الفلسفة وعلم النفس

حوار مع م.فوكو

ترجمة: محمد ازويتة وحميد طاس

 

غير أني عندما أقول بأن علم النفس هو عقبة، وقدر محتوم يستحيل تجاوزه، فأنا لا أنتقده كعلم، أي لا أقول بأن عليه أن يكون أقل أو أكثر فلسفة. سأقول ببساطة بأن هناك نوعا من السبات الأنتربولوجي الذي وجدت فيه الفلسفة وعلوم الإنسان نفسها، بشكل أو بآخر، منجذبة وغارقة مع بعضها البعض، وبالتالي (ما) يجب (فعله) هو الاستيقاظ (والخروج) من هذا السبات الأنثروبولوجي، كما تم الاستيقاظ من السبات الدوغمائي سابقا

 

أجرى الحوار أ.باديو

 

أ.باديو: ما هو علم النفس؟

 

م.فوكو: في رأيي ليس من الضروري تعريف علم النفس كعلم، ولكن ربما كشكل ثقافي، وهذا التحديد يندرج ضمن سلسلة من الظواهر التي عرفتها الثقافة الغربية منذ القدم، والتي استطاعت أن تتولد داخلها مجموعة من الأشياء كالاعترافات والحوارات، أو الخطابات، أو طرق التفكير، والتي يمكن معاينتها داخل بعض الأوساط في العصر الوسيط، أو في دروس للحب، أو في بعض الأوساط المتميزة في القرن السابع عشر الميلادي.

 

- هل توجد هناك علاقات داخلية أو خارجية بين علم النفس كشكل ثقافي وبين الفلسفة كشكل ثقافي؟ وقبل ذلك، هل يمكن اعتبار الفلسفة شكلا ثقافيا؟

 

- إنك تطرح (هنا) سؤالين:

 

1 – هل الفلسفة شكل ثقافي؟ سأقول لك بأني لست شديد الاهتمام بالفلسفة: وبالتالي لست في موقع يؤهلني لأعرف ذلك، (غير أنني) أظن أن هذا هو المشكل الكبير الذي يدور حوله النقاش حاليا، فربما تكون الفلسفة فعلا هي الشكل الثقافي الأكثر شمولية، والذي يمكننا من خلاله التفكير في ماهية الغرب.

 

2 – والآن ما هي العلاقة القائمة بين علم النفس كشكل ثقافي والفلسفة؟ هنا، أظن أننا داخل نقطة خلاف، يتعارض فيها كل من الفلاسفة وعلماء النفس منذ مائة وخمسين سنة. هذا المشكل الذي يعاد إثارته حاليا عبر مجموعة من الأسئلة، التي تتمحور حول إصلاح التعليم.

 

أظن أنه يمكن قول ما يلي: فعلا، من خلال علم النفس كانت العلوم الإنسانية في علاقة متشابكة مع الفلسفة منذ القرن 19 الميلادي، كيف يمكن إدراك عماء أو غموض وعيها الخاص ومناهجها قد حددت لنفسها مجالا سمته الروح أو الفكر، والذي يشكل حاليا إرثا وجدت العلوم الإنسانية (نفسها) مدعوة إلى توظيفه بطريقة واضحة وجلية وعلمية؟

 

هذا وإن كانت العلوم الإنسانية قد أخذت على عاتقها الاهتمام –بصفة شرعية- بهذا المجال الواسع المشار إليه سابقا، فلأن الفلسفة قد تركته بدون استثمار.

 

هذا ما يمكن أن نجيب به، وأظن أن هذا هو ما يقول به (أيضا)، وبكل تلقائية، أولئك الذين عرفوا بأنهم المشتغلون بالعلوم الإنسانية، أولئك الذين يعتبرون أن المهمة الفلسفية التقليدية، التي ولدت مع الفكر الإغريقي هي ما يجب إعادة الاهتمام بها حاليا، ولكن هذه المرة بأدوات العلوم الإنسانية. لا أظن أن هذا يحيط تماما بالمشكل، إذ يبدو لي أن تحليلا كهذا للأشياء يظل مرتبطا بشكل بديهي بتصور فلسفي هو الوضعية Positivisme.

 

يمكن أن نقول أيضا شيئا آخر مضادا: وهو أن شيئا مثل الأنثربولوجيا قد أصبح ممكنا منذ القرن التاسع عشر الميلادي، وربما يكون هذا جزءا من قدر الفلسفة الغربية. وعندما أقول الأنتروبولوجيا، فأنا لا أقصد بها ذلك العلم الخاص المسمى بالأنثربولوجيا، والذي يدرس الثقافات الأخرى المغايرة لثقافتنا، بل أعني بها تلك البيئة الفلسفية الخالصة، التي جعلت حاليا جميع المشاكل الفلسفية تسكن داخل مجال يمكن نعته بمحدودية الإنسان. فإذا كنا لا نستطيع أن نتفلسف إلا في الإنسان، باعتباره كائنا طبيعيا homo natura أو كائنا متناهيا être fini، أفلا يمكن اعتبارا لذلك أن تصبح كل فلسفة في العمق أنتروبولوجيا؟ وفي هذه الحالة تصبح الفلسفة هي (ذلك) الشكل الثقافي الذي تكون كل علوم الإنسان –بصفة عامة- ممكنة داخله. هذا ما يمكن أن نقوله حول هذه العلاقة بين الفلسفة وعلم النفس، والذي سيكون إذا أردتم تحليلا مخالفا لما قلته منذ قليل، والذي يمكن أن يضم العلوم الإنسانية داخل هذا القدر الكبير للفلسفة الغربية، فيمكن –كما قلت سابقا- أن نجعل الفلسفة كمشروع لا هم له إلا ما يجب أن تكون عليه العلوم الإنسانية. هذا ما يمكن أن يعنيه هذا التقاطع، والذي لا بد أن نفكر فيه الآن حيث نحن، كما يمكن أن نفكر فيه عموما في السنوات المقبلة.

 

- قلتم في التصور الأول إن الفلسفة عموما منحت ميدانها لعلم وضعي ضمن لها التوضيح الفعلي. تبعا لهذا التصور، ما الذي يضمن خصوصية علم النفس بالنظر إلى أنواع أخرى من البحث؟ هل تستطيع الوضعية ضمان هذه الخصوصية بوسائلها الخاصة؟

 

- الواقع أنه في الزمن الذي كانت فيه العلوم الإنسانية تصوغ إشكاليتها ومجالها ومفاهيمها انطلاقا من فلسفة كانت في مجملها هي فلسفة القرن 18م، أظن أنه كان من الممكن –آنذاك- تعريف علم النفس إما كعلم للروح، أو للوعي، أو علم يهتم بالفرد، ففي هذا السياق أظن أن القسمة بين علم النفس وباقي العلوم الإنسانية التي كانت ممكنة في ذلك الوقت كانت واضحة جدا:فيمكننا أن نقابل علم النفس (كعلم للروح) بالعلوم ذات الطبيعة الفيزيولوجية، كما نقابل الروح بالجسد، كما يمكننا مقابلة علم النفس (كعلم للفرد) بالسوسيولوجيا، كما نقابل الفرد بالجماعة، (ولكن)، إذا كنا نعرف علم النفس كعلم يهتم بالوعي، فمع أي شيء يمكن أن نقابله؟

 

الواقع أنه في زمن يمتد بشكل عام من شوبنهاور إلى نيتشه، كان من الممكن القول إن علم النفس يقابل الفلسفة، كما يقابل الوعي اللاوعي. وبالتالي أظن أن إعادة التنظيم وإعادة التقطيع بين العلوم الإنسانية قد تمت وبشكل دقيق حول إبراز ماهية اللاوعي، أي حول فرويد أساسا، إذ مع ظهور فرويد فقد ذلك التعريف الوضعي لعلم النفس كعلم يهتم بالوعي وبالفرد، والموروث عن القرن 18، كل قيمته.

 

- لنضع أنفسنا الآن في أفق آخر: بالنظر إلى إشكالية اللاشعور التي تبدو لكم كأساس لإعادة هيكلة مجال العلوم الإنسانية، ما هو المعنى الذي تعطونه للاوعي، إذا اعتبرنا أن العلوم الإنسانية تشكل لحظة مصيرية للفلسفة الغربية؟

 

- في الواقع إن مشكلة اللاشعور تطرح صعوبة بالغة، إذ يبدو ظاهريا أن التحليل النفسي هو شكل من علم النفس ينضاف إلى علم نفس الوعي ليضاعفه (ويكرره) بطبقة إضافية هي طبقة اللاشعور، غير أنه سرعان ما لوحظ أنه باكتشاف اللاشعور قد اجتذب معه، في نفس الوقت، مجموعة من المشاكل التي لا تهم تحديدا الفرد أو الروح المقابلة للجسد، بل إنه قد تم، داخل الإشكالية النفسية الخالصة، إعادة ما كان حتى ذلك الوقت مبعدا عنها. فقد تمت إعادة إدخال الجسم باسم الفيزيولوجيا، كما تم باسم السوسيولوجيا إعادة ربط مشكلة الفرد مع وسطه أو مع الجماعة التي ينتمي إليها، أو مع المجتمع الذي أخذ منه، أو مع الثقافة التي لم يفتأ هو وأجداده يفكرون داخلها، الشيء الذي يجعل أن مجرد اكتشاف اللاشعور، لا يمثل تجميعا لميادين مختلفة، ولا توسيعا لميدان علم النفس، ولكن، في الواقع هي عملية اقتحام لعلم النفس وبواسطته لمختلف الميادين التي تشمل العلوم الإنسانية، لدرجة يمكن معها القول، أن كل العلوم الإنسانية قد أصبحت مع فرويد بطريقة أو بأخرى، علوما للنفس Sciences de la psyché .

 

وهكذا يبدو لي، أنه أصبح من المستحيل الآن التفكير بمنطق الواقعية القديمة على الطريقة الدوركهايمية، التي كانت ترى المجتمع "كشيء" يتعارض مع الفرد الذي هو بدوره "شيء"، مندمج في المجتمع، كما أن التمييز القديم بين الروح والجسد، والذي كان يعين الشيء الكثير، بالنسبة لعلم النفس الفيزيولوجي للقرن 19م، لم يبق له وجود حيث نعرف الآن جيدا أن جسمنا هو جزء لا يتجزأ من نفسنا، أولا ينفصل عن هذه التجربة التي يهتم بها علم النفس والتي هي في نفس الوقت واعية، ولا واعية، لدرجة أنه لم يبق شيء في العمق إلا علم النفس.

 

- يبدو أن إعادة الهيكلة المشار إليها، قد أدت إلى نوع من الكليانية Totalitarisme النفسية تمحورت حول تيمة –حسب تعبيرك- اكتشاف اللاوعي، غير أن لفظة "الاكتشاف" قد ارتبطت عموما بسياق علمي. في ظل ذلك، كيف تفهمون مسألة اكتشاف اللاشعور؟ بأي نوع من "الاكتشاف" يتعلق الأمر؟

 

- معروف أن اللاشعور (حرفيا) قد تم اكتشافه من طرف فرويد "كشيء"، وقد أدركه كمجموعة من الميكانيزمات الموجودة في الإنسان عموما، وفي أي إنسان على وجه الخصوص.

 

فهل نفهم من ذلك أن فرويد قد اتجه بعلم النفس إلى نوع من التشيؤ الجذري والذي لم يتوقف تاريخ علم النفس المعاصر كله بعد ذلك عن الرد عليه. حتى حدود ميرلوبونتي والمفكرين المعاصرين؟ من الممكن. غير أنه من الممكن كذلك أن يكون علم النفس –داخل هذا الجو العام- قد أصبح نتيجة تعرضه للنقد شيئا ممكنا. ولكن من جهة أخرى فاللاشعور بالنسبة لفرويد يمتلك بنية لغوية، فلا يجب أن ننسى مع ذلك أن فرويد مفسر (Exégete) وليس سيميولوجيا Sémiologue، مؤولا Interprète وليس نحويا Grammairien ومشكلته أساسا ليست مشكلة لسانية، بل مشكلة تفسير الرموز Déchiffrement.

 

ولكن ما الذي تعنيه لفظة "أول"، وماذا يعني أن نتعامل مع اللغة لا كلساني ولكن كمفسر وكمؤول سوى أن نقبل أولا بوجود نوع من الخطاطة (العامة) المطلقة التي يجب أن نكتشفها في ماديتها، ونعرف ثانيا أن هذه الخطاطة المادية تحمل دلالة معينة، ثم نحاول أن نتعرف على ما تريد أن تقوله ثالثا، ورابعا (وأخيرا) أن نكتشف وفقا لأية قوانين أرادت تلك العلامات أن تقول ما تريد قوله. ففي هذه اللحظة، وفي هذه اللحظة بالذات نتعرض للمستوى السيميولوجي، أي مشاكل المجاز المرسل والاستعارة على سبيل المثال، بمعنى الإجراءات التي تستطيع بواسطتها مجموعة من العلامات امتلاك القدرة على قول شيء ما، غير أن هذا الاكتشاف الرابع، هو فقط رابع بالنسبة لثلاثة اكتشافات (سابقة) أكثر أهمية، وهاته الأخيرة هي اكتشاف لشيء ما موجود هنا، أمامنا، اكتشاف لنص يجب تأويله، اكتشاف لأرض غريبة، تفتح أفقا على تأويل herméneutique ممكن.

 

- يميز المختصون في تفسير النصوص بين عملية "تفسير الرموز" déchiffrement وعملية "فك الرموز" décryptage، فـ "تفسير الرموز" يتضمن تفسير نص نتوفر على مفتاح له، بينما عملية "فك الرموز" تتضمن تفسير نص لا نتوفر على مفتاحه، أي عن بنية الرسالة نفسها. فهل ستكون المناهج النفسية من قبيل عملية "تفسير الرموز" وعملية "فك الرموز"؟

 

- سأقول لك بأنها عملية "فك للرموز"، غير أنها ليست هي تحديدا، ذلك أن مفاهيم مثل "تفسير الرموز" و"فك الرموز" هي في نظري مفاهيم قد تم تحديدها أساسا من طرف اللسانين، بهدف استعادة ما لا يمكن استعادته عند أية لسانيات أي علم التأويل..

 

فنلقبل إذن، إذا أردتم مفهوم "فك الرموز" (وبالتالي) سأقول لك بأن فرويد هو فعلا مفكك للرموز، بمعنى أنه يعرف أن هناك رسالة (ولكن) لا يعرف ما الذي تريد قوله، كما أنه لا يعرف القوانين التي تجعل العلامات تملك القدرة على قول ما تريد قوله. يتوجب عليه إذن وبحركة واحدة العمل على اكتشاف ما تريد الرسالة قوله، وفي نفس الوقت معرفة وفقا لأية قوانين تعمل الرسالة على قول ما تود قوله، وبتعبير آخر لا يجب على اللاوعي أن يكون حاملا لما يقوله فقط، بل حاملا لمفتاح ما يقوله أيضا. لهذا السبب فإن التحليل النفسي بتجربته ولغته قد أثار دائما اهتمام الأدب، فهناك نوع من الشغف من طرف الأدب المعاصر ليس فقط بالتحليل النفسي، ولكن بجميع الظواهر المرتبطة بالجنون، إذ ماذا يكون الجنون حاليا في العالم المعاصر إن لم يكن في النهاية رسالة للغة، لعلامات نعلم جيدا أنها تريد أن تقول شيئا ما –وسيكون من الفظاعة أن نفترض العكس- ولكن لا نعلم ماذا تريد أن تقوله، ولا كيف تقوله. وبالتالي علينا معالجة الجنون كرسالة تحمل في ذاتها مفتاحها الخاص، هذا ما فعله فرويد اتجاه العرض الهيستيري، وهذا ما يفعله أيضا أولئك الذين يحاولون الآن طرح مسألة الذهان.

 

وبعد كل ذلك، ما الأدب إن لم يكن نوعا من اللغة التي نعرف جيدا بأنها لا تقول فعلا ما تود قوله، إذ لو أراد الأدب أن يقول ما يود قوله، فسيقول ببساطة: "خرجت الماركيزة على الساعة الخامسة.." (ولكن) نحن نعرف جيدا أن الأدب لا يقول ذلك، إذن نعلم أن (الأدب) هو لغة ثانية، منطوية على ذاتها، تود قول شيء آخر غير ما تقوله. إننا لا نعرف ما هي هذه اللغة الثانية المختبئة، وما نعرفه ببساطة عن طريق قراءة الرواية هو أنه يتعين علينا اكتشاف ما تريد قوله، ووفقا لأية قوانين استطاع المؤلف قول ما يريد قوله، إذن يجب علينا أن نقوم بسيميولوجية للنص، وتفسيره في آن واحد.

 

ونتيجة لذلك هناك ما يشبه بنية متوازية بين الأدب والجنون يتمثل مضمونها في أنه لا يمكن القيام بالسيميولوجيا إلا عن طريق التفسير، كما لا يمكن القيام بالتفسير إلا عن طريق السيميولوجيا. وأظن بأن هذا التداخل لا يمكن فكه، ولنقل ببساطة أنه حتى حدود 1950م، كان يفهم، بشكل تقريبي أو مشوه، بخصوص التحليل النفسي والنقد الأدبي، أننا كنا بصدد شيء واحد اسمه التأويل. ولم يتم ملاحظة أنه كان هناك جانب كامل من السيميولوجيا، ومن تحليل بنية العلامات ذاتها.

 

والآن وقد تم اكتشاف هذا البعد السيميولوجي، وبالتالي إخفاء الجانب التأويلي، فإن بنية التضمين Enveloppement والطي Enroulement هي التي تميز لغة الجنون ولغة الأدب، ولهذا السبب نصل إلى هذه النتيجة وهي أنه ليست جميع العلوم الإنسانية وحدها التي أصبحت ذات طابع نفسي، بل حتى النقد الأدبي والأدب أيضا.

 

- إذا كان اللاشعور يظهر عموما على شكل موضوع –نص Objet-Texte حتى نحافظ على تصوركم المشيؤ- حيث تنكشف الرسالة في كل لحظة كملازمة لشفرتها، فهذا يعني غياب وجود شفرة شاملة، تستطيع الرسالة من خلالها، بطريقة مسبقة، أن تكشف عن معناها جملة. ونتيجة لذلك لا يمكن لعلم النفس أن يكون علما شاملا، إذ لا اهتمام له إلا بالنصوص، وما دامت (هاته الأخيرة) حاملة لشفرتها الخاصة والنوعية، فإنها فردية بالأساس، الشيء الذي يعني أن علم النفس هو علم يهتم بالفرد ليس فقط في موضوعه بل في منهجه أيضا، وبالتالي هل يمكن أن نتحدث عن علم تأويل شامل؟

 

- يجب علينا أن نميز بين المطلق والعام، سواء في هذا الموضوع أو في موضوعات أخرى، فنحن لا يمكن أن نتيقن من أننا قد وضعنا اليد على النص الخام، أي أن النص لا يريد قول شيء آخر أكثر مما أراد قوله، وبهذا المعنى لا وجود لعلم تأويل مطلق. كما لا يمكننا (وبنفس الشكل) أن نتيقن من جهة أخرى من قيام لسانيات مطلقة. وهكذا لن نكون متيقنين، هنا أو هناك، بأننا استطعنا الوصول فعلا إلى شكل عام أو نص خام. ومع ذلك أظن أن هناك بنيات عامة يمكن القول أنها شاملة بحيث، يمكن على سبيل المثال وجود عدد من الإجراءات المتشابهة عند مجموعة من الأفراد يسهل معاينتها بنفس الطريقة عند هؤلاء أو أولئك، وبالتالي لا مانع من أن تصبح البنيات التي اكتشفتها تصلح للبعض كما تصلح للبعض الآخر.

 

- في نهاية المطاف، هل سيكون علم النفس هو علم لهذه البنيات أو معرفة للنص الفردي؟

 

- سيكون علم النفس هو معرفة البنيات، كما سيكون العلاج المتوقع الذي لا يمكن إلا أن يرتبط بعلم النفس هو معرفة للنص الفردي، أي أنني لا أظن أن علم النفس يمكن له أن ينفصل عن برنامج معياري ما. فربما يكون علم النفس فعلا، مثله مثل الفلسفة ذاتها، نوعا من الطب والعلاج، بل إنهما فعلا طب وعلاج. كما أن علم النفس حين وجد نفسه، تحت مختلف تمظهراته الأكثر علمية، منقسما إلى علمين فرعيين، يمكن أن يكون علم النفس والبيداغوجيا مثلا، أو علم النفس المرضي والطب العقلي، فلا يجب أن نعتبر أن هذا الانقسام إلى لحظتين أكثر تباعدا هو شيء آخر غير العلامة التي يجب في الواقع أن تجمع بينهما، فكل علم للنفس هو بيداغوجيا، وكل عملية فك للرموز هي علاج بحيث لا يمكن لك أن تعرف دون أن تؤول.

 

- حاولتم القول في مناسبات عديدة، بأن علم النفس لا يكتفي بتأسيس علاقات، أو بنيات معقدة ما أمكن بين عناصر معطاة، بل إنه يحتوي (زيادة على ذلك) دائما على تأويلات. وخلافا لذلك، عندما تواجه العلوم الأخرى معطيات تحتاج إلى تأويل، فإنها لا تستطيع القيام بذلك، وكأنكم تودون القول بأن على علم النفس أن يتدخل في هذه العملية. إذا كان هذا صحيحا، فهل كلمة "علم النفس" داخل عبارات "علم النفس الإنساني" و"علم النفس الحيواني" تبدو لكم أنها تحمل نفس المعنى؟

 

- أنا سعيد لأنك طرحت هذا السؤال، لأني أحس فعلا أني كنت مسؤولا عن حدوث هفوة. فقد قلت أولا إن التمفصل العام للعلوم الإنسانية قد تمت إعادة صياغته بواسطة اكتشاف اللاشعور، وأن علم النفس قد أخذ خلافا لذلك شكل موجه لمختلف العلوم الأخرى، ثم أخذت في الحديث عن علم النفس داخل تصور فرويدي محض، وكأن أي علم للنفس لن يكون إلا فرويديا. فعلا فقد تمت إعادة تقطيع شامل مع فرويد، وهذا حدث لا يمكن إنكاره حتى عند أكثر الوضعيين من علماء النفس، وهذا لا يعني بأن علم النفس بأكمله، من خلال تطوراته العلمية، قد أصبح علما للنفس خاصا باللاشعور، أو علما للنفس يهتم بالعلاقات بين الوعي واللاوعي، فقد بقي هناك (رغم ذلك) علم النفس الفيزيولوجي، كما بقي هناك نوع من علم النفس التجريبي، وعلى كل حال، فلا علاقة هناك البثة بين قوانين الذاكرة كما تأسست منذ خمسين أو ستين سنة ومع ظاهرة النسيان عند فرويد. فعلم النفس التجريبي والفيزيولوجي بقي هو هو. ولا أظن أن حضور الفرويدية على مستوى المعرفة العلمية واليومية قد غير فعلا الملاحظات التي يمكن أن نقوم بها على الحيوانات أو حتى على بعض مظاهر السلوك الإنساني. يتعلق الأمر بنوع من التحول الأركيولوجي أعمق من (التحولات) الفرويدية، ولا يتعلق الأمر بتحول شامل، لكل حقول المعرفة النفسية.

 

- إذا كان مصطلح على النفس يقبل بوجود تمظهرات جد مختلفة عن بعضها البعض، فما هو إذن المعنى المشترك لهذه التمظهرات؟ هل يمكن الحديث عن وحدة في علم النفس؟

 

- إذا علمنا أنه في الوقت الذي يدرس فيه عالم النفس سلوك فأر داخل متاهة، فما يهدف تحديده هو الشكل العام للسلوك الذي يمكن أن ينطبق سواء على الفأر، أو على الإنسان، فدائما يتعلق الأمر بما يمكن معرفته حول الإنسان.

 

- فهل تقبلون إذن أن نقول بأن علم النفس هو معرفة الإنسان، وأن مختلف "العلوم النفسية" هي بمثابة وسائل للحصول على هذه المعرفة؟

 

- نعم أقبل هذا التحديد (لموضوع علم النفس) في العمق، ولكن لا أود التصريح به، حتى لا يبدو الأمر غاية في البساطة. (إذ) عندما نفكر بأن مشروع معرفة الإنسان قد ظهر أكثر إغراء مع بداية القرن 19م، سيبدو الأمر أكثر تعقيدا. فربما هنا يوجد أحد أهم الأحداث الأساسية في تاريخ الثقافة الأوروبية، ورغم أنه قد وجدت كتب تحمل العناوين التالية: مقالة في الإنسان، مقالة في الطبيعة الإنسانية في القرن 17 و18م، فإنها لم تدرس الإنسان تماما كما ندرسه عندما نطبق علم النفس.

 

فحتى حدود القرن 18م، أي حتى كانط كان كل تفكير في الإنسان هو تفكير ثانوي بالنسبة لفكر آخر أساسي (وأولي) يمكن أن نسميه بفكر المطلق La pensée de l'infini. يتعلق الأمر دائما بالإجابة عن أسئلة مثل: إذا كانت الحقيقة هي ما هي عليه، أو إذا كانت الرياضيات أو الفيزياء قد علمتنا هذا الشيء أو ذاك، فكيف يحدث أننا ندرك كما ندرك، أو نعرف كما نعرف، أو ننخدع كما ننخدع؟

 

وانطلاقا من كانط سيحدث الانقلاب، إذ لم تعد تطرح مشكلة الإنسان انطلاقا من المطلق، أو من الحقيقة كمشكلة ظل تابع، فمع كانط لم يعد المطلق كمعطى (كإطار للتفكير)، بل لا وجود إلا لما هو نهائي finitude. وبهذا المعنى حمل النقد الكانطي معه إمكانية –أو مغامرة- أنتروبولوجية.

 

- لقد تمت، بخصوص العلوم الإنسانية، في فترة معينة داخل أقسامنا، مسألة التمييز بين فعلين: "تفسير" expliquer و"فهم" comprendre. فهل يبدو لكم أن هذا التمييز له معنى؟

 

- لا أود أن أؤكد ذلك، غير أنه يبدو لي بشكل جيد أنه مع دلتاي Dilthey قد تم لأول مرة تمييز واقتراح مصطلح "فهم" ومصطلح "فسر"، كأشكال إبستمولوجية جذرية ومطلقة ومتعارضة فيما بينها. وعلى كل حال فهذا شيء مهم. وبالتحديد فدلتاي هو الذي، حسب معرفتي، قام بتاريخ علم التأويل الوحيد –بشكل تقريبي ولكنه مهم- داخل التاريخ الغربي. غير أنه يبدو لي أن ما هو عميق عند دلتاي هو الإحساس الذي كان لديه بأن علم التأويل يمثل شكلا للتفكير أكثر خصوصية، والذي تم حجب معناه وقيمته من طرف أشكال معرفية مختلفة مأخوذة بشكل أو بآخر من علوم الطبيعة. كما أنه كان يشعر فعلا بأن النموذج الإبستمولوجي لعلوم الطبيعة سيفرض نفسه كمعيار للعقلانية بالنسبة للعلوم الإنسانية، علما أن هذه الأخيرة لم تكن سوى صورة مغلوطة لتقنيات علم التأويل والتي لم تتوقف عن الوجود داخل العالم الغربي منذ النحاة الإغريق الأوائل ومفسري الإسكندرية، والمفسرين المسيحيين والمعاصرين، وأظن أن دلتاي قد أحس إلى أي سياق لعلم التأويل يمكن أن ينتمي –داخل التاريخ العام لثقافتنا- علم النفس والعلوم الإنسانية بشكل عام.

 

وهذا هو ما حدد، ولو بشكل أسطوري، مصطلح "الفهم" كمعارض لمصطلح "التفسير"، فمصطلح "التفسير" سيكون هو الشكل الإبستمولوجي الرديء. أما مصطلح "الفهم" فسيكون هو الشكل الأسطوري لعلم الإنسان، وقد ارتد إلى معناه التفسيري الأكثر جذرية.

 

- هل تعتبرون أن ما يمكن قوله على علم النفس كعلم وكتقنية، يمكن قوله أيضا على العلوم الحقة والدقيقة، علما أن علم النفس قد كون فلسفته بنفسه، بمعنى أنه يقوم بنقد مناهجه ومضامينه..الخ بنفسه؟

 

- أظن أن ما يحدث حاليا داخل التحليل النفسي أو داخل بعض العلوم الأخرى كالأنتروبولوجيا مثلا هو شيء يشبه ذلك. فأن يوجد تحليل للاكان Lacan بعد تحليل فرويد، وأن يوجد ستروس بعد دوركهايم، فهذا دليل واضح بأن العلوم الإنسانية هي في طريقها إلى تأسيس علاقات نقدية مع ذاتها ومن أجل ذاتها، وهذا أيضا ما تفعله الفيزياء أو الرياضيات مع ذاتها، ونفس الشيء بالنسبة للسانيات.

 

- ولكن ليس بالنسبة لعلم النفس التجريبي؟

 

- في الواقع حتى الآن لم يقع ذلك، ولكن على كل حال، فعندما يقوم علماء النفس بدراسات حول التعلم، وعندما يحاولون تجريب نتائجهم، فإلى أي حد يمكن أن تسمح لهم التحاليل حول المعلومات بتقعيد النتائج المحصل عليها صوريا؟ فهناك فعلا شكل من العلاقة الانعكاسية والشاملة، والمؤسسة التي يقيمها علم النفس مع ذاته. غير أننا لا يمكن أن نقول بخصوص السبيرنتيكا أو نظرية الإعلام بأنها تمثل فلسفة علم النفس التعلمي، كما لا يمكننا أن نعتبر ما يقوم به لاكان Lacan حاليا، أو ليفي ستروس هو فلسفة للأنتروبولوجيا أو للتحليل النفسي. بخلاف ذلك فنحن أمام نوع من العلاقة الانعكاسية التي يربطها العلم مع ذاته.

 

- إذا حدث ووجدتم أنفسكم داخل قسم للفلسفة كما هو عليه حاليا، (ترى) ماذا ستدرسون فيه بخصوص علم النفس؟

 

- إذا حدث وكنت مدرسا للفلسفة، وكنت مضطرا لتدريس علم النفس، فإن الاحتياط الأول الذي سآخذه هو أن أقتني أحسن قناع يمكن أن أتخيله، والأكثر بعدا عن صورتي المعتادة، بحيث لا يستطيع تلامذتي التعرف علي، كما سأبذل وسعي لأتقمص صوتا آخر تماما مثل Anthony Perkins في "الذهان"، بحيث لا يمكن لوحدة خطابي أن تظهر أبدا، هذا هو الاحتياط الأول. بعد ذلك سأحاول أن أطلع تلامذتي على كل الإمكانيات المتاحة (لي) على التقنيات الموجودة حاليا، عند علماء النفس، وعلى مناهج المختبر، وعلى مناهج علم النفس الاجتماعي، كما سأحاول أن أوضح لهم مقومات التحليل النفسي. وفي وقت آخر سأخلع قناعي، وأسترد صوتي، ثم نقوم (بدراسة) الفلسفة. ولا يهمنا في تلك اللحظة أن نصادف علم النفس كعقبة يستحيل تجاوزها وكقدر محتوم وجد الفكر الغربي نفسه مشاركا فيه في القرن 19م. غير أني عندما أقول بأن علم النفس هو عقبة، وقدر محتوم يستحيل تجاوزه، فأنا لا أنتقده كعلم، أي لا أقول بأن عليه أن يكون أقل أو أكثر فلسفة. سأقول ببساطة بأن هناك نوعا من السبات الأنتربولوجي الذي وجدت فيه الفلسفة وعلوم الإنسان نفسها، بشكل أو بآخر، منجذبة وغارقة مع بعضها البعض، وبالتالي (ما) يجب (فعله) هو الاستيقاظ (والخروج) من هذا السبات الأنثروبولوجي، كما تم الاستيقاظ من السبات الدوغمائي سابقاً

المصدر: https://www.aljabriabed.net/n21_07zwita.htm

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك