللفظي وصولا إلى التواصل السلكي واللاسلكي، مرورا بجميع أشكال تبادل العلامات والأدلة اللفظية وغير اللفظية. وعلاوة على ذلك، يوجد التواصل في كل مكان وبين جميع الكائنات الحية، وتستعمل فيه أدوات ووسائل وشفرات متعددة، ويستعلن في جميع الممارسات المجتمعية مهما كان المستوى المجتمعي الذي تنتمي إليه: المستوى الاقتصادي، المستوى السياسي، المستوى الإيديولوجي. وأمام هذه التوسيمات الأولية، ينطرح سؤالان نعتقد في أهميتهما الاستثنائية: يقول السؤال الأول، هل يمكن إرجاع جميع أنماط التواصل المتباينة إلى نموذج واحد ووحيد؟ مع العلم أن البحث عن النموذج يتحدد بصفته بحثا عن القوانين والآليات التي تتحكم بجميع أنساق التواصل مهما تعددت وتباينت. والوصول إلى النموذج-القانون معناه في المحصلة النهائية الوصول إلى النظرية: نظرية التواصل تحديدا؛ أما السؤال الثاني فيستفهم حول ما يميز التواصل السياسي عن غيره من أشكال التواصل الأخرى كالتواصل اللغوي العادي، والجسدي والحركي والأدبي والفلسفي والقانوني والسينمائي والمسرحي والإشاري والإذاعي والتلفزي و…الخ. وإن شئنا اقتصاد القول نقول: ما الذي يجعل تواصلا معينا تواصلا سياسيا بحصر المعنى؟

1 ـ معطيات تاريخية:

منذ البدء كان التواصل. لكن البحث فيه وعن أنساقه ونظريته حديث نسبيا ترافق مع وصول الرأسمالية إلى لحظتها الإمبريالية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وعثر على بعض مقدماته ودعائمه في الأبحاث التي أملتها هذه المرحلة على حقلي الفيزياء والرياضيات: حساب الاحتمالات واحتمال الحدث وإمكانيات قياس هذا الاحتمال؛ وهي الأبحاث التي تستعلن في مداخلات أندريه ماركوف ولود فيغ بولتزمان ورالف هارتلي وغيرهم. وقد عرف البحث في التواصل نقلة نوعية في زمن آخر، هو بالتحديد زمن ما قبل الحرب الإمبريالية الثانية، وذلك نتيجة التعاون والشراكة العلمية بين المهتمين بالرياضيات ومهندسي التواصل عبر المسافات. وإذا كان هذا التعاون قد أثمر من جهة أولى مساهمات ذات أهمية في المجالين معا وفي ملاقيهما كذلك، فقد أملى من جهة ثانية النظر في جميع الخصوصيات النظرية التي تسم مجمل أنساق الإشارات والعلامات المستعملة لأغراض تواصلية، سواء من لدن الكائنات الحية أم من قبل الكائنات التقنية. ومع تدشين هذا المجال المعرفي المستجد، انكب منظرو التواصل على التواصل اللساني بمنظور جديد ساهمت في إغنائه كذلك مستجدات الفكر والنظر في حقل اللسانيات الذي عمل من جهته على ترميم أطروحاته وتشذيب تصوراته وتنقيح أدواته المفاهيمية انطلاقا من النماذج التي اقترحها أهل الرياضيات. وبلغة أخرى، إن النماذج التي تم تشييدها في حقل الرياضيات كانت تشي للبحث اللساني، البنياني تحديدا، بحدود تحليلاته وافتقار أجهزته المفاهيمية إلى الدقة المطلوبة، ومن ثم، ينكب على تجديد مفترضاته وأدواته، بل ويندفع لاستكشاف حقول بحث أخرى، وللتعاطي مع إشكالات جديدة، وخاصة ما يهم المعنى وأثر السياق فيه، وما يخص السمات التمييزية وآثار النفل والتشويش، وما يرتبط بالترجمة الآلية وعلم النفس اللغوي واللسانيات الاجتماعية. ونشير هنا استباقا إلى أن اللسانيات الاجتماعية مثلت أحد الحقول المعرفية التي أولت اهتماما ذا طبيعة خاصة للخطاب والتواصل السياسيين.

وإجمالا، لم يصل البحث في التواصل إلى نظريته أو ما يقترب منها، ولم يشيد نماذجه المعروفة والمعدودة إلا بدءا من الأربعينيات، في الولايات المتحدة تحديدا. ويكفي هنا استحضار قانون ويفر-شانون ونظرية معلم الشعريات الحديثة: رومان ياكبسن الذي يعود إليه الفضل –كما سنرى لاحقا- في إضافة مفهوم السياق إلى خطاطة التواصل. وإذا كانت النماذج المبنية في مجال التواصل قد استتبعت كثيرا من التطبيقات في حقول العلوم الإنسانية بأسرها، فقد استفادت بدورا من التطورات السريعة والمتلاحقة التي شهدها حقل السبرنطيقا.

وإذا كان الأمر كذلك في شأن عموم التواصل، فإن الانكباب على التواصل السياسي تخصيصا لم يشهد انطلاقته إلا في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات لما شهدته هذه المرحلة من أحداث جسام (ماي 68، حرب فيتنام وانكسار الإمبريالية الأمريكية وترسانتها العسكرية أمام الطلائع الأولى للمقاتلين الفيتناميين، صعود وانهيار اليسار الجديد، اشتداد وتيرة الحرب الباردة بين الإمبرياليتين الأمريكية والسوفياتية،…الخ). وعلاوة على ذلك، لم يشهد الاهتمام بالتواصل السياسي تطوره النوعي إلا في السنوات العشرين الممتدة من 1970 إلى 1990. وسواء في زمن النشأة والولادة أم في زمن التطور، ارتبط هذا الاهتمام دوما وبكيفية جوهرية باللسانيات ومستجداتها. وفي هذا السياق، يعرف الجميع أن اللسانيات، البنيانية تحديدا، بلغت قمة ازدهارها في الحقل الثقافي الغربي، والفرنسي تخصيصا، أواخر الستينيات وفي مستهل السبعينيات، بصفتها فلسفة التعبير عن فشل اليسار الجديد وفلسفة التكنوقراط. وإذا كان رذاذ هذا الازدهار قد ترامى إلى ساحات معرفية متعددة: الإناسة، الإثنولوجيا، علم الاجتماع، علم النفس، النقد الأدبي، العلوم السياسية، دراسة التشكيلات الاجتماعي والنظرية…الخ، فقد نتج عنه ورافقه كذلك اهتمام متزايد بخطاب نوعي وشديد الخصوصية اختلف الناس في تعميده وتباينوا في تسميته ومقاربته: الخطاب السياسي، التواصل السياسي، لغات السياسي، لغة السياسة، الخطابات السياسية، الخطاب السجالي، الخطاب الصراعي، الخطاب الشقاقي…الخ؛ ومهما تعددت الأسماء يبقى المسمى واحد : شكل خاص من التواصل وممارسة متميزة للغة، تستمد تميزها من شخصية المتكلم (ملك، رئيس، قائد حزبي أو نقابي، برلماني، مستشار، رئيس جماعة،…الخ) ومن المقام-السياق الذي تتم فيه، ومن اللغة الواصفة والمعجم وأشياء أخرى. غير أن اللافت للنظر الارتقاء السريع لهذا الاهتمام إلى مستوى التخصص مع بعض حلقات ومجموعات البحث مثلما تشهد على ذلك "مجموعة البحث في اللسانيات الاجتماعية" بجامعة روان التي ضمت من الأعضاء باحثين متميزين من حجم وعيار ج.ب.مارسيليزي ول.كسيان وب.كاردان إن شئنا ألا نذكر إلا البعض ممن يشهد لهم بباعهم الطويل ومتاعهم الثقيل في التصدي للتواصل السياسي بالمقاربة والتحليل. وفوق ذلك، وصل التخصص في هذا المضمار درجة تتيح القول إن تحليل الخطاب في فرنسا كان على نطاق واسع تحليلا للخطابات السياسية والنقابية. والأمثلة على ذلك كثيرة ولا يسمح المجال بجردها، لذلك. يمكن الاكتفاء بشاهد إن كان الأمر يحتاج إلى شهادة: بعض أعداد مجلة لغات Langages، وبصفة استثنائية: العدد 23 الصادر سنة 1971، والعدد 46 الصادر سنة 1976. وقد نقتصر في المحاكمة للقول إن ارتقاء سؤال الخطاب-التواصل السياسي إلى مرتبة الاختصاص تزامن مع ظهور أسئلة أخرى تطول العتبات والمقدمات والضفاف والدليل والنص والبنية والمضمر والمسكوت عنه، التي ارتقت بدورها إلى مرتبة التخصصات، والتخصص هنا وهناك شكل رفيق صعود رأسمالية الدولة الاحتكارية وبزوغ مفهوم الاختصاص العلمي والمعرفي الضيق وتَسَيُّد المثقف التقني الذي مثل استطالة في حقل الممارسات الثقافية للسياسي التكنوقراطي.

ينضاف إلى السابق أن التطور الذي عرفه تحليل التواصل السياسي على امتداد عشرين سنة 70-90، عثر على دعاماته ضمن التطور الحاصل في اللسانيات وبكيفية خاصة النظريات الوافدة من وراء البحار والتي صادفت في فرنسا طقسا ثقافيا جميلا يغري بالسياحة. غير أن التطور الذي عرفه هذا الحقل في هذه الحقبة بالذات لم يكن تطورا متصلا، بل منفصلا بمعنى ما. إذ في الإمكان –كما يشهد بذلك واقع الحال- التمييز داخل هذا المدى الزمني بين مرحلتين: تمتد الأولى من 1970 إلى 1980، وانكب فيها المشتغلون بالحق على إغناء وإخصاب إشكالية التواصل السياسي استنادا إلى اعتبارات لسانية وتاريخية، وقصروا اهتماماتهم على الكلمات والحديث والتحدث، بمعنى إنتاج الخطاب والعلامة التمييزية للموضوع. وقد استمرت اهتمامات ومشاغل هذه المرحلة حاضرة وسائدة إلى الآن، لا في الحقل الثقافي الغربي والأنكلوسكسوني فحسب، أي في بلدان المركز، وإنما استمرت كذلك حاضرة وسائدة عند محللي اللغة السياسية في بلدان الأطراف والهوامش أي بلدان نمط الإنتاج الثقافي التبعي المشروط بنمط الإنتاج الكولونيالي.

أما المرحلة الثانية: 1981-1990، فقد قدمت مداخلات ومقاربات تزعم الانتساب لشكل من التداوليات، هو تحديدا التداوليات اللسانية أو النصية. ومن ثم، وجهت عنايتها شطر البعد التداولي-الاجتماعي للخطاب السياسي على صعيد سيناريوهاته ورهاناته واستراتيجياته بصدد الوضع القائم والممكن، وبصدد الراهن والآفاق.

لقد سبقت الإشارة إلى أن مشاغل واهتمامات المرحلة الأولى شكلت ولا تزال لحظة مهيمنة في تحليل التواصل السياسي. وفي سياق هذه الهيمنة تتم مقاربة اشتغال اللغة في السياسة انطلاقا مما يراه الباحث كلمات شاهدة في/وعلى مرحلة، أو كلمات جوهرية في لغة حزب أو نقابة أو طائفة أو مؤسسة سياسية أو شخص مسؤول سياسيا ضمن هيئة من الهيئات السياسية. هكذا مثلا تمت مقاربة كلمات مثل: شعب، إضراب، ثورة، تضامن،… في علائقها واستعمالاتها ووظائفها وتواترها وتطورها وقيمتها، بغية استكشاف تميز الخطاب السياسي في ذاته وفي علائقه مع خطابات أخرى. وضمن هذا السياق تتموقع الدراسات التي انكبت على معجم الشيوعيين بين 1920 و1940، وعلى المعجم المتخلل لمنشورات اليسار واليسار الجديد إبان انتفاضة 1968، ومعجم الصحافة الجزائرية خلال ثورة المليون شهيد المجيدة 1954-1961. وفي مدار هذه الدراسات والأبحاث، لا مجال للريب في الدور الطليعي والريادي الذي مارسته أطروحة ج.دوبوا: المعجم السياسي والاجتماعي في فرنسا من 1869 إلى 1872، التي أصبحت منذ صدورها مرجعا لا غنى عنه للمهتمين بالخطاب السياسي. وقد انضافت إليها في العقد الثامن من هذا القرن مجلة كلمات Mots، وهي مجلة "مختبر المعجميات السياسية" بالمدرسة العليا في فونتاي-سان كلود، التي قدمت بين دفتيها مداخلات كبيرة القيمة وعظيمة الأهمية في شأن التواصل السياسي وخصوصيات اشتغال اللغة في سطوره المنطوقة والمكتوبة.

2 ـ نماذج مقترحة:

تمت الإشارة آنفا إلى أن البحث في التواصل يتوخى بلوغ قوانينه وصياغتها في نماذج ونظريات لا تكتفي أو لا يكفيها المستوى الوصفي، وإنما تطمح إلى الإمساك بالآليات التي تتحكم بالتواصل وتشكل القانون المنظم له. والنماذج التي اقترحت متعددة بتعدد المجالات: الرياضيات، الترجمة، اللسانيات، المواصلات السلكية واللاسلكية،…الخ. وقد صيغ معظم هذه النماذج في خطاطات يمكن تقديم البعض منها كالآتي:

أ ـ الخطاطة الرياضية التي تعبر عما يجري داخل جهاز الهاتف:

 

           
  مربع نص: مستقبلمربع نص: مستشفرمربع نص: مظهر
    مربع نص: مرسل   مربع نص: منتخب</p>
<p>مربع نص: ناقل
 

 

 

 

المصدر                                                                                    المرسل إليه

 

 
 

 

 

 

 

                                                   
                         

 

 

 

                                                    التشويش

 

1 = منتَخِب           4 = مستقبِل

2 = ناقِل                    5 = مستشْفِر

3 = مرسِل                       6 = مُظَهِّر

 

ب ـ خطاطة الترجمة وتضيف مفهوم إعادة تشفير الرسالة:

  الرسالة في                  الرسالة                            الرسالة في

المصدر  ----<  المشَفِّر  -------<  المستشْفِر  --------< المرسل إليه

   الشفرة أ                                                        الشفرة ب

 

               قواعد                             قواعد

              الشفرة أ                         الشفرة ب

 

وتبعا لملاحظة أصحاب معجم اللسانيات، فإن المرسل والمرسل إليه في هذا النمط من التواصل لا يتوفران على شفرة واحدة.

ج ـ الخطاطة اللسانية: شيدها رومان ياكبسن عبر إضافة مفهومين: الأول مفهوم السياق أو المرجع الذي قد يكون لفظيا أو قابلا لأن يكون لفظيا؛ والثاني، مفهوم الصلة أي القناة المادية والرابط النفسي بين المرسل والمرسل إليه. وتسمح الصلة بإقامة التواصل والحفاظ عليه وتمديده:

                                        السياق

المرسل ----------- الرسالة ----------- المرسل إليه

                                 الصلة

                                 الشفرة

وفي سبيل امتلاك بعض الوضوح الضروري بخصوص مفهوم السياق من الملائم طرح المشاكل والقضايا المرتبطة به. فالسياق مكون بنيوي جوهري في جميع عمليات التواصل، لكنه معقد، ويبلغ تعقيد مبلغه حين يتعلق الأمر بالتواصل المكتوب، أي عند محاولة تصور سياق النص (أدبي، فلسفي،…الخ). وفي إمكان هذا التصور –في حالة النص الأدبي مثلا- أن يتبع مسارين: المسار الأول يعطي للسياق النصي معنى ضيقا ويومئ إلى المحيط الذي يشكله مجموع النص الأدبي حين دراسة جزء منه. ومعنى هذا أن السياق النصي هنا يبنى بتقسيم النص إلى فصل وأجزاء وأبواب ومقاطع وفقرات. وتبعا لذلك، فإن كل تفسير خارج السياق لا يمكن أن يكون إلا هرطقة. أما المسار الثاني، فيعطي للسياق النصي معنى متسعا مشيرا إلى ما أصبح معروفا تحت مفهوم التناص، أي "نسيج العلاقات التي تقيمها عملية الكتابة- القراءة بين نصوص متوازية أو متعارضة. وهذا التداخل نسبي، مثل عملية القراءة نفسها، طالما أنه يستدعي السياق المجتمعي الثقافي للباث والمتلقي، ويستدعي إيديولوجيتهما".

وتمثل الشروط التاريخية مرجعا آخر وسياقا متميزا. ولأنه غير لفظي وغير لغوي، فإنه يطرح بدوره الكثير من المتاعب والصعوبات التي يقدم القارئ لحلها بعض الفرضيات المرتبطة بالسياق المقامي للكاتب. والسياق هذا يطرح علائق الإنسان بالواقع من منفذ اللغة وعبرها، ومن ثم يشمل رؤيات العالم عند منتجي النصوص وعند أولئك الذين يقومون بتفعيل هذا الإنتاج وتنشيطه من خلال عملية القراءة. وبناء على ذلك، نقتصد القول لنقول بتحيز القراءة وعدم براءتها، أو حسب عبارة عبد الفتاح كيليطو "كل القراءات مغرضة". وهي عامل فاعل وجوهري في إنتاج المعنى ودينامية التدلال. "إن الكتابة والقراءة تسندهما عمليات نفسية غير معروفة بما فيه الكفاية، وتسندهما أيضا عمليات إيديولوجية لا يمكن تجريدها إذا أردنا أن نقدم بصددها كشفا ماديا".

د ـ خطاطة ده صوسير:

        نطق                                                                       سمع

                                         

 

                                          ت = تصور                     

 ت   ص                              ص = صورة                              ت   ص

                                                     

 

 
 

 

 

 

 

 

        سمع                                                                      نطق

 

يمثل هذا المدار المقفل تداول الكلام الإنساني بين متخاطبين: زيد وعمرو. ويرى ده صوسير أن منطلق هذا المدار يوجد في دماغ أحد المتخاطبين حيث توجد وقائع الوعي التي يدعوها: تصورات، والتي يتم ضمها إلى تمثيلات الأدلة اللغوية أو الصور السمعية التي تعبر عنها. كل تصور معطى يثير في الدماغ صورة سمعية مطابقة له، وهذه ظاهرة نفسية، ثم يرسل الدماغ إلى أعضاء النطق ما يتواءم مع الصورة ضمن عملية فيزيولوجية؛ وحينها تنطلق الذبذبات الصوتية من فم زيد إلى أذن عمرو. وفي النهاية، يتبع المدار عند عمرو مسارا عكسيا: من الأذن إلى الدماغ، ومن الصورة السمعية إلى التصور المطابق؛ وإذا نطق عمرو بدوره، فإن سيرورة العملية ستتبع المراحل نفسها التي تم وصفها سابقا. ومن البين أن الدماغ يحتل موقفا مركزيا في العملية برمتها، إذ يلعب في ذات الوقت أدوار المرسل والمستقبل، وفيه تتم عمليات التشفير والاستشفار، وضمنه تختزن الشفرة ومكوناتها وتتسلسل عمليات "البحث في الذاكرة". وبهذه المعاني مجتمعة يشكل الدماغ المحرك الأول أو العقل الفعال بلغة الفلسفة العربية الإسلامية.

3 ـ التواصل: المكونات والنسق العام

يتضح من امتداد السابق أن التواصل انتقال رسالة من باث إلى متلقي يمتلكان معا شفرة ضرورية لنقل هذه الرسالة. والمشاركون في التواصل أو عوامل التواصل تدعوهم النظرية، مكونات عملية التواصل: المصدر، المشفر، المرسل، الصلة، المتلقي، المستشفر، المرسل إليه، البث، الإرسال، التلقي. والتقارب بين دلالات أسماء بعض هذه المكونات لا يعني عدم إمكانية التمييز بينها.

تتضمن الشفرة مجموع قواعد الربط الخاصة بنسق متميز من الأدلة. وبدهي أن اللغات الطبيعية تتوفر على عدد من الصويتات والمورفيمات والقواعد التي تتيح الربط بينها، أي الشفرة مقابل الكلام الذي يأخذ قوامه في الأحاديث المنجزة والمتحققة أو الرسائل (ده صوسير، إميل بنفنست). والشفرة اتفاقية دوما وأبدا، ولا تنجلي إلا عند تحققها الملموس في رسائل. وتتحدد ممكنات كل شفرة في الآتي:

أ ـ يمكن أن تتضمن الشفرة عددا محدودا من الأدلة وقواعد الربط بينها.

ب ـ يمكن أن تكون مكونات الشفرة وقواعد الربط بينها مرتفعة العدد.

ج ـ يمكن أن يتقلص حجم المشتركين في شفرة واحدة ليصل إلى اثنين كحد أدنى.

ويشير مصطلح الصلة إلى الدعامات المادية التي لا يمكن إطلاقا الاستغناء عنها لتنتقل الشفرة من الاحتمال والإمكان إلى التحقق والواقع، أي لتأخذ شكل رسالة. ففي ما يخص التواصل اللفظي أو الإذاعي مثلا، يشكل الهواء دعامة ضرورية، وبالمقابل تشكل الأسلاك صلة مادية في مجال التواصل عبر الهاتف والتلغراف.

أما مصطلح الباث، فينصرف في الأغلب الأعم للدلالة على مصدر الرسالة، أي المكان الذي تتبلر فيه وتشيد. إنه الدماغ البشري تبعا للمدار المقفل الذي بناه ده صوسير كتجريد لعملية التواصل. ويتضمن الباث بمعناه الحصري إواليات تشفير الرسالة وجهاز البث نفسه: جهاز النطق، مكبر الصوت، المذياع.. الخ. والجوهري بخصوص هذا المكون يتمثل في أنه يشكل الموقع الذي تتم فيه عملية التشفير تحديدا: أي عملية انتقاء الأدلة المنتمية للشفرة والربط بينها وإرسالها بعد ذلك في اتجاه المتلقي-المرسل إليه.

وضمن معنى موسع، يدل مصطلح المتلقي على جميع إواليات استقبال الرسالة، أي على ما يسمى جهاز الاستقبال-الاستشفار، الأذن في حال التواصل اللفظي الشفوي، العين في حال التواصل البصري: القراءة واستقبال الأدلة اللفظية وغير اللفظية، الجهاز اللاقط ومكبر الصوت في حال المذياع،.. الخ؛ وعند حصر معنى المتلقي، فإنه يدل على من يستقبل الرسالة: الدماغ البشري حسب أطروحة ده صوسير. وإذا كان الباث-المرسل يستمد قوام جوهره من موقعه في التشفير وانتقاء الأدلة والربط بينها، فإن المتلقي-المرسل إليه يستمد قوامه التام من الدور المركزي الذي يلعبه في عملية حل الشفرة: الاستشفار، إذ هو المسؤول عن عملية "البحث في الذاكرة" عن عناصر الشفرة التي تم توظيفها لنقل الرسالة. وفي إمكانه أن يضطلع من جهته بوظيفة المصدر-الباث-المرسل عن طريق استخدام الصلة نفسها، وهذا تحديدا ما يحصل على صعيد التواصل اللفظي. وعلى صعيد آخر، توجد إمكانية أخرى مختلفة، قوامها نقل رسالة واحدة بِنَسَقٍ مُرَحِّلٍ وبصلات متتالية مختلفة مع ما يستتبعه ذلك من اختلاف على صعيد عمليات التشفير والاستشفار المتلاحقة. والمثال هنا مجموع المواضعات المنظمة لتبادل الأدلة الضوئية والكهربية والصوتية التي تعرف تحت اسم المورس: ذلك أن الرسالة المنتسبة لهذه "اللغة" تبث أدلتها عبر الأسلاك الكهربائية، ويعاد نقلها بأدلة مكتوبة تفك شفرتها ليعاد من جديد تشفيرها في متتاليات صوتية. ونتيجة استثمار عمليات متلاحقة ومتتابعة، يكون احتمال الخطأ واردا. ويبقى هذا الاحتمال واردا كذلك بالرغم من استخدام صلة واحدة. والمقصود بهذا  الاحتمال أن الرسالة التي وقع تشييدها في المصدر لا تصل سليمة وتامة إلى مصبها المقصود. فمن المعروف، تبعا للخطاطة الرياضية في التواصل، أن انحرافات عديدة مرتبطة بخلل في أجهزة الإرسال أو الاستقبال يمكنها أن تتدخل للتشويش على الرسالة وعلى عملية التواصل برمتها. وتطول هذه الانحرافات اللحظات الجوهرية الثلاث: البث والنقل والتلقي، وينجم عنها أحيانا ضياع جزء من الرسالة الذي يترتب عنه بالتالي انقطاع التواصل وعدم تحققه على الوجه المطلوب. وفي أفق امتلاك بعض الوضوح الضروري، من الملائم هنا إلقاء بعض الإضاءات على معنى التشويش والوسائل التي تكتشفه وتصححه. وهو ما يقتضي قبل هذا وذاك إضاءة معنى الخبر والنقل.

4 ـ التشويش ونقصان كمية الخبر ووسائل التصحيح:

يقول معجم اللسانيات إن التشويش في نظرية التواصل هو ضياع للخبر ناتج عن اضطراب في مدار التواصل. ويتوكأ هذا التحديد على تصور نظري لا يرى من معنى للرسالة إلا معناها كمتتالية من الأدلة والعلامات والرموز المتنقلة بين مرسل ومستقبل عبر صلة تشكل الدعامة المادية للتواصل. ومن ثم، تنشغل نظرية التواصل بطائفة من الأسئلة التي تهم عدد الرسائل التي تتيحها شفرة معطاة والزمن الذي يستغرقه التواصل وشرط الفعالية القصوى للبث والإرسال وكمية الخبر المبثوث في علائقه بمصدر البث أو جهاز الإرسال. وتكشف مجمل الإجابات المقترحة أن الدلالة المتداولة لمصطلح الخبر التي تومئ إلى ما تم نقله متباعدة عن المعنى التقني والدقيق لمفهوم الخبر. والأخير قابل للقياس على الصعيد الكمي عن طريق وحدة التعداد بالدقيقة: bit، وهي وحدة تستثمر بكيفية خاصة في التعداد المرتبط بالآلات الإلكترونية. ويقول القياس إن هذه الكمية متغيرة، تبدأ من 50 وحدة في الدقيقة مثلما الأمر في التلغراف، وتصل إلى ستة ملايين وحدة في الدقيقة كما الشأن في الوسائل السمعية البصرية. وقد يتدخل عطب أو خلل أو تشويش يترتب عنه نقصان كمية الخبر وأحيانا انقطاع التواصل. وفي سبيل إيقاف الأعطاب المتحللة لسلسلة البث والإرسال تستخدم طريقتان متكاملتان بمقتضاهما تعدل الرسالة أو تستخدم أدوات وأجهزة اكتشاف العطب وتصحيح الخطأ.

فعلى افتراض أن التواصل تم على ما يرام بين زيد وعمرو، فإن نتيجة ذلك الطبيعية والمنطقية هي تساوي كمية الخبر بينهما. أما إذا كانت الصلة لَجِبَةً ومشوشةً أو بها عطب، فإن الخبر الذي يتلقاه عمرو ينقص في حجمه وكمه عما بثه زيد وأرسله. ومن ثم، يتعين تقويم الصلة والبحث عن الشروط التي تضمن تواصلا تاما يحافظ على الخبر المنقول منذ بدء الإرسال إلى حين الاستقبال. وباللجوء إلى لغة المنطق والرياضيات، يتبين ضمن مستوى أول أن الخبر كم موجب أو سالب يمكن صياغته على النحو التالي:

R(X, Y) = H(X) + H(Y) – H(XY) = H(Y) – H(Y/X).

يشير الحرف (H) إلى كم الخبر المنقول الذي بثه المرسل، وتشير H(X/Y) إلى كم الخبر الشرطي للمرسل. وحين يكون كم الخبر المنقول سالبا تنفصل أو تستقل الكمية المتلقاة (Y) عن الكمية المرسلة (X) ولا يعود بينهما أي ارتباط. أما إذا كان موجبا فإن قانون التساوي هو الذي يسود العلاقة بين (X) و(Y).

ويتبين ضمن مستوى ثان أن للخبر المنقول وظيفة ذات أبعاد مرتبطة بمصدر وصلة البث. وفي حالة وجود الصلة يغدو في الإمكان تبين المصدر أو المصادر التي تتيح أقصى ما يمكن من التواصل، أي تحافظ على الحد الأقصى من الخبر المنقول. وهذه القيمة يدعوها اللسانيون وعلماء التواصل ومنظروه: قدرة الصلة، وهو مفهوم استخلصه أول الأمر س.و. شانون وقام بتأصيله وصياغته في المعادلة التالية:

 

 
 

= C = W  log2

 
 



 

 

 

تدل (W) على قدرة الصلة، و(S) على قوة الدليل المرسل و(N) على قوة وحجم التشويش. وترتبط صلاحية هذه القاعدة بالطابع الاتفاقي لمتوالية الأدلة التي يتم بثها. ويتعين بعد ذلك تحديد الباث الذي ينجز الحد الأقصى، وهو الذي تدعوه النظرية: الباث المتكيف أو المتآلف.

وفي مستوى كشف الأعطاب وتصحيح الأخطاء التي تطول عملية التواصل، يبدو التشفير ذا أهمية كبيرة. ذلك أن الشفرة لا تهتم فقط بوضع الخبر الذي أرسله المصدر ضمن شكل خاص من البث، وإنما تضيف متمما لهذا الخبر، أي أنها تدرج نوعا من النفل- الحشو الذي يوفر إمكانية كشف الخطأ وتصحيحه في بعض الأحيان.

وإذا كانت أجهزة الكشف الإلكترونية متعددة ومعروفة، فإن المكشاف المتميز والأكثر قدرة على إدراك الأخطاء وتداركها وتصحيحها هو دماغ الإنسان مثلما أكدت ذلك أطروحة ده صوسير، وكما يتأكد في مجمل نظريات التواصل. فعند تلقي مكالمة هاتفية، قد يحدث أن تضيع بعض مقاطع المحادثة، والضياع هذا يعوض ويصحح بكيفية لا شعورية في الغالب. وينسحب الأمر نفسه على التواصل المؤجل، أي الكتابة، وهذا ما يتيح استخلاص نتيجة مفادها أن الكلام والكتابة يمثلان معا جهازا للتشفير النافل-الحشوي.

وبعد الإضاءات السابقة لآليات ومكونات وطرائق اشتغال التواصل وأشكال تجاوز التشويش الذي يحتمل أن يطوله في كل لحظة وحين، وكي تتقدم هذه المداخلة قليلا، يمكن إرسال السؤال من جديد حول خصوصية التواصل السياسي والسمات المميزة له والاستراتيجيات الخطابية التي يتوكأ عليها لإنجاز مآربه.

5 ـ التواصل السياسي من المناورة إلى المساومة والتضليل:

يتوكأ التواصل السياسي على لغة يناور بها ويساوم الخصوم والمنافسين ويضلل المخاطبين المستهدفين وله فيها مآرب أخرى. وقد أصبح معروفا منذ مدة أن التواصل اللغوي عموما لا يقوم كنشاط سلمي، بقدر ما ينهض كمجال للتناقضات والصراعات والتوترات وممارسة العنف بكيفية متبادلة؛ كما أصبح متداولا أن ممارسة بعض القواعد واحترام بعض القيود والإرغامات الخطابية يترتب عنهما بكيفية طبيعية، أي ضرورية، التحييد والتهميش والإقصاء والإلغاء. وهذا الذي صار معروفا ومتداولا يطول بحكم البداهة اشتغال اللغة في الحقل السياسي. ذلك أن هذا الأخير يأخذ قوام حقل مكون من متنافسين وتجتاحه باستمرار رهانات قوية على السلطة، علاوة على طبيعته الموسطنة بكيفية كبيرة. وبناء على ذلك، يشكل الحقل السياسي موضوع جميع أشكال الفرجة بمعناها المسرحي. ويكفي هنا استحضار برامج تلفزية من نمط "وجها لوجه" والسجالات السياسية بين المرشحين للرئاسة في الجمهوريات الغربية والعربية وخطب ممثلي الأحزاب السياسية المغربية التي تم بثها في سياق الانتخابات التشريعية الأخيرة، والبث التلفزي لجلسات الأسئلة الشفوية في رحاب مجلس النواب بالمغرب، وهي الجلسات التي تأخذ دائما شكل مسرحية، لكنها غير متقنة. صحيح أن التلفاز، وهو جهاز إيديولوجي بامتياز، يضطلع بمسؤولية جليلة في الانحراف السياسي الذي أدانه وشجبه الفاعلون السياسيون أنفسهم بكيفية دائمة ومنتظمة. لكن لا يقل عن ذلك صحة أننا نعثر هنا على بعض ما يفسر إخفاق المسرح في بلادنا، أو على الأقل محدودية جمهوره، إذ تطغى اللعبة السياسية لتجتاح جميع الحقول، وتستطيل خشبة المسرح البرلماني لتغرق بلعبها المكشوف جل خشبات المسرح، ويتحول المثقفون والفنانون والمنتجون إلى دجالين وفي أحسن الحالات إلى مرتزقة. وكي لا يستغرقنا هذا الأمر، لنعد إلى السطر.

بالعودة إلى السطر يسترسل القول ليقول إن الأدبيات اللسانية المتخصصة في تحليل ومقاربة هذا الإشكال ضئيلة الحضور مقارنة مع الأدبيات التي انشغلت باشتغال الخطاب السياسي على الصعيدين المعجمي والتحدثي. هذا إذا قصرنا النظر في المجال الفرنسي فقط. أما إذا استطال النظر إلى مجالنا الوطني، فلا تخطئ العين ندرة المشتغلين بتحليل الخطاب السياسي، مثلما لا يمكنها أن تخطئ الاختلافات والتباينات على صعيد المنطلقات واستراتيجيات التحليل والمقاربة وعلى مستوى النتائج والخلاصات. ويكفي هنا استحضار مقاربات الأستاذ عبد الرحيم العمري للتواصل السياسي والسيميولوجية السياسية ومقاربة الأستاذ محمد البكري لخطاب الحركة الوطنية المغربية.

والاختلاف في المجالين الفرنسي والوطني لا يمنع من ملاحظة بعض التوجهات التحليلية التي اهتمت في آن واحد بإلقاء الضوء على التواصل السياسي في شموليته وأفعال الخطاب التي يوظفها والاستراتيجيات الخطابية التي يستثمرها سرا وعلانية، كرها أحيانا وأخرى حبا وطواعية. وحين متابعة سطور هذه الدراسات، يمكن تبين القاسم المشترك بينها والثابت البنيوي فيها. ذلك أنها ودون استثناء تقريبا تعتبر التواصل السياسي فضاء سجاليا وحجاجيا وشقاقيا وجداليا، وترى إليه في ذات الحين بصفته إغواء وإغراء، وترتب على ذلك نتيجة تعلن أن التواصل السياسي فضاء للمناورة: ذلك أنه يسعى إلى ممارسة آثاره اتكاء على أساليب ووسائل أبعد ما تكون عن الإقناع وشديدة الانتساب إلى عنف الكلام. فالملتمسات والمقترحات التي يرسلها الخطاب الساسي هي في الحقيقة أوامر مقنعة. وليس نافلا القول هنا إن أهل الحل والعقد أو أهل السياسة أو ببساطة "أصحاب الوقت" هم أهل الأمر والنهي دون منازع. يقود هذا إلى التفكير في أشكال ممارسة العنف الرمزي (بيير بورديو) والسلطة-اللوياثان Léviathan الحاضرة بقوة وقسوة في كل مكان. غير أن هذا لا يشكل موضوع الفكر والنظر هنا. لذلك نرجئه إلى مكان آخر.

وبناء على ما سبق، يتضح أن بعض الباحثين ينزعون في أفق إضاءة آليات ممارسة سياسوية للغة منحرفة بهذا القدر أو ذاك. وفي هذا النزوع لا يكتفون بادعاء الانتساب إلى اللسانيات الاجتماعية فقط، وإنما يزعمون كذلك الانتساب إلى حقول معرفية أخرى تكفي الإحالة عليها برهانا وشاهدا على ملاءمة مقارباتهم واستنتاجاتهم، والحقول المعرفية المقصودة هي: التداوليات والفلسفة الاجتماعية وعلم النفس الاجتماعي.

وفي امتداد هذه المقاربات، يعتبر الخطاب السياسي نموذجا تمثيليا بقوة للخطاب الشقاقي. وبهذه الصفة فهو خطاب يناور ويساوم ويضلل عبر استثمار آليات ووسائل وأدوات تعثر على تجريدها النظري في مصطلح السراتيجيات الخطابية، الذي شكل حجر الزاوية في مقاربة و.وينزديش للتواصل السياسي ضمن كتابه الضربة اللفظية القاضية-التواصل الشقاقي (1987). وقد حاول في مدار هذه المقاربة إلقاء الضوء على مصار ومصير خطاب الخصم في خطاب المنافس، أي شكل حضور خطاب الأول في خطاب الثاني، بما هو حضور يمر عبر تلاوين وتنويعات عديدة من المناورة والتلاعب، من بينها:

1 ـ استعمال الخطاب المنقول المباشر مصحوبا بعبارات مثل: زعم أن، ذهب إلى، تجرأ على الدفاع عن…، وذلك بهدف استبعاد أطروحات الخصم بكيفية مثلى.

2 ـ نفي مقترحات (أوامر) الخصم ودحضها وتفنيدها ونقضها عبر اللجوء إلى مختلف الأشكال والصيغ القمينة بذلك.

3 ـ تقنيع مواقف الخصم عبر إسكات ما لا فائدة فيه أو في معرفته ضمن بعض الشروط، أو عن طريق إفشاء ما يحفيه مضمون خطابه ومنطوقه.

4 ـ السخرية من خطاب الخصم ومواقفه عبر اللجوء في الكتابة إلى المزدوجات وعلامات التعجب أو الحذف أو الاستفهام، وهي أدوات تعبر عن لباقة أنيقة في الهزء والاستهزاء. ويمكن أن تأخذ السخرية شكل "تصنع" أي إدراج خطاب الخصم في الخطاب النقيض دون التصريح بذلك أو إعلانه أو التنبيه عليه، بدعوى الاتفاق بدءا وظاهريا، ولكن بهدف السخرية منه بكيفية نموذجية.

5 ـ تكتمل ترسانة استراتيجيات "الخطاب الشقاقي" بالتصور الهوامي [ انظر معجم مصطلحات التحليل النفسي، لابلانش وبنتاليس ]. ولا يتعلق الأمر هنا فحسب بتفنيد ملتمس أو مقترح (أمر) وإنما تتم مشاهدة مسرحية محبوكة فيها وضمنها تبنى "صورة شيطانية".

ولا يتسم التواصل السياسي بالمناورة فحسب، والتي تتحقق عبر الستراتيجيات السالفة، وإنما يتميز بخصيصة نوعية أخرى، قوامها المساومة. وقد أثارت اهتمام العديد من الباحثين الذين انكبوا على دراسة بعض أفعال اللغة السياحية التي تتمرأى في هيئة نصيحة لكنها في الجوهر مناورة. وضمن هؤلاء أزوالد دوكرو الذي درس من منظور تداولي ظاهرة النصيحة-المناورة في خطاب بثته التلفزة الفرنسية في نهاية حملة جيسكار ديستان الانتخابية سنة 1974، وأثارت انتباهه المتتالية الختامية في هذا الخطاب، وتساءل بصددها مستفهما عن نواياها ومقاصدها الفعلية. يقول جيكسار ديستان:

"أخيرا، أتمنى أن أكون رئيسا ديمقراطيا، أقصد

بذلك أني سأحترم كيفما كانت الحال قرار الاقتراع

العام. لا أمارس عليكم أي تهديد وأية مساومة

أنتم ستختارون وخياركم سأحترمه".

الخطاب هذا يخيف دون أن يهدد وهذا في الوقت نفسه الذي يتظاهر فيه المرشح بعدم ممارسة أي تهديد. ومن الأكيد أن النوايا والمقاصد هنا محيرة ومربكة، غير أن البدهي أنها تستهدف الخصم والمنافس مرشح اليسار السياسي والنقابي فرانسوا ميتران، وذلك لأن أحد القادة النقابيين لاحظ من قبل، ضمن تصريح لافت للأنظار وتم نقده بشدة، أن نجاح اليمين في الانتخابات ستترتب عنه اضطرابات اجتماعية. وبناء على ذلك، يصبح من اليسير في منظور جيسكار ديستان بناء تعارض بين رغبته في ألا يخيف، والموقف الأقل ديمقراطية لمنافسيه الذين يأملون الحصول على الأصوات أو بالأحرى انتزاعها عبر التلويح بالإضرابات والمظاهرات. وهنا تتأتى المهارة القصوى في رفض اللجوء إلى القوة، ومع ذلك يلاحظ مرشح اليمين على صعيد آخر أنه يمتلك هذه القوة، وأن في إمكانه بالتالي استعمالها. وقد أتاح هذا المثال لأزوالد دوكرو توضيح الاختلاف والتمايز بين ما يدعوه أوستين Austin (1962) الفعل الإنجازي والفعل الحالي؛ الفعل الأول، الإنجازي، تمثله واقعة القول بالذات، بمقدار ما يؤثر هذا الفعل على العلاقة بين المرشح والناخبين. وهذا يعني أن القيمة الإنجازية لخطاب المرشح تتوقف على مقام التواصل الانتخابي والعلاقة بين المرشح ومخاطبيه بما فيهم المنافسون السياسيون وقواعدهم الانتخابية؛ أما الفعل الثاني، الحالي Perlocutoir، فيدل على العمل الذي نقوم به ونمارسه دون أن نقوله أو نعلنه بالضرورة. ومن ثم تتبدى المسافة بين الإنجازي والحالي في الاختلاف بين القول والفعل، بين التهديد والإزعاج كما في المثال السابق. إنها استراتيجية لتأثير الثاوية في كل تواصل سياسي والفاعلة جدا لدرجة أنها تشتغل بطريقة ماكرة.

المناورة والمساومة والمكر، تلك هي السمات التمييزية للتواصل السياسي. ويجب أن تضاف إليها سمة أخرى: الدجل والتضليل. وقد بين و.روبول هذه السمة في تحليله للخطاب الإيديولوجي وانطلاقا من أمثلة استعارها من الحقل السياسي. فهو يؤكد تمايز الخطاب الإيديولوجي عن أنماط الخطاب السلطوية الأخرى، مثل الخطاب القانوني والخطاب العسكري، لأنه يصادر الكلام بالكلام دون الإعلان عن ذلك. وفضلا عن ذلك، يتوقف روبول عند أحد أفعال الاستطاعة المميزة للتواصل السياسي، وهو الذي يدعوه أوستين Austin –مثلما سبق الذكر- الفعل الإنجازي. غير أن الخطاب السياسي يستدعي أفعالا إنجازية ذات طبيعة خاصة نوعا ما، ذات طبيعة إيديولوجية تحديدا: إنها تعازيم ورقى تهدف إلى التأثير في مجال لا تستطيع اللغة أن تحرك فيه ساكنا. فعندما يعد مسؤول سياسي بإيجاد مائتي ألف منصب شغل للمعطلين من حملة الشهادات، بالإمكان الرد عليه بما قاله الشاعر: "ليت هندا أنجزتنا ما تعد"، وذلك لأنه لا ينتج إلا فعلا إنجازيا مغلوطا أو مغالطا، أي إيديولوجيا، يوهم بامتلاك القدرة على ما يعبر عنه. ومن ثم، فهو نقيض الفعل الإنجازي الصرف الذي يعبر عن القدرة التي يمتلكها المتحدث.

ومجمل القول إن الدراسات التي تدعي الانتساب للسانيات الاجتماعيات لم تنكب على دراسة الأبعاد التواصلية والتفاعلية لاشتغال اللغة في الخطاب السياسي، وارتهنت اهتمامها غالبا في مقاربات معجمية دلالية أو في تحليلات نصية. هذا من جهة؛ ومن جهة أخرى، فإن الأبعاد المذكورة لم تتحول إلى موضوع للمعرفة ومجال للدراية إلا في سياق اللسانيات التداولية: وهي مجال معرفي يستثمر معطيات مجالات وعلوم إنسانية مرتبطة بالموضوع مثل علم النفس الاجتماعي، ويمكن قراءة مقترحاته في أفق لساني اجتماعي.

ومن الملائم أن نشير أخيرا إلى أن البث التلفزي للمقابلات والمواجهات والحوارات السياسية والفكرية والإيديولوجية بقدر ما له من فائدة شعبية، في إمكانه كذلك أن يفيد الباحثين في مجالات عدة: اللسانيات واللسانيات الاجتماعية وعلم النفس اللغوي وعلم النفس الاجتماعي وتحليل الخطابات واللسانيات التداولية والعلوم الاجتماعية…، والقائمة مفتوحة. وذلك لأن هذه المواجهات تعبر عن رهانات هامة، وتشكل حقلا للملاحظة والتحليل يتسم بغناه وخصوبته، وخاصة بالنسبة للسانيات التواصل الاجتماعية. إذ من المعلوم أن تدبير التفاعل ومراقبة التبادل يُكْتَسَبُ بصراع راقٍ ويُفْقَدُ بقليل أو كثير من الأناقة. ولما كانت السياسة في بعض معانيها هي تدبير الشأن العام، وإذا كانت سلطة الكلام عموما، والسياسي بوجه خاص، مشروطة بموازين القوى المتعددة التي تشكل إطار التفاعل ومقام التواصل، فمن الموائم أن تكف الدراسات المهتمة بالتواصل السياسي عن الاهتمام بالستراتيجيات الخطابية فقط، لتتعرف على الكيفيات التي يدبر بها الخطاب السياسي شأنه الخاص، ولتعترف بجميع العناصر والعوامل الفاعلة في المشهد-الفرجة. وبهذا المعنى، يفترض تحليل التواصل عموما، والسياسي بوجه أخص، النظر إليه وفيه بصفته تشكيلة خطابية تشتغل اجتماعيا وتتحدد بشروط إنتاج كاملة التعيين، وهو ما يحيلها إلى فضاء إشكالي بامتياز حسب عبارة محمد البكري      n

 

هوامش وملاحظات: استفاد هذا العرض كثيرا من الخزانة التالية:

1 – Jean Dubois et autres, la linguistique, Encyclopoche Larousse, Librairie Larousse, Paris, 1977.

2 – Jean Dubois et autres, Dictionnaire de la linguistique, Librairie Larousse, Paris, 1973.

3 – A.J.Greimas, J.Courtes, Sémiotique : Dictionnaire raisonné de la théorie du langage, Classiques, Hachette, Paris, 1979.

4 – Henri Boyer, avec la collaboration de la Gloria Bayo, Eléments de sociolinguistique, Dunod, 1991.

5 – R.Chiglione, Je vous ai compris ou l’analyse des discours politiques, Armand Colin, 1989.

6 – P.Charaudeau, Langage et discours, Hachette, Paris, 1983.

7 – U.Winsdish, Le K.O.Verbal. La communication conflictuelle, L’âge d’homme, 1987.

8 – Langages, n°81, Mars 1986 : « Analyse de discours nouveaux parcours ».

9 – محمد البكري، التحليل اللساني للخطاب السياسي: خطاب الحركة الوطنية المغربية نموذجا، بحث لنيل دبلوم الدراسات العليا، الرباط 1992-1993، كلية الآداب، الرباط، مجلدان، تحت إشراف د.أحمد الإدريسي، وانظر كذلك: محمد البكري، ضمن مجلة فضاءات مستقبلية، الدار البيضاء، العدد الرابع، ماي 1997، صص4-14.

10 – R.Jakobson, « Linguistique et théorie de la communication », dans Essais de linguistique générale, T.1, Ed.Minuit, Paris, 1963, p87-99.

[ترجمة عربية، رومان ياكبسن، (اللسانيات ونظرية التواصل)، تر.عبد الجليل الأزدي، ضمن هذا الملف]

11 – عبد الرحيم العماري، الخطاب والإيديولوجية، سيميائيات الخطاب، المنشورات الجامعية المغاربية، مراكش، ط.1، 1998، الدليل والنسقية، التواصل: المعرفة والسلطة، المطبوعات المغاربية، 1997.

المصدر: http://www.aljabriabed.net/n36_06azdi.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك