الإسلام والسلم العالمي
الشريف حاتم العوني
يأتي الحديث عن “الإسلام والسِّلم العالمي” في أحد أهم الأوقات، حيث إن العالم بعامة والعالم الإسلامي بخاصة، والشرق الأوسط منه على وجه الأخص، يمر بتأزّمٍ خطير، وبخطوات متسارعة نحو اشتداده وتَمدُّدِه، وقد طالت آثارُه أقطارًا بعيدة عن الشرق الأوسط، في الغرب وغيره. مما يُوجب السعيَ الجادَّ لإيجاد حلول حول هذا التأزم ومحاولة تخفيفه، حتى لا يُشكِّل خطرًا موقوتًا مُؤْذِنًا بالانفجار في أي لحظة. وهذا الأمر يستدعي معرفةَ أسباب هذا التأزُّم، ومحاولةَ البحث الجاد الصادق المنصف في حصرها، دون إغفال سببٍ منها على حساب سبب آخر، كما نشاهده في أغلب الأطروحات: فالغرب كثيرًا ما يجعل المشكلة شرق أوسطية بحتةً، أو إسلامية (وكأنها مشكلة المسلمين مع الإسلام نفسه)، ويتبرّأ من أي دور في تأجيج نارها، والعالم الإسلامي كثيرًا ما يتبرّأ منها، بدعوى أنه أول المصطلين بنارها.
والحقيقة أن أي بحث صادق منصف لا يمكن أن ينطلق من مبدأ تبرئة الذات، بل من منطلق رؤية الحقيقة بكامل تفاصيلها ولو اتهمت تلك الرؤيةُ الذات.
والحقيقة الأهم، أنه بغير هذا البحث الصادق المنصف، لن نصل لأي حل. فلا العالم الإسلامي بالغبيّ لكي تنطلي عليه التُّهم الجزاف التي لا واقع لها، ولا الغرب بالقوة التي يمكنه معها أن يلفتنا عن ثوابت ديننا لمجرد أنها لا تناسبه.. ولا الغرب بالأحمق ليصدّق أن بعض المسلمين بُرآءُ تمامًا من أن يكون لهم دور في صناعة هذا الاحتراب، ولا نحن (معشر المسلمين) بالذكاء الكافي لنخفي حقيقة تقصيرنا (دولاً وعلماء ومفكرين) في مواجهة هذا التأزّم بالقوة الكفيلة بتجفيف منابعه الفكرية أولاً، وبقية منابعه ثانيًا.
ولست -في الحقيقة- مع من يُلقي اللوم على الغرب أكثر، بحجة أنه الأقوى والأقدر على تصحيح الواقع، وإن كنت قد ألقي عليه اللوم أكثر من جهةٍ أخرى، وهو إذا ما استطعت أن أُثبت دوره الفعلي في تأزيم الواقع، وإذا أَثبتُّ أنه أكبر من أي دور.
نعم لست مع من يُلقي اللوم على الغرب أكثر بحجة أنه الأقوى؛ لأننا إذا كنا -معشر المسلمين- قد شاركنا -بوجهٍ ما- في تشكيل هذا الواقع، فنحن أيضًا ملومون، وسيكون لومنا أكبر من وجه، لأن المشكلة مشكلتنا، ونحن أولى من سعى إلى تصحيحها. ولا يمكن أن يكون غيرنا ملومًا أكثر منا -من هذا الوجه- ما دمنا نعترف بوجود خلل لدينا لم نصلحه في أخطاء تصوراتنا عن بعض جوانب ديننا، وفي القيام بعملية تصحيح لبعض اجتهادات علمائنا التي جانبت الصواب وكانت سببًا من أسباب هذا التطرف والغلو الذي نشاهده.
إنني أُومِن أنّ أيَّ دينٍ لم تحرفه العقولُ الضعيفة ولا الأنفس المريضة، سيكون داعيًا للرحمة والعدل والسماحة والتعايش، سواء أكان دينًا صوابًا في أصله -وهي الشرائع الربانية التي نزلت على الأنبياء عليهم السلام كاليهودية والنصرانية والإسلام- أم كان دينًا باطلاً وضعيًّا؛ لأن حكمة العقلاء ومصالح البشر، سوف تصقله ليكون حكمةً بشرية تنشد الرحمة والعدل حسب قدرتها البشرية.
هذا ما أُومن به، ويصدقه واقع الأديان. ولا تنحرف الأديان عن ذلك إلا مع تحريفها هدايةَ الله تعالى المنزّلةَ على رُسُله وأنبيائه عليهم السلام، من خلال الفهم الخاطئ للدين أو تحريف نصوصه المقدسة (وهي كتب الله تعالى المنزّلة). أو إذا استولى على وضع قوانين الدين الوضعي غير العقلاء، فابتعدوا به عن حكمة البشر وعقل الأسوياء ورحمة الإنسان الفطرية.
فإذا جئنا إلى الإسلام، وهو الدين الخاتم الذي لا يقبل الله من الناس دينًا سواه: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلاَمُ)(آل عمران:19)، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ((آل عمران:85).. فإننا نتحدث عن دين كامل، محفوظ كتابه (القرآن الكريم)، مصونة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.. فسوف نجد أنفسنا أمام عظمة الرحمة ورسوخ العدالة واتساع السماحة وطمأنينة التعايش.. كما لا نجده في نظام آخر، رغم كونه هو الحق الرباني الوحيد، ويمتلك من أدلة حَـقّانِـيّـتِه ما يكفي أن يؤمن عليه البشرُ كلُّهم لو اتّبعوا براهينَ الحق وأدلةَ الصدق.
من قواعد الإسلام ومنطلقاته
1- تقرير الإسلام وجودَ الاختلافِ القدريّ بين البشر في الأديان، وأنه خلاف لن يزول إلى قيام الساعة: مما يعني استحالة زوال هذا الاختلاف. والإسلام لا يجيز السعي إلى المستحيل قدرًا؛ لأنه سعيٌ يُكذِّب بالقدر، وتكذيب القدر لا يقع من مسلم.
فكيف يُتصوَّر -بعد ذلك- أن الإسلام يُشرِّعُ أحكامًا وتشريعات -باسم الجهاد أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- لزوال هذا الاختلاف بالكلية، وهو نفسه يقرّر بقاءه القدَري الذي لا يمكن أن يزول بجهدٍ بشري أبدًا؟! يقول الله تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ((هود:118-119).
وقد فسّرها الحسن البصري بقوله: “الناس مختلفون على أديان شتى”، وقال مجاهد: “أهل الحق وأهل الباطل”. وفسّر الحسن البصري قوله: (وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)، فقال “للاختلاف خلقهم”، وفسّر الاستثناء في قوله تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ)، قال: “أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرُّهم”. فلم يَنْفِ الحسنُ البصري الاختلافَ كلَّه عن أهل الإسلام، وإنما نفى عنهم الاختلافَ الضارَّ الذي يحرِّفُ عقيدةَ التوحيد، أو يكون به المرءُ خارجًا عن ملة الإسلام.
وقال تعالى: (أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ((الرعد:31).
والآية تسأل سؤالاً استنكاريًّا، أي: كيف لم ييأس المؤمنون من إيمان جميع الخلق؟! قال ابن كثير في تفسير (أَفَلَمْ يَيْئَسِ): “أي، من إيمان جميع الخلق”. وذكر ابن عطية وغيره احتمال الآية لهذا التفسير فقال: “أفلم ييأس المؤمنون من إيمان هؤلاء الكفرة، علمًا منهم أنْ لو يَشاء الله لَـهَـدى الناسَ جميعًا”. ثم بيّن الله تعالى بقاء أهل الكفر معرَّضين لعقوبة الله تعالى الواقعة بهم في الدنيا، أو المذكِّرةِ لهم باحتمال وقوعها بهم؛ حيث يعلمون بوقوعها قريبًا منهم إلى أن تقوم الساعة.. مما يعني بقاء الكفار المخالفين لأهل الإسلام إلى يوم الدين.
2- عدم جواز الإكراه على الدين: يقول تعالى: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ(البقرة:256). وقال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ((الغاشية:21-22).
3- مساواة الإسلام بين البشر مهما اختلفت أعراقهم وألوانهم: ويبدأ ذلك من التذكير بأن البشر جميعًا مرجعهم لآدم وحواء عليهما السلام، فهم جميعًا من أصل واحد. ولا شك أن تساويهم في الأصل، لا يوجب لعرق منهم فخرًا ولا تعاليًا على عرق، ولا للون على لون.
واعتقاد التساوي بين بني البشر هو أساس الاحترام المتبادل، وأساس إعطاء الإنسان حقَّه الإنساني، مهما اختلف عرقُه أو لونه أو لسانه (لغته) أو بلده.
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا((النساء:1).
وفي كتاب الله آية عظيمة في المساواة بين بني البشر، وهي قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾(الحجرات:13).
وفي هذه الآية بيان الحكمة من كون الناس شعوبًا وقبائل مختلفة الأعراق واللغات والأوطان، وهي التعارف. ولك أن تقف من هذه الكلمة وقفة طويلة، لتستجلي مغازي هذا “التعارف”، بصيغة المفاعلة (تعارف)، والتي تعني استفادة كل شعب من الآخر، وأن هذا الاختلاف سينفع الجميع بهذا التفاعل المعرفي، مما يعني عدم وجود شعب ينفرد برتبة الأستاذ المعرِّف، وشعبٍ ينزل دومًا إلى مرتبة التلميذ الملَقَّن.. بل الجميع يمارس أستاذيةً وتَـتَلْمُـذًا في الوقت ذاته وفي أوقات وأعصارٍ مختلفة.
ثم تختم هذه الآية هذا التقرير الإنساني -بكل معنى الكلمة- ببيان سبب التفاضل الحقيقي، وهو “التقوى” بمعناها الشامل للاهتداء بهدي الخالق سبحانه في شؤون الدنيا وعمارتها بالحق، وفي شؤون الآخرة وعمارتها بطاعة الله تعالى وتحقيق العبودية له وحده. فلا تمايز لبشر على بشر بشيء من الأمور الخِلقية غير المكتسبة كالعرق واللون والوطن، إنما يكون تفاضلهم عند الله تعالى بطاعتهم المكتسبة الاختيارية لله عز وجل لتضع لنا الآية بذلك قاعدة التفاضل الكبرى بين البشر، وأنها لا تكون بمجرّد الأمور الجِبِلِّـيّة، وإنما بالأمور الاختيارية المكتسبة: أما عند الله تعالى فبطاعته الشاملة لصلاح الدنيا والآخرة، وأما عند الناس في الدنيا فبإصلاحك الدنيا. وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن الله لا ينظر إلى صُوَركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم” (رواه البخاري).
وفي خطبته صلى الله عليه وسلم الشهيرة أيام التشريق بمنى في حجة الوداع، قال صلى الله عليه وسلم: “يا أيها الناس، ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى” (رواه أحمد).
وقارنوا هذه العقيدة الرسالية التي يؤمن بها جميعُ أتباع الرسل، وهي أن البشر كلهم أبناء آدم عليه السلام بعقيدةٍ تعارض ذلك، مبنية على نظريةِ أو فرضيةِ داروين في التطوّر، إذ تفترض هذه العقيدة تطوّرَ الإنسان من أصولٍ مختلفة من سلالة حيوانية أو سلالات كالقرود. ألا يدخل على هذه العقيدة المبنية على هذه الفرضية أن يكون بعض البشر أرقى أصلاً وأفضل تكوينًا من بعض؟ إما من جهة اختلافهم في الأصل، أو من جهة تَقادُمِ تطوّر بعضهم على بعض، أو سرعة تكيُّفِ بعضهم أسرع من بعض، مما يجعل بعضهم أكثر إنسانية و”أرقى” من بعض؟!
4- نظرة التكريم للبشرية في الإسلام وتعظيمه لفطرتهم: قال تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً)(الإسراء:70).
وقال تعالى عن الفطرة السوية لبني البشر (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)(الروم:30).
وقال صلى الله عليه وسلم: “ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء” (رواه مسلم).
وما دامت الفطرة البشرية فطرةً خيّرة فاضلة، فالإسلام موافِقٌ لها في أصول المعتقد وتفاصيل الأحكام. ولذلك فقد جعل الإسلام لزوم الإنسان فطرته التي فُطر عليها، دليلاً على خيريّته وعلى سلامة طبعه من الانحراف عن أصله الكريم. ففي حديث الإسراء والمعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم أُتيَ بقدحين (أو ثلاثة)، في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، (وورد أن في الثالث عسلاً)، فلما اختار صلى الله عليه وسلم اللبنَ، قال له جبريل عليه السلام مُـثْنِـيًا على اختياره هذا: أصبتَ الفطرة.
وفي حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: “لا تزال أمّتي بخيرٍ -أو قال: على الفِطرة- ما لم يُؤخِّروا المغربَ إلى أن تَشتَبكَ النجوم” (وراه أبو داود). وتنبهوا كيف زاوج الراوي بين “الفطرة” و”الخيرية”، لتعلموا كيف استقرّ في قلوب المسلمين أن فطرة الإنسان هي الخيرية نفسها.
وهكذا يكون الإسلام -عقيدةً وشرائع- هو الموافق للفطرة البشرية الفاضلة.
ولذلك لا نستغرب إذا كان مصطلح “الإنسانية”، -كلفظ دال على الطبع الكريم، والقيم الرفيعة- مصطلحًا إسلاميًّا بامتياز؛ لأن الإسلام يَعدّ الإنسان مخلوقًا مكرّمًا بأصل خلقته، وأنه وإن تطوّرت حياته، وإن زادت كثيرٌ من معارفه الكونية، وإن تقدمت مكتشفاته ومخترعاته، فلا يعني شيْق من ذلك أنه تطوّر من مخلوق دنيء الطباع، همجي الأخلاق، هزيل القيم، إلى إنسان جديد هو إنسان العصر الحديث. بل الإنسان من أصل خلقته، كريم الطباع، سامي الأخلاق، صاحب قيم راقية.
فإذا كان الإسلام يوجب اعتقاد الخيرية في أصل طبيعة البشر، ويؤكد ذلك بالتكريم الإلهي لهم، وبإحسان خلقهم، وبكون فطرتهم سوية، وأن هذه الفطرة لا تتبدل أبدًا وإنْ رانها ما رانها من أثر البيئة والتعليم الفاسد، فكيف لا يكون الإسلام مستعدًّا غاية الاستعداد للتعايش مع هذا الجنس البشري المكرّم الـخـيِّر في فطرته وأساس خِلْقته؟!
5- قدرة الإسلام على استيعاب الإيمان (الإيمان بجميع الأنبياء عليهم السلام): لا يوجد دين سماوي عنده قدرة استيعاب غيره كالإسلام، بل لا قدرة لليهودية أن تستوعب النصرانية والإسلام؛ لاعتقاد اليهود كذب دعوة المسيح ومحمد عليهما الصلاة والسلام، ولا قدرة للنصرانية أن تستوعب الإسلام؛ لتكذيبها بنبوة خاتم الأنبياء محمد صلى الله عليه وسلم.
أما الإسلام فيوجب علينا الإيمان بجميع الرسل، حتى كان ذلك من أركان الإيمان عند المسلمين، التي لا يصح إيمان عبد إلاّ بها. بل يوجب الإسلام علينا الإيمان بالتوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وكل كتب الله تعالى، إيمانًا بصحة أصولها لا بالمتبقي منها، والذي طاله التبديل والتغيير والنقص والزيادة.
(آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ((البقرة:285).
وقال تعالى: (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ)(البقرة:136).
وفي حديث سؤال جبريل عليه السلام للنبي صلى الله عليه وسلم أنه قال له: “فأخبرني عن الإيمان؟ فقال عليه السلام: “أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره” (رواه مسلم).
وهذه القدرة على الاستيعاب في الإسلام والتي ينفرد بها، كثيرًا ما يتغافل عنها المتعصبون ويُخفيها المدلّسون من متعصبة الأديان الأخرى.
ولو طالع اليهود مقدار تعظيم المسلمين لأنبيائهم عليهم الصلاة والسلام: بدءًا بإبراهيم ولوط وإسحاق ويعقوب ويوسف عليهم الصلاة والسلام، وقوفًا عند موسى عليه السلام، ومرورًا بداود وسليمان وأيوب ويونس وغيرهم عليهم الصلاة والسلام جميعًا، لعلموا أن المسلمين أَولى بهؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام منهم، توقيرًا وتنزيهًا عن القبائح التي نسب اليهود كثيرًا منها إلى غالبهم.
وهل يعلم النصارى أنه قد ورد اسم مريم في القرآن الكريم إحدى وثلاثين مرة، وأن سورة من القرآن قد سُمّيت باسمها، وأنها كانت في القرآن مضرب المثل للمؤمنات؟ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ)(التحريم:11-12).
هل يعلم النصارى أن مريم العذراء عليها السلام عندنا هي سيدة نساء العالمين: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ((آل عمران:42).
هل يعلم النصارى أن النبي صلى الله عليه وسلم بيّنَ فضلَ ابنته الزهراء فاطمة رضي الله عنها على نساء العالمين، ولم يستثنِ أحدًا من النساء من تفضيله هذا لابنته إلا مريم بن عمران عليها السلام وحدها؟ فلم يُفضّل بَضعته الزهراء رضي الله عنها عليها وهي أحبّ بناته إليه، حيث قال صلى الله عليه وسلم لابنته فاطمة رضي الله عنها أنها: “سيدة نساء أهل الجنة، إلا مريم بنت عمران” (رواه أحمد).
فهل يوجد استيعابٌ أعظم من هذا الاستيعاب، والذي تجاوز مجردَ أن يستوعب الإسلامُ بإيمانه الإيمانَ بالمعظَّمين من الأنبياء والأصفياء، إلى بيان فضلهم وشرفهم وتقدّمهم بين الأنبياء والأصفياء عليهم الصلاة والسلام؟!
6- تحريم الإسلام السخريةَ بالمقدسات عند غير المسلمين: قال تعالى: (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ((الأنعام:108).
ففي هذه الآية ينهى الله تعالى المسلمين عن شتم آلهة الوثنيين؛ لأنه شرٌّ لا خير فيه، فلا السبّ بالذي سيدعوهم إلى الإسلام، بل سينفّرهم منه، ولا هو بالذي سيجرّ إلى تعظيم الله تعالى، بل سيجر إلى أن يسب المشركون الله سبحانه وتعالى.
ومن لطائف بلاغة هذه الآية، أنها راعت أدبَها الذي تدعو إليه في لفظها نفسه؛ فمع أن الأصنام حجارةٌ لا تعقل، ومع أن اسم الموصول “الذين” خاص بالعاقل، مع ذلك لم تأت الآية معبِّرة عن الأصنام باسم الموصول “ما” الذي لغير العاقل، فلم يقل الله تعالى “وَلَا تَسُبُّوا مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله”، وإنما قال تعالى (وَلاَ تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ)، مراعاةً لاعتقاد الكفار في الأصنام وأنها عندهم آلهةٌ تعقل! وهذا غاية في الأدب واللطف وفي الموادعة.