حكاية الحداثة حكاية اللا-حكاية

بودومة عبد القادر

 

إذا تقدم الزمن ذات يوم يوم ستغلق أبواب المستقبل فلسوف يسود حاضرا يدي. في الزمن المتناهي للتاريخ في الآن.. يلعب الإنسان حياته الأبدية...

 

أوكتافيو باث Octavio Paz: حداثة الآخر،1987

 

وقلت "لا تحبي رجلا" تسكنه الصحراء ستموتين قهرا مثل رامبو أو ظمأ"!"   تحد،

 

 

أحلام مستغانمي، أكاذيب سمكة، 1993

 

لم يحن بعد الحديث عن النهايات، وعن الأزمة الكارثية، وعن الرجل الأخير في زمن نهاية العالم. ومن الأفضل أن لا نعجل مثل هذا الحديث المتضخم بمقولات رثة، وفضفاضة. ولنترك الحدث مؤجلا، منفتحا على اللانهاية، واللا-انغلاق، على التنوع الذي يتنكر لكل كلام عن التطابق والتماثل، لأن في تأجيله يكمن سرورنا ومرحنا، مرح جسدنا الذي يتوق "حنينا" إلى محايثة أصله الميثولوجي. يحن الجسد إلى الأرض. منذ أن ارتطم بها، يعبر عن حداده بارتدائه لذاكرة جسدية يشتاق إليها باستمرار، قد يزدهر وينتعش عندما يلامس ترابها. لأنه معها فقط يشعر بأنه في حضرة من اشتاق إليه. الأرض هي أصل الجسد، وها هو قابع (الجسد) هنالك بيأس وكآبة، يطلب منها تعريته، من تلك الأسئلة التي سلطت عليه من قبل عالم التشابه والتماثل، عالم العقل والمنطق، عالم الحضارة والنزعة الإنسانية، منبعثة من نظرة مركزية استعلائية. لقد حاصروه وجعلوه مثقلا في تحمله أشياء غريبة عنه، كلما حاول التحليق سقط. فيجد نفسه يعود القهقرى من جديد إلى الذاكرة الجسدية، يفكك رموزها وأبعادها الوجودية، ويشحذ في ذلك كل آليات الحفر والتنقيب والتعرية، لأجل كشف حقيقة الممتنع والممنوع الكلام حوله، الذي يمكث في الصمت، في اللامفكر فيه، يحاصره بشبكات حيكت أنسجتها بصورة صارمة. هذا العقل الذي يعلن انتصاراته على الهامشي والعرضي، لا يمكننا إنقاذه من نزعة التعالي الموشومة فيه إلا عبر خلق وإبداع نص مختلف تتقاطع معه جميع خطوط المسطحات المتولية. يقيم داخلها انفصالات أو انقطاعات. لا يزال العقل ينشر بياناته ويحيك خططه القبيحة ضد كل ما هو مختلف. ويعلن في بياناته الانتصار للنزعة الإنسانية: "إن الإنسان الحديث أكثر عقلانية من الإنسان القديم"[i].

نزعة تتكلم باسم فلان، في مكان فلان. نعتها العقل المركزي الغربي بمفهوم الحداثة Modernité. وها هو يجد نفسه أمام حيرة وورطة التدمير والانحطاط: تمييز عنصري، اللا-تسامح، الحروب، الإرهاب. فهل يبقى لذلك البيان معنى؟

نعتقد أنه أخطأنا عندما جعلنا من مفهوم الحداثة شهادة ميلاد غربية، وأجدني أعتبره مسألة شخصية لا غير. لنقف عند المفهوم بعض الشيء. إن الحداثة هي كم قابل للقياس. حسب اشتقاقه ينحدر من الأصل اللاتيني Modernus –حداثة- ظهر مع نهاية القرن السابع للميلاد، كتعبير عن لحظة انقطاع Rupture مع القديم الروماني، والالتحاق بالفضاء المسيحي الجديد. والجذر Modo يعني القياس Mesure، ومنه جاءت كلمة Récence –حداثة- وفي الأصل تعني الدقة مشكلة انطلاقا من Modus المقياس. إن المفهوم يعكس الحاجة اليومية Le besoin quotidien غير القابلة للتراجع، بل هي تعاقب آنات محدودة أو صيرورة جدلية[2]، قد أفرزت على أية حال زمنيات Temporalité جديدة، فما يميز الحداثة داخل هذا الزمن الغير محدود، واللامتناهي، كونه لا يعرف الاستقرار، دوما حاضر، فهي بعد أن أعطت الامتياز حسب بودريارد Baudrillard.J لبعد التقدم والمستقبل يبدو أنها تختلط أكثر فأكثر مع ما هو راهن Actuel  ومباشر ويومي[3]. مما لا يجعلنا نقف عند فترة زمنية معينة أو محددة لمفهوم الحداثة. فنعتنا نشأتها باعتبارها حكاية بدأت في زمن الأصل. ذلك أن ضبط الحكاية عن الحداثة لا يزال مشوشا، أولا لأنه يصعب ملاءمة ورقة مع ورقة أخرى، ولكن كذلك لأنه كلما أردنا وضع ورقة جديدة إلى جانب بقية الأوراق تمتد عشر أياد أخرى، لتنتزعها منا ولتدرجها هي الأخرى ضمن الحكاية، يريد الكل إيرادها حتى بلغ بنا الأمر أن أفلتت الأوراق من كل جانب حتى كان علينا أن نمسك بها بيدنا وبكوعينا ومرافقنا. وبذلك أخفيناها عمن يريد فهم الحكاية التي كنا بصدد قصها[4]. في البدء كانت الحكاية، حكاية جسد متلاطم على وجه الأرض، امتزجت دماؤه بترابها، فامتنع عن الخصوبة والعطاء. الحداثة حكاية مركزة حول الجسد. لقد اكتشف الإنسان أول ما اكتشف معاني الوجود الكبرى. الحب لحظة بحث متواصل عن الأنثى (الحياة) من قبل الذكر (مصدر الفعل)، ثم عرف الحياة عندما التقى بها بعد فراق وبعاد. رافقته في ذلك العناية الإلهية، القائمة على لفظة المحبة، ثم اكتشف الموت مع مقتل الأخ أخاه، وراح الأب يرثي ابنه بنشيد جنائزي زاد من عمق الهوة بين الجسد والأرض.

إن أولى لحظات الوجود شكلتها مأساة هذا الإنسان، ولن يكون للحداثة أي احتفال إلا من خلال هذه المأساة. تراجيديا الألم المتبوعة باللذة. يحدث هذا عندما يعبر العقل عن لا معقوليته، عندما يصبح العقل محايثا للجنون. ذلك لأن أصل الحداثة مرتبط بالفقد والغياب والموت. القصيدة الأولى تحكي الخراب والتبدل[5]، ما عادت ملامح حدود العالم واضحة، بل لم تعد أصلا تهمنا. لقد استبدلناها بلذة المطاردة. أن أكون تائها، شاردا، باحثا عن أشياء مفارقة لكل اسم علم، لم تزدني الحداثة إلا توهجا وحيرة وتأزما. فما كان من قبل منتظما "صار اللحظة ركاما"، سحابة من الغبار كثيفة، تحجب عني رؤية الوضوح، وفتحت لي منفذا نحو رؤية أخرى، يسودها الاختلاف، عالم نحن من شكلنا ملامحه، عالم حداثي يغدو من الآن ملونا ونحن ملونوه حسب تعبير نيتشه Nietzsche[6].

تبدأ حكاية الحداثة بالنسبة لنا في اللحظة التي يجن فيها الفكر، ويعلن العقل عن لا-معقوليته Irrationalité ، اللحظة التي يتلعثم فيها لساننا، ويتبلبل، وتنفلت من أوراق أجندتنا Agenda، ويتشتت فكرنا، وأجدني أعكس هذه اللحظات في جمالية العمل الفني وروعته Oeuvre d'art الخالدة، لأن مثل هذه الأعمال تقف عند الحياة ونقيضها. إنه لأمر غريب كيف يتوفر الفنانون الكبار في آن واحد على حياة شخصية هشة وصحة مضعضعة في الوقت الذي يحملون فيه الحياة إلى حالة القوة المطلقة أو "الصحة الفائقة"[7]. مع بودلير Baudellaire بدأت حكاية الحداثة في اللحظة التي تتقاطع فيها خطوط هروبية أربعة (إشارة إلى عمله حول رسام الأزمنة الأربعة كوستونتان غوي)، خط يمثل اللا-منتهي non-fini، يلتقي بخط مجزء مرتبط بالفردانية السياسية ويشكل رضى عام، وخط اللا-معنى Insignifiant، أو الفاقد للمعنى، تافه يرفض كل شمولية Totalité، وآخر الخطوط، خط ذاتية العمل الفني المستقل[8]. مع رسام الأزمنة الحديثة، تغدو الحياة حديثة وليس الرسام ولا الفن حسب ميشونيه Meschonie. فالحداثة والحديث ليس بالشيء الواحد، إن الحديث Moderne غريب عندما يشير إلى زمانية محددة، أما مكان الحداثة، فنجده في الحياة نفسها.

الحياة جميلة يقول نيتشه، ويعوزها لحظات جميلة تلك التي يخلقها الشاعر والفنان وكل مبدع. هكذا يمضي، يعدو، يبحث. عما يبحث يا ترى؟ أكيد أن هذا الرجل، كما أرسمه، هذا المتوحد ذو المخيلة الحادة والمسافر عبر الصحراء الكبيرة للبشر، لا يعرف له هدفا هو أسمى مما يصبو إليه، الجوال العادي. هدف هو أسمى من اللذة العابرة الهاربة، التي يوفرها ظرف ما. إنه يبحث عن ذلك الشيء الذي يجوز لنا تسميته بـ"الحداثة"[9]، يمكننا أن نبلغ معه مراتب الوجود، إلى درجة تشاؤمية بودلير Pessimisme، وعدمية نيتشه Nihilisme وكآبة بنجامين Mélancolie، عندها سنكشتف أننا لا نزال في بداية الحكاية، لأننا شعرنا بأنها ليست مجرد دعوة أو خطاب تبشر بالحداثة، وليست –كما يشير علي حرب- مجرد استعراض لما أنجزته الأزمنة الحديثة Temps modernes، بل هي ما نفكر فيه ونصنعه، خلق وإبداع، رحلة واكتشاف، سفر وتنقل، عبر مواقع لا تحددها سوى جغرافيتنا.

لا نختار قدرنا عندما يتعلق الأمر بالحداثة، قد نخسر كل شيء، سنكون معها كالفرسان التائهين الذين لم يتوقف كريتيان دوتري عن رسم خطهم، فرسان ينامون فوق حصانهم متكئين على رمحهم وركابهم، أو الذين لم يعودوا يعرفون اسمهم ولا اتجاههم، ولا يتوقفون بين الانعراج في سيرهم، ويصعدون عربة، أية عربة، لا يهم، يصادفونها، ولو كانت ستمس شرفهم[10]. إنها قوة المغادرة الموطنية للفارس الباحث عن الحداثة يكشف عوالم مختلفة. لا يتوانى للوقوف والمكوث عندها: إذ سرعان ما يعجل بالرحيل، يترك آثارا فقط تملأ تلك المواقع. إنه يتجه نحو عوالم تنتظر مجيئه، إنها حداثة غريبة الحركة، تجعل من حدثها دوما يتجاوز الحديث عن نفسه. الحداثة كما يشير أدونيس Adonis هي مسألة ذات إذا، وليست مسألة تقنية أو مسألة أخرى…،[11] فلقد كان ميكائيل باختين منظرا للخيال الحواري، والكرنفالي، واللاتجانس النصي، ونفس الشيء امتازت به كتابات بورخيس في موسوعته الصينية، وعبر عنها أنس الحاج في أشعاره المملوءة بالحيرة:

كل واحد مني

جزيرة

وصحراء وأخوة أشرار

كل واحد مني واحد

بعمق الماء واستراحة الجنون[12].

ولا يزال مطاع صفدي يحمل مشروع حكاية الجسد الموشوم، المتلاطم حينا والمترابطة والمترامية أعضاؤه حينا آخر في شبكة منسوجة بحبكة صارمة. جسد سريالي، موشوم ومهشم. يحملنا صفدي نحو فهمه وفك أسراره، وتعريته من كل أقنوم، وبيانات الاحتجاج، جسد يحمل رسومات تمثل أصله في حد ذاتها.. لأنه لم يكن يوما منسجما. تضعنا الحكاية أمام لا تحديدات لمفهوم الحداثة، بالإمكان الجيو-إنساني، لأجل محاولة كشف تمظهراتها لا من خلال تراتبية –تصنيفية للأحداث التاريخية والسياسية، حكاية ترسخ فكرة عدم حصول الحداثة على شهادة ميلادها بعد. إنها لا تزال وليدة الضياع والتيه، بين المغادرة الموطنية Déterritorialisation والالتحاق الموطني[13] Réterritorialisation يعيش اللاتموقع، يعيش الشرخ والتمزق في عمقها، لا نمارسها إلا إذا لمسنا أفق الموقف المتأزم، الموقف الكارثي. ففي الأصل كانت الحداثة حكاية، تحكي آدما، لم يكن نبيا فحسب بل كان شاعر "حداثيا"، تجلت حداثته مع أول قصيدة شعرية تشخص راهنية اللحظة المتأزمة، من جراء قتل الأخ أخاه. إن القصيدة الأصلية تبكي هابيل في أبيات تشكل أول نشيد جنائزي. إنهبداية لـ"حداد الكتابة"، هاهو يتكلم في مرثيته بشاعرية مرتبطة بالفقد والغياب والموت قائلا:

تغيرت البلاد ومن عليهــــا    فوجه الأرض مغير قبيـــح[14]

أهابيل  إذا قتلت فإن قلبي    عليك اليوم مكتئب قريــح.

ومارس البابليون حداثتهم في اللحظة التي حدث معها التمزق الألسني، تعدد اللسان، إنها مأساة تبلبل اللسان.. وهكذا يغدو واضحا ذلك المعنى الذي يقدمه أوكتافيو باث للحداثة Octavio Paz، إنه اللا-تحديد non-déterminé: "إننا نلاحقها على الدوام، ونحياها باستمرار عبر استعارات غير مفهومة، ولا يمكننا أبدا بلوغ أفقها. لا مجال للحديث عن النهاية، وإن أي كلام حول النهايات يولد من جديد اللحظة الأولى في الراهن المتقدم، وتغدو الحداثة كالطائر، يسافر إلى أمكنة حيث اللا-مكان. جاءت من كل الأمكنة، غادرت الموقع، وتحاول الالتحاق به"[15]. لكن تأبى إلا أن تعود من جديد نحو التنقل. موقعها هو اللا-تموقع. هذا حال كل من أجبر على مغادرة الموطن. نحاول أن نمسك بالطائر حيا، لكنه يفتح بجناحيه ويختفي كلما حاولنا الإمساك به. إن الحداثة على خلاف ما يفهم من لفظها لا ترابط مواقع الطاولة الملساء Table rase. إنها لا تقف عند حدود الحياة فحسب بل الموت أيضا هدفها، حيث الجرأة والمخاطرة. تجرأ على استعمال عقلك أنت[16]. هذا هو شعار عصر المبادرة، عصر المواقف البطولية Héroïque، زهد لا مفر منه كما يشير بودلير، كل عمل حداثي يقف عند حدود الحياة والموت.

إنها تحاول فهم تناقضاتها الداخلية Intériorité والخارجية Extériorité، فهي تعاود التفكير في ذاتها بذاتها. وبهذا الشكل فرضت نفسها على كل الميادين دون استثناء، واستعصت على الكشف عن كل مكوناتها لحد اللحظة. الحداثة حركة لا رجعة فيها، تبقى ملازمة لنقيضها، إنها الحداثة المسافرة. حركة لا تجد خصوصيتها الناجزة إلا في تناقضاتها، مع ما سبقها ومع ما يقاومها، لا يمكنها أبدا أن تتجلى منسجمة، لها قوة البداهة، والصراحة، والروتين إلا إذا تزاوجت مع نقيضها[17]. ولحظة إذعان النص الحداثي للمهادنة والمصالحة مع المجتمع وانشغالاته يتحول العقل إلى مجرد خاضع، وعندها تتأسس الحداثة كأقنوم، كفكرة شمولية Modernisme حداثوية. وهذا ما حدث فعلا عندما تحول عقل الأزمنة الحديثة من مبدع لحداثة متسامحة إلى موجد لحداثة عنيفة[18]. وتموت الحداثة، ويعلن عن بؤسها حينما تغيب حرقة السؤال حول الهامشي والعرضي وتزول نكهة ولذة الهزل الممزوج بالجد. تغدو الحداثة مؤسسة لعنفها، فإذا كانت في حاجة على الدوام إلى وجود مجتمع تتشكل من خلاله تاريخيتها، فإن بعدها النقدي يسمح لها أن تكون جد متحفظة، وذات حساسية مفرطة، بحكم الارتجاجات التي تتعرض إليها، وما حداثة الأزمنة الحديثة التي انبثقت من تراكمات سوسيو-تاريخية للراهن الأوروبي إلا إنتاجا آخر للحداثة، فهي حداثة حديثة لا غير Modernité moderne، ولم تكن أبدا هي الأصل.

إن الحداثة الموجودة في العالم الغربي لا علاقة لها بالحداثة كما ينبغي أن تكون، إننا لا نأمل شيئا من الحداثة، إنها لا تقدم عطاء، فمعها نكتفي فقط بأن نكون رجالا بدون رسالة محددة نقوم بها في هذا العالم، إلا أننا نبقي على الرغم من ذلك على التفكير والتأمل والاكتشاف، نفكر فيما نراه ونشعر بأنه من الضروري التفكير فيه، حتى وإن أدت أبحاثي إلى التعجيل بالدمار والانهيار حسب هايدغر[19]، تحدوه رغبة جامحة للتدمير والتحطيم كل ممتلكات الحقيقة المقدسة وفضح اللسان لإرغامه بالكلام عن الجسد، بهدف إنتاج المعنى، جسد دون أعضاء، آلة راغبة في لا شيء[20] حقيقي. كل ما يتحرك فيه أساسه السيمولاكر Simulacre. ولا بد أن نعجل بجعله مشرقا. لا نريد أن نحكي سوى حكاية قائمة على ال "لا" Le non: اللا-ذات، اللا-أساس، اللا-قول، واللا-ذاكرة، حيث بالإمكان تمديد هذه المتوالية من اللاءات إلى ما لا نهاية: اللامنطق، اللا-عقل، اللا-حداثة. حداثة مملوءة بتناقضات تمارس الفهم على ذاتها، بطريقة الساخر والهزلي، من أفواه رجال معتوهين ومصابين بمس شيطاني endiablé. ولذلك فإن الكتابة حول حكاية الحداثة تقول أي شيء بالدرجة ذاتها التي لا يمكن قوله؟! وفي الحالتين، القول واللا-قول، تكمن حكاية اللاحكاية، ومثل هذا النوع من الصمت يمتلك نوعا من المشروعية في ميتافيزيقا الحداثة، حيث الكتابة الحرة التي تتطلع إلى اللحظة البطولية القادمة من عالم الضرورة، إذا كان للضرورة من السياق الحداثي في النص المختلف المرابط هنالك أين يعيش الحضور الغياب شوقا لإشراقية الوجود. وما دامت الحداثة مرابطة في هذا اللا-موقع، فإنها تبقى مؤجلة، ونبقي نحن بدورنا على الحكاية عنها، فيصبح معناها لدينا حكاية عن حكاية، ولقد أصبح كما يشير ليوتار (فرانسوا) F.Lyotard الأصل في نهاية الحكاية، حكاية تنتصر للجسد قبل العقل، لأنه بمثابة محور فهم الحكاية، فهم الأصل، فهما تفجيريا لتلك الأقانيم والنفحات الاستعلائية. وإننا بعملنا هذا نكسر تلك الثنائيات التي حاولت فهم مفهوم الحداثة فجعلت منها حداثة فاشلة ومرة حداثة رثة، ومرة حداثة مادية.. وبذلك نؤسس فكر السؤال بامتياز. يستهوينا الاختلاف الذي يقترح استراتيجية للسؤال، كما يتحدث عن مواجهة شرسة لتلك الأسئلة العامة التي تزعزع الإنسان، وهذا هو حال الجسد العربي المعتوه الذي لا يرقى إلى مستوى الإنصات لإيقاع جسده باعتباره جسدا ينطق معاناة اختلاف مكبوت منذ زمن طويل[21].

إلى متى تبقى مشاريعنا الحداثية رهن الأسئلة وأطروحات كليانية شمولية، تحرج محاولات النص المختلف، وتضعه أمام عجز مقين يشل حركة أعضائه. فهل يكفي طرح الأسئلة العامة؟ خاصة تلك التي ألفنا التنصت إليها، أسئلة تحركها النمطية القائمة على انتقائية منحرفة ونسقية دوغمائية، تنغلق على ذاتها. إنها جسم غريب يحاول قلب الطاولة على أولئك الذين يمتهنون الاحتفال بالمفاهيم، وهي بذلك تريد بلوغ أهدافها، لكم هي غريبة تلك الأسئلة التي تصر على الدوام على الرجوع إلى البدايات وهي لم تنطلق بعد، رجوع دون حركة، تنقل دون سفر، التحاق دون مغادرة. إنها أسئلة ترغمنا على البحث في انشغالات الآخرين، انشغالات الأجساد غير-المهضومة، ونهل التفكير فيما نشعر بأنه ضروري بالنسبة لنا، توجه نحونا أسهم السؤال المباشر المحرج، تحاول الإطاحة بالنص الحداثي القائم على الاختلاف والذي يفكر في الحداثة دون أن يضع لها تأسيس، لأنه يرى في التأسيس خيانة لأصل الحكاية. إنه يرمي بأوراق الأحوال المدنية، كل الأوراق الموجودة بداخل أجهزة التماثلات التي تؤرخ للأفكار وتؤرخ على الخصوص لميلاد الحداثة، وتقدم لنا مجانا شهادات وفاتها عبر خطابات تأصيل الأصل، ذلك لأنها حكاية لم تقل كلمتها الأخيرة بعد. إنها تتحدث معنا من وراء الحجاب قائلة لنا: كفوا عن طرح أسئلة والانشغال بمشاريع وهمية، الكل يتحدث عن حداثة مهزومة، وحداثة فاشلة، وحداثة رثة.. يقولون لنا: لا نمتلك حداثة، لأننا لا نمتلك وعيا لذواتنا: "إن الساحة التي انتشرت فيها الحداثة في العالم العربي واسعة جدا، وإذا ما أراد مؤرخ الأفكار أن يدرسها بدقة، فإن عليه أن يعتمد المنهجية التي تأخذ بعين الاعتبار المعطيات التي نجعلها حتى الآن[22]". يا لبؤس المنهجية! تريد أن تجعل منا أجسادا غير مهضومة في نهاية المطاف، كل منهج سرقة، النسق خدعة، يضعنا أمام سرقة عظمى، خدعة السؤال ذلك، الذي يسألنا هل مازلنا خارج الحداثة؟ الحداثة تعم العالم، ونحن نعيش في هذا العالم ونمارسها في عصرنا هذا طواعية، نمارسها بين حدود الانفصال والاتصال، نقيم بداخلها، ونتنفس من الخارج بهوائها.

حداثتنا لا-إقليمية، مارسها امرؤ القيس والمتنبي وأبو نواس والجاحظ وابن رشد والشيرازي وأدونيس وسعد الله ونوس وأنس الحاج وبختي بن عودة.. هم فرسان الحداثة. كل حكى حكايتها من مواقع مختلفة الأبعاد، يدعوننا بدورهم أن نؤسس حداثة خارجة عن كل تعامل مع المقولات والاستعارات ككليات مطلقة أو كأقانيم جرى التعلق بها لذاتها، فالمهم أن نتعامل مع الراهن بصورة جريئة، أن نكون أبطال أنفسنا سواء كنا في الغرب أو الشرق، في الجنوب أو الشمال، في السماء أو الأرض، في الماء أو التراب، مسلمين أو نصرانيين، المهم الإنسان هو الإنسان.

ــــــــــــــــــــــــــ

[i]-Jean-François Dortiers : Les sciences humaines : Panorama : Les connaissances, p40, Ed. Sciences humaines, 1998.

[2]  - Alexis Nouss : La Modernité, p7, Edit, Que sais-je ? 1995.

[3] - محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي: الحداثة، نصوص مختارة، ص63، دار توبقال، 1996.

[4] - أنسالوا كالفينو: قلعة المصائر المتقاطعة، باريس، أفريل 1976، ورد النص بمجلة العالم العربي و البحث العلمي: حسان العرفاوي، (الحداثة وما بعدها)، 1999.

[5] - عبد الفتاح كيليطو: لسان آدم، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، ص29، دار توبقال، 1995.

[6] - فريدريك نيتشه: العلم المرح، ترجمة حسن بورقية ومحمد الناجي، الطبعة الأولى، 1993، إفريقيا الشرق.

[7] - جيل دولوز وكلير بارنييه: حوارات في الفلسفة والأدب، ترجمة عبد الحي أزرقان وأحمد العلمي، ص14، إفريقيا الشرق، 1999.

[8] - Alexis Nouss : La Modernité, p16.

[9]  - Charles Baudellaire : Le peintre de la vie moderne, 1863, Figaro, ترجمة بختي بن عودة، (جان الحداثة)، مجلة التبيين، العدد 5، 1992.

[10] - جيل دولوز، حوارات، ص46.

[11] - تبقى الحداثة مساءلة ذاتية. تحاول الذات أن تطلع باستمرار إلى اللحظة البطولية الأدبية، وهي الشعور بالزمن الجديد. أدونيس يحاول حسم صراع الثنائيات الدائر في ساحتنا حول سؤال الحداثة:

«La modernité n’est ni l’imitation de l’autre ni le refus de l’autre mais plutôt la reconstitution de l’être». Adonis.

[12] - جابر عصفور: هوامش على دفتر التنوير، ص70، ملاحظات حول الحداثة، الطبعة الأولى، 1994.

[13] - ورد المفهومان لدى جيل دولوز: الفلسفة خلق وإبداع المفاهيم ومعنى الالتحاق الموطني أنه الالتحاق المنجز للابتكار الذي يتم باستمرار عبر المحتوى لهذا الحوار أو ذاك.. أما المغادرة الموطنية: إنها التأثير في الأرض، تحرر وتفكك للسنن، ص92.

[14] - عبد الفتاح كيليطو: لسان آدم، ص32.

[15]  - Octavio Paz, dans son discours de stockholm en 1990, in la Modernité, Alexis Nouss, 1995, p3.

[16]  - Michel Foucault : (Was ist Aufkl?rung), in Magazine littéraire, avril 1993, n°309.

[17] - برهان غليون: (الحداثة الرثة)، حوار أجراه حسن شامي، مجلة العالم العربي والبحث العلمي، ص144، سبتمبر 1999.

[18]  - Voir Alain Tourraine : Critique de la modernité, Ed. Fayard, 1994.

وانظر أيضا: الحداثة، نصوص مختارة، محمد سبيلا، ص37.

[19] - عبد الرزاق الدواي: موت الإنسان في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الإنماء العربي، 1993، ص42.

[20] - إشارة من قبل جيل دولوز: ضد أوديب، "إنسان الحداثة يقيم داخل الأسطورة، داخل مصنع مكان ينتج فيه آلات راغبة، يتم فيها إعادة إنتاج الإنسان".

[21] - محمد أركون: (العقل الاستطلاعي، المنبثق وأنواع الحداثة في السياقات العربية-الإسلامية)، مجلة العالم العربي والبحث العلمي، ص49، عدد سبتمبر 1999.

وانظر أيضا: نور الدين أفاية (محمد): الهوية والاختلاف، 1988، ص108.

[22] - انظر محمد أركون: (العقل الاستطلاعي، المنبثق وأنواع الحداثة في السياقات العربية-الإسلامية)، مجلة العالم العربي والبحث العلمي، ص49، عدد سبتمبر 1999.

وانظر أيضا: نور الدين أفاية (محمد)، الهوية والاختلاف، 1988، ص108.

المصدر: http://www.aljabriabed.net/n33_03boudouma.(2).htm

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك