التَّلقين وديناميات التسلُّط
يوسف هريمة
ما معنى أنْ يكون الإنسان متخلِّفاً، أو مؤمِناً بحتمية قصوره المعرفي والعلمي؟. إنّه ليس سوى الإقرار بأنَّ شروط التخلّف تشبه إلى حدٍّ بعيد حتمية القدر، فإمّا أنْ تنجرَّ إليها طوعاً، أو تجرّك قهراً؛ بمعنى أنّ التخلّف ليس سوى إبعادٍ لذواتنا عن المساءلة والنّقد، والوقوع في مصيدة ثقافة، أو عقلية يراد لها أنْ تستديم في مجتمعاتنا تؤمِن بالمؤامرة إلى الحدّ الذي يصعب فيه الانفصال. ويزداد الوضع سوءا كلّما عرفنا أنّنا لسنا فقط متخلّفين، بل لا نستحقّ في الكثير من الأحيان هذا التّوصيف، لأنّ الوصف بالتخلّف يوهمنا للوهلة الأولى أنّنا أمام سياقٍ ثقافي وإنساني يركض خلف الذين سبقوه، ولكنّه تخلف عنهم، حيث لم يستطع اللّحاق بهم. في حين أنّ الأمر ليس على هذه الشّاكلة كما أشار إبراهيم البليهي[1]، حيث: "إنّ التخلف لا يعود إلى التأخّر في بداية الانطلاق، وإنّما يرجع إلى الجهل بنقطة البداية، أو الرّفض الصّريح أو الضّمني لهذه البداية".
التّلقين ليس موتاً للعقل فحسب، بل هو وضع الوجود كاملا في صيغة العدم، أو هو تعبير قبيح عن وجودنا، حين نستهلك ذواتنا عن طريق التّكرار
إنّنا لا نعبر عن تخلّفنا فقط بهذا التأخّر في كلِّ المجالات بدءاً بأصغرها، وانتهاءً بأكبرها، بل بهذا الجهل بنقطة البداية، وربّما بغياب المشروع في ظلّ اشتباك واحتراب لا متناهٍ لمشاريع الجهل المقدّس الذي له أسبابه وعوامل انتشاره؛ وجهات تديمه وترعاه بوصفه حالة ثقافية استثنائية. ولعلَّ أهم عامل من عوامل التخلّف، هو ذلك التّلقين الذي نخر مجتمعاتنا، وصار راعياً لمنظوماتنا التّربوية والتَّعليمية، في صراع دائمٍ مع كلّ المحاولات الجادّة لعقلنة حياتنا، بدءاً بمخاضات واقعنا الاجتماعي، وانتهاءً بأشكال الاحتراب التي يكشف عنها نمط تديُّناتنا المختلفة. إنَّه التَّلقين بوصفه استراتيجية ثالوث الهدر الإنساني (الأصوليات/العصبيات/الدّيكتاتوريات) هدفها القضاء على العقل، وكلّ المكتسبات الإنسانية؛ معنى ذلك أنَّ التخلُّف وتقنياته، ليست قدَراً تدفعنا إليه الشّروط الماورائية، أو هو تعبيرٌ عن قوى ظلامية تتربَّص بنا كلَّما عجزنا عن الاستجابة لمطالبنا الاجتماعية والاقتصادية والثّقافية.، دون أنْ تكون لنا الجرأة نفسها للالتفات إلى مسؤولياتنا الذّاتية أخلاقية كانت، أو اجتماعية. لن يصنع التّلقين تغييراً، فمحال أنْ تعيش في مجتمع يحرّم أو يجرّم التّفكير، ثم تنتظر التّغيير. فعبثاً نحاول، وعبثاً نجهد أنفسنا، أو بالأحرى نمنّي أنفسنا بأشياء لا نملك منها غير كثرة الأماني والرّجاء. التّلقين هو هذا الحجاب الثّقافي، أو هو هذا الرّكام من تاريخ طويل لا يراد له أنْ ينجلي، حيث لم نعد نرى سوى أنفسنا، مهووسين بخوف وجودي من الآخر الذي تلبّس بنا حدّ حتمية القدر، إنْ لم تنجر إليه طوعاً، جرّك كرْهاً، ذلك هو الأفق الذي يوصلنا إليه نمط تفكير أقصى ما يمكن أنْ يقدِّمه إليك هو أنْ يهدر إنسانيتك. فتشريح بنية التخلّف في مجتمعاتنا تبدأ من تشريح الثّقافة السّائدة فيها. وعملية التّشريح لا يمكن أنْ تكون إلاّ نقداً للبنى والمرجعيات والأسُس النّفسية والفكرية التي تستند إليه ثقافتنا. لهذا، فالثقافة هي ذلك الجزء المتخفّي والكامن فينا، والمتحكّم في دواخلنا، فحين ننتبه لسلطته نتحرّر منه.
لكن كيف يعمل هذا التّلقين على إدامة التسلُّط، والتخلّف، ذلك ما سنحاول الكشف عن ملابساته:
1- التّلقين وصناعة الانغلاق الجماعي: جمال علي الحلاَّق مفكِّكا ديناميات العقل المنغلق.
التّلقين ليس موتاً للعقل فحسب، بل هو وضع الوجود كاملا في صيغة العدم، أو هو تعبير قبيح عن وجودنا، حين نستهلك ذواتنا عن طريق التّرداد والتّكرار. في التّلقين، نبدو متشابهين في كلّ شيء إلى الحدّ الذي نبدو فيه كصورٍ تمّ استنساخها على طبعة واحدة. يخيَّل إليّ كما قال جمال علي الحلاق[2] إنّنا نمشي في حركة معكوسة إلى الوراء. ولأنّنا أعداء الاختلاف، لم نعد سوى نسخٍ مكرَّرة وبدون حبر، وكأنّها استنساخ أوراق فارغة دون توقُّف.
هذا المشهد من ثقافة التّلقين تحاصرنا فيه الثّقافة حدّ الموت، حينما تطلب منّا أنْ نردّد ما يعرفه النّاس لا ما نعرف. مشهد تختزله لحظة الاحتضار في الثّقافة اليابانية والإسلامية كما رسم ذلك جمال علي الحلاق في روايته "تأجيل اللذة"[3]. ففي الثقافة اليابانية عندما يصل شاعر للحظة الاحتضار، يطالبونه بقول جملة شعرية أخيرة، يسمّونها "نصّ الموت". أمّا في الثّقافة الإسلامية، فالأمر على النّقيض تماما، يحاصر المحتضر من المحيطين به بترديد "التشهّد"؛ أيْ بترديد ما يعرِفون وليس ما يعرف.
أنْ تحتفي بالتّلقين، أو تقيم ثقافة على أنقاضه، معناه أنْ تصنع عقلاً منتجاً لكلّ أشكال الغباء. لهذا أشار هشام شرابي أيضا إلى خطورة التّلقين عند دراسته للمجتمع العربي[4]، حيث يغيب النّقد والبحث والسّؤال، ويحضر الجواب النّهائي، والمسلّمات، والخطوط الحمراء. فالمنفتح ليس ملقِّنا، لهذا يرفض أنْ يكون داعية لاتجاه، أو عقيدة، أو أدلوجة، أو فكرة. إنّه ليس سوى ذلك الكائن المحرِّض، والمحفِّز، والمستفزّ للعقول كي تتحرّك من سُباتها. وحينما تتحرك، فلن تقنع حينذاك بكل ما يثيره فيه سؤال الثوابت والمسلمات، بل تتحرك في عزلتها نحو عوالم لا منتهية من السؤال. وبذلك ترفض كلّ أشكال القداسة والخضوع والدّوغمائيات، وأشكال الصرامة العقلية.
يعد كتاب "فن الإصغاء للذات" تمريناً في مثول الكائن أمام صمته أو كما قال الحلاّق: "الصمتُ محكمة وأنا المتّهم" ليخرج بذلك الصّمت عن أنْ يكون حكمة كما يراه الكثيرون، أو كما يرغب أنْ يكونه الكثيرون. ثقافة لا تحسن الإصغاء لعقلها، وذاتها، لنْ تحسن الإصغاء بالضّرورة للآخر، بله أنْ تتواصل معه، أو تجترح حلولا لملاقاته، أو التّعايش معه والاعتراف به، لا التّسامح معه كما يرّدد الكثيرون. يوصلنا الحديث عن العقل المنفتح مع جمال علي الحلاق إلى التّذكير بإشارات تبدو أنّها مهمّة لمن يرغب بالغوص في مغامرة الانفتاح المكسّر لجنون الانغلاق، والإيمان المطلق بالموروث والتّقاليد، والانحياز التامّ للمسبقات، لأنّ المنفتح لا محيط له، تماماً كالسّهم المنطلق في الفضاء. ولكي نفهم المفارقات التي يعيشها العقل المنفتح، حين يفكر خارج المجموع، وخارج النّسق السّائد، وجب أنْ نفهم الوسائل التي تتيح له هذا العيش، وهذا التحرّر الفكري، ولعلّ السّؤال أوّل هذه الخطوات نحو الانفتاح. السّؤال الّذي يعني الرّغبة في البحث عن معنىً آخر، خارج خيمة الحقيقة الّتي ترسمها الجماعة، وتصادق عليها الثّقافة وحرّاسها وسدنتها. وأيضاً السّؤال الذي يمنح العقل التميّز والتفرد، والخروج من ربقة نمطية قاتلة، تستهدف العقل، وتميت عناصر الحياة فيه. إنّه السّؤال الذي يعطيك إمكانية العيش مع الآخرين، دون أنْ تحتويك سياجاتهم، أو تحاصرك قيود أفكارهم. فيكفي أنْ تسأل، كي تعبُر إلى حيث تتلاقى مع ذاتك في وحدة وجودية لا يستطيع العقل المنغلق إدراكها. وهنا يقف الإنسان بعقله المنفتح ليمدّ بفكره كلّ أواصر الاتصال مع الجميع، دون أنْ تذيبه شعاراتهم، أو تنزاح به تعبيراتهم إلى حيث مركز ثقلِهم الفكري والثّقافي.
يقرأ الحلاّق تجربة المنفتح كما قرأها من قبلِه نتشه الذي كان يرى أنّ المتوحّد يلتهم نفسه في العزلة، شرط أنْ يكون الالتهام هنا بدلالة الامتلاء بالذّات. هذا التّطابق مع الذات إلى حدّ التوحد يتيح بحسب الكاتب أنْ يطرح نفسه، باعتباره مشروعا إنسانياً لا يخلو من غاية، فهو يبحث عن المعنى لوجوده وحضوره في هذا العالم تعبيرا عن ذلك القلق الذي يسكنه. وبمجرد أنْ تشعُر هذه الذّات بنفاذ غائيتها، أو نهاية وظيفتها، تعلن خروجها من جديد على السَّائد في حركة متواصلة لا نهائية. وهنا يمكن استحضار نماذج من علماء ومفكّرين جسّدوا هذه المعطيات من خلال كتابتهم وأفكارهم. كما فعل الرّصافي بقراءته للشّخصية المحمدية، أو دان براون في قراءته للرّموز والرّسوم الكنسية، أو الرّتوش التي قام به حسين مردان على نصوص نشيد الإنشاد المقدّس، وغيرهم كثير. فكلّ ما تحيلنا عليه هذه الأعمال وغيرها هو ذلك القلق المزمن لدى العقل المنفتح من تكرار ذاته؛ لأنّ التكرار هو قتلٌ للذات، واستبطان لا إرادي لنمطية مفروضة عليها. ذاتٌ تخاف الدّخول في الآخرين، وتخشى في كلّ لحظة أنْ تتحول إلى فائض لا معنى له، وكأنّها في صراع أبديٍّ ضدّ التّنميط. وذاتٌ تفزع من كلّ شيء إلا الاختلاف، فهو المبتدأ وهو المنتهى. وهنا تساءل الحلاّق وهو يستحضر تجربة كافكا: "هل أحسّ كافكا بالخوف من الدخول إلى ذاته باعتبارها فخّاً؟ هل أدرك أنّ تجربته الذاتية شكلٌ من أشكال الخطأ؟ لماذا أوصى بإحراق أوراقه كلِّها؟. لقد كان أقلّ شجاعة من أبي الحيان التوحيدي الذي أحرق كتبه بنفسه؟"[5].
أنْ تحرق منتوجك وكتاباتك معناه أنّك تريد التخلّص من الوقوع في فخّ التعليم، وكأنّك تريد أنْ تقول بتعبير آخر أنّ الحقيقة أبداً لا تؤخذ من الآخر، بل تنبع من الذّات. وهو درس يختلف جذريا عن درس الإحراق الذي تعرّض له العلماء من طرف الآخرين، كما في تجربة ابن رشد وطه حسين وجيوردانو برونو. فالأفكار لا تحترق كما يرى الحلاق، وهنا يمكن قراءة تجربة إبراهيم القرآنية. فالحرق ليس سوى شحن الطاقة الكامنة والتعجيل في إخراجها. فالعقل المنفتح يستحيل إيقاف حركته، أو محاولة حصاره، لأنّ الأفكار بطبيعتها منفلتة، خاصة إذا كان حاملها يتنفّس في الممكن الذي يراه، أو يتعامل مع المتاح بوعي وقصدية.
ربّما يتساءل البعض عن هذا القلق الذي يسكن في ثنايا العقل المنفتح، وكيف يبدأ ثم ينشأ، ثم يرافق العقل في مسيرة لا متناهية. إنّه ابن فوضى المفاهيم التي يخلقها الواقع بتجلّياته المختلفة. واقعٌ كلّ همِّه إيقاف حركة العقل والتاريخ والجغرافيا لتستقرّ فقط في ما أنتجه القدماء، أو عبَّر عنه السّلَف، أو صادق عليه سدنة الأفكار وحرّاسها الأوفياء. واقعٌ يجعل التَّفكير في الممكن مستحيلا، خاصّة إذا كان يبحث عن معنىً مختلف ومغاير لصورة مرسومة سلفاً. واقع ينحاز إلى الماضي ويقيم فيه ليشعر بالأمان، ويخاف على نفسه قلق المستقبل، والانفتاح على المجهول. أنْ تقلق يعني أنّك خرجت إلى ذاتك وحقّقت التواصل معها وبها، فالذّات ليست سوى الخروج عن العقلية الجاهزة والبحث عن منافذ الخلاص. الذات هي الدخول في تحطيم الأصنام، سواءٌ كانت أصناما مادية أو ذهنية، حيث إنّ هذه الأخيرة أشدّ خطراً من غيرها لخفائها وخطورتها، وهي ليست سوى الأشياء التي تبقى مصونة في الذّاكرة القومية، حيث إنّ الانقطاع عنها يمثّل انقطاعا عن الجذور، وبالتالي اغترابا يقذف صاحبه إلى هاوية العدمية كما كان يرى فرانسيس بيكون[6]. لهذا، فالقلق المنبثق على واقع الحال ليس وصولاً إلى نهايات يتمّ رسمها سلفاً من طرف العقل المنفتح، فهذا مجرّد وهمٍ، بل كلّ ما يصل إليه العقل في أبعاد انفتاحه هو مجرّد نماذج بشرية، أو مشاريع قابلة للنقد، والتطوير، وخاضعة لصيرورة النشوء والارتقاء.
أشار هشام شرابي إلى خطورة التّلقين عند دراسته للمجتمع العربي، حيث يغيب النّقد والبحث والسّؤال، ويحضر الجواب النّهائي، والمسلّمات
يأبى العقل المنفتح القناعة والتّسليم كما يرى الحلاق، ويكاد يصيح: "أسألك النجاة من كلّ محدود" على حدّ تجربة غيلان الدمشقي، ربّما لأن القناعة موت اختياري، ودخول في نسق اللاّعودة، أو ربّما لأنّ القناعة هي عيشٌ خارج ذاتك وذوبان في المجموع إلى الحدّ الذي تتطابق فيه الأنا مع ذوات الآخرين. وحده السّؤال من يفصل بين القناعة والبحث، كما تمّت الإشارة إلى ذلك من قبل، ووحده من يحطّم الأصنام الذّهنية التي تراكمت على العقول بفعل القهر الاجتماعي والثّقافي. وليس مبالغة أنْ نقول وحده السّؤال من يمنح الحياة جدّتها، أو هو الخروج من معاناة الضّيق إلى حيث التوحّد مع الذّات. لن يدرك خطورة الاقتناع والتسليم، إلا من تحقّق له شرف الانفتاح، فالقناعة ليست سوى تأجيل السّؤال، والضغط على الذات كي لا تبوح برغبتها في الخروج إلى عالم مفارق للجماعة، وذلك عن طريق ما سمّاه مصطفى حجازي[7] في ترجمته لكتاب "لماذا العرب ليسوا أحرارا؟" بثلاثية (التجريم/التحريم/التأثيم)، والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار "اخضع ترضع"؛ فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية (الأمن وما يدور في فلكه)، أما التحريم: فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم: فهو يعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها.
2- التّلقين بوصفه استراتيجية للهدر الإنساني:
لكي نعي حجم الهوّة التي يسقِطنا فيها التَّلقين لا بدّ من التعرُّف على بعض خصائصه، وهو ما أشار إليه باولو فرايري[8]. فما يميّز التّعليم التّلقيني هو لهجته المتعالية، وعدم قدرته على إحداث التّغيير: 4*4=16، عاصمة الدولة الفلانية ...كذا وكذا. أمّا الطلاّب، فينحصر دورهم في الحفظ والتذكّر وإعادة الجمل التي سمعوها دون أنْ يتعمَّقوا في إدراك معانيها، حيث إنَّ أسلوب التذكُّر الميكانيكي لمحتوى الدّرس، يجعل منهم آنية فارغة يصبّ فيها المعلّم كلماته الجوفاء. لكنّ المشكلة الكبيرة في هذا الشّكل من الاحتقار للعقل الإنساني، هو أنّ هذه القدرة الإنسانية على التّرداد والتكرار تحرِم الإنسان من طاقته الإبداعية، وقد يتحوّل بالفعل إلى طاقة تخزين، أوبنك للمعلومات، في الوقت الذي يحرَم فيه من تفجير طاقاته الإبداعية، وتلك آفتنا.
إنّ مشكلة هذا التّعليم، أو هذا الشَّكل والاختيار الاستراتيجي لأسلوب تعلُّماتنا، يوقعنا في مآزق وجودية، قبل أنْ تكون مآزق اجتماعية. والأخطر أنّها تديم سلطة القهر بالنّسبة إلى المقهورين، أو الطبقات العامية في المجتمع، كما أكَّد باولو فرايري. يتأكّد هذا الأمر من خلال مفهوم التّعليم البنكي، فهذا الشّكل من التّعليم التّلقيني يجعل من التّعليم مجرد منحة يتفضّل بها أولئك الذين يعتبرون أنفسهم ملاَّك الحقيقة، أو ملاّك المعرفة، على من يفترض أنّهم لا يمتلكونها؛ بمعنى آخر إنّ هذا الشَّكل التلقيني يشعر الإنسان المقهور بهذه المنّة التي تضفي عليه طابعاً إحسانيا، بل وتحسِّسه أنّه الجاهل الوحيد، وربّما المفتقر الوحيد لهذا الكمّ الهائل من المعلومات التي تتسابق إلى عقله.
إضافة إلى ما سبق، فإنَّ التّعليم البنكي، أو التَّعليم التلقيني، يقدِّم المدرِّس، أو الأستاذ نفسه للتّلاميذ على أنَّه الصُّورة المضَّادة لهم، فهو المالك للمعرفة، وبالتّالي هم المفتقدون لها، وعبر هذه التّقنية يفرض وجوده، ويعبِّر عن كينونته داخل نسقٍ هادرٍ للحياة والفرد على حدٍّ سواء. وقد تتجاوز هذه الصُّورة نفسها، لتعبِّر عن إشكالية أخطر منها، وهي إحساس الطّلاب بفعل هذا القهر التّعليمي بالاغتراب واستعبادهم، وبحسب المنظور الديالكتيكي الهيجلي، فإنّ اعتراف التّلاميذ بجهلهم هو أيضاً تبرير لوجود الأستاذ بينهم، وعلى غرار العبيد، فإنّ الطلاّب لا يكتشفون مطلقاً بأنّهم يعلِّمون الأستاذ أيضاً، لسبب بسيط وهو أنّ التّعليم التّلقيني لا يتيح للطالب فرصة اكتشاف ذاته، أو محاولة العثور عليها، انطلاقا من الكمّ الهائل والمتدفّق للمعلومة، وهو ما تسفر عليه نتائج هذا النّوع من التّلقين:
- الأستاذ يعلّم والطّلبة يتلقّون
- الأستاذ يعرِف كلّ شيء، والطلاَّب يجهلون كلّ شيء
- الأستاذ يفكِّر، والطالب لا يفكّر
- الأستاذ يتكلّم، والطّالب يستمع
- الأستاذ ينظِّم، والطّالب لا ينظِّم
- الأستاذ يختار، والطّالب يذعن
- الأستاذ يختار، والطّالب يذعن للاختيار
معنى ذلك أنّ كلّ هذه الأشياء، وهذه النَّتائج، وهذه الخلاصات التي يقيمها التَّعليم التَّلقيني، هي نتائج مدمّرة على المدى البعيد، إذا ما استحضرنا مجموعة من المعطيات التي تكشف عنها العلاقة بين الأستاذ من جهة، والطّالب من جهة أخرى، لأنَّ ما يتبيَّن من خلال كلِّ ما سبق هو أنّ هذه العملية تجعل من الطّلاب كائنات متأقلمة، وسهلة الانقياد، والحقيقة هي أنَّه كلّما ألغيت الطّاقة الإبداعية في الطّالب، كلّما قلَّ وعيه بذاته، ومحيطه، واستحال فعل التّغيير في طبيعته. فما يتضّح هنا هو أنّ التّلقين هدفه هو التقليل من القدرة الإبداعية لدى الفرد، وليس العكس. ولكي نكون منصفين أكثر فموضوع التّلقين لا يخصُّ فقط المدرسة، بل يتجاوز ذلك إلى مؤسسة الأسرة[9]، فالطّابع الذي يميّز المجتمع الأبوي خاصّة داخل مجتمعاتنا تحكُمه إيديولوجية التّلقين، أو بيداغوجية التّلقين؛ بمعنى آخر إنّ طبيعة هذا المجتمع السُّلطوي تجعل الطفل مهيأُ لقبول ثقافة المجتمع، وشروطه، وإمكانية إعادة إنتاجه، لهذا يطلب من الطّفل منذ اللّحظات الأولى من وعيه بمحيطه، إلى ترداد بعض الكلمات، والأصوات، والجمل، دون أنْ يكون قادرا على فهمها. وعندما يكبُر، ويبدأ في مرحلة الفهم، نطلُب منه أيضاً التّرداد والتّكرار، وتقبُّل كلّ ما يطرح عليه دون فهم أو تمثّل حقيقي لطبيعة الأشياء.
وبعد كلّ هذه النتائج، هل يحق لنا أنْ نتساءل لماذا نحنُ متخلّفون؟.
نعم، يحقُّ لنا ذلك. فالتخلّف هو خصائص وشروط موضوعية تبدأ من الإنسان وتنتهي إليه لخّصها مصطفى حجازي في جانبين اثنين[10]: اضطراب منهجية التّفكير من جهة، وقصور الفكر الجدلي من جهة أخرى. وبالجمع بين الخللين، يمكننا أنْ نخلُص أنّ هناك عجزا تامّا للكائن الإنساني على الإمساك بواقعه، وهنا ينزع إلى سحرية العالم، عبر تفسيرات وتأويلات تنحو إلى فهم كلّ شيء متعلّق بالطبيعة بطريقة تضفي على تلك الظّواهر طابع السّحرية، ولعلّ هذا النّزوع وتلك التّأويلات نابعة من غموض هذا العالم، وضبابية البدايات وأسرار النّشأة، وهو ما يجعل الإنسان يتوسّل بوسائل مفارقة للمنطق العقلي لتسدّ الحاجة والنّقص في آن واحد. حالة الخصاء الذهني هذه Castration Mentale تتميّز بحالة من العجز التامّ أمام ظواهر الطّبيعة، ومن النّاحية الاجتماعية بعجز وخوف مزمن من الفئة المسيطرة[11]. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ هذا الخوف من ظواهر الطبيعة أو من مجريات الأحداث التي يعيش الإنسان في خضمّها ليس معزولاً عن سياق التّنشئة والثّقافة التي ينشأ الإنسان في ظلّها. ولعلّ العامل الأساسي الذي يساهم في تذكية الخوف وحالة الرّهاب الفردي والجماعي هو منطق القداسة، أو إضفاء القدسية على الأشياء. هذا المنطق العابر للأشياء، والذي يشكل خاصية في كلّ الثّقافات كما عبّر عن ذلك روجيه كايوا[12]؛ إذ ليس هناك ما لا يصلح للقداسة، وبالتّالي ليس هناك ما لا يمكن استثمار الخوف فيه، فالكائنات مقدّسة (الملوك/الكهان)، والأمكنة مقدّسة (المعابد/الكنائس/المساجد)، والأزمنة كذلك (السبت/الفصح/الميلاد). وهذا كلّه هو ما يضفي قدسية على الأشياء، عبر إضفاء السّحرية عليها، حيث يخاف الفرد والجماعة، ويتحوّل كلّ ذلك الخوف إلى حالة عصاب جماعي تّجاه هذه الأشياء.
لكن ما هي آليات السيطرة التي يضمنها التلقين؟:
- العقيدة مكان العقل: لا يمكن أنْ نتحدّث عن العقيدة في حضور العقل؛ فكلاهما خصمان لا يلتقيان إلا لِماما. لهذا، فالتلقين يتغذّى من التّهويلات الإيديولوجية التي ينتجها حرّاس العقيدة (المسلمات/الثوابت/الأصول...). وما لم نصلح هذه الأعطاب الثقافية، فسنكتشف كم أنّ سماحة الدين، قد تتحوّل إلى مصنع لتفريخ العنف.
إنّ طبيعة المجتمع السُّلطوي تجعل الطفل مهيأُ لقبول ثقافة المجتمع، وشروطه، وإمكانية إعادة إنتاجه
- تعزيز صورة الإنسان الآثم أو المذنب: كلّما تكرّس الإحساس الإنساني بالضّعف، كلّما زاد التحامه بالجماعة، وزاد طمعه في الإحساس بالمزيد من التّعويض النّفسي، وهي الحالة نفسها التي يخلقها الاستبداد عبر منظومة تتجذّر في المجتمع من خلال ثلاثية (التجريم/التحريم/التأثيم) والتي تتيح للمرء أنْ يتمثَّل شعار "اخضع ترضع". فالتّجريم: يمارسه الاستبداد عن طريق أجهزته القمعية (الأمن وما يدور في فلكه)، أما التحريم: فهو وظيفة المؤسّسة الدينية، حيث لا خضوع دون تضييق مساحة المباح. أما التأثيم: فهو يعزّز التجريم والتحريم، بجعل طاقة الإنسان محدودة، بأنْ يشعرها دوماً بعقدة الذنب، حتى يكبح جماحها، أو يجعلها مهدورة لا نفع فيها[13].
- إخضاع المرأة: يؤكد مصطفى حجازي على دور المرأة المركزي في لحمة العصبيات، حيث إن إخضاعها الكامل وفرض القوانين الأكثر تزمتا عليها هو ديدن الأصوليات قديما وحديثا؛ فصورتها لا يمكن أنْ تخرج عن المرأة العورة، أو عن كونها مصدر الغواية.[14]
المؤامرة أو خطاب المظلومية: كثيرا ما يتعامل الإنسان المسلم مع الصّورة النّمطية التي تشكّلت حوله، باعتبارها أحد المظاهر السّلبية التي يحملها الآخر عنه، دون أنْ يطرح السّؤال حول الدّوافع والأسباب التي جعلت منه متّهما، تتقاذفه تُهَم الإرهاب والإقصاء والعنف والتخلّف. وبدل أنْ تستوقفه هذه الصّورة، ليعيد قراءة الذّات من منظور معرفي يسعى إلى تنقية هذا التّراث والتّاريخ والثقافة - بعيدا عن الرّغبة في الحفاظ على صفاء الذّات-، اختار خطاب المظلومية ليتوارى خلف جرحه النّرجسي، ويقرأ صورته في سياقات المؤامرة، ويضيّع على نفسه من جديد اكتشاف ذاته، وهذه الثقافة الممتزجة بلون الدّم في مسار طويل، بدأ منذ اللّحظة الأولى التي تحوّلت فيها الرّسالة إلى سيف وسلطة، انتهاءً بداء الأصولية المخيف، والتّسويق للدّولة الدينية بأفق يمتح من قاموس الرّعب والتّخويف والموت.
[1]- البليهي، إبراهيم. حصون التخلف: موانع النهوض في حوارات ومكاشفات، بغداد-بيروت، منشورات الجمل، ط1، 2010. ص: 148
[2]- الحلاق، جمال علي. بوح السرد. تمارين في الإصغاء. بغداد، منشورات نابو.ط1، 2018. ص: 69
[3]- الحلاق، جمال علي. تأجيل اللذة. تأملات في الأدب والفن والحياة. مكتبة الفكر الجديد.ط1، 2012. ص: 7
[4]- شرابي، هشام. مقدمات لدراسة المجتمع العربي. الدار المتحدة للنشر. ط3. 1984. ص: 48
[5]- جمال، علي الحلاق. فن الإصغاء للذات قراءة في قلق المنفتح. منشورات الجمل، عمان/سيدني، 2002/2013. ص: 18
[6]- درايوش، شايغان. الأصنام الذهنية والذاكرة الأزلية. ترجمة حيدر نجف. بيروت. دار الهادي. ط1. 2007. ص: 32
[7]- صفوان، مصطفى. لماذا العرب ليسوا أحرارا؟. ترجمة مصطفى حجازي. بيروت. دار الساقي. ط1. 2012. ص: 8
[8]- باولو، فرايري. تعليم المقهورين. ترجمة يوسف نور عوض. بيروت، دار القلم، دون دار نشر، أو تاريخ طبعة. ص: 32
[9]- محمد، عباس نور الدين. التمويه في المجتمع العربي السلطوي. قراءة نفسية للعلاقة بالذات والآخر. المركز الثقافي العربي.ط1، 2000. ص: 48
[10]- حجازي، مصطفى. التخلف الاجتماعي. مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور. الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، ط9، 2009. ص: 60
[11]- حجازي، مصطفى. المرجع السابق. ص: 61
[12]- روجيه، كايوا. الإنسان والمقدس. ترجمة سميرة ريشا. مراجعة جورج سليمان. بيروت، المنظمة العربية للترجمة، ط1، 2010. ص: 37
[13]- انظر ما كتبه مصطفى حجازي في مقدمته لكتاب مصطفى صفوان. لماذا العرب ليسوا أحرارا؟. ترجمة مصطفى حجازي. بيروت، دار الساقي. ط1، 2012. ص: 7
[14]- مصطفى حجازي. المرجع السابق. ص: 121