أسئلة الإصلاح والهوية والعلاقة بالآخر في الفكر المغربي الحديث

إبراهيم أعراب

 

ويمكن أن نستنتج مما تقدم أن ما كيف منطق الإصلاح لدى الناصري ليس فقط تكوينه الثقافي والفقهي, ولكن أيضا الضغط الأجنبي الذي مورس على المغرب آنذاك من طرف القوى الأوروبية, وخوفه من نتائجه على الهوية. وهذا جعل إصلاحه وسلفيته وموقفه من الأجانب بمثابة رد فعل ضد هذا الضغط أو التهديد الأجنبي الذي نظر إليه من طرف الناصري وغيره من فقهاء عصره على أنه يشكل خطرا ليس فقط على الدولة والمجتمع والهوية الثقافية, وإنما أيضا على فئة الفقهاء أنفسهم ومكانتهم, باعتبارهم حماة القيم الدينية والثقافية للمجتمع التقليدي الذي كان آنذاك على أبواب تحولات جديدة قد تتعارض ومصالح الفقهاء. ولهذا السبب لم تكن فئة العلماء, أصحاب السلطة العلمية, ترى في الإصلاحات التي اقترحها الأجانب على المخزن, سوى مؤامرة يراد بها القضاء على الشريعة والمؤسسات الإسلامية, وعلى مكانة العلماء في المجتمع المغربي. كما أنهم لهذا السبب نفسه اتخذوا الهجوم من فئة التجار التي تزايد نفوذها السياسي والاقتصادي ونافست العلماء في المناصب والوظائف المخزنية مستفيدة أحيانا من قربها من الخزن, وأحيانا من احتمائها بالأجانب, وأيضا من انفتاح المغرب على التجارة الأوروبية.

 

بعد هزيمة الجيش المغربي في موقعة إسلي أمام الجيش الفرنسي سنة 1844, وبعد تراجعه أمام الجيش الإسباني في حرب تطوان سنة 1860, وما ترتب عنهما من معاهدات وتنازلات وديون, تأكد تفوق العالم الأوروبي, وأميط اللثام عن ضعف وتأخر النظم المغربية العتيقة التي لم يفكر المغاربة في تطويرها أو إصلاحها, لأنهم ظلوا أسرى وعي كاذب بالتفوق يتغذى من أمجاد الماضي وانتصاراته مما ولد لدى نخبهم وقادتهم, الدعوة إلى العزلة والاكتفاء الذاتي والإعراض على ما لدى الآخر الأوروبي من نظم وتقنيات وأفكار.

 

ولقد كان لهزيمة إسلي وقعها على وعي القادة وتيار من نخبة البلاد, حيث اعتبرت بمثابة "فجيعة ومصيبة عظيمة" كما كتب ذلك أحمد بن خالد الناصري –أحد الفقهاء وموظفي المخزن- في تاريخه الاستقصا. حيث قال بأنها كانت "مصيبة عظيمة وفجيعة كبيرة, لم تفجع الدولة الشريفة بمثلها"(1). أما هزيمة تطوان فلم تكن بأقل منها إن لم تكن الأسوأ من حيث نتائـجها وانعكاساتها السلبية على مستقبل الدولة والمجتمع المغربي. فهي التي "أزالت حجاب الهيبة عن المغرب", على حد قول الناصري. أي, بتعبير آخر, كشفت للأوروبيين عن ضعف المغرب ومدى تأخره, وأدت الهزيمتان إلى تفطن المغاربة إلى أن نظام الجيش المغربي وأسلوبه القتالي وعتاده الحربي, مقارنة مع الأوروبيين, أصبح متجاوزا مما فرض على الدولة والنخبة التفكير في ضرورة الإصلاح. لكن أي إصلاح؟ وبأي منطق؟ ووفق أي تصور؟ وإذا كانت قناعة الإصلاح قد حصلت لدى الجميع فهل كان معنى الإصلاح واحدا لدى الجميع؟ فإذا كانت الدولة المخزنية فكرت في الإصلاح من أجل تقوية ذاتها وفرض سلطتها على الجميع, واتجهت أولا إلى إصلاح الجيش وتسليحه بعتاد حديث, فكيف فكر العلماء السلفيون ومثقفو تلك المرحلة في سؤال الإصلاح. وأية إجابات قدموا عنه في القرن 19؟ وكيف كانت مواقفهم من قيم التحديث الأوروبي وتقنياته؟ وكيف فكروا في مسألة الهوية إزاء التحدي الأوروبي (الآخر؟)

 

سنحاول مقاربة هذه الأسئلة انطلاقا من قراءتنا لتجربة الإصلاح في نصوص المؤرخ والفقيه والشيخ والموظف المخزني أبي العباس أحمد بن خالد الناصري, (ولد بسلا 1250هـ/1835م وتوفي 1315هـ/1897م).

 

والناصري فقيه لأنه ينتمي إلى شريحة من العلماء يشكل الفقه ثقافتها الأساسية, واجتهاداته وفتاويه وخطابه الإصلاحي يستمد أصوله ومفاهيمه من العقل الفقهي(2).

 

وهو أيضا شيخ صوفي يتصل نسبه بالطريقة الناصرية التامكروتية الذين استوطن حفدتهم سلا في أواخر القرن 18 "فأصبح كل من ينتمي إليهم يدعي بالناصري والسلاوي(3). وله كتاب في التعريف بالناصريين الذين ينتسب إليهم وهو طلعة المشتري في النسب الجعفري. وألف كتابه تعظيم المنة بنصر السنة خصصه لإصلاح التصوف وتنقيته من البدع وربطه بالسنة أي ما يعرف بالتصوف السني.

 

وهو موظف مخزني حيث عمل منذ الأربعين من عمره في الإدارة المخزنية كعدل في الجمارك في مراسي سلا والدار البيضاء والجديدة… الخ.

 

وقد كتب عنه الكثير ممن أرخوا للفكر المغربي مبرزين مكانته وأهميته سواء بمؤلفه التاريخي الشهير الاستقصا لإخبار دول المغرب الأقصى الذي اعتبر أهم مؤلفاته, أو بفكره الإصلاحي الذي عبر عنه في كثير من مؤلفاته لأن الناصري كان صاحب مقالة في الإصلاح, شملت عدة مجالات كالتعليم الديني والتصوف والجيش والسياسة الخارجية, وكان له في كل موضوع أو نازلة حدثت في عصره قول أو فتوى. فقد كان حريصا، كما تعكس ذلك نصوصه، على تسجيل آرائه ومواقفه من أغلب القضايا والمستجدات التي عرفها المجتمع المغربي إبان ازدياد التغلغل التجاري والسياسي والديبلوماسي الأوروبي.

 

وقال عنه محمد بن الحسن الحجوي كاشفا عن فكره الإصلاحي السلفي, بأنه "علامة عصره, مشاركا متفننا حافظا(…) وله القيام بإنكار البدع والرد على الطرق فيما خرجوا فيه على السنة وذلك في تاريخه وفي رسالة له تعظيم المنة بنصرة السنة"(4).

 

أما محمد المنوني, فقد اعتبر الناصري من أوائل الأعلام المغاربة الكبار الذين انفتحوا على الثقافة الأوروبية الحديثة, وكان على حد قوله "متشوقا دائما إلى الاطلاع على المعارف الحديثة والوقوف على حقائق العلوم العصرية والمخترعات الأوروبية, مولعا بالجرائد السيارة وترجمتها إن كانت بغير اللغة العربية(…) وكانت تأتيه من مصر والشام وإسبانيا وفرنسا وما زال الكثير منها محفوظا بخزانته بسلا, وأن هذه اللفتة نحو الحضارة الحديثة أثرت في عقلية الرجل تأثيرا واضحا فكان يحب تعلم اللغات الأجنبية ويخالط رجالات أوربا للاقتباس من معارفهم. وكان يهم بإرسال بعض أنجاله إلى أوربا بقصد أخذ العلم في مدارسها وأن المترجم أول مؤرخ مغربي حديث اقتبس من المصادر الأوروبية كما نراه في تاريخه الاستقصا لإخبار دول المغرب الأقصى(5).

 

لكن إلى أي حد يمكن فعلا القول بأن الناصري الفقيه والمؤرخ كان متأثرا بالحضارة الحديثة في فكره وتصوره للإصلاح؟ وهل كان مصلحا بمنطق تقليدي ويجسد استمرارية لخطاب الإصلاح كما سار عليه المسلمون في الماضي قبل احتكاكهم بالأوروبيين في الأزمة الحديثة وبعد اختلال موازين القوى في غير صالحهم؟ أم أنه كان يحمل تصورا للإصلاح يحضر فيه الآخر (أوروبا) ويحيل عليه, من أجل الاقتباس والأخذ. وبتعبير آخر هل اتجه للغير في تصوره للإصلاح أم أنه اكتفى بالرجوع إلى الإسلام والسلف؟ مع أن عصره عرف هجوما وتغلغلا وضغطا أجنبيا أوروبيا في المجتمع المغربي في شتى مجالات السياسة والجيش والتجارة وبعض أنماط الاستهلاك. ثم كيف كانت علاقته كمؤرخ وكفقيه بالدولة؟ وهل كان صاحب رأي مستقل ونقدي ومقالة في الإصلاح؟ أم كان مدافعا عن رأي السلطة ومبادراتها؟ وكيف استطاع أن يجمع بين دوره كفقيه أناط بنفسه مهمة الإصلاح والأمر بالمعروف والنصيحة لأولي الأمر ودوره كمؤرخ يشيد بمحاسن ومآثر هذا السلطان أو ذاك؟

 

هذا ما سنحاول الكشف عنه بعرضنا وتحليلنا لخطابه الإصلاحي في محاوره الكبرى, سواء منها قوله في إصلاح الجيش, أو قوله في الحرية, أو قوله في الحرب والجهاد والعلاقة مع الغير, أي علاقة المسلمين بغير المسلمين, أو ما يعرف في الاصطلاح الفقهي بالعلاقة بين "دار الإسلام ودار الكفر", أو قوله في تصوف العوام وبدع الطرقية, ثم مكانة الاجتهاد في فكره الإصلاحي, من خلال أقواله في "تاريخه" الاستقصا.

 

1 – الناصري وقوله في إصلاح الجيش:

 

انشغل الناصري ضمن مشروعه الإصلاحي بمسألة الحرب وتنظيم الجيش, وتحديثه, لما كان لهذه المسألة من أولوية في سياسة التحديث والإصلاح التي اعتمدتها الدولة المخزنية آنذاك بعد هزيمة جيشها أمام فرنسا في إسلي وإسبانيا في تطوان(6)؛ لأن هذه الانتكاسات والهزائم كشفت للمخزن مدى ضعف وتخلف الأسلوب القتالي لجيشه مقارنة مع ما كانت عليه الجيوش الأوروبية من قوة وتنظيم, مما جعل النمط الحديث للجيش الأوروبي يمارس جاذبيته على المغاربة ومن تم دعوتهم إلى اقتباس هذا النموذج, واعتماد الحرب المنظمة أو ما سموه بـ (حرب النظام) وكتبوا في هذا الموضوع عدة نصوص وكتابات, اتخذت كمجال أساسي لها الحرب والجيش وتنظيمه وكيفية تمويله(7). وعكست هذه النصوص ليس فقط تصوره للمسألة العسكرية وإنما أيضا طبيعة "الذهنية الإصلاحية التي بدأت تغزو الشرائح المختلفة للمجتمع المغربي"(8) آنذاك بعد الضغط الأوروبي، وموقفها من إشكالية تحديث الدولة والمجتمع؛ لأن الجيش الأوروبي الحديث "لا يحيل فقط على التنظيم الجديد, بل كذلك إلى التقنيات الجديدة والوسائل المستحدثة وإلى قوة النار الجديدة"(9). وسينخرط الفقيه والمؤرخ والموظف الناصري وجيله من دعاة الإصلاح في هذه المرحلة, بعد حادثة تطوان, في الدعوة إلى إصلاح الجيش وتنظيمه والبحث عن مصادر شرعية لتموله, على أساس أن "الأمر لا يتعلق بواجب أخلاقي أو ديني بقدر ما يتعلق بضرورة حيوية فرضتها الصدمة التي تلقتها المخيلة المغربية إثر تجربة الحرب الجديدة الاستعمارية"(10). وسيكتب الناصري في هذا السياق ضمن كتابه الاستقصا قوله: "في اتخاذ الجيش وترتيبه وبعض آدابه"(11), وقد أورد قوله هذا بعد ذكره لوقعة تطوان وتراجع الجيش المغربي أمام الجيش الإسباني, وهذا الاقتران بين وقعة تطوان وقوله في اتخاذ الجيش.. الخ, لم يأت صدفة, بل كانت له دلالته. لذا فقد ضمن قوله في اتخاذ الجيش مقترحاته الإصلاحية للجيش وتنظيمه على أسس شرعية معتمدا في ذلك على مرجعية إسلامية وتجربة السلف مما قام به الخليفة عمر بن الخطاب الذي كان على حد قوله "أول من اتخذ ديوانا للعساكر الإسلامية مرتبا على ترتيب الأنساب مبتدئا من قرابة رسول الله (ص), فما بعدها الأقرب فالأقرب", -وهكذا يقول الناصري موجها خطابه لمن يهمهم الأمر: "ينبغي للإمام أن يرتب جنوده في ديوان يحفظها ودستور يجمعها"(12).

 

ورغم هذه المرجعية السلفية فإن الناصري لا يعارض في قوله اقتباس النظام العسكري الحديث وأسلوبه القتالي بل على العكس من ذلك عمل على تبرير الأخذ به وتأصيله شرعيا بالرجوع إلى تجربة السلف والإحالة على تجربة الدولة العثمانية, مما يعني لديه أن الإسلام لا يتعارض مع إدخال التنظيمات الحديثة في مجال إصلاح الجيش المغربي, إلا أن ما يرفضه هو تقليد الأوروبيين, أي "التخلق بأخلاق العجم" في "اصطلاحاتهم ومحاوراتهم وكلامهم وسلامهم وغير ذلك"(13). لأن "المصيبة عنده" قد عمت "في عسكر المسلمين بالتخلق بخلق العجم فيريدون تعلم الحرب ليحفظوا الدين فيضيعون الدين في نفس ذلك التعلم –كما يقول- فلا تمضي على أولاد المسلمين سنتان أو ثلاث حتى يصيروا عجما متخلقين بأخلاقهم متأدبين بآدابهم حتى أنهم تركوا السلام المشروع في القرآن, وأبدلوه بوضع اليد خلف الأذن"(14). ويطالب الناصري القائمين على تعليم وتدريب الجنود المغاربة كي يحرصوا على تعريب وأسلمة المصطلحات التقنية المستخدمة في المجال العسكري. يقول, موجها خطابه إلى معلمهم: "يجب على معلمهم في حالة تعليمه إياهم أن يعدل عن الاصطلاح العجمي إلى العربي ويعبر عن الألفاظ العجمية بالعربية وإن كان أصل العمل مأخوذا عن العجم, فليجتهد المعلم الحاذق في تعريبه وليس بذلك عسير على من وفقه الله إليه"(15). اتخذ الناصري في قوله بإصلاح الجيش وتحديثه موقفا مزدوجا حيث فكر في هذه القضية من منظورين, الأول يتصف بالانفتاح بقبول الاقتباس عن الآخر مع تعريب وأسلمة ما تم اقتباسه, والثاني يتصف بالمحافظة والحرص على الهوية الثقافية والدينية خوفا من نتائج الأخذ عن الآخر, وما يمكن أن يشكله هذا الأخذ من تهديد للقيم والأخلاق والآداب الإسلامية. كما أنه اعتمد على آليات الاجتهاد الفقهي لتأصيل اتخاذ الجيش وترتيبه وتنظيمه على النمط الحديث, حيث اعتبر أن تحديث الجيش يندرج ضمن القول بالمصالح المرسلة(16), التي اعتمدها السلف لأن الشرع ما جاء إلا لمصالح الناس الدينية والدنيوية. فالناصري كفقيه مجتهد تعامل مع مبادرة تحديث الجيش التي دعت إليها الدولة آنذاك, (المحاولة الأولى كانت مع السلطان عبد الرحمان بعد هزيمة إسلي واستأنفت مع ابنه محمد الرابع ثم الحسن الأول, بعد هزيمة تطوان), على أنها تدخل ضمن المصلحة التي هي حفظ "بيضة الإسلام" و"حياطة الرعية", وأنها ملائمة لمقاصد الشرع الضرورية. يقول في هذا السياق: "اعلم أنه واجب على الإمام حماية بيضة الإسلام وحياطة الرعية وكف اليد العادية عنها, والنصح لها, والنظر فيما يصلحها ويعود عليها نفعه في الدين والدنيا, ولا يمكنه ذلك إلا بجند قوي وشوكة تامة بحيث تكون يده غالبة على الكافة, وقاهرة لهم, فاتخاذ الجند إذن واجب عليه فيندب له أن يتخذ لهم ديوانا يجمع أسماءهم ويحصي عددهم ليحصل الضبط وينتفي اللبس"(17).

 

وتكشف بعض الأبحاث التاريخية, أن مبادرة تنظيم وتحديث وإصلاح الجيش المغربي أثارت آنذاك جدلا حادا وسط نخبة من العلماء والفقهاء, وانقسموا إزاءها بين مؤيد ومعارض, لما لهذه المبادرة من علاقة بتمويله وإحداث ضرائب جديدة "مكوس" كان العلماء عادة يرفضونها(18).

 

ويتضح من خطاب الناصري وقوفه بجانب السلطان ودفاعه عن مبادرته التحديثية في إصلاح الجيش وتنظيمه, وقوله في هذا السياق والذي ضمنه في كتابه الاستقصا جاء كاستجابة لمبادرة الدولة وكرد على معارضيها, وأبان فيه الناصري عن ثقافته الفقهية العميقة وقدرته على اعتماد آليات الاجتهاد بغرض إضفاء الشرعية الدينية على المبادرات الإصلاحية المخزنية, خاصة وأن هذا الأخير كان قد عمد إلى استشارة العلماء آنذاك في الحكم الشرعي في تنظيم الجيش(19).

 

وهذا الاتجاه المؤيد والمدافع عن المبادرات الإصلاحية للدولة, نجده حاضرا في جل مواقف الناصري وأقواله الإصلاحية, سواء تعلق الأمر باتخاذ الجيش وتنظيمه وترتيب المكوس والضرائب للاستعانة بها على هذا التنظيم أو في "تسريح الأشياء الممنوعة الوسق كالحبوب والأنعام والبهائم"(20) التي طرحت كنازلة بسبب التجارة مع أوروبا, حيث كتب السلطان الحسن الأول سنة 1886 كتابه إلى الرعية يستشيرهم فيه بعد أن اشتد الضغط الأوروبي عليه لتحرير التجارة ولتسريح تصدير بعض المواد التي كانت ممنوعة كالحبوب والأنعام والبهائم وتخفيض قيمة الضرائب المؤداة عنها, فإن الناصري كتب في هذه المسألة جوابا مطولا أثبته في تاريخه(21)ضمنه رأيه في النازلة موضوع الاستشارة ونظريته في مسألة الحرب والجهاد وما ينبغي أن تكون عليه العلاقة مع الأوروبيين خاصة بعد هزيمة تطوان, فما هو مضمون هذا الجواب؟

 

2 – قوله في التجارة مع الأوروبيين ومسألة الجهاد: العلاقة بالآخر.

 

في جواب الناصري عن استشارة السلطان الحسن الأول لتحرير التجارة مع الأوروبيين, لم يتعامل مع القضية موضوع الاستشارة من منظور تجاري اقتصادي محض, بل تعامل معها في إطار المسألة الفقهية التقليدية وهي العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين, أي ما يعرف في الاصطلاح الفقهي "دار الإسلام ودار الكفر", وهل ينبغي التجارة مع غير المسلمين ومخالطتهم والأخذ بعاداتهم والإقامة في مدنهم, أم ينبغي محاربتهم والجهاد ضدهم, وهجرة الأراضي التي استولوا عليها, ومدار كل هذه الأسئلة هي العلاقة بين المسلمين وغيرهم من "النصارى أو العجم"(22). وقد يفيدنا جواب الناصري في فهم موقفه ورؤيته للعلاقة مع الآخر (الأوروبيين), في ظل وضع يتسم بعدم تكافؤ القوى. وهل ينبغي الدخول معهم في حرب ومقاتلتهم, أم مهادنتهم وعقد الصلح معهم؟ وهنا أيضا يحضر الناصري الموظف المخزني المدافع عن السياسة المخزنية التي كانت آنذاك تميل في اتجاه الصلح والتبادل التجاري معهم, معتمدا في ذلك على مفهوم تكافؤ القوى الذي لم يكن في صالح المغاربة حيث كان يرى على حد قوله "أن النصارى اليوم في غاية من القوة والاستعداد والمسلمون… على غاية من الضعف والاختلاف, وإذا كان كذلك فكيف سوغ في الرأي والسياسة بل وفي الشرع أيضا أن ينابذ الضعيف القوي أو يحارب الأعزل الشاكي السلاح وكيف يستجاز في الطبع أن يصارع المقعد القائم على رجليه أو يعقل في النظر أن تناطح الشاة الجماء الشاة القرناء"(23). وإذا كان الحال على هذا فإن الناصري يقول بانتفاء شروط الجهاد وبالقاعدة الفقهية للضرورة أحكام, ليفتي في النهاية بجواز التجارة والصلح مع الأوروبيين بالرغم ما في ذلك من مضرة, من أجل الضرورة, ولأن موازن القوى مختلة لصالحهم, يقول: "فهذا القطر المغربي تدارك الله رمقه على ما ترى من غاية الضعف وقلة الاستعداد فلا تنبغي لأهله المسارعة إلى الحرب مع العدو الكافر مع ما هو عليه من غاية الشوكة والقوة"(24).

 

وبالعودة إلى ما كتبه صاحب الاستقصا في أجوبته وأقواله في إصلاح الجيش والتجارة مع الأوروبيين, نلمس معالم نظرية حول مسألة الحرب, حيث نجده يستعمل مصطلح الحرب أكثر من استعماله مصطلح الجهاد. فماذا يعني هذا؟ هل يعني أن الفقيه الناصري حصل لديه وعي بأن شروط الجهاد لم تعد متوفرة, وبالتالي لم يعد هناك في الواقع ما يجعل الحرب جهادا؟ وهو بهذا يكون أميل إلى اعتماد ابن خلدون كمرجع له في هذا الرأي. ذلك أن صاحب المقدمة – على حد قول عبد الله العروي- كان يرى أن شروط الجهاد في عصره لم تعد متوفرة منذ أن انقلبت الخلافة إلى ملك والوظائف الخلافية إلى سلطانية(25). وبالتالي فإن حالة الجهاد عنده حالة وهمية لم تعد قائمة بالفعل. إذا كان هذا هو رأي ابن خلدون في الجهاد الذي رد به على فقهاء المالكية ممن ألفوا في الترغيب في الجهاد والدعوة إليه, فإن الناصري هو الآخر قال بانتفاء شروط الجهاد اقتداء بصاحب المقدمة, ورد بدوره على الفقهاء ممن كانوا ينادون بالجهاد, والذين بدأت أصواتهم تتعالى منذ احتلال الجزائر من طرف الفرنسيين سنة 1830 أي "منذ أن نزل عدو الدين بأرض الإسلام أو قريبا منها" كما في تعبير للتسولي(26), الذي قال بأنه "متى نزل عدو الدين بأرض الإسلام أو قريبا منها مريدا الدخول إليها, فإن الجهاد فرض عين على أهل ذلك البلد وإمامهم شيوخا وشبانا أحرارا وعبيدا بل وإن على امرأة إن كان لها قوة ولا يتوقف قتالهم للعدو النازل على مشورة الإمام ولا سيما إن بعد منهم(27)". واستمر هذا التيار الجهادي نشطا في عصر الناصري(28) وحتى مطلع القرن العشرين مع محمد ابن جعفر الكتاني (1927) صاحب كتاب نصيحة الإسلام الذي اعتبر فيها أن من أسباب فقدان المسلمين لما كانوا عليه من عزة وضعفهم "ترك شعيرة الجهاد كأنه صار شرعا منسوخا منقوصا"(29).

 

وفي هذا السياق يمكن اعتبار أن جواب الناصري المتقدم الذكر جاء كتأييد لمبادرة السلطان وكرد وانتقاد للفقهاء المغاربة الذين كانوا من دعاة الجهاد الذي اعتبر الناصري أن شروطه لم تعد متوفرة, ومن ثمة يعرض نظريته في الحرب القائمة على النظام وليس العصبية الدينية لأن المغاربة آنذاك كانوا في وضعية من الضعف والتفكك مقارنة مع أوربا القوية. وهذا ما عبر عنه الناصري بقوله "فهذا القطر المغربي تدارك الله رمقه على ما ترى من غاية الضعف وقلة الاستعداد فلا تنبغي لأهله المسارعة إلى الحرب مع العدو الكافر مع ما هو عليه من غاية الشوكة والقوة, وقد تقرر في علم الحكمة أن المعاندة والمدافعة إنما تحصل بين المتضادين والمتماثلين ولا تحصل بين المتخالفين, وحالنا اليوم مع العدو ليس من باب التضاد ولا من باب التماثل وإنما هو من باب التخالف فافهم"(30) وهذا ما عناه أيضا في قوله: "فكيف يحسن في الرأي المسارعة إلى عقد الحرب مع أجناس الفرنج وما مثلنا ومثلهم إلا كمثل طائرين أحدهما ذو جناحين يطير بهما حيث شاء والآخر مقصوصهما واقع على الأرض لا يستطيع طيرانا ولا يهتدي إليه سبيلا, فهل ترى لهذا المقصوص الجناحين الذي هو لحم على وضم أن يحارب ذلك الذي يطير حيث شاء؟"(31).

 

والنتيجة أن الحرب عنده لا تقوم إلا إذا تكافأت فرص القوى, وهذا غير حاصل ما بين المغاربة والأوروبيين, والرأي أي العقل (السياسة العقلية) تفرض عقد الصلح معهم ومهادنتهم. لكن ماذا عن الجهاد الذي حث عليه الشرع؟ كجواب، فإن الناصري يرى أن الجهاد بمعناه الديني هو الآخر انتفت شروطه "وتعذر منذ أحقاب", يقول في ذلك: "اعلم أن الجهاد المذكور هو قتال أهل الشرك والطغيان على إعلاء كلمة الرحمان لينساقوا بذلك إلى الدخول في دين الله طوعا أو كرها, ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الشيطان هي السفلى مع نفاذ البصيرة وخلوص النية والغيرة على دين الله, وكل ذلك بشرط القوة المكافئة أو القريبة منها, ومهما اختل ركن أو شرط مما ذكرنا كان إلى الفتنة أقرب منه إلى الجهاد, بل نقول إن الجهاد الشرعي قد تعذر منذ أحقاب فكيف تطلبه اليوم، فإن كنت تسارع إلى الحرب لتدركه جهلا منك بحقيقة الأمر فاعلم أنك إنما تسارع إلى إيقاد نار الفتنة وإيجاد العدو السبيل عليك وإمكانه من ثغرتك وتسليطه على السبي لحريمك ومالك ودمك نسأل الله العافية"(32).

 

فمنطوق النص واضح في اتجاهه الذي يفيد أنه لم يعد هناك ما يوجب الكلام عن الجهاد وأن الذين يرفعونه كشعار في عصره, إنما هم دعاة للفتنة, وهو في هذا الموقف يحيل بشكل غير مصرح به إلى موقف ابن خلدون الذي انتقد هو الآخر فقهاء المالكية(33).

 

ماذا يبقى إذن أمام انتفاء إمكانية الحرب وتعذر الجهاد؟ لن يبقى في هذه الحالة من خيار إلا الصلح والسلم والانصراف إلى ترتيب الجيش وتنظيمه وإصلاحه على النمط الأوروبي الحديث, وهو بهذا الجواب يزكي ضمنيا مبادرة الحسن الأول الذي أرسل البعثات إلى الخارج لتعلم فنون الحرب, كما استعان بمؤطرين أجانب, بهدف تقوية الدولة لتحقيق الاستقرار والأمن الداخلي ولتأديب القبائل المتمردة على السلطة المركزية. ويرد على المعارضة الداخلية لمبادرة السلطان التي تزعمها بعض الفقهاء, إذ لم يكن الناصري يرى حرجا لإنجاز الإصلاح من ضرورة الاقتباس من الغير مع الحفاظ على الهوية. كما ورد في قوله في إصلاح الجيش. وهذا يعني في النهاية أن قوله في اتخاذ الجيش يحيل على نظريته في الحرب وموقفه من الجهاد الديني, كما يكشف عن تشبث الناصري بالخصوصية الثقافية وبالهوية الإسلامية والعربية التي ينبغي مراعاتها في أي اقتباس أو تحديث يكون مصدره الغير الأوروبي, وهذا الهاجس الهوياتي الديني يبرز أكثر وضوحا حين يتعلق الأمر بمجال القيم والأفكار والعادات,حيث لا يجد الفقيه الناصري حرجا من الاستفادة من الآخر المخالف له في الدين والثقافة كل ما له فائدة تقنية, ولكنه يتحفظ بل يبدي مقاومة شديدة إزاء ما هو قيمي وفكري وأخلاقي ويتضح ذلك من تعامله وتعاطيه مع فكرة الحرية التي كانت آنذاك وإبان الضغط التجاري والسياسي على المغرب شعارا رفعه باستمرار سفراء وقناصلة تلك الدول الأوروبية, وكانت مطالبهم للمخزن تدور في جلها حول الحرية (حرية مدنية ودينية لفائدة الأقليات، حرية التعليم لفائدة الإرساليات, حرية التجارة والتنقل للتجار الأوروبيين)(34), فكيف إذن فكر الفقيه الناصري في الحرية ضمن هذا السياق التاريخي؟

 

3 – قوله في الحرية:

 

في كتابه الاستقصا كتب الناصري ما يلي: "في هذه السنة (يقصد سنة 1280هـ) ورد يهودي من اللوندرة على السلطان بمراكش يطلب منه الحرية ليهود المغرب وذلك لأنه لما كانت وقعة تطاوين ودهم الناس ما دهمهم من أمر الحمايات وأكثر من تعلق بها اليهود لم يقتصروا على ذلك وراموا الحرية تشبها بيهود مصر ونحوها فكتبوا إلى يهودي من كبار تجارهم باللوندرة اسمه روشابيل وكان هذا اليهودي قارون زمانه، وكانت له وجاهة كبيرة في دولة النجليز لأنها كانت تحتاج إليه فيسلفها الأموال الطائلة وله في ذلك أخبار مشهورة، فكتب يهود المغرب إليه أو بعضهم يشكون إليه ما هم فيه من الذلة والصغار يطلبون منه الوساطة لهم عند السلطان رحمه الله في الإنعام عليهم بالحرية، فعين هذا اليهودي صهرا له للوفادة على السلطان رحمه الله في هذا الغرض وفي غيره وأصحبه هدايا نفيسة وسأل من دولة النجليز أن يشفعوا له عند السلطان ويكتبوا له في قضاء غرضه ففعلوا. وقدم على السلطان بمراكش وقدم هداياه وسأل تنفيذ مطلبه فتجافى السلطان رحمه الله عن رده مخفقا وأعطاه ظهيرا فتمسك به اليهودي يتضمن صريح الشرح وما أوجب الله لهم من حفظ الذمة وعدم الظلم والعسف ولم يعطهم فيه حرية النصارى, ونص الظهير المذكور بالطابع الكبير:

 

"بسم الله الرحمن الرحيم ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم, نأمر من يقف على كتابنا هذا أسماه الله وأعز أمره وأطلع في سماء المعالي شمسه المنيرة وبدره، من سائر خدامنا وعمالنا والقائمين بوظائف أعمالنا، أن يعاملوا اليهود الذين بسائر إيالتنا بما أوجبه الله تعالى من نصب ميزان الحق والتسوية بينهم وبين غيرهم في الأحكام حتى لا يلحق أحدا منهم مثقال ذرة من الظلم ولا يضام, ولا ينالهم مكروه ولا اهتضام, وأن لا يتعدوهم ولا غيرهم على أحد منهم لا في أنفسهم ولا في أموالهم, وأن لا يستعملوا أهل الحر منهم إلا عن طيب أنفسهم وعلى شرط توفيتهم بما يستحقونه على عملهم لأن الظلم ظلمات يوم القيامة, ونحن لا نوافق عليه لا في حقهم ولا في حق غيرهم, ولا نرضاه، لأن الناس كلهم عندنا في الحق سواء, ومن ظلم أحدا منهم أو تعدى عليه فإنا نعاقبه بحول الله. وهذا الأمر الذي قررناه وأوضحناه وبيناه كان مقررا ومعروفا محررا لكن زدنا هذا المسطور تقريرا وتأكيدا ووعيدا في حق من يريد ظلمهم, وتشديدا ليزيد اليهود أمنا إلى أمنهم, ومن يريد التعدي عليهم خوفا إلى خوفهم. صدر به أمرنا المعتز بالله في السادس والعشرين من شعبان المبارك عام ثمانين ومائتين وألف".

 

ولما مكنهم السلطان من هذا الظهير أخذوا منه نسخا وفرقوها في جميع يهود المغرب وظهر منهم تطاول وطيش وأرادوا أن يختصوا في الأحكام فيما بينهم لا سيما يهود المراسي فإنهم تحالفوا وتعاهدوا على ذلك ثم أبطل الله كيدهم وخيب سعيهم على أن السلطان رحمه الله لما أحس بطيش اليهود عقب ذلك الظهير بكتاب آخر بين فيه المراد وأن ذلك الإيصاء إنما هو في حق أهل المروءة والمساكين منهم المشتغلين بما يعنيهم, وأما صعاليكهم المعروفون بالفجور والتطاول على الناس والخوض فيما لا يعني فيعاملون بما يستحقونه من الأدب.

 

واعلم أن هذه الحرية التي أحدثها الفرنج في هذه السنين هي من وضع الزنادقة قطعا لأنها تستلزم إسقاط حقوق الله وحقوق الوالدين وحقوق الإنسانية رأسا, أما إسقاطها لحقوق الله فإن الله تعالى أوجب على تارك الصلاة والصوم وعلى شارب الخمر وعلى الزاني طائعا حدودا معلومة، والحرية تقتضي إسقاط ذلك كما لا يخفى, وأما إسقاطها لحقوق الوالدين فلأنهم خذلهم الله يقولون: إن الولد الحدث إذا وصل إلى حد البلوغ والبنت البكر إذا بلغت سن العشرين مثلا، يفعلان بأنفسهما ما شاءا ولا كلام للوالدين فضلا عن الأقارب فضلا عن الحاكم. ونحن نعلم أن الأب يسخطه ما يرى من ولده أو بنته من الأمور التي تهتك المروءة وتزري بالعرض سيما إذا كان من ذوي البيوتات, فارتكاب ذلك على عينه مع منعه من الكلام فيه موجب للعقوق ومسقط لحقه من البرور, وأما إسقاطها لحقوق الإنسانية فإن الله تعالى، لما خلق الإنسان، كرمه وشرفه بالعقل الذي يعقله عن الوقع في الرذائل ويبعثه على الاتصاف بالفضائل وبذلك تميز عما عداه من الحيوان, وضابط الحرية عندهم لا يوجب مراعاة هذه الأمور بل يبيح للإنسان أن يتعاطى ما ينفر عنه الطبع وتأباه الغريزة الإنسانية من التظاهر بالفحش والزنا وغير ذلك إن شاء لأنه مالك أمر نفسه، فلا يلزم أن يتقيد بقيد ولا فرق بينه وبين البهيمة المرسلة إلا في شيء واحد هو إعطاء الحق لإنسان آخر مثله فلا يجوز له أن يظلمه, وما عدا ذلك فلا سبيل لأحد على إلزامه إياه, وهذا واضح البطلان لأن الله تعالى حكيم وما ميز الإنسان بالعقل إلا ليحمله هذه التكاليف الشرعية من معرفة خالقه وبارئه والخضوع له لتكون له بها المنزلة عند الله في العقبى "إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض" الآية.

 

واعلم أن الحرية الشرعية هي التي ذكرها الله في كتابه وبينها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته وحررها الفقهاء رضي الله عنهم في باب من كتبهم فراجع ذلك وتفهمه ترشد, وبالله التوفيق"(35).

 

انطلاقا من هذا النص الذي اقتبسناه رغم طوله يتضح لنا ما يلي:

 

1 – الظرفية التاريخية والسياسية التي دفعت بالناصري إلى كتابة قوله في الحرية.

2 – تصور الناصري للحرية ونقده لمفهومها الغربي.

3 – المنظومة الفكرية والمرجعية التي وجهت تصوره للحرية وتأويله لها.

 

إن ما ينبغي تسجيله أولا هو أن موقف الناصري السلبي من الحرية التي روج لها الأوروبيون في عصره باعتبارها مبدأ من مبادئ المنظومة الليبرالية لم ينفرد به الناصري وحده إذ نجد حضورا له لدى معاصريه أو ممن قبله ممن كتبوا نصوص المرحلة المغربية إثر السفاريات التي قاموا بها إلى أوروبا خاصة تلك التي كتبت بعد هزيمة المغرب في حرب تطوان مثل ما كتبه الصفار التطواني في رحلته إلى فرنسا (1845م) وإدريس العمراوي في تحفة الملك العزيز بمملكة باريز, حيث كانت الظرفية الحرجة التي يجتازها المغرب آنذاك بحكم الضغط الأوروبي ورد الفعل الدفاعي هو ما تحكم إلى حد كبير في موقفهم من مظاهر التحرر الاجتماعي التي شاهدوها في المجتمعات الأوروبية التي توجهوا إليها في سفارياتهم. وهذا ما يجعلنا نطرح السؤال التالي: لماذا تم رفض مبدأ الحرية كمبدأ ليبرالي من طرف الناصري؟ ألا يمكن اعتبار ظرفية الضغط الأوروبي وتهديداته الاستعمارية للمغرب آنذاك من الأسباب التي وجهت موقفه السلبي من الحرية في مفهومها الليبرالي؟ أم أن ثقافته ومنظومته الفكرية ذات المرجعية الدينية الفقهية البيانية هي التي مارست سلطتها المعرفية في تصوره للحرية ونقده لمفهومها الغربي؟

 

في قوله عن الحرية ينتقد الناصري المفهوم الغربي الليبرالي للحرية معتبرا إياها من وضع "الزنادقة" وبالمقابل يدافع عن المفهوم الإسلامي للحرية أو ما سماه بالحرية-الشرعية, ويحيل كمرجعية له على الكتاب والسنة وعلى ما كتبه الفقهاء في باب الحجر, فثقافته الفقهية والبيانية هي التي شكلت مرجعية له في تصوره لمفهوم الحرية وحكمت بالتالي تأوله لها، فهو بهذا المعنى لم يستوعبها ولم يجد كما قال –العروي- "في مفاهيم الفقه الإسلامي الذي تعود عليه طول حياته مفهوما يطابق ما يرمي إليه الأوروبيون"(36)، لكن ألا يمكن إدخال ظرفية المغرب ووقوعه آنذاك تحت الضغط الأوروبي كبعد أساسي في فهم موقفه من الحرية, وبالتالي هل كان مستعصيا على الناصري وهو القريب من دواليب السياسة الخارجية والمخزن أن يدرك أن مبدأ الحرية استعمل آنذاك كشعار روجت له القوى الأجنبية لتفكيك المجتمع المغربي وإضعاف الدولة تمهيدا وتسهيلا للمزيد من التدخل والسيطرة؟ إن جوابنا على هذا التساؤل لا يمكن إلا أن يكون بالإيجاب, لأن الناصري بحكم ظرفية الضغط والتغلغل الأوروبي ما كان بإمكانه إلا أن يهاجم بحدة مطلب الحرية الذي رفعه الأوروبيون كشعار حيث لم يكن يرى فيه إلا أداة لإضعاف سلطة الدولة وتفكيك المجتمع وقيمه الدينية, فموقفه أو تصوره للحرية بقدر ما تحكمت فيه مرجعيته الثقافية الفقهية فقد جاء أيضا في سياق رد فعل دفاعي ضد ثقافة الآخر الأوروبي وقيمه. فالحرية في وعي الناصري لم تكن غير رمز لإرادة السيطرة والتوسع والغزو ينبغي مقاومته ومواجهته بالعودة إلى الأصول (الكتاب, السنة, أقوال الفقهاء) والدفاع عن الهوية الثقافية وهنا تبرز أصولية وسلفية الناصري في مواجهة الفكر الليبرالي وثقافة الآخر الأوروبي وحداثته التي تعامل معها الفقيه الناصري تعاملا مزدوجا يتأرجح بين الانفتاح والانغلاق أو بين القبول والرفض.

 

وهذه الأصولية أو السلفية لا تظهر في إصلاحية الناصري فقط حين يتعلق الأمر بالتعامل مع مظاهر التحديث وقيم الثقافة الأوروبية وإنما أيضا بقضايا داخلية تهم إصلاح التعليم الديني وطرقه وإصلاح العقيدة حيث نجده يدعو إلى ترك البدع المستحدثة في الدين خاصة بدعة الطرقية والرجوع إلى الكتاب والسن. ففي مجال التعليم الديني مثلا كان يدعو إلى الرجوع إلى أمهات الكتب والابتعاد عن المختصرات وكان يرى أن سبب "نضوب العلم في الإسلام ونقصان ملكة أهله فيه انكباب الناس على تعاطي المختصرات الصعبة الفهم وإعراضهم عن كتب الأقدمين المبسوطة المعاني, الواضحة الأدلة, التي تحصل لمطالعها الملكة في أقرب مدة"(37). وكان لهذا ينتقد طريقة التعليم السائدة عند المغاربة في عصره فكان من رأيه "صرف الناس في التعليم إلى كتب السلف المؤلفة أيام ازدهار العلوم في عصر التمدن الإسلامي والأخذ منها لوضوح عبارتها وسهولة فهمها وكثرة فائدتها. وكان من رأيه إحياء ما اندثر من علوم مهمة"(38).

 

والإشارة هنا إلى إحيائه لبعض العلوم التي لم تعد تدرس في القرويين كالطب والتاريخ والجغرافيا والتفسير. وهذا الأخير كان الفقهاء المغاربة يتخوفون من تدريسه لأسباب خرافية (الخوف من موت السلطان)(39).

 

فالعودة إلى الأصول وإلى الإسلام في نقائه الأول قبل أن تلحقه البدع والتحريفات كانت جوهر الدعوة الإصلاحية عند الناصري سواء في مجال إصلاح التعليم الديني أو إصلاح العقيدة. وقد استأثرت بدعة الطرقية المرتبطة بالعامة باهتمام خاص من طرف الناصري وذلك في سياق اهتمامه بإصلاح التصوف الذي كان يرى أنه أكثر من غيره مجالا للانحرافات والبدع وخصه بكتابه تعظيم المنة بنصرة السنة, إضافة إلى ما كتبه في تاريخه الاستقصا من نقد للطرقية وتنديد للبدع التي أحدثت في التصوف مما لم يكن عنده معروفا في سلف الأمة. وقد اتخذ لقوله هذا في إصلاح التصوف عنوانا يظهره كـ"تتمة مهمة" وذلك بعد قوله "في مذاهب أهل المغرب أصولا وفروعا وما يتبع ذلك"(40). وإيراد المؤلف لهذه التتمة التي اعتبرها مهمة بعد قوله في مذاهب أهل المغرب له دلالته لأن في هذا القول الذي صرح فيه الناصري بانتمائه لمذهب جمهور السلف من الأمة واعتقادهم يذكر البدع التي حدثت في مذاهب أهل المغرب كبدعة الخارجية (الخوارج) وما جاء به المهدي بن تومرت (الذي سماه بمهدي الموحدين) وتأتي "التتمة بمهمة" في هذا السياق لتتحدث أو لتضيف قوله في "بدعة" كانت محط انتقاد واستهجان في عصره وهي "بدعة الطرقية" وما يرتبط بها من ممارسات أخرى كإقامة المواسم والتوسل بالأضرحة, وقد تبنت الدولة المخزنية الدعوة التي تزعمها بعض الفقهاء المغاربة ضد بعض طرق الصوفية والزوايا منذ النصف الثاني من القرن 18 مع السلطان محمد بن عبد الله الذي كان يعلن أنه مالكي المذهب حنبلي الاعتقاد, والسلطان المولى سليمان الذي أصدر رسالة هاجم فيها بدع الطرق الصوفية والمواسم والأضرحة(41). وهكذا يتضح لنا من جديد أن الناصري بقدر ما يكون مخلصا لانتمائه السلفي ولدعوته الإصلاحية فهو أيضا يكون متجاوبا مع مبادرات الدولة مؤيدا لها. فماذا تتضمنه تتمته لمهمة بصدد الطرقية وما هي الانتقادات التي يوجهها لها؟

 

4 – قوله في "بدع الطرقية" وإصلاح التصوف:

 

في "تتمته المهمة" كتب الناصري "قد ظهر ببلاد المغرب منذ أعصار متطاولة –لا سيما في المائة العاشرة وما بعدها- بدعة قبيحة وهي اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الشيوخ الذين عاصروهم أو تقدموهم ممن يشار إليه بالولاية والخصوصية, ويخصونه بمزيد المحبة والتعظيم, ويتمسكون بخدمته والتقرب إليه قدرا زائدا على غيره من الشيوخ بحيث يرتسم في خيال جلهم أن كل المشايخ أو جلهم دونه في المنزلة عند الله تعالى ويقولون نحن أتباع سيدي فلان وخدام الدار الفلانية, لا يحولون عن ذلك ولا يزولون خلفا عن سلف، وينادون باسمه ويستغيثون به ويفزعون في مهماتهم إليه, معتقدين أن القرب إليه نافع والانحراف عنه قيد شبر ضار, مع أن النافع والضار هو الله وحده، وإذا ذكر لهم شيخ آخر أو دعوا إليه حاصوا حيصة حمر الوحش من غير تبصر في أحواله هل يستحق ذلك التعظيم أم لا فصار الأمر عصيبا وصارت الأمة بذلك طرائق قددا, ففي كل بلد أو قرية عدة طوائف وهذا لم يكن معروفا في سلف الأمة الذين هم القدوة لمن بعدهم"(42).

 

يتضمن هذا النص إضافة إلى تعريفه للطرقية باعتبارها اجتماع طائفة من العامة على شيخ من الأموات أو الأحياء وتقديسهم وتعظيمهم له حكم الناصري الفقيه السلفي على هذه الظاهرة التي اعتبرها مضادة لوحدة الأمة ومهددة لها وهي لم تكن معروفة في سلف الأمة أي أنها "بدعة" مخالفة ما كان علي السلف ومن هنا سيعمد إلى ذكر ما سماه "شناعاتهم" "ضلالاتهم" "مناكرهم" "اختراعاتهم" "جهالاتهم", هذه التسميات أو الألفاظ كلها عنده مرادفة لمفهوم البدعة الشنيعة أي المذمومة أو المحرمة. والبدعة عند الفقهاء عبارة عن فعل لم يكن فابتدع. والبدعة في الدين حسب ابن حزم كل ما لم يأت في القرآن ولا عن رسول الله (ص), والطرقية بما هي اجتماع طائفة من العامة على شيخ وتقديسه يندرج عند الناصري في حكم البدعة لأنه عمل أو سلوك مخالف عنده لما كان عليه السلف فهي انحراف عن الأصل وخروج عنه, ويعدد الناصري بدعه كالتالي:

 

الحضرة, جعل الكسوة على أضرحة شيوخهم, سوق الذبائح إليها, اتخاذ المواسم عليها, جمعهم لاسم واسم الولي إذا أقسموا أو استعطفوا, الانقطاع للعبادة وانعزالهم عن الحياة دون شغل أو حرفة, اتخاذهم المرقعة أو الخرقة كلباس خاص..

 

ويعتبر الناصري أن هذه الطوائف أو الطرق أو على حد تسميته لهم "بالمجامع الشيطانية" قد انتهى أصحابها إلى الشرك والفسق وضرب مبدأ التوحيد مما ينبغي معه التدخل لتغيير "مناكرهم" في إطار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أو الحسبة التي هي من مهام الفقهاء والسلطة.

 

وإذا كان الناصري قد تصدى لما كان معروفا في عصره لدى الطوائف الدينية والطرقية من سلوكات اعتبرها بدعة منافية للدين ولما كان عليه السلف, فإنه لم يكن منفردا لوحده بهذا الاتجاه, حيث نجد في القرن 19 الذي ازدهر فيه النشاط الطرقي عدة دعوات وكتابات في فقه البدع عملت على مناهضة ما سمي ببدع الطرقية, والتوسل إلى الأضرحة, (تبنى المخزن نفسه الدعوة إلى استنكار تصرفات بعض الطرق الصوفية وحاربها). وقد اعتمدت أغلب الكتابات والدعوات التي كانت تسير في هذا المنحى في القرن 19 وما بعده على ما كتبه ابن الحاج الفاسي (ق 8هـ) في المدخل إلى تنمية الأعمال بتحسين النيات والتنبيه على بعض البدع أحمد زروق (ق 9هـ) في عدة المريد وتحدث فيه عن مناكر أصحاب التصوف والونشريسي وما كتبه في المعيار وكنون (ق 13هـ) وتآليفه في النصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقاومة البدع. ويعترف الناصري نفسه باستفادته مما كتبه هؤلاء خاصة منهم ابن الحاج الونشريسي واعتمادهما كمرجعين أساسيين في تآليفه خاصة منها تلك التي اهتمت بالبدع ونقد الطرقية, حيث كتب في كتابه تعظيم المنة ما نصه: "أما بعد فيقول مقيده أحمد بن خالد الناصري.. كلام يتعلق ببعض البدع المحدثة في الدين جمعته من كتاب المدخل وكتاب المعيار وغيرهما لينتفع به إن شاء الله عامة الناس وخاصتهم ويفرقوا بين الحق والباطل ويعرف من أعماله ما حلي جيده بالسنة المحمدية وما هو عنها عاطل فإن من لا يعرف الشر قد يقع فيه ومن جهل سبيل الغي فقد يقتفيه.. ولهذا جمعت ما أمكنني جمعه من هذه البدع المحدثة في الدين المصادمة لسنة سيد المرسلين"(43) وكان شعار الناصري في هذا الكتاب هو "اتبع ولا تبتدع" "فالخير كله في الاتباع والشر كله في الابتداع"(44).

 

وما ينبغي الإشارة إليه في هذا السياق أن الناصري وهو يشن حملته على بدع الطرقية لم يكن لينكر التصوف السني وما يرتبط به من ولاية فانتقاداته وجهها بالأساس إلى تصوف العوام الذي اعتبره بعيدا عن السنة وطريقة السلف, ولذا يقول في كتابه تعظيم المنة بنصرة السنة واصفا حال هؤلاء العوام المنتمين للطوائف الصوفية في عصره "فالغالب اليوم على هذا الصنف إنما هم البطالون الذين لا حرفة لهم تعي عليهم المذاهب في طلب المعاش فيدخلون هذه الطريق ليأكلوا فيها الدنيا بالدين"(45). فالعوام بالنسبة للناصري هم مجال انتشار البدع بامتياز، وهذا راجع إلى غلبة الجهل عليهم وانسياقهم نحو التقليد المذموم. وهذا يحيل إلى أن التقليد عند الناصري يعتبر مصدرا أساسيا من مصادر انتشار البدع التي هي مظهر من مظاهر الانحراف عن الإسلام الأصل والابتعاد عن ما كان عليه السلف. ولا يخفي الناصري أن من دواعي انتشار البدع المذمومة تقليد الأجنبي (الأوروبيين) الذين ازدادت مخالطتهم وانتشارهم في المغرب بل في الآفاق الإسلامية "فغلبتأحوالهم وعوائدهم على عوائد الجيل وجذبته إليها جذبة قوية".

 

ولهذا ستكون مهمة الإصلاح بهذا المعنى عند الناصري هو الدعوة إلى رفض التقليد والعودة إلى الأصل, سواء كان هذا الأصل نصا أو سلوكا, لدى سلف الأمة, وسواء كان ذلك في مجال التعليم أو التصوف أو غيره, إذ يبقى المرجع هو الإسلام الأصل الذي صار بفعل التقليد المذموم وانتشار البدع في العوائد والاعتقاد والسلوك "غريبا", وغربة الإسلام هي وليدة انفصام بين إسلامين, إسلام اجتماعي "المعاش" وإسلام معياري "النموذج". من هنا يتحدد الإصلاح بكونه رفضا للتقليد ودفاعا عن السنة ضد البدع وأمرا بالمعروف ونهيا عن المنكر وممارسة للحسبة من طرف العالم المصلح وتوجيه النصيحة لأصحاب السلطة "أولاة الأمر". بما تعنيه النصيحة من تلطف في القول والتزام جانب الأدب في الأمر بالمعروف من منطلق الرقابة التي يدعيها الفقهاء على المجتمع وعلى السلطة السياسية. ذلك أننا نلمس لدى الناصري الفقيه والمؤرخ التزامه بدور العالم الفقيه الذي عليه أن يقدم النصيحة والاستشارة لصاحب السلطة فهو لم يكتف في استقصائه بالقيام بدور المؤرخ بل تمسك بدوره كفقيه وكعالم انطلاقا من المرجعية الإسلامية التي تقول بأن "العلماء ورثة الأنبياء" وعليهم مهمة الإصلاح والتصدي للمنكر والبدع ومراقبة السلطة السياسية, فهل هذا ما جعل علاقته بالسلطة ّدولة الحسن الأول" تعرف نوعا من التوتر والالتباس وبالتالي هل هذا راجع إلى ازدواجية خطاب الناصري بين خطاب المؤرخ "الرسمي" وخطاب الفقيه: خطاب المؤرخ الذي عليه أن يصمت ويمجد ويسجل مآثر السلطان, وخطاب الفقيه الذي عليه أن يقدم النصيحة والاستشارة لأولي الأمر؟ إن هذا التساؤل يحيلنا إلى علاقة الناصري كصاحب سلطة علمية "فقيه ومؤرخ" بالسلطة السياسية لعصره.

 

5 – الناصري الفقيه المؤرخ وعلاقته بالسلطة:

 

إن القارئ لنص الاستقصا ليلاحظ أن الناصري يتخلى أحيانا عن دوره كمؤرخ ليدلي بدلوه كفقيه ومثقف في شؤون المجتمع والسياسة والعلاقات الخارجية للدولة: مسألة الحرب والسلم والتجارة مع الأوروبيين. وهو إذ يقوم بهذا الانزياح يعتمد في ذلك أسلوبا يعلن فيه أن ما يقوم به وما يسجله من أقوال هو ضروري وفيه نفع للمجتمع والدولة. فهو إذن يعي دوره كفقيه ملتزم برسالة إبداء النصيحة والقيام بمهمة الحسبة. وغالبا ما تأتي تدخلاته كجواب على الاستشارات التي كان يقوم بها السلطان الحسن الأول ويبعث بشأنها رسائله إلى العلماء والأعيان, ومن صيغه المعتادة في كتابه الاستقصا قوله: "وقد كتبت في هذه المسألة جوابا مطولا رأيت إثباته هنا خشية ضياعه ونصه"(46). وغالبا ما تأتي أجوبته أو أقواله إما بعد نص كتاب السلطان أو ظهير من ظهائره أو مبادرة من مبادراته الإصلاحية أو عقب إيراده لخبر يتعلق بمشكل في العلاقات الخارجية مع الدول الأوروبية التي كانت آنذاك تمارس ضغطها على المغرب, وكان الهاجس الذي حرك الناصري فيما أثبه من أقوال في تاريخه ليس فقط خشية ضياع نصوصه كما صرح بذلك, وإنما رغبته في الإدلاء برأيه وإسماع صوته في القضايا التي كانت موضوع الساعة من منطلق إصلاح أحوال الأمة والحرص على عدم سقوطها تحت سيطرة الأجنبي, وكان أمله قويا في دولة الحسن الأول لإنقاذ البلاد من الخطر الأجنبي وراهن عليه لتحقيق الإصلاح باعتباره الحاكم المصلح العادل, وكان الناصري من ذلك الصنف من المثقفين الذين يرون أن الإصلاح لا يمكن أن يتحقق إلا من فوق وبإرادة حاكم قوي ومصلح كما أنه يرى أنه من حق الفقهاء إبداء النصيحة ولذا لم يكن ليتردد في القيام بذلك دون أن يثير غضب السلطان. ومن أسلوبه في ذلك قوله بعد جوابه المطول عن استشارة الحسن الأول بصدد تصدير الأشياء الممنوعة: "نقول وإن كان من باب الفضول: إذا نظرنا ما عامل الله تعالى به عبده أمير المؤمنين مولانا الحسن أيده الله وجدناه والحمد لله مصنوعا له مصحوبا بالعناية, مكلوء بعين الرعاية الربانية تصحبه السعادة أينما توجه ويختار له في جميع ما يحاوله, ولا تنجلي مهماته إلا عن ما يسر الصديق ويسوء العدو, فالحمد لله على ذلك حمدا كثيرا وهو مع ذلك جميل الظن بربه, حسن العقيدة في توكله عليه, مفردا وجهته حريصا على استصلاح رعيته, ذا غيرة تامة على الدين الوطن بحيث فاق بذلك وغيره من خصال الخير كثيرا من ملوك عشيرته الذين تقدموه, وإذا كان كذلك فمن الرأي الذي لا رأي فوقه أن نفوض إليه في ذلك ونثق بحسن رأيه ويمن نقيبته ونجاوبه في هذه النازلة بأن الأمر في ذلك لا إلى غيره إذ هو الذي طوقه الله أمرنا…"(47). ورغم ما تضمنه هذا النص من إشادة بالسلطان وغيرته على الدين والوطن فإن هذا لم يكن ليسمح للناصري بأن يقترب من باب السلطان ونيل حظوة القرب من مجلسه, إذ ظل الناصري ذلك الموظف الصغير ولم ينفعه تأريخه الاستقصا الذي قدم نسخة منه للسلطان الحسن الأول, الذي لم يوليه أي اهتمام يذكر. إذ لم يحظ كتابه بالتقدير "الذي كان يتوقعه, بل جلب له اللوم". فهل يرجع هذا إلى أنه "لم يحاول فيه إخفاء الحقيقة وأنه خص فيه وزراء الملوك العلويين المتأخرين بالدور الأهم لتسيير شؤون الدولة"(48). و"أنه لم يعط في الاستقصا لعهد مولاي الحسن كل الأهمية التي كانت تنتظر منه"(49). إننا لا نتفق مع هذا الحكم لأن الناصري لم يكن ليخفي إعجابه بالحسن الأول, ولم يتغير رأيه في هذا السلطان حتى وإن لقي منه بعض الإهمال, إذ سجل عنه في إضافاته لتاريخه بعد موت الحسن الأول ما يفيد أنه ظل بالنسبة له "من خيار الملوك العلوية وأفاضلهم بما نشره من العدل وأصلح أحوال الرعايا وأبقى من الآثار بالمغرب وثغوره"(50)، ولم يخف تشاؤمه حول مستقبل المغرب بعد موته ومبايعة ابنه المولى عبد العزيز الشاب اليافع الذي عرف عصره تغلغلا أكثر للأجانب في دواليب الدولة والمجامع, وهذا ما أشار إليه الناصري بمرارة وتحسر على الماضي: "واعلم أيضا أن أمر هؤلاء الفرنج في هذه السنين قد علا علوا منكرا وظهر ظهورا لا كفاء له, وأسرعت أحواله في التقدم والزيادة إسراعا متضاعفا كتضاعف حبات القمح في بيوت الشطرنج حتى كاد يستحيل إلى الفساد, وعلم عاقبة ذلك وغايته إلى الله تعالى المنفرد بالغيب.

 

وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عم(51)

 

إن ما لا يمكن إنكاره هو أن الناصري كان ذلك الموظف الذي ظل يحركه طموحه أن يكون مقربا من السلطان فسخر لذلك ليس فقط ثقافته وتأريخه وإنما أيضا نسبه الشريف الذي ألف فيه كتابه طلعة المشتري في النسب الجعفري. غير أن هذا الطموح لم يتحقق ليس للأسباب السابق ذكرها وليس أيضا لأن السلطان الحسن الأول كان له مؤرخه الرسمي الذي كان في خدمته (أحمد بن الحاج ت 1858م وألف كتابه في مآثر الحسن الأول سماه الدر المنتخب المستحسن في بعض مآثر أمير المؤمنين مولانا الحسن,) وإنما لأن الناصري كان يتأرجح بين موقفين أو دورين: دور العالم والفقيه المعارض صاحب السلطة العلمية, ودور المؤرخ السلطاني, حيث نجده أحيانا يشيد بمحاسن الدولة ويعدد مآثر السلطان وأحيانا ينتقد ويمارس دور الفقيه في النصيحة لأولي الأمر, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وكونه عاش توترا بين هذين الاختيارين وأراد في النهاية أن يوفق ويجمع بينهما فيكون بذلك المؤرخ المدافع عن الدولة وسياساتها والفقيه المتقد الذي يبدي رأيه المستقل في المشاكل التي اعتبرت عنده بمثابة نوازل عليه أن يفتي فيها شرعا من منطلق أن من حق الفقهاء باعتبارهم ورثة الأنبياء أن يمارسوا سلطة الرقابة على السلطة السياسية، لأن الناصري من ذلك الصنف من الفقهاء الذي يرى ضرورة تطابق السلطة السياسية مع الشريعة. من هنا اعتقاده بدور الرقيب الذي ينبغي أن يقوم به الفقيه في المجتمع الإسلامي. لكن صاحب السلطة السياسية لا يسلم له بذلك. ذلك أن الحاكم كان دائما يسعى إلى "استتباع الفقهاء بالترغيب أو بالترهيب حسب الاقتضاء"(52). لكن أية رقابة وأي نقد بل وأية معارضة أبداها الناصري تجاه السلطة, علما أنه كان يدافع عن مبادراتها سواء منها ما تعلق بإصلاح الجيش أو عقد الصلح والهدنة مع الأوروبيين؟ إن ما كان محط تحفظ ونقد من طرف الناصري هو ذلك الانفتاح الغير المراقب الذي سلكته الدولة تجاه الأوروبيين لأنه وإن كان يقول بمهادنتهم للضرورة والاستفادة منهم ما من شأنه أن يقوي الدولة خاصة الجانب التقني العسكري, فإنه لم يكن ليخفي موقفه الذي يرجع أزمة المغرب إلى انفتاحه ومخالطته للأوروبيين, حيث كتب في تاريخه فقرات عديدة تؤكد عن الضرر الناتج عن مخالطة وممازجة الأجانب مثل قوله: "ولعمري إن في اختلاطهم بنا وممازجتهم لنا (يقصد الأوروبيين) لمضرة وأية مضرة وما يعقلها إلا العالمون"، وقوله أيضا "إن أهل المغرب أقل الأمم اختلاطا بهم (ولذا) فهم أرخص الناس أسعارا وأرفقهم معاشا وأبعدهم زيا وعادة من هؤلاء الفرنج وفي ذلك من سلامة دينهم ما لا يخفى". وأيضا قوله: "واعلم أن أحوال هذا الجيل قد باينت أحوال الجيل الذي قبله غاية التباين وانعكست عوائد الناس فيه غاية الانعكاس, وانقلبت أطوار أهل التجارة وغيرها من الحرف في جميع متصرفاتهم لا في سككهم ولا في أسعارهم ولا في سائر نفقاتهم بحيث ضاقت وجوه الأسباب على الناس وصعبت عليهم سبل جلب الرزق والمعاش حتى لو نظرنا في حال الجيل الذي قبلنا وحال جيلنا الذي نحن فيه وقايسنا بينهما لوجدناهما كالمتضادين, والسبب الأعظم في ذلك ملابسة الفرنج وغيرهم من أهل الأوبا للناس وكثرة مخالطتهم لهم وانتشارهم في الآفاق الإسلامية, فغلبت أحوالهم وعوائدهم على عوائد الجيل وجذبته إليها جذبة قوية"(53). ويتضح هذا الموقف لدى صاحب الاستقصا من رفضه إدخال القطار والتليغراف إلى المغرب من طرف الأوروبيين, لأنهما في نظره ليس سوى أداة للمزيد من التغلغل الأجنبي في المغرب, ولذا لم يتوانى في إعلانه تأييده للحسن الأول حين أبدى هذا الأخير تردده إزاء إلحاح الأوروبيين على إحداث القطار والتليغراف بالمغرب سنة 1887م وفي هذا السياق كتب "وفد على السلطان أيده الله عدة باشادورات (أي سفراء) للأجناس مثل باشادور الفرنسيين والأصبنيول والبرتغال. وغيرهموتكلم الفرنسيس في شأن بابور البر (أي القطار) والتلغراف وإجراءهما بالمغرب كما هو بسائر بلاد المعمور، وزعم أن في ذلك نفعا كبيرا للمسلمين والنصارى. وهو والله عين الضرر. وإنما النصارى أجربوا سائر البلاد, فأرادوا أن يجربوا هذا القطر السعيد الذي طهره الله من دنسهم. نسأل الله أن يكبت كيدهم ويحفظ المسلمين من شرهم.."(54).

 

إن الناصرى في موقفه هذا, الرافض للانفتاح والاختلاط بالأجانب وممازجتهم هو تعبير عن نقد مبطن لما كانت تقدمه السلطة من تنازلات سهلت تغلغل الأوروبيين وعاداتهم في المجتمع المغربي وفي جهاز الدولة نفسه, وهو لم يكن ينظر بعين الرضا لتواجد بعض أطرهم ونوابهم وقناصلهم داخل البلاط وفي المدن المغربية لأنهم في نظره لا يقومون "إلا بتجسس الأخبار" "وبتطلع العورات" و"ترصد الغفلات" وقد كتب في تاريخه ما ينم عن هذا الشعور بعد حديثه عن "مبايعة أهل العقد والحل" للسلطان عبد العزيز الذي لم يتردد الناصري في القول بأنه هو الآخر, كوالده الحسن الأول, قد تسربت إليه جماعة من نواب الأجناس "فقدموا عليه حضرة فاس مظهرين أنهم إنما قدموا للتهنئة ومرادهم خلاف ذلك (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين) وما ظنك بمن يزعم أنه قدم للتهنئة وهو مقيم بالحضرة هذه مدة من أربعة أشهر يتجسس الأخبار ويتطلع العورات ويترصد الغفلات, ويحصي الأنفاس لعله تظهر له خلة أو تمكنه فرصة, نسأل الله تعالى أن يرد كيده في نحره, ويعديه بعاره وعره آمين. ولعمري ما الحامل على هذا ونحوه إلا قلة الحياء من الله ومن الناس, وإلا فما معنى الإقامة في سبيل التهنئة أربعة أشهر, ثم انظر ما يزاد منها بعد ذلك, وكان مما يؤثر من كلام النبوة الأولى "إذا لم تستحي فاصنع ما شئت" وحسبنا الله ونعم الوكيل"(55).

 

من هنا نفهم مثلا لماذا سكت الناصري في تاريخه عن نشاطات القناصلة الأوروبيين وما تقدموا به من برامج إصلاحية للحسن الأول, وكذا عدم ذكره للبعثات الطلابية التي أرسلها هذا الأخير إلى أوروبا, فهل يعني هذا تحفظه على هذا الانفتاح الذي سلكه الحسن الأول بما فيه استقدامه بعض المدربين الأجانب الغير المسلمين للاستعانة بهم في تدريب جيشه؟ علما بأن الناصري قد أحال في قوله اتخاذ الجيش وإصلاحه على التجربة التركية العثمانية باعتبارها نموذجا إسلاميا ينبغي أن يحتذى, وعلى الدولة المغربية الاستعانة بالعثمانيين كمسلمين في تنظيم وإصلاح جيشه, وهذا المطلب نفسه هو ما جاء لاحقا في البيعة الحفيظية التي أعدها جماعة من علماء فاس، وكانت من إملاء الشيخ محمد الكتاني، إبان انقلاب عبد الحفيظ على أخيه السلطان المولى عبد العزيز وفي الوقت الذي كان فيه الاستعمار الفرنسي على الأبواب والمغرب المستقل يلفظ آخر أنفاسه, إذ تضمنت تلك البيعة إلى جانب مطلب إلغاء الحمايات وميثاق الجزيرة وإقرار العدل, تضمنت "الكف عن استشارة الأجانب في ما يخص مصالح الأمة"(56).

 

وهذا ما يفيد في نظرنا أن موقف الناصري من استعانة الدولة آنذاك بالأجانب الغير المسلمين هو ما شكل وجهة نظر الفقيه المعارض الذي رأى أن سياسة الاستعانة بغير المسلمين لا تطابق الشريعة. لأن الثابت لدى الفقهاء نظريا هو أن السلطة ينبغي أن تنقاد إلى الشريعة وأن شهادتهم "على أي نظام سياسي هي الكفيلة ببيان مطابقته الشريعة أو ابتعاده عنها, وبالتالي بإضفاء الشرعية عليه أو نزعها عنه. لقد ألح العالم دائما على واقع تمايز السلطتين العلمية والسياسية لكي يهيئ لنفسه القيام بدور الرقيب على هذه الأخيرة"(57). وهذا في نظرنا ما جعل المؤرخ الناصري يدفع ضريبة قيامه بهذا الدور بإبقائه بعيدا عن باب السلطان، رغم أنه دافع عن سياسته أكثر من مناسبة واحتفظ إلى جانب ذلك برأي نقدي مستقل. اكتفى أحيانا بالتلميح به أكثر من التصريح به. لكن السلطة قد تقبل من المثقف كل شيء إلا أن يكون له رأي نقدي مستقل.

 

فالناصري, بهذا الموقف كان يعبر عن دور تقليدي للفقهاء في نقدهم للسلطة. واعتمادهم مفهوم النصيحة والأمر بالمعروف دون أن يكون ذلك في اتجاه الثورة على الحكام أو خلع بيعتهم، لأن الفقيه يعتبر ذلك من الفتنة والفتنة أشر من القتل. فهو وإن كان يدعو إلى رقابة الفقهاء وسيادة سلطتهم فإنه يدعو أيضا إلى طاعة أولي الأمر. على اعتبار أن الحكام في نظره هم "الذين طوقهم الله أمرنا" (هذا تعبير ورد للناصري جاء في ختام جوابه عن كتاب للحسن الأول إلى الرعية يستشيرهم فيه حول تسريح تصدير الحبوب والأنعام والبهائم إلى الخارج).

 

كما أنه أيضا في تصوره للإصلاح كان يعبر عن إصلاح تقليدي يرى أن الإسلام مكتف بذاته. وينبغي بالتالي العودة إلى الأصول واستعادة تجربة السلف الصالح. ولقد كانت للظرفية التاريخية التي عاشها الناصري والمتسمة بتصاعد الضغط الأوروبي والتغلغل الأجنبي في البلاد وخوفه بالتالي من أن يؤدي الانفتاح والإصلاح الذي نهجته الدولة بمبادرة منها أو باقتراح من الأوروبيين إلى فقدان البلاد لاستقلالها وسقوطها تحت هيمنة الأجنبي فهذا الخوف بلا شك هو الذي غذى لدى الناصري وجيله ذلك الخوف من الانفتاح والميل للانغلاق ورفض الأجنبي.

 

ويمكن أن نستنتج مما تقدم أن ما كيف منطق الإصلاح لدى الناصري ليس فقط تكوينه الثقافي والفقهي, ولكن أيضا الضغط الأجنبي الذي مورس على المغرب آنذاك من طرف القوى الأوروبية, وخوفه من نتائجه على الهوية. وهذا جعل إصلاحه وسلفيته وموقفه من الأجانب بمثابة رد فعل ضد هذا الضغط أو التهديد الأجنبي الذي نظر إليه من طرف الناصري وغيره من فقهاء عصره على أنه يشكل خطرا ليس فقط على الدولة والمجتمع والهوية الثقافية, وإنما أيضا على فئة الفقهاء أنفسهم ومكانتهم, باعتبارهم حماة القيم الدينية والثقافية للمجتمع التقليدي الذي كان آنذاك على أبواب تحولات جديدة قد تتعارض ومصالح الفقهاء. ولهذا السبب لم تكن فئة العلماء, أصحاب السلطة العلمية, ترى في الإصلاحات التي اقترحها الأجانب على المخزن, سوى مؤامرة يراد بها القضاء على الشريعة والمؤسسات الإسلامية, وعلى مكانة العلماء في المجتمع المغربي. كما أنهم لهذا السبب نفسه اتخذوا الهجوم من فئة التجار التي تزايد نفوذها السياسي والاقتصادي ونافست العلماء في المناصب والوظائف المخزنية مستفيدة أحيانا من قربها من الخزن, وأحيانا من احتمائها بالأجانب, وأيضا من انفتاح المغرب على التجارة الأوروبية.

 

وأخيرا فإن الناصري في أزمته وتردده وردود فعله, وفي رؤيته للأجنبي كان يلخص أزمة وتناقضات وسلبية النخبة المغربية في عصره في فترة حاسمة وخطيرة من تاريخ المغرب الذي كان قادته يصارعون من أجل إيقاف التدخل الأوروبي بالقيام بمبادرات إصلاحية انتهى جلها إلى الفشل ولم يقدم الناصري في هذا السياق ضمن تصوره الإصلاحي إلا اقتراحات يظهر أنها لم تنصت بشكل جيد للتحولات التي كان يعرفها المغرب والعالم آنذاك. فباستثناء ما كتبه عن الجيش، فهو لم يهتم مثلا بالإصلاح المالي والنقدي والتجاري والقضائي, رغم أنه كان موظفا له دراية بما كانت تطرحه هذه المجالات من مشاكل، واكتفى عوض ذلك بالاهتمام بالأخطار والأضرار الناجمة عن الاختلاط والانفتاح على الأوروبيين وثقافتهم وعاداتهم مع حضور نزعة قدرية في رصده للواقع وللمستقبل وتفويضه الأمر إما للسلطان أو لله, وكأن البشر والمجتمع غير قادرين على التدخل والتأثير فيما يقع, وهذا النمط من التفكير القدري السلبي الذي عبر عنه الناصري يكشف عن وعي جيل عجز عن تقديم أية حلول لإخراج المغرب آنذاك من أزمته التي قادته لاحقا إلى الوقوع تحت نير الاستعمار n

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) الناصري أحمد بن خالد, الاستقصا, دار الكتاب, الدار البيضاء 1956, ج9, ص53.

(2) وردت ترجمة للناصري في الجزء الأول من تاريخه الاستقصا, تحدث عنه ليفي بروفنصال في كتابه مؤرخو الشرفاء, تعريب عبد القادر الخلادي, ص253-266.

(3) ليفي بروفنصال, مؤرخو الشرفاء, تعريب عبد القادر الخلادي, مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر, الرباط, ص253.

(4) محمد بن الحسن الحجوي, الفكر السامي في تاريخ الفكر الإسلامي, دار التراث, القاهرة, ج2, ص308-309.

(5) المنوني محمد, مظاهر يقظة المغرب الحديث, مطبعة المتوسط, بيروت, الطبعة الثانية, ج1, ص324-325.

(6) ليفي بروفنصال, مؤرخو الشرفاء, مرجع سبق ذكره.

(7) نذكر من ضمن هذه النصوص كشف الغمة ببيان أن حرب النظام حق على هذه الأمة للكردودي وقمع الكفرة بالسنان والحسام في بيان إيجاب الاستعداد وحرب النظام للغالي بن محمد العمراني, تاج الملك المبتكر ومداده من خراج وعسكر لمحمد بن الفلاق السفياني, عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة لعلي السوسي.

(8) عبد الله ساعف, السياسي والعسكري من خلال كتابات مغربية في القرن 19, مجلة أبحاث, عدد 19 – 1989, ص49.

(9) نفس المرجع.

(10) نفس المرجع.

     (11) بعد ذكره وقعة تطوان تراجع الجيش المغربي أمام الجيش الإسباني, وهذا الاقتران بين تأريخه لوقعة تطوان وتراجع الجيش المغربي أمام الجيش الإسباني وقوله في إصلاح الجيش لم يأت صدفة بل كانت له دلالته.

(12) الناصري, الاستقصا, الجزء التاسع, ص103, سبق ذكره.

(13) الناصري, الاستقصا, ج9, ص106.

(14) الناصري, نفس المرجع, ص106.

(15) الناصري, نفس المرجع, ص106-107.

  (16) المصلحة المرسلة في اصطلاح الأصوليين كناية عن الوصف المناسب الملائم لتشريع الحكم الذي يترتب على ربط الحكم به جلب منفعة أو دفع مفسدة أو رفع مضرة والذي لا دليل عليه في التشريع (القرآن والسنة) وقد اعتمدت المصالح المرسلة من طرف الصحابة وبعد موت النبي وتوسع الدولة الإسلامية حيث اقتضت المصلحة تنظيم الجيوش والدواوين واتخاذ السجون وسك النقود وجمع القرآن وتدوينه وفرض الضرائب لسد حاجيات الجنود, وقد اعتبر مالك بن أنس المصالح المرسلة دليلا كسائر الأدلة الشرعية وكان كثير الاعتماد عليها والأخذ بها وسمي الأخذ بها استحسانا ولذلك كان يقول "الاستحسان تسعة أعشار العلم" لأن الشرع عنده ما جاء إلا لمصالح الناس (انظر تاريخ المذاهب الإسلامية, للإمام محمد أبو زهرة دار الفكر العربي، ص401).

(17) نفس المرجع, ص103.

(18) المنوني, يشير في كتابه مظاهر يقظة المغرب الحديث, ج1, ص335 إلى وجود معارضة للسلطان من طرف تيار من العلماء خاصة فيما يتعلق بمشكلة مدى شرعية توظيف المعونة وإحداث ضرائب أو مكوس للأنفاق على التنظيم الجديد للجيش ويتضح هذا من استشارة السلطان محمد الرابع لفقهاء عصره، وكذا ما قام به الحسن الأول مستشيرا بدوره علماء فاس, عن الحكم الشرعي في هذه المسألة وهل تعتبر الإعانة مكسا؟ عن هذا السؤال كتب علي السوسي جوابه عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة.

(19) م.المنوني, انظر مظاهر..

(20) نص الاستشارة السلطانية في هذه النازلة وردت ضمن الاستقصا ج9, ص182, وكتب عنها المنوني في مجلة دار النيابة, السنة الثانية,العدد8, ص13-24. تحت عنوان: (وثيقة عن استشارة السلطان الحسن الأول لنخب مرتية فاس وما إليها في نازلة اقتصادية).

(21) الاسقتصا, ج9, ص184-192.

(22) توضيح للمسألة.

(23) ورد في جواب الناصري عن استشارة الحسن الأول في: الاستقصا, ج9, ص186-187.

(24) نفس المرجع, ص189.

(25) ع.العروي, مفهوم العقل, المركز الثقافي العربي الدار البيضاء, المغرب, ط1, 1996, ص337.

(26) هو الفقيه أبو الحسن علي مديدش التسولي (ت.1842) كان السلطان مولاي عبد الرحمان قد كلفه بالإجابة عن السؤال الذي طرحه عبد القادر الجزائري  على علماء فاس بشأن الجهاد ضد الفرنسيين. فأجاب برسالة مطولة.

(27) المنوني, مظاهر… ص28, ج1.

(28) وقد ازداد التيار الجهادي انتشارا بين الفقهاء المغاربة منذ احتلال الجزائر 1830, حيث نذكر إلى جانب التسولي ممن كانوا يدافعون عن نظرية الجهاد محمد بن عبد القادر الكردودي صاحب كتاب كشف الغمة الذي كان يدعو إلى إحياء فريضة الجهاد التي اندثرت.

(29) انظر ما ورد في: المنوني, المظاهر, ص 380, ج2.

(30) الاستقصا, ص189, ج2.

(31) المرجع السابق, ص190.

(32)  المرجع السابق, ص191.

(33)  انتقد ابن خلدون الفقيه المالكي الطرطوشي ونظريته في الجهاد في كتابه سراج الملوك, انظر ما كتبه عبد الله العروي بصدد ابن خلدون والجهاد في كتابه مفهوم العقل,مرجع سبق ذكره, ص136.

(34)  عبد الله العروي, مفهوم الحرية, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, ص11.

(35)  الاستقصا, ج9, ص112-113-114-115.

(36)  مفهوم الحرية… مرجع سبق ذكره, ص11-125.

(37) الاستقصا, ج2, ص96-97.

(38) الاستقصا, ج1, ص16-17 من ترجمة المؤلف الذي ورد فيها أيضا أن الناصري عرض أفكاره في مسألة إصلاح التعليم ونقد ما كان سائدا من طرقه في عصره في مقدمة حاشيته على التبصرة المسماة الفلك المشحون بنفائس تبصرة فرحون.

(39) أغلب الإصلاحيين المغاربة واجهوا هذه الظاهرة حيث نجد مثلا محمد بن الحسن الحجوي ينتقد الفقهاء الذين كانوا يتجنبون تدريس التفسير في عصره اعتقادا منهم بأن تدريسه يؤدي إلى موت السلطان وقام بإلقاء دروس في التفسير كتعبير عن ذلك.

(40) انظر الاستقصا, ج1, ص142.

(41)  نص الرسالة أوردها الناصري في استقصائه, ج8.

(42)  الاستقصا, ج1, ص142-143.

(43)  الناصري, تعظيم المنة, مخطوط.

(44)  نفسه.

(45)  نفسه.

(46)  الاستقصا, ج9, ص184.

(47)  نفسه.

(48)  على حد قول ليفي بروفنصال, مؤرخو الشرفاء, ص258, مرجع سبق ذكره.

(49)  نفسه, ص262.

(50)  نفس المرجع, ص207.

(51)  الاستقصا, ج9, ص208, مرجع سبق ذكره.

(52)  علي أمليل, السلطة الثقافية والسلطة السياسية, مركز دراسات الوحدة العربية, بيروت, 1996, ط1, ص11.

(53)  الاستقصا, ج9, ص207-208.

(54)  نفسه, ص162.

(55)  نفسه, ص162.

(56)  إبراهيم حركات, التيارات السياسية والفكرية بالمغرب, ط1, مطبعة الدار البيضاء, 1985, ص147.

(57)  ع.أمليل, السلطة الثقافية والسلطة السياسية, ص11.

المصدر: https://www.aljabriabed.net/n24_02aarab.htm

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك