الدّارة الأنطولوجيّة للإسلام السياسيّ

زينب التوجاني

 

بينما تراهن بعض المنظورات على تحوّلات الحركات الإسلاميّة نحو المدنيّة ويضربون مثلا على ذلك الانتقال الديمقراطيّ النّاجح نسبيّا في تونس والذي ساهمت فيه حركة النّهضة ذات الأصول الإخوانيّة في تجربة الحكم وأعلنت بشكل علني أنّها تفصل الدّعوي عن السّياسي ويعتبرون أن المثال التونسي استثناء في محيطه فإنّ الخطاب الدعوي لمنتسبي الجماعات الإسلاميّة التونسيّة مثلا سواء أكانوا من المنتمين إلى حزب النّهضة أو التيّارات الإيديولوجيّة المختلفة، إنّ خطابهم يبدو عاجزا عن مواكبة حقيقيّة عميقة للرّهانات المطلوب تحقيقها حتى يقطع الحزب مع أصوله الإخوانيّة ويضع فصلا حقيقيّا بين الدّعوة الدينيّة والعمل السياسيّ. فالأمر في تصوّرنا سببه عائق بنيوي متعلّق ببنية الأيديولوجيا الإخوانيّة نفسها وببنية المجتمعات المسلمة وهي في جوهرها بنية متخيّلة ولها دارة دلاليّة[1] بسيطة سنحاول شرحها.

إن المثال التّونسي خير دليل على أن بنية إيديولوجيا الأسلمة المغلقة تمثّل عائقا جديّا أمام التّحديث السّياسي والقضائيّ والاجتماعيّ، أي أمام توزيع عادل للقيمة على كلّ الأفراد على أساس المواطنة التامّة. فرغم النّجاح النّسبي لتجربة الانتقال الديمقراطيّ ورغم مرور إسلاميّ تونس بتجربة الحكم واكتشافهم لتناقضاتها وإكراهاتها ورغم مواقف زعيم الحركة التيّ بدت في أكثر من مناسبة متقدّمة حين نقارنها بمواقف إسلاميين آخرين في تجارب مجاورة أو في أزمنة سابقة لنفس الشّخص فإنّ هذا الحزب ذو الخلفيّة الإخوانيّة واجه تحديّا عويصا يتعلّق بموقفه من تقرير لجنة المساواة والحريّات الفرديّة. وعبّر في مناسبتين عن موقفين متناقضين، وكشف عن صعوبة بنيويّة في تقبّل قيم المساواة والحريّات الفرديّة وجاء موقفه الرّسمي بعد اجتماع مجلس الشّورى في صائفة 2018 بعد الإعلان الرّسمي عن تبنيّ الرئاسة لمشروع المساواة يقول: “أن مبادرة المساواة في الميراث فضلا عن تعارضها مع تعاليم الدين ونصوص الدستور ومجلّة الأحوال الشخصيّة، فهي تثير جملة من المخاوف على استقرار الأسرة التونسيّة وعادات المجتمع” وهكذا فإنّ هذا التصريح يكشف نوع البنية الدغمائيّة التي تتحكّم بأيديولوجيا الفاعلين السياسيين المنتمين لهذا الحزب والقواعد التي يتوجّهون إليها بخطابهم، وبذلك يحقّ لنا أن نتساءل أيّة بنية هذه تحول دون التطوّر المنشود في خطاب الإسلامييّن؟ وإذا كان جميع الملاحظين يقرّون أن إسلامي تونس أكثر تقدّما وتطوّرا وتمدّنا وأنّهم بفضل اختلافهم النّسبي عن بقية الإخوان فإنّهم كانوا من بين عوامل نجاح التّوافق السياسي وتجربة الانتقال الديمقراطي فالسؤال هو: الى أي مدى تمثّل أنطولوجيا الإسلام السياسيّ عائقا يحول ضدّ تخلّص الدّعاة من وهم الدولة الدينيّة المثاليّة ووهم تطبيق الشّريعة ووهم الحاكميّة المتعالية الإلهيّة؟ وبأيّ معنى يمكن الحديث حقّا عمّا بعد الإسلام السّياسي؟

أنطولوجيا الحركات الإسلاميّة: مجتمعات الكتاب

أمام مدّ الإيديولوجيّات ذات الأصول الوضعانيّة نشأت في الهند ومصر حركة سياسية اعتمدت على الإسلام لتكون لها شرعية ولتضاهي الحركات المتنافسة من أجل السّلطة ونمط المجتمع على السّاحة العالميّة. لقد أصّل الدّعاة الأوائل مفهوم الحركة الإسلاميّة نفسها من خلال القرآن والسّيرة النبويّة، فتلبست الأبعاد السياسية بالهويّة الدينيّة للمجتمعات المسلمة وازداد نفوذ الصّحوة الإسلامية ولكنّ ذلك التّأصيل كان له وجهان، الوجه الأوّل يشترك فيه الإسلام السياسي مع المؤسّسة الفقهيّة التقليديّة القديمة ومع ما ترسّخ في السنّة الثقافيّة الإسلاميّة والوجه الثّاني فيه انزياح عن تلك المؤسّسة التقليديّة. إنّه من الممكن أن نرى فيما سنعرضه الآن وجهين: الثمرة والداء الذي فيها. فالإسلام السياسي كما سنشرح هو وليد من رحم الإسلام نفسه لكن بإمكاننا القول على حد عبارة عبد الوهاب المؤدب أنّه داؤه ومرضه[2]maladie de l’islam وأن ذلك الداء والمرض تحمله منذ البداية بنيةُ الإسلام المتخيّلة اللامرئيّة وهي في تصوّرنا وكما شرح جلبار دوران بنية أنتروبولوجيّةstructure [3]anthropologique .

وإذا كانت المجتمعات العربيّة الإسلاميّة قد تأسّست حول مركزيّة “الكتاب” فإنّ الدعوة السياسيّة التي استهلّها المودودي وأصّلها تقوم أيضا على مركزيّة “الكتاب” فلا غرابة أن يكتب بعض الدّعاة كتبهم في ظلال هذا الكتاب ولا أن يجعلوه أصل الشرعيّة التي بها تقوم حركتهم السياسيّة وقد عدّد المودودي 6 مبادئ أساسيّة ضروريّة لكلّ داعية لفهم “أصل الكتاب” [4]وهذه المبادئ هي:

  1. الله خالق الكون ومالكه وحاكمه وخالق الإنسان حرّا ومسؤولا وله “نوع من الاستقلاليّة” واستخلفه.
  2. حريّة الإنسان في الأرض مطلقة ولكنّها مقيّدة بعبوديته لله وبالمحاسبة الأخرويّة.
  3. لم يستخلف الله الإنسان إلا بعد تعليمه وتنبيهه ولذلك فإنّ الإنسان مسؤول تماما عن انحرافه.
  4. لم يتدخّل الله في الكون رغم أنّه مالكه وخالقه وتعهّد البشر بالتّذكير وبعث الرّسل للهداية والإنذار المتواصل.
  5. الرّسل الذين بعثوا قاموا بأداء رسائلهم على أفضل وجه لكن تاريخ الإنسان لم يخل من شرّ ونكوص لترك واجب الطّاعة.
  6. الأمّة المحمديّة هي الأمّة النّاجية بفضل الكتاب المقدّس الذي يذكّرها بالآخرة ويفصّل لها التّعاليم وبالتمسّك به تكون النّجاة.

وهذه المبادئ عدّها المودوي “ضروريّة وجديدة” ولكن الباحث المقارن سيجد دون عناء يذكر أنّها مستخلصة من السنّة الثقافيّة الإسلاميّة فنجدها في تفسير الطبري والى اليوم، وللشّافعي بالتحديد دور محوري في تأصيلها فقهيّا فمنذ أوّل كلمات في كتابه الرسالة صنّف الشّافعي النّاس صنفين: صنف بدل وحرّف رسالة الله وصنف ثان حفظ الأمانة، ويشير عنوان كتابه الى فحوى الايديولوجيا الكامنة فيه أي الى انتماء الشّافعي إلى صنف من الناس يواصلون أداء الرسالة ويساهمون بذلك في تاريخ النّجاة الدنيوي والأخروي أساسا لأن الوجود بالنسبة إلى السنيّة الإسلاميّة مرتهن بدلالات الجزاء الأخرويّة. [5] بل لقد اعتُبرت سورة الفاتحة وحدها جامعة لكلّ علوم القرآن واستدلّ بها على هذه الأصول المكوّنة لمفهوم الحاكميّة. فنجد الطبري وهو يفسّر البسملة يؤكّد على أن الله الخالق الحاكم خصّ أمّة محمّد بالذّات برحمته في الدّنيا والآخرة، ونفس هذه المبادئ نجدها تمثّل أصول الملّة في كتاب ملة إبراهيم للمقدسي وفيه يستعيد بنية الثنائية القائمة على قوم فاسدين تركوا الدعوة والرّسالة وقوم ناجين عملوا بها وأطاعوا وفي هذا الكتاب تتأصّل الدعوة في الملّة الإبراهيميّة وتعتبر الدعوة الى التمسّك بالشّريعة والخلافة والحاكميّة أصلا ثابتا واجبا لا تتحقّق النّجاة الأخروية إلا به. ونفس هذه العقائد تقوم عليها كلّ كتابات الحركات الإسلاميّة بكلّ أصنافها ما يسمىّ منها معتدلا والأشدّ عنفا. ويكفي العودة الى ما نشرته داعش في مجلّتها دابق للتأكّد من هذه الملاحظة. فالأمر يتعلّق بهذه البنية المغلقة البسيطة لتمثّل الوجود والتي يمكن تلخيصها في هذه القواعد الكليّة:

  • الكون مخلوق/ الإنسان مخلوق
  • الرب خالق/ حاكم- الإنسان مخلوق/ حاكم في الكون
  • الربّ الأعلى الحاكم/ الإنسان عبد مهما علا شأنه في الكون لا يعلو على ربه
  • الشرّ من خلق الربّ لحكمة خيّرة/ الموت ليس شرّا

يمكن للباحث أن يتصفّح كتب التراث وكتب التفسير وكتب الفقه وكتب الحديث وكتب الفلسفة فهل يعثر بينها على غير هذه الأنطولوجيا مهما اختلفت مناهجها وخلفياتها؟ بمعنى أنّه لن يجد غير منزلة الإنسان المخلوق والربّ الخالق ومنزلة الإنسان الخليفة والعبد أمام ربّه ودلالة الشرّ بما هو مخلوق لحكمة الهيّة وعدالة الربّ المطلقة وقدرته المطلقة وحاكميته المطلقة ودلالة الموت على أنّه عودة إلى الأرض التي منها أخذ اديم الإنسان، وعودة الى المطلق ومحطّة عبور نحو الحياة الأبدية إن في النّار كانت أو الجنة. إن هذه التصوّرات الانطولوجية بنية ثابتة لا فرق فيها بين ما نقلته الأحاديث المروية عن الصّحابة الأوّلين، ولا بين الكتب التي دوّنت في القرون المتأخّرة التي اشتدّت فيها الفتن ولا بين الوهابية ولا الاخوان ولا التنظيمات الإرهابية ولا المسلم البسيط: إن الوجود عند الإنسان المسلم ابتلاء والموت عبور والشرّ حكمة والله له الملك من قبل ومن بعد. وهو يبعث الرسل ويصطفي الأمم النّاجية ويخصّ من رحمهم بذلك وهذا التّأصيل المغلق هو أصل مفهومي الحاكميّة وتطبيق الشريعة. ولأنّ هذه الأنطولوجيا بنية ثابتة لا في خطاب الدّعاة بل في السنّة الثقافيّة نفسها بل هي بنية أنتروبولوجيّة ثابتة في الثقافة الانسانيّة برمّتها -لم تزلزلها في الثقافة الغربيّة سوى نظريّات تفسير الكون على أسس علميّة مغايرة للتفسير الديني ومفهوم النسبيّة- باعتبار ان قصّة الخلق قصّة كونيّة فإنّ لها وجهين: الوظائف النفسيّة والوظائف السياسيّة. أي البعد الفردي والبعد الجماعي.

  • قصّة الخلق والهبوط من الجنّة وتفسير الشرّ والموت:

لا يستقيم للإنسان وجود واستقرار نفسي إلا إذا عرف لم وما الموت؟ وتقدّم الثّقافات للإنسان تفسيرا للوجود وللموت يمثّل استراتيجيّة دفاعيّة لتقبّل موته الخاصّ وموت الذين يتعلّق بهم من أفراد مجتمعه. وبتفسير الموت يمكن أن يحيا الإنسانُ متقبّلا فكرة أنّه مائت لا محالة، وليس الأمر سهلا، ويتعلّق الأمر في جوهره بإيجاد معنى للوجود وتحديدا تفسير عقبتين قاهرتين: الموت والشرّ(الألم/ موت الأطفال/ المرض/ضربات الدهر/ الحروب/ قتل الأخ/ الاعتداء على الحرمات..الخ)، وهما العقبتان الأساسيّتان الأوليان اللّتان تهدّدان منظومة التّوحيد، ذلك أنّ الله الواحد إمّا أن يكون له شريك قد خلق الشرّ ونخرج بذلك عن منظومة التّوحيد أو أنّه لا شريك له وإنّما الشرّ من خلقه، بذلك نبقى داخل التّوحيد لكن نوشك أن ننسب للإله صفة الشرّ والظلم. وبذلك وجدت السنّة الثقافيّة التوحيديّة نفسها منذ البداية مطالبة بتفسير لم خلق الله الشرّ؟ وكيف يمكن أن يكون الله عادلا ويخلق الشرّ في نفس الوقت؟ لقد افترقت الفرق في هذا السؤال ولكنّهم أجمعوا على أنّ الله لا يمكن أن يظلم العباد، فالشرّ مخلوق للابتلاء وبتخطيه يستحق المسلم الثّواب وبالوقوع فيه يستحقّ العقاب. وبذلك فإنّ الشرّ في ذاته ليس شرّا وإنّما هو مرتبط بنتيجته ولا خلاص إلا بالارتباط بالنّواهي والأوامر التيّ بالتقيّد بها ينجو الإنسان من العقاب. ولأجل تحقيق هذه الوظيفة الأنطولوجيّة رسّخت الثّقافة في الإنسان قصّة الجنّة البدئيّة والعقاب. فإذا بقصّة الهبوط من الجنّة عنصر أساسيّ لازم في الدّارة الأنطولوجية، لأنّ تلك القصّة لها وظائف ميثيّة-رمزيّة-نفسيّة:

  • تفسّر أصل الوجود وبدأه: إنّ الإنسان مخلوق/ تنتفي حريّة اختياره لهذا الوضع الأنطولوجيّ
  • تفسّر أصل الشرّ: إنّه ابتلاء في الثّقافة الإسلاميّة والله خالقه على سبيل الابتلاء وباجتيازه يستحقّ الإنسان المسلم الثّواب.
  • تفسّر أصل الحياة: ابتلاء لاستحقاق الثّواب
  • تفسّر أصل الموت: عودة ضروريّة للحساب أمام الله. وليس الموت في الإسلام عقابا بل حلقة من حلقات الوجود المترابطة والتي مآلها المحاسبة الأخرويّة.

خلاصة القول أنّ معنى الوجود في الثّقافة الإسلاميّة معنى جزائي أي الحياة فيه اختبار والإنسان مسؤول ومصيره المحاسبة والله مالك أمر هذا الوجود برمّته وهو واهب الحياة والعدم وهو العادل وهو كذلك ربّ واحد. وعند هذا المستوى يهب الدين معنى للفرد داخل الجماعة ويؤكد له نجاعة البقاء حيا في إطار التسليم بحكمة إلهية تزوده بالمعنى والامل والمسؤولية وتحمل مشاق الحياة على انها تستوجب الثواب على الصبر وتحمل الآلام. فها هنا للدين وظيفة نفسية تسهم في توازن المؤمن وقبوله بالواجب الذي به يندمج في الحياة الاجتماعية. ويمكن اعتبار هذه الدلالات طاقة روحية تشغل القدرات الإبداعية للحضارة البشرية في تأويلها العربي الإسلامي. إنّها المظهر الإيجابي الخلاق للبنية الميثية ولتأويلها الديني والثقافي. وهذا المظهر الرّوحاني كامن في خطاب دعاة الإسلام السياسي وهو عامل جذب للشّعب المسلم.

  • قصّة الخلق والهبوط من الجنّة والوظائف السياسيّة والقضائيّة:

استبطان السّيادة وأصل القانون:

للبنية الميثية- النفسيّة- الرمزيّة وظيفة على المستوى الجماعي تتمثّل في غرس مبدأ السيادة في كلّ فرد وجعله قابلا لتقبّل القوانين التي تنظم علاقاته بغيره وبنفسه. وهنا يمثل الله الحاكم والشّارع وجها للسيادة العليا ويمثّل الخليفة/ السلطان-الملك- الفقيه وجها ثانيا لها. الله فوق في عليائه والملك او الخليفة في الأرض، فسلطة الملك والفقيه مستمدّة من سيادة علويّة إلهيّة تشرّعها عمليّة التأصيل التي تتّم بها سحب القداسة على كلّ المجالين السياسي والقضائي وبذلك نصل إلى نتيجة يقرّها دعاة الإسلام السياسي تتعلّق بوجوب عدم مخالفة الشريعة الإسلاميّة ويقدّمون أنفسهم دعاة الخلافة الإسلامية بوصفها ضامن الميثاق الازلي، لأن الخليفة هو الوجه الثاني الضروري لله في بنية السيادة التي تأسست في المؤسسة الفقهية القديمة، وبذلك يمسي الدعاة بدعوتهم للأحياء حماة الميثاق الإلهي الذي بموجبه تمّ الاستخلاف على أساس الطّاعة والالتزام بالأوامر والنّواهي وحتى إن كانت تلك الأوامر والنّواهي غير محدّدة على وجه دقيق في الكتاب فإنّ ذلك لا يمثّل إشكالا لأنّ الكتاب ليس في تصوّر دعاة الإسلام السياسي مفصّلا لكلّ ما يحدث في حياة الناس بل هو أكثر من ذلك إنّه “كتاب قواعد ومبادئ كلية” [6] وينفي المودودي أن يكون القرآن كتاب قوانين عمليّة تفصيليّة ويؤكّد أنّه إنما يضع المبادئ العامّة التي تُرضي الله فقط، فهنا يفترق الإسلام السياسي عن التأصيل الشّافعي بفرق يتعلّق بحجيّة الكتاب أصلا من أصول التشريع وما تعنيه عند الأصوليين القدامى وما تعنيه عند الدّعاة المحدثين، فكأنّ الكتاب أصلا من أصول التشريع وهي مقولة الشافعي التي رسخت فكرة الله الشارع تمسي مع المودودي مختلفة فالكتاب ليس للتشريع كما يصرّح بذلك وانما هو للهداية وللدعوة وهو بذلك يؤصّل الدعوة إلى الأسلمة كما أصّل الشافعي بمقولة الكتاب أصلا من أصول التشريع أصول الفقه ومهمّة الفقيه والمؤسّسة الفقهيّة.

فهنا انزياح بالغ الدقّة جعل المودودي يقول: “القرآن كتاب دعوة ومنهج وحركة”[7] ويستوقفنا ونحن نقارن بين تأصيل الشّافعي للأصول الفقهيّة من القرآن وتأصيل المودودي للدعوة الإخوانيّة من القرآن عمق الأوّل وعمق المؤسّسة الفقهيّة التي استمدّت من اللّغة وتطوّر علومها ومن الفلسفة وتعريب أمّهات كتبها ومن علم الكلام وتشعّب دقائق مسائله استمدت المؤسّسة الفقهيّة أدواتها لتستنبط هندسة للقانون تكون بمقاييس ذلك العصر الذي لم يعرف بعد ثورة صناعية ولا اكتشافات بيولوجية هائلة ولا طفرة رقمية لقد صنعت المؤسّسة الفقهيّة في ذلك الوقت بعمق شديد نسيجا دقيقا من الشرعيّة القانونيّة بالغة المهارة والدقّة مستجيبة لشروط الابستيميّة من جهة ولشروط العصر التقنيّة من جهة أخرى فكانت ملائمة لحاجات النّاس النفسيّة غير متناقضة معها. ولكن التأصيل الذي قام به المودودي للدعوة من خلال القرآن اقتصر على النّظر السّطحي والحجاج البسيط فربط بين ملاحظة التّنجيم والتكرار الذي عليه آيات القرآن وبيّن أثر ذلك في التأكيد معتبرا أن سرّ التكرار والتّرتيب والتّنجيم كامن في أنّ القرآن كتاب دعوة ومنهج وحركة.

وإن المقارنة بين ما أصّله المودودي وبين ما أقرّه داعية جاء بعده في سياق تقييم هذا الداعية[8] لما قدّمته الحركات الإسلاميّة ولما اعترضها من محن يكشف بوضوح أنّ المودودي وفتحي يكن وسيد قطب وغيرهم كانوا يفكّرون في الاقتداء بأيديولوجيّات قائمة: الماركسية والنازية وحتىّ الثّورة الفرنسيّة وقد قاسوا عليها فحاولوا من خلال القرآن إيجاد أصل للحركة التي سمّوها الحركة الإسلاميّة ونسجوها في الظاهر على مقاس الدعوة المحمديّة وفي الباطن كانوا ينسجونها على مقاس الحركات المنتشرة في عصرهم وقد كانت جميعها حركات نابعة من رحم الفلسفة والوضعيّة والنّقد الجذري للدين لا من رحم الدين كما حاول الدّعاة الأوائل أن يفعلوا. وهاهنا مفارقة الإسلام السياسي الذي لم يعد بهذه المضاهاة مرتبطا بالروحي بقدر ارتباطه بأيديولوجيات ينافسها على الأرض ويستمد شرعية منافستها من روحانية السنة الثقافية المغروسة في الناس. فهنا مكمن الالتباس وأصل الداء.

فإذا بنا أمام هذه البنية الميثيّة الأصيلة التي كانت لها في أصل النشأة غايات رئيسية تتعلّق بحفظ البقاء وتزويد النّاس بالمعنى وتنظيم المجتمع وفق حاكميّة متعالية تمثّل شرعيّة العصر الذي لم يشهد قطيعة معرفية بعد. وإذا بها تتحول نحو خدمة مفهوم جديد يوهم بانه قديم هو هذه الحركة المقتدية بما في عصرها من ايديولوجيات ذات أصول وضعية فتوهم بأنّها تعارضهم على أساس أنّ أصلها سماويّإلهيّ مفارق فيما هي تشترك مع هذه الأيديولوجيات الوضعيّة في بنية لامرئيّة هي بنية أنتروبولوجيّة بالضرورة تكون فيها الدارة الانطولوجية بمثابة المحرك الخفيّ. وإنّه لمحرّك يمكن فصله من بنيته الأصليّة ليوضع في بنية أخرى ويُوظف في غير ما صُنع لأجله.

ويمكن ان نلاحظ الحوار الدائم بين دعاة الإسلام السياسي وبين الفلاسفة وأصحاب التيارات الأيديولوجية الكبرى فليس غريبا ان نجد السيد قطب يحاور في ظلال القرآن ماركس او هتلر وليس غريبا ان نجد هذا التناص الصّامت أو الواضح مع ايديولوجيات هيمنت كالشيوعية والنازية في حين ان الجامع بين بعضها هو الدعايةpropaganda التي تحركها بنى تنتج وهم الحقيقة المطلقة، كتلك التي في الدعوة النازية وتلك التي انفجرت مع داعش فإذا بنا امام هذه البنى الخفية تعمل لصالح إيديولوجيا تدفع بأصحابها إلى الحد الأقصى كالموت من أجل اثبات الانتماء الصّادق لهذه الجماعة المالكة للحقيقة في نظر المنتمي اليها.

إن هذا الحوار الدّائم بين دعاة الإسلام السياسي والايديولوجيات التي في عصرهم تؤكّد أن الإسلام السياسي أمسى مختلفا عن المؤسّسة الفقهية التقليدية وإن كان وليد رحمها وناتجا من داء موجود فيها هو داء الحقيقة المغلقة والثنائية الضدية التي يقوم عليها تصور منزلة الإنسان باعتباره مخلوقا والرب خالقه من عدم والوجودُ هو وبذلك فإنّ الداء في هذه الثنائية الأصليّة التي قامت عليها البنية الأنتروبولوجيّة.

الثنائية الضديّة البسيطة بمثابة السّالب والموجب للدارة الأنطولوجيّة:

إن جوهر الانغلاق الانطولوجي قائم في منزلة المخلوق التي عليها تصوّر الإنسان لنفسه في قصّة الهبوط وهي منزلة خصّت التدين التوحيدي لأنه الزم اجتماع الضدّ في واحد صمد وإن كانت بدورها مشتقة من تصوّرات سابقة قديمة تعبر عنها أساطير الخلق التي تقوم جميعا على طرفين فاعلين متقابلين هما “الخير” والشرّ أو الفوضى والنظام، ونجد جملة من القصص المتعاقبة في تراث العالم تعبر عن ذلك الصراع البدئي حيثما بحثنا وجدناها: عند المصريين القدامى وعند البابليين وفي الحضارة الإيرانية وفي الديانات الهندية واليونانية وكذلك في اليهودية والمسيحية، ويمكن العودة إلى مرسيا إلياد فقد لخص اساطير خلق عديدة ويمكن أن نتبين أن الجامع بينها هو الصراع الثنائي الذي ينتصر فيه النظام الكوني على العدم والفوضى وبذلك ينتصر مبدأ الخلق على مبدأ العدم والله على العدم والخير على الشرّ ويرث المخلوق امانة النظام وامانة الحفاظ على هذا الانتصار البدئي ليكون في صراع دائم ضد قوى الظلام والفوضى والشرّ وهكذا يؤصّل الدعاة أنفسهم ضمن هذا الصّراع الأزلي ضد الشرّ مستمدين من واقعهم السياسي المتردي المتّسم بسقوط حضاري وفوات تاريخي كلّ مبرّرات الخوف والألم الذين يغذيان رهبة الشعور بسقوط أمّة عزيزة في تصوّرهم فاذا بها تكتشف للتو سيطرة غيرها من الأمم على المعارف والنفوذ وأدوات الهيمنة. وهكذا فإن الدعوة تمسي استحضارا لكل أنطولوجيا الصّراع الأزلي ضدّ العدم لفرض هذه الذّات الحزينة البائسة العالقة بين زمن جنّتها المفقودة والجنّة الموعودة لحداثة لم تف بوعودها لأسباب متعدّدة منها عوائقها الأيديولوجية التي تمثل التيارات الإسلامية أحد أهم وجوهها.

في علاج داء الإسلام: لا يجبرك على المرّ إلاّ ما هو أمرّ منه:

إن البنى الأنتروبولوجية بنى ذهنيّة ونفسيّة وهي ثابتة لا تحدث فيها تغييرات إلا على مدى قرون وقرون مثلها مثل الطبقات الجيولوجيّة أو نظام الكون، وهكذا فإن البنى الميثية الكامنة في الثقافة الإسلامية والتي يعبر عنها التأويل الثقافي لقصة كونية هي قصة الخلق والجنة والهبوط وما ينجر عن ذلك التأويل من منزلة للإنسان وغرس لمبدأي الواجب والمسؤولية إن هذه البنى لا تتبدل بين ليلة وضحاها ولا يمكن للمجتمعات أن تستبدل تصورا انطولوجيا بتصور ثان دون أن تحدث هزات هنيفة وحروب وآلام عظيمة. وهو الأمر الذي به يتحرك التاريخ البشري وهو المسار الأنتروبولوجي الطبيعي للكائن الواعي الذي يخزن عبر اللغة والطقوس ومنجزات ابداعه الخلاق آثار قلقه في الوجود وبحثه فيه عن معنى.

وهكذا فإن داء الإسلام لا دواء له إلا الوعي بأن الإسلام منتَج هذه الطاقة الخلاّقة ووليد رحم المسار الذي كان على الإنسان أن يقطعه وهو يختبر الوجود، فيعلي توقه للمطلق ورغبته في الخلود الدائم وحاجته إلى سيادة عليا تكون حكما بينه وبين الغرائز القديمة الكامنة فيه والتي حظرها بيديه حين شرع يبني نظام الثقافة بديلا عن نظام الطبيعة والغاب، فوضع المحرمات الأولى التي أمست مقدسة وأنشأت الدين وطوّرت الشرائع. إن كلّ محاولة لعلاج الحركات الإسلاميّة الباحثة عن تحقيق الأمانة الإلهيّة حسب تصوّرها بإيجاد هذه الأمّة الفاضلة الملتزمة بالطاعة لخالقها الحاكم العادل لا يمكن أن تنجح إذا لم تعالج ذهنيّة الفهم الحرفي لهذه القصص الكونية المؤولة ثقافيا والتي منها تستمد العبادات والطقوس والأنظمة شرعيتها، فعلاج الإسلام من داء الأسلمة والتطرف لا يكون إلا بعلاج المجتمع المسلم نفسه من غيبوبته واغترابه في فهم حرفي لتراث من الرموز الدينيّة-الميثيّة حان الوقت للاعتراف بأنّها نابعة من الإنسان معبّرة عن انفعالاته مسيرة لحياته المدنية وبإمكاننا إيجاد إسلام جديد ما إن يتمّ الاعتراف بحقيقة البعد الرمزي الكامنة في كلّ ما نعتقد أنه حقيقي كالجنّة والنّار والملائكة والجنّ والصراط والزّوج الأوّل والشيطان والشجرة والأرض والسّماء وقصّة الخلق في تصوّرها العجائبي وغير ذلك من مكوّنات المخيال الديني الذي يغذيّ الإسلام السّياسي ومشتقّاته الأكثر دمويّة ويحرّك مارد العنف فيه فليست كلّ تلك الكائنات سوى رموز من خلق الذّهن البشري المبدع وليست كلّ تلك القصص سوى استعارات ذات وظائف وليس التاريخ الذي نعتقد أنّه هو الواقع كما وقع سوى ممكنات سرديّة لما يمكن أن يكون قد وقع أو لم يقع.

لا دواء لأنطولوجيا الإسلام السياسي إلا بالاعتراف بحقيقة أن الإنسان مفتقر بما هو ميّت لمجازات تبقيه حيا. أي بالاعتراف بأن هذه الانطولوجيا مؤسّسة بشريّة ولذلك كلّ ما نحتاج إليه أن نحترم دور هذه البنى والعوالم المتخيلة في تزويدنا بما نحن مفتقرون إليه من معنى دون أن نقع ضحيّة فهم حرفي لها، ويتطلب ذلك بصيرة حضارية تستمد من منجزات الثقافة الإسلامية روحها العظيمة وكبرياءها في معالجة الموت بهذه الحكمة المتعالية على الفرد الواهبة له للصبر أمام الرزايا العظيمة ولكن في نفس الوقت الثقة بقدرات الفرد المبدعة وبأنّه أمل البشريّة وحامل منجزاتها العبقريّة وواهبها البقاء والتجدّد. إن دواء الإسلام الحقيقي كامن في الاعتراف بانّه من صنع الخيال البشري الخلاّق بكلّ ما بيّنا من وظائف سامية.

إنّ الدين أداة من أدوات البقاء ومؤسّسة من مؤسسات المجتمع الخيالية بالمعنى الذي شرحه كاستورياديس بدقة في مؤسّسة المجتمع الخيالية، وبهذه المنزلة يمكننا ان نتحكّم به دائما باعتباره من صنع أيدينا حتى لا نصنع أداة فنمسي ضحاياها تتحكّم بنا وبمصيرنا وتجبرنا على الموت في سبيلها. لقد آن الوقت لتحمّل الحقائق الموجعة ولا يُجبرنا على ضرورة تجرّع هذا الدّواء المرّ الموجع سوى الاغترابُ الأمرّ منه ولا يضعنا أمام هذه المواجهة سوى حقيقة التحولات التاريخية التي تعصف بأسس هذا المجتمع المتخيّلة وتجبره إمّا على التحوّل والـتّأقلم أو التّلاشي في غياهب النّسيان وطيّاته. وهذا الاعتراف هو شرط إمكانيّة الحديث عمّا بعد الإسلام السياسي حقّا ودونه تُمسي المنظورات المتفائلة بتغيّرات الإخوان نحو التمدّن مجرّد آمال أو استراتيجيات سياسيّة لا أكثر ولا أقل.

إنّه بإمكاننا التأكيد أنّ القطيعة الابستيمولوجيّة هي الحلّ.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]لقد استعرنا مفهوم الدارة ودلالتها على البنية البسيطة المغلقة المنفصلة عن المرجع الخارجي من مقال موسوم: الدارة النحويّة البلاغية مقاربة نظرية لتعلمية الألسن، محمد صلاح الدين الشريف، حوليات الجامعة التونسية، 2012، عدد57.

[2]AbdelwahabMeddeb, La maladie de l’islam, Paris, Seuil, 2002

[3]Gilbert Durand,Structures anthropologiques de l’imaginaire,Gilbert Durand, Dunod, 1993.

[4]المودودي، المبادئ الأساسية لفهم القرآن، دار التراث العربي، صص10-11.

[5]انظر الشافعي، الرسالة، مكتبة الحلبي، مصر، تحقيق أحمد شاكر، ط1، 1940، ج1، ص9.

[6]المودودي، المبادئ الأساسية لفهم القرآن، دار التراث العربي، ص34.

[7]المرجع نفسه، ص18

[8]فتحي يكن، مشكلات الدعوة والداعية، مؤسسة الرسالة، 1970، ص18

المصدر: https://www.alawan.org/2020/09/10/%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d8%a7%d8%b1%d...

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك