علم الصيدلة في الحضارة الإسلامية
حذيفة أحمد الخراط
يقول المستشرق “فرانس روزنتال” (Franz Rosenthal) في حديثه عن حضارة الإسلام: “إنّ ترعرع هذه الحضارة هو موضوع مثير، ومِن أكثر الموضوعات استحقاقًا للتأمل والدراسة في التاريخ. ذلك أن السرعة المذهلة التي تم بها تكوّن هذه الحضارة أمرٌ يستحق التـأمل العميق، وهي ظاهرة عجيبة جدًّا في تاريخ نشوء الحضارة وتطورها، وهي تثير دومًا وأبدًا أعظم أنواع الإعجاب في نفوس الدارسين. ويمكن تسميتها بالحضارة المعجزة، لأنها تأسست، وتشكلت، وأخذت صورتها النهائية بشكل سريع جدًّا ووقت قصير جدًّا، ويمكن القول إنها اكتملت وبلغت ذروتها حتى قبل أن تبدأ”.
لقد زخرت نصوص الآيات والآثار بكثيرٍ من الومضات العلمية التي دعت إلى سمو الإنسان نحو آفاق المعرفة الرحبة التي لا حدود لها، وإلى التدبر والتبصّر وإثارة الذهن وصولاً نحو عِلَل الأشياء، وإلى تطبيق منهجٍ علمي فريد هدفه إقامة حياة متميزة مبنية على أسس سليمة.
ازدهار علم الطب
لم يَقف المسلمون عند حدود الطبّ النبوي وما جاء فيه من وسائل علاجية ووقائية -مع يقينهم بنَفْعه وبَرَكته- بل أدركوا منذ وقت باكر أن علم الطب والصيدلة يحتاج إلى دوام البحث والنظر، وإلى الوقوف على ما عند الأمم الأخرى منه.. ودفَعهم إلى ذلك دعوةُ الإسلام للاستزادة من كل ما هو نافع ومفيد، والبحث عن الحكمة أنى وُجدتْ. واشتهرتْ طائفة من علماء المسلمين بترجمة الكتب المتخصصة بعلوم الطب، ومصادر الأدوية النباتية وخصائصها وطرق تركيبها. ومما تمّت ترجمته كتب “أرسطو” (Aristotle) وتلميذه “ثيوفراستس” (Theophrastus) المعروف بأبي علم النبات.
وأعقب ذلك مرحلة جديدة تناولت التعليقَ على تلك الكتابات المترجمة، ونقْدها وشرحها ودراستها، ليتم بعدها في خطوة تالية إقرار صوابها وتصويب خطئها. وما هي إلا مدة وجيزة، حتى انتقل المسلمون نحو أفقٍ آخر سامٍ من الازدهار العلمي والفكري، وولّوا وجوههم شطر الأصالة والتأليف والإبداع، فأضافوا الجديد والمفيد إلى علمَي الطب والصيدلة، تَدْفعهم حماستهم التي استشعروا بها التقربَ إلى الله تعالى بطلب العلم، وقد عُرفتْ كتبهم تلك في حينها بـ”الأقرباذِينات”.
وكان أبو حنيفة الدينوري أول مَن ألّف كتابًا عن النباتات التي أولاها المسلمون عناية خاصة لما علموا أنها مصدر رئيس لحاجتهم من الأدوية. وعُرف مصنَّف الدينوري هذا باسم “كتاب النبات”، وقد أتى فيه على ذِكْر أكثر من ألف نبتة من النباتات الطبية في الجزيرة العربية. واشتهر أبو بكر الرازي بالكتابة في علم الصيدلة ووصْف الأدوية، وألّف الكثير من الأقرباذينيات التي عُدَّتْ مراجع أصيلة في مدارس الغرب والشرق على حد سواء. ومن أطباء المسلمين وصيادلتهم أيضًا البيروني صاحب كتاب “الصيدلة في الطب”، وابن الصّوري صاحب “الأدوية المفردة”، وابن العوّام الإشبيلي صاحب “الفِلاحة الأندلسية”. أمّا ابن البيطار فقد ارتحل إلى مالَقة، ومرّاكش، ومصر، وسورية، وآسيا الصغرى، بحثًا عن النباتات الطبية.. فكان يراها بنفسه، ويجري عليها تجاربه، ويَذْكرها في كتابه “الجامع لمفردات الأدوية والأغذية” الذي كان المرجع الرئيس للصيادلة زمنًا طويلاً. وقد جاء فيه ذِكْر أكثر من ألف وأربع مائة دواء من أصل نباتي، منها أربع مائة عقار لم يَسْبقه أحدٌ إلى وَصْفها.
الأطباء الصيادلة
أبدع أطباء المسلمين وصيادلتهم في تحضير العقاقير المختلفة وتركيبها، واستخدموا في ذلك طرقًا مبتكرة عديدة، منها طريقة التقطير لفَصْل السوائل، وطريقة التنقية لإزالة الشوائب، وطريقة التصعيد لتكثيف المواد المتصاعدة، وطريقة الترشيح لعَزْل الشوائب والحصول على محلول نقي.
وكان من ابتكارات صيادلة المسلمين مَزْجُهم للأدوية بالعسل أو بالسكر أو بعصير الفاكهة، وإضافة مواد محبّبة كالقرنفل، ليصبح طعم الدواء مستساغًا، وجعْلهم الكثير من الأدوية في صورة أقراص مُغَلّفة، وتحضير أقراص الدواء عبر كبْسها في قوالب خاصة، وإخضاع الدواء الجديد للتجربة على الحيوان قبل وصْفه للمريض للتأكد من سلامته وأمانه.
يقول الدكتور “جورج سارتون” (George Sarton): “إن بعض الغربيين الذين يَستخفّون بما أسداه الشرق إلى العمران، يصرّحون بأن العرب والمسلمين نقلوا العلومَ القديمة ولم يضيفوا إليها شيئًا، وهذا الرأي خطأ؛ فلو لم تنتقل إلينا كنوزُ الحكمة اليونانية، ولولا إضافات العرب الهامة إليها، لتوقّف سَيْر المدنية بضعة قرون”.
كما اهتم صيادلة المسلمين بزراعة النباتات الطبية، والأعشاب العلاجية في مزارع وُضعتْ بجوار ما بَنَوا من بيمارستانات مُدُن الدولة المختلفة، واهتموا بجلب بذور تلك النباتات من كل حدب وصوب. وخُصّصتْ لكل بيمارستان منها صيدلية تُقدّم ما يصفه الطبيب للمريض من أشربة وأدوية. يقول عبد الله الدفّاع في كتابه “أعلام العرب والمسلمين في الطب”: “وَضَع العلماء المسلمون في كل مستشفى صيدلية منذ القرن الثاني عشر الميلادي. وهكذا فإن فكرة إنشاء صيدلية داخل المستشفى، هي فكرة نقَلها العالَم عن الحضارة العربية الإسلامية التي طبّقتها قبل أكثر من ثمانية قرون”.
الصيدليات وعلم الصحة
وفُرض على كل صيدليات الدولة الإسلامية أن تحوي كتبَ الأقرباذين، وأن يتوافر فيها أنواع العقاقير المفردة والمركّبة المختلفة، والمواد الخام اللازمة لتحضيرها، سواء كانت نباتية المنشأ أو حيوانية أو معدنية أو كيماوية.. كما وَجَب أن تحوي الصيدلية ما يلزمها من معدّات لتحضير الدواء، كالموازين الحساسة، والأوعية ذات المقاسات المختلفة، وقوالب صناعة الأقراص، بالإضافة إلى سجلات خاصة لتدوين عمليات تحضير الدواء وما يَرِدُ من وصفات الأطباء الدوائية.
وقد ضمّت البيمارستانات أيضًا مكتبات طبية حَوَت أمهات كتب الصيدلة ومراجعها. وكان أساتذة هذا العلم يتناقشون مع طلابهم حول الداء وما يناسبه من الدواء في حلقات تسودها الأجواء العلمية. وأُلزم الطلبة بحضور جلسات تركيب الدواء، مما أكسبهم ثقة علمية وخبرة عملية. وأصبح علم الصيدلة -بذلك- علمًا تجريبيًّا قائمًا على المتابعة الدقيقة والملاحظة.
تقول المستشرقة “زيغريد هونكه” (Sigrid Hunke): “أين هي الدولة التي عَرفتْ مثل هذا الجمع الكبير من الأخصائيين بشتى حقول الصحة، وتركيب الأدوية والعقاقير كما كانت الحال عند العرب؟ وهل كان للمستشفيات الحديثة في الأصقاع العربية آنذاك مثيل في أي طرف من أطراف الأرض؟ إن وسائل العلاج عند العرب تتحدث ببلاغة عن عظمة أبحاثهم، كما أن علم الصحة عندهم لأروع مَثَل يُضرب. ولِمَ العجب والدهشة والوضع كان كما نعلم؟”.
نظام الحُسْبة
ومِن مآثر علماء المسلمين في مجال الصيدلة أيضًا ما أدخلوه من نظام الحُسْبة، ومراقبة الأدوية، فنقلوا بذلك المهنةَ من تجارة حرّة لا ضوابط لها، إلى مهنة خاضعة لرقابة الدولة. وكان من مهام المحتسِب إجراء جولات تفتيشٍ على حوانيت بيع الأدوية، والتأكد من توافر الدواء فيها، ومتابعة طريقة تحضيره بشكل آمن وبدون غش، والتأكد من أن الدواء لا يباع إلا وفق وصفة طبية، ومراجعة كشوفات تحضير الأدوية. بالإضافة إلى منح تصاريح العمل للصيادلة، وإيقاف عمل من تدعو الحاجة والمصلحة إلى ذلك. وقد كان للمحتسب سجلات يُدوّن فيها أسماء أصحاب الحرف والمهن المختلفة بما فيها أماكن حوانيت الصيادلة.
وكان على المحتسب أيضًا، أن يُحَلّف الصيادلة ألاّ يعطوا أحدًا دواء مضرًّا، وألاّ يُركّبوا له سُمـًّا، وألاّ يَصِفُوا التمائمَ لأحدٍ من العامة، وألاّ يذكروا للنساء الدواءَ الذي يُسْقط الأجنة، ولا للرجال الدواءَ الذي يَقْطع النسل. وأضيف إلى مهام المحتسب أن يخوّف الصيادلة، ويعظهم، وينذرهم بالعقوبة والتعزير، وأن يراجع عقاقيرهم في كل أسبوع. ويُرسل المحتسبُ رقيبًا على الصيادلة خبيرًا بالعقاقير وطرق تركيبها ووسائل غشّها؛ كي يكشف المغشوشَ منها فيُتْلِفه.
عميد الصيادلة
كما قامت الدولة الإسلامية بتوظيف “عميد الصيادلة”، وقد وُسّد إليه مهام الإشراف الفني على صيدليات المدينة، وإجراء امتحانٍ للصيادلة ومنحهم الشهادات، وتصريح العمل بممارسة صنعة الصيدلة، بالإضافة إلى إعداد سجلات خاصة للصيادلة. وقد عُدّ عميد الصيدلة هذا، المرجعَ الأعلى فيما يستجد في ساحة العمل من الأمور المتعلقة بهذه المهنة. وأُلزم الأطباءُ لاحقًا، بكتابة ما يصفون من أدوية لمرضاهم على ورقة خاصة، عُرفتْ في الشام باسم “الدستور”، وفي العراق باسم “الوصْفة”، وفي المغرب باسم “النسخة”، وكان ذلك من إسهامات المسلمين في إنشاء علم الصيدلة على أسس علمية سليمة.
وسَنّ الأطباء والصيادلة المسلمون قواعدَ صارمة في عملية وصف الدواء، ومن ذلك ألاّ يوصَف أيّ دواء قبل إقرار التشخيص المؤكَّد للمرض، والتأني في ذلك إذا كان في مقدور المريض تجاوز مرضه دون دواء. وكان على الصيدلي أيضًا إيضاحُ جرعة الدواء لمتناوِله، وطريقة استخدامه، ومواعيد تعاطيه، وما قد يَظهر له من تأثيرات غير مرغوبة في جسمه.
كما كان لزامًا على الصيدلي مراعاة تركيب الدواء، بالتأكد من جودة المادة الخام قبل الشروع في ذلك، والالتزام بالمقادير المحددة بدقة عالية، والعناية بحفظ مواد صناعة الدواء، ووسائل تخزينها لكيلا تفسد، وتدوين جميع ما يوصف للمريض من أدوية في سجله، والتيقن من تناول المريض ما وُصف له تحديدًا ليَسْلم من حلول الخطأ.