الخطاب الإصلاحي التربوي بين واقع الأزمة ومسارات التغيير

بلقاسم الزميت

"… إذا أضفنا إلى كل هذا (الوضعيات المادية لرجال التعليم)، تلك الوضعيات الاحتقارية، التي أصبح يعيشها جل رجال التربية والتعليم، نظرا للتراجع المخيف والخطير لمستوياتهم المادية والمعيشية، وما ينتج عن ذلك من تصورات انتقاصية لهؤلاء في الوعي الاجتماعي العام، يعبر عنها العديد من النكث والأمثال والحكايات والطرائف والمستملحات، فإن الوضع يصبح أكثر خطورة وكارثية". مصطفى محسن

 

تقديــم:

نشير، بدءا، كون هذا العرض لا يعدو أن يكون مواكبة بسيطة، للكتاب، كإصدار جديد منخرط في الأسئلة والانشغالات والاهتمامات الآنية. أما القراءة كأفهوم، تبقى بعيدة المنال، باعتبار ما يتطلبه الموقف من تمثل دقيق لمسارات (Processus) ومصارات (Les devenirs) الخطابات الإصلاحية، المتعلقة بالنظام التربوي، على الرغم من كون الأرضية الفكرية والفلسفية والمفاهيمية، المسندة والموجهة للبحث غير غريبة عن نسقنا الثقافي والفكري المغربي، حيث شكلت هذه الأرضية بالنسبة للنقد الأدبي كنموذج، دعامة أساسية لملامسة ومقاربة الأعمال الأدبية والوعي بشروط إنتاجها، لذلك فإن الكتاب في عمقه المفاهيمي والإشكالي (الأزمة وشروط التغيير) يناقش خلفيات معرفية مشتركة لدينا كمنخرطين مباشرين في الواقع التعليمي وما يفرضه هذا الانخراط من وعي بتعالق واندغام، النظام التعليمي، في الوضع العام للمجتمع المغربي، حيث يصير القول بإمكانية انفلاته، والنظر إليه في انعزاليته، أمرا بعيدا عن العلمية، قريبا من الديماغوجية، المبجلة والمسكنة لفعل الأزمة، المنبرز والمعلن لإنوجاده بقوة صارخة. في هذا السياق يأتي هذا الكتاب ليقدم تشخيصا للأزمة، ورسما لمسارات الإصلاحات، وهو كتاب يتشكل من تصدير عام، واستهلال منهجي، وستة مباحث. تليها ملاحق استثنائية، تمكن القارئ من تأطير الكتاب ضمن سياقه الخاص والعام، حيث المراوحة بين هذه الوثائق ومحاور الكتاب مفيدة، مغنية، مجذرة لوعي عميق بحجم الإشكالات المطروحة، بالإضافة إلى كون الكتاب ينفتح على الأوضاع المشابهة والمماثلة لوضعياتنا، في الركن العربي والعالم الثالثي.

 

I – تشخيص الأزمة:

منذ البدء، يؤكد الأستاذ مصطفى محسن على أهمية المنهج في مقاربة القضايا التربوية، وما يستتبع ذلك من تميز بالنظر للمقاربات السائدة، والناهضة على تصورات اختزالية "حيث تفقد بذلك النظرة الشمولية المرومة للواقع المبحوث/المعني، سواء كان ذلك على مستوى الخلفية المعرفية الموجهة، أو تشخيص المشكلات والأزمات والأوضاع أو توصيف البدائل والحلول المقترحة" (نفسه، ص7). في المقابل يصير التحليل الملموس للواقع الملموس في تمظهراته وتجلياته وتعالقاته، موجها للدراسة، مناهضا لتبسيطات مخلة، تقود متبنيها، لتحريفات ممكنة ومنوجدة بحكم المنطلقات والتصورات المعتمدة، لتقوم بذلك، إعادة إنتاج لوضع قائم، لبنيات مأزومة أصلا، وهي في استنساخها لتوجهات مراكز القرار، في استنساخها لأسس نظرية محكومة بواقع مغاير، ومسنودة بخلفية ليبرالية، تسافر خارج واقعها في شموليته، تعانق الوهم حين تعتقد أنها تحفر في عمق الأزمة، تكشف أنها لا تبارح مكانها. "هكذا لم ينتج عن هذه التصورات التقنوية لا معرفة علمية،ولا فهم مطابق للواقع المعني في ارتباطاته وأبعاده الفكرية والحضارية"(مصطفى محسن، ص8). والكتاب يطمح إلى التأكيد على الطابع الإشكالي لقضايا صميمية متعلقة بالإصلاح التربوي في تعالقاته وترابطاته بمستويات لها عمق ثقافي، حضاري، اجتماعي، ذات العلاقة المعقدة، ليصير العبور من التوصيف إلى التفكيك والتحليل أمرا ضروريا، ولتصير الرغبة في تأسيس خطاب نقدي مسنود بمنظور سوسيولوجي أمرا ممكنا وأساسيا، وتبعا لذلك يصير الكتاب رسما لمقدمات ترسم الإطار العام للحفر، للتساؤل، للتأسيس، لتأصيل أسئلة واعية بإشراطات وإلزامات التحول والتغيير. عبر هذه الاستراتيجية يبغي الكتاب مساءلة خطاب الأزمة، حيث نتفق كممارسين تربويين على أن الخطاب التربوي هو خطاب أزمة، على أن وجودنا أزمة، على أن تفكيرنا أزمة، على أن شكلنا وسلوكنا أزمة، على أن انوجاداتنا المهنية كلها محاطة بخطاب الأزمة. في هذا السياق يسعى الكتاب لتأسيس أسئلة محكومة بسؤال مركزي: هل أزمة النظام التربوي هي أزمة  ذاتية أو موضوعية، هل المنظومة التربوية بجميع أنساقها المؤثتة لها هي المأزومة في ذاتها، أم أزمتها ناتجة عن غياب مشروع مجتمعي تنموي متكامل؟ يشكل فيه النظام التربوي حقلا أساسيا مؤثرا ومتأثرا، حيث يؤكد الأستاذ على كون راهن الوضع التربوي معقد ومتشابك بحيث تصير إمكانية الإحاطة به والإلمام بالسياقات المتعددة التي حكمت انوجاده، أمرا يبقى في حدود الطموح. وتبقى مقاربته ضمن إكراهات الأزمة والرغبة في تخطيها وتجاوزها، مقاربة تسعى لتأسيس أسئلة تخترق هذا الخطاب في محدوديته التوصيفية والإجرائية، وما يستتبع ذلك من طرح –ونقيض الطرح- والتركيب، أكثر مما تسعى إلى تقديم معرفة مفصلة لطبيعة الخطاب والشروط المتحكمة في انوجاده.

 

هكذا على مستوى الطرح تصير الأزمة والخطاب المرفق لها، اختلالات تستلزم، فقط، تدابير وإجراءات تتعامل مع القطاع في ذاته، يصير للأزمة، فيه بعد بنيوي وظيفي مفصول عن الشروط التاريخية والفكرية والسياسية والاقتصادية، يصير القطاع التربوي في جزئيته وفي انفصاله عن باقي المكونات البانية للوضع الاجتماعي في كليته، كمن جث عضوا من جسد ليمارس عليه شوفينية المفهوم المستعار، دون النظر إلى ما لهذا العضو من ارتباط. هكذا يسائل الأستاذ مصطفى محسن الخطاب الإصلاحي، بتفكيكه، وتأزيمه ورصد محدودية منطلقاته، حيث يؤكد الأستاذ (على مستوى الطرح النقيض) أن أزمة القطاع التربوي لها طابع متشابك، شمولي، مرهون، محكوم بشروط تاريخية. حيث المبادئ العامة المرسومة بعد الاستقلال (التعميم، المغربة، التوحيد، التعريب) بقيت في حدود المبادئ ولم تشكل إطارا لرسم تقاسيم فلسفة تربوية، بفعل إشراطات سياسية وفكرية واجتماعية. تصير الأزمة أزمة سيرورات وصيرورات. ويؤكد الأستاذ على كون أزمة القطاع التربوي تشكل جزءا من كل، والكل كما فهمناه في كتاب الأستاذ مصطفى محسن ليس مجموع الحقول منظورا إليها كجزر مفصولة عن بعضها، الكل هو مجموع العلاقات والانتظامات والتفاعلات والتعالقات، والتمظهرات والتشابكات… المحكومة بعمق جدلي، والتي ينتظم الكل وفقها ليحقق انسجامه وتماسكه الداخلي. حيث يشير الأستاذ إلى أنه "على عكس الطروحات التقنوية المغرقة في التبسيطية والميكانيكية، نعتقد أن أزمة النظام التربوي(…) هي أزمة مركبة متشابكة العناصر والمكونات"(نفسه، ص23). ويرصد تمظهرات الأزمة عبر النقط التالية، المفصلة في الكتاب: الطابع اللاديمقراطي. بالنظر إلى الفروقات بين القرية والمدينة، بين الجنسين… التباعد بين ما يروجه الحقل التربوي من معارف وبين ما يروجه الحقل الثقافي العام، اللاتطابق بين التكوين ومتطلبات القطاعات الإنتاجية، ضعف المردودية، التبعية لمراكز القرارات الأجنبية والترويج لمفاهيم غالبا ما تكون ملتبسة، الفشل في تأسيس مدرسة وطنية، وضعية التعليم في المجال القروي.

 

ـ مظاهر أزمة التعليم العالي: أزمة البنيات والهياكل التنظيمية، مضامين التعليم والتكوين، أزمة البحث الجامعي، تنامي القطاع الخاص المكرس للامساواة، أزمة الثقافة الجامعية… هذه التمظهرات توجد كلها مفصلة ومحكومة بأسئلة جوهرية، بين دفتي الكتاب.

 

أما فيما يتعلق بعواقب هذه التمظهرات التي ينعتها بالمأزمية، فهو يؤكد على أن سمات المواطن المراد بناؤها غير واضحة، ويتساءل حول طبيعة العلاقة المستهدفة بين التربوي والاقتصادي، وينصص على الانفصال الواقع بين المدرسة وقطاع الإنتاج، حيث لم تعد المدرسة تشكل برستيجا، ترقيا، استثمارا، حظوة اجتماعية، صارت تفرخ البطالة وتستنزف الأسر، ويشير إلى كون الخطاب الإصلاحي في بعض جوانبه لا يخفي كون النظام التربوي هو نظام استهلاكي. ويتساءل حول ما يحيط من غموض بالطرح المغلف "بعدم المجانية"، يشير إلى التحول الذي طال النسق القيمي، صار نسقا رديئا، أمام تراجع قيم العلم والثقافة والفن… وما يرافقها من مسلكيات وأخلاقيات… دفع في أفق تجذير قيم المال والوجاهة، وما يرافقها من مسلكيات وأخلاقيات أقل ما يقال عنها أنها غارقة في التوحش والتخلف. على المستوى التربوي استفحال ظاهرة الأمية حيث النظام التربوي عبر مساره لم يتمكن من تقليص نسبة الأمية في شكلها التقليدي (قراءة-كتابة)، انعكاس الأزمة على وضعية المسألة الشبابية التي تعاني من اختلالات نفسية، اجتماعية، اقتصادية، ثقافية، ناتجة عن إحباط عام، غالبا ما يؤدي إلى انحرافات، "مشكلين في الآن ذاته قنابل موقوتة، قابلة إما للاستغلال الإيديولوجي والسياسي، وإما للانفجار، أو التفجر حسب الظروف والملابسات" (مصطفى محسن). وأتذكر في هذا السياق قولة نافذة (للصافي سعدي/تونس)، في مقال له حول وحدة المغرب العربي المنشور ضمن الأعداد الأخيرة من منتصف شهر مارس الأخير، بجريدة الزمان (الصادرة بلندن)، أن "التنبؤ بسنوات الظلام لن يعود نذير شؤم ينطق به المجانين، وإنما هو صرخة عاقل في وادي المجانين". ويصل الأستاذ مصطفى محسن عبر رصده لعواقب الأزمة، إلى أنه، إذا كانت مشاكل النظام التربوي شمولية، فعواقبه وتبعاته شمولية.

 

II – مسارات التجاوز والتغيير:

يشير الأستاذ محسن إلى كون مفهوم الإصلاح يتعالق مع مجموعة من المفاهيم، مثل التجديد التربوي، التطوير، الإنماء التربوي، التغيير التربوي، الثورة-التحول… ويرى أنها توظف غالبا في الخطاب دون مراعاة لقوتها وإمكاناتها الإجرائية، والخطاب الإصلاحي لدى مصطفى محسن يدمج كل هذه المفاهيم المتداولة ويتجاوزها، هو لديه إصلاح كلي شامل للنظام المجتمعي في عمومياته وتعالقاته وتفاعلاته، لا التناول الجزئي للقطاع في فرادته، وهو خطاب يرتبط بالآن ويتمازج معه، ويتجاوزه إلى طرح افتراضات مستقبلية، وهو بذلك يتجاوز البنيوية الوظيفية ذات المرجعية الليبرالية الهادفة إلى تذويب كل أشكال الصراع الطبقي، والترويج للتصالح والتآزر والتسامح.. وهي بذلك تسعى إلى إنتاج وإعادة إنتاج نفس البنيات حتى تضمن وفاء دول العالم الثالثي لمنطلقاتها وأرضيتها الفكرية المبنية على الاستغلال والاستنزاف، وهي بذلك لا تنظر إلى ما للحقول المحيطة من تأثير متبادل. في هذا السياق يصير هذا الخطاب، منظورا إليه من قبل مصطفى محسن باعتباره ترقيعا، ترتيقا، محافظا على بنياته المأزومة، يكرس الوضع أكثر مما يسعى إلى إدراك عمقه لكونه ملجما بأطره المرجعية ومسيجا بأدواته المفاهيمية، تدفعه إلى المعالجة الجزئية والتبسيطية، والنظر إلى الجزء في انعزاليته. على العكس من ذلك يعتبر الطرح النقدي كبديل عن الطرح الوظيفي البنيوي في تأكيده على المعالجة الشمولية، في اعتبار الكل في كليته، في ديناميته، في انتظاماته وتعالقاته؛ وهو طرح يؤكد على ضرورة الابتعاد عن التعميمات والشعارات المستنفذة، حيث التنمية الشمولية تستدعي ملاءمة في الإيقاع بين الحقل التربوي والحقل الاقتصادي وباقي الحقول. وعبر هذا المنظور النقدي يطرح المستلزمات الضرورية للإصلاح، حيث يؤكد على "أن الإصلاح التربوي الذي يطمح إلى أن يكون عقلانيا وإيجابيا يفرض ضرورة الانطلاق من التحديد الدقيق للأزمة التربوية القائمة، ومن المعرفة العلمية الكافية لأسبابها، ومكوناتها وتجلياتها، وامتداداتها" (نفسه، ص71). وتبعا لذلك التأكيد على إلزامية المعرفة الدقيقة للنظام التعليمي في شموليته، التأكيد على ضرورة دعم البحث العلمي وإعادة النظر في العوائق اللاجمة له. باعتبار أن القرار السياسي  لا يمكنه إلا أن يستند على أسس ونتائج البحث حيث الدعوة إلى تجنب تصريف قرارات تربوية تهدر الجهد والمال لأنها لا تمتلك تصورات دقيقة وشمولية، حيث ضرورة النظر إلى النظام التربوي في كليته لا كجزر منفصلة عن بعضها بل كحقول مترابطة ومتعالقة. التأكيد على كون فشل الإصلاحات التربوية في المجتمعات العربية والثالثية، عائد إلى كونها غير نابعة من حاجات واختيارات داخلية، وإنما هي ناتجة عن إكراهات خارجية. التأكيد من قبل الأستاذ مصطفى محسن على أهمية التخطيط في إنجاح أي نموذج إصلاحي، وما يستتبع ذلك من إنجاز وتطوير ومتابعة وتقويم، وهو تقويم يبقى، في انوجاده، مشروطا بمعطيات داخلية لا بإلزامات مملاة من الخارج، وما يستتبع هذا من رؤية تكاملية بعيدة عن الإنجازات الظرفية والمناسباتية، حيث:

 

ـ الإصلاح بالنسبة للأستاذ مصطفى محسن يصير "سيرورة أو مواصلة اجتماعية Continuite/ Processus مستمرة ودائمة".

 

ـ يشترط في كل إصلاح مرتقب أن يكون مدعوما، من قبل المجتمع المدني والسياسي، وفق ميثاق وطني، ومحكوما برؤية واضحة ودقيقة لجميع الاستراتيجيات والسيناريوهات الممكنة لتجاوز الأزمة سواء بالنسبة للمغرب أو للدول العربية والثالثية المتقاربة من حيث الإشكالات المعروضة.

 

ـ الإصلاح بالنسبة للأستاذ هو تغيير، تحول، سيرورات استراتيجيات واختيارات، وتخطيطات، "إنه، إذن، إصلاح شمولي ناظم للكل المجتمعي، ومتساوق معه، وغير منفصل عن المسار الديمقراطي برمته"(ص83). أما بالنسبة لمسارات الإصلاح فيرسم إطارها كالتالي:

 

1 ـ المسار الفكري والسياسي العام: وهو ما ينعت بالسياسة التربوية وهي بمثابة الإطار العام التي تنتظم وفقه العملية التعليمية-التعلمية، مسنودة، ومؤثتة بأسس فلسفية، فكرية، حضارية، إنسانية، قيمية مشروطة بالتفاعل والتقدم كإلزامات تدفعها دائما في أفق التجديد والتغيير.

 

2 ـ المسار البيداغوجي: وهو مسار مرتبط بالمكونات البانية للعملية التعليمية-التعلمية (المدرسين، البرامج، الطرائق البيداغوجية، التلاميذ ووضعياتهم الاجتماعية…) كعناصر منتظمة ومتفاعلة ومترابطة قصد تحديد أهداف ومقاصد محددة بشكل دقيق من قبل السياسة التربوية، ومن قبل الاختيارات البيداغوجية المرتكزة على أطر نظرية: مع التمثل الدقيق لمجمل الأنساق التي تحكمت في انوجادها، ومراعاتها في نقلها واستنباتها في تربة مغايرة وفضاءات محكومة بأنساق مغايرة مع مراعاة السياقات المحيطة بالممارسات البيداغوجية والمؤثرة فيها بشكل مباشر أو غير مباشر.

 

3 ـ المسار الاقتصادي: ويربطه الأستاذ بالميزانية الخاصة بالتعليم، وآليات التدبير والتمويل الخارجي (جماعة محلية، مؤسسات إنتاجية…) حيث يؤكد على "ضرورة البحث عن الشروط الملائمة لإقامة شراكة حقيقة وتكاملية في هذا المجال بين كافة الفرقاء والأطراف المعنية، والهدف من ذلك هو جعل التعليم رافدا للاقتصاد الوطني، وتوجيه هذا الاقتصاد ليكون دعامة للتنمية التربوية أيضا"(ص85).

 

4 ـ المسار التنظيمي: ويقصد به آليات تدبير وتسيير المنظومة التربوية في مستواها الداخلي المؤسسي، ويتعلق الأمر بالأطر التربوية والإدارية، والدعوة إلى تغيير وتجديد هذه الآليات حسب متطلبات المرحلة.

 

5 ـ المسار الاجتماعي: يؤكد على ضرورة "جعل التعليم سندا للمسار الديمقراطي"(ص86) مع مراعات شرط تكافؤ الفرص، لما يشكله التعلم والتكوين من ترقي وحضوة اجتماعية، وفي غياب هذا الأساس يصير الإحساس بالظلم والتهميس… رافدا يغذي العصبية ذات الأساس العقائدي والإثني.

 

6 ـ المسار الثقافي: حيث تصير المدرسة مركز إشعاع ثقافي وما يترتب عن ذلك من دعم وترويج لقيم ومبادئ مشبعة بقيم العلم والديمقراطية والتقدم، ويؤكد الأستاذ على ضرورة النظر إلى هذه المسارات في جدليتها وتفاعلاتها واندغامها، لا في جزئيتها واستقلاليتها، وأن هذا التمييز هو تمييز إجرائي منهجي فحسب، حيث يصعب رصد حدود فاصلة بين هذه المسارات.

 

أما بالنسبة للمبحث السادس المعنون "بتعقيب عام: رهانات المرحلة، وآفاق للنظر والتساؤل والحوار" فيحدد عبره المشكلات المشكلة أولويات، ينبغي مجابهتها، من ضمنها مشكل الأمية، حيث يقدم، في هذا المستوى، نسب مئوية معينة ومحددة لحجم المشكل، ولحجم الفوارق بين الجنسين والهوة بين الوسط القروي والوسط الحضري، بالإضافة إلى عرض أرقام دالة مرتبطة بتوقعات مستقبلية يضيف إليه مشكل تنامي البطالة وسط الخريجين. وأمام هذه التحديات تصير "مسألة الإصلاح التربوي هي، في منظورنا النقدي التكاملي، مسألة اختيار اجتماعي وسياسي إجماعي وتوافقي شامل، مكرس للديمقراطية، ووضوح الرؤى، وتكامل الأهداف وتوفر الإرادة السياسية الواعية، بمسؤولياتها ومهامها التاريخية الحاسمة والجسيمة"(ص92)، وتبعا لذلك يطرح إشكالية التعريب، حيث الدعوة إلى ضرورة تقديم حجم المشكل بالنظر إلى ما يثيره من حساسيات، وهذا لن يتأتى، حسب الأستاذ، إلا عبر الوعي الدقيق المرفوق بتجنب المعالجات التبسيطية المخلة بالموضوعية العلمية والنظرة الشمولية. ويقدم الأستاذ في هذا المجال جملة من المرتكزات لإنجاز "الإصلاح التعريبي"، حيث يصير تعريبا منفتحا على الذات/النحن في كل أبعادها الثقافية والإثنية والحضارية والقومية، يصير منفتحا على الغير في الاعتراف به والاستفادة منه وعدم تقديسه، يصير منفتحا على إشراطات اللحظة الحضارية، يصير منفتحا على وعي نقدي معرفي… هكذا يصير الإصلاح التعريبي لدى الأستاذ، مشروعا تنمويا وحداثيا شاملا. وتبعا للسياق العام المرتبط بالإصلاح التربوي، يؤكد على ضرورة تحسين الوضعيات المادية لرجل التعليم ونهج سياسة التحفيز لتفعيل العملية التعليمية، ويستتبع هذا بالتأكيد على ضرورة تكوين وإعادة تكوين المدرسين باعتبارهم الشخصيات المحورية، والدعامة الأساسية، باعتبارها المنفذة للبرامج التربوية. بالإضافة إلى التنصيص على أن "المسألة الديمقراطية أو السياسية عموما لا يمكنها بأي حال أن تفصل عن المسألة التربوية في مدلولها الاجتماعي الشمولي"(ص16).

 

خاتمة:

ويبقى الخطاب الإصلاحي، لدى الأستاذ مصطفى محسن، مغايرا للخطاب الإصلاحي النهضوي المرتبط بعمليات ترقيع وتحسين شروط سير وتطور قطاع من القطاعات، هو خطاب تغييري، جذري، نقدي، شمولي، كلي، في نظرته. حيث يعانق أسئلة تروم الإيغال في واقع القطاع التعليمي وارتباطاته، أسئلة ترسم تجليات وعيها العميق، أسئلة تهتك عنف الأزمة، تجنح نحو العمق المتحكم في تمظهراتها، لترسم الإشراطات والمسارات الممكنة لتجاوز واقعها. ونحن (رجال التعليم)، نعتبر أن راهن النظام التعليمي، راهن كارثي، والراهن هنا لا يحيل على الزمن والظرف فقط، وإنما يحيل على العطالة، القصور، العجز، الرهان… كما هو موضح في مقال الأستاذ محمد عابد الجابري، تحت عنوان (راهن الفكر الفلسفي) بمجلة فكر ونقد، العدد 18، لما يطالنا من حيف وظلم حتى في أدنى حقوقنا المشروعة قانونا وعرفا، وأقدم المعلمين المجازين كحالة من الحالات. وأتساءل أبهذا الوضع المشبع بالتحبيط، باليأس، بالحيف… يراد من رجال التعليم أن يكونوا درعا واقيا يحمي المسار الديمقراطي، أبهذا يصير رجل التعليم حارسا، كما يؤكد على ذلك الأستاذ مصطفى محسن، "لقيم وطنية وأخلاقية وإنسانية وثقافية بانية ومنتجة، ونماذج مثالية اقتدائية للأجيال الصاعدة"n

 

المصدر: https://www.aljabriabed.net/n27_08azzmit.(2).htm

الحوار الداخلي: 
أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك