وجوه الوعي بالإسلام في ألمانيا من عصر النهضة إلى القرن التاسع عشر
وجوه الوعي بالإسلام في ألمانيا من عصر النهضة إلى القرن التاسع عشر
شتفان ليدر(*
ما يزال التعامل السياسي الأوروبي مع العالم الإسلامي يتأثر بالمواقف والصور التاريخية، ووجهات النظر السياسية/ الأخلاقية، وتصورات الهوية. ويبدو ذلك واضحاً في وجهات النظر المتضاربة بشأن ضمّ تركيا إلى الاتِّحاد الأوروبي. فللمواقف كلِّها أصولٌ وخلفياتٌ تتساوقُ مع انشغال أوروبا بالإسلام والعالم الإسلامي منذ زمنٍ طويل. بيد أنّ إدراكات الإسلام بأوروبا وألمانيا لا تتأثر بذلك فقط، بل إنّ المواقفَ منه تُعتبر في وجهٍ من وجوهها وسيلةً في التناقُش الأوروبي مع الدين والنظام السياسي والموقع في العالَم.
بدأت التصورات عن الإسلام تظهر على تقطُّع في العصور الوسطى، وتسودُها الأغَراض الدفاعيةُ والجدالية. وعلى مشارف الأزمنة الحديثة داخلت هذه التصورات المعلومات والانطباعات التي جلبها الرحّالة، وأَوصلتْ إليها الأحداث السياسية والاجتماعية. ثم زادت المعرفةُ باللغات والحضارات الشرقية. ومن عصر النهضة (السادس عشر) إلى القرن التاسع عشر تكاثرت المقابلات، وتكاثرت المعارف، وتعددت الاهتمامات والمصالح، فازدادت بالطبع ولأسبابٍ داخليةٍ أحياناً محاولاتُ التفسير والفهم. في العصور الوسطى انصبت محاولات إدراك الإسلام على نَظمِه في سياق تاريخ الخلاص المسيحي، باعتبار النبي محمد مسيحاً مُضادَّاً (المسيح الدجّال).
والعجيب أنه على الرغم من ازدياد المعارف والاتصالات فإنّ هذه الصورة النَمطية استمرت على مدى قرون. وانقلبت في بعض الأوساط الثقافية في القرن الثامن عشر إلى الضدّ، أي تصوير الإسلام وبعض الشخصيات الإسلامية بصورةٍ مثاليةٍ ولأربعة أسباب: مواجهة النموذج المسيحي الكاثوليكي المحافظ، وتراجُع الخطر التركي/ العثماني على أوروبا بعد فشل الهجوم العثماني الثاني على فيينا عام 1683م، وهزيمة الأمير Eugen للعثمانيين عام 1697م، والسببُ الثالث: عرض نماذج للاستبداد الإسلامي (المستنير) نقداً للطغيان في الممالك الأوروبية. أما السببُ الرابعُ فهو دخول المتخصصين بالشرق ولغاته وثقافاته إلى مجال التأثير في الأوساط العالِمة، بحيث تغيرت الانطباعاتُ بالتدريج، وظهرت عروضُ تُقابل بين النظم الدينية والسياسية في العالمَين الأوروبي والإسلامي، ولصالح الإسلام أحياناً. وهكذا وبسبب تعدُّد التصورات المختلفة المصادر عن الشرق الإسلامي، انكسر التصور الدوغمائي الوسيط، وفتح المجال لنقاشاتٍ بشأن مصادقة الإسلام أو مخاصمته.
وترتب على ذلك في القرن التاسع عشر أَثران بارزان؛ الأول يتصور عالََم الإسلام باعتباره عالَم الثراء والحريات المادية والجسدية، بحيث تصاعدت الرغبات في امتلاكه. والثاني يركّز بسبب التقدم الأوروبي الصاعق على (المركزية الأوروبية) واعتبار الغرب مركزاً للحضارة الوحيدة السليمة، والنظر ـ من جانب غير المتخصصين ـ إلى العوالم الأخرى ـ ومنها عالم الإسلام ـ باعتبارها عوالم غير عقلانية أو أنها لا تستطيعُ التقدم كما تقدم الأوروبيون.
وكما سبق القول؛ فإنه فيما بين منتصف القرن الثامن عشر ومنتصف القرن التاسع عشر، ظهر الاستشراق الأوروبي والألماني مستنداً إلى مبادئ ومواريث (التاريخانية) لينصرفَ إلى نشر المصادر العربية والإسلامية، وليعرض من خلالها معارف جديدة عن عوالم الشرق والإسلام والعرب. وما خلا هذا (التخصص) من عوامل الإعاقة والعرقلة باعتبار البيئات التي ظهر فيها، والمنهج الذي اتبّعه، والأشخاص الذين شاركوا فيه. لكن قبل ذلك؛ فإنّ Bibliander اللاتينية الدقيقة للقرآن في القرن السابع عشر تُشكلِّ بدايةً لهذه الظاهرة الجديدة، التي كانت ما تزال غارقةً في كراهية الأتراك. ثم تطورت الدراسات البيبلية (العهدين القديم والجديد)، وتشكلَّ وعيٌ علميٌ بالمسيحية الشرقية، وظهرت (المكتبة الشرقية) التي تضمنت نصوصاً إسلاميةً ومسيحيةً ويهودية (1658م).
وفي هذا الوقت المبكرِّ نِسبياً أدرك اللاهوتي Hottinger ناشر المكتبة أهمية كتاب (الفهرست) لابن النديم الذي ظلَّ مهماً للباحثين بعد أكثر من ثلاثمائة عام. على أن هذا الاتجاه –رغم دعواه الموضوعية ـ أظهر اهتماماً لاهوتياً بارزاً ظلَّ بين معالم الاستشراق إلى الأزمنة الحديثة. وجاءت طبعةٌ علميةٌ للنصّ القرآني من جانب الكاهن الهامبورغي Winckelmanr عام 1614م لا تشكو إلاّ من اعتبار النبي محمدٍ e مؤلفاً له بخلاف الرؤية الإسلامية التي تعتبره كلام الله القديم. ويرى إدوارد سعيد في الاستشراق أنه كانت لهذا الاتجاه الفيلولوجي إلى المصادر، وهذا التدقيق المشهود فوائد شكليةٌ كثيرةٌ، لكنه اصطنع تحديداً وحصراً للشرق وللإسلام التاريخي، أضَرَّ كثيراً بإمكانيات ظهور رؤىً جديدة وبنّاءَه في علاقات الشرق بالغرب، وأوروبا بالإسلام.
بيد أنّ كاتب المقالة (S.Leder) يلاحظ أنّ نشر المصادر الأصلية من مثل نشرة غالان الفرنسي الفرنسية لألف ليلة وليلة (لاهاي 1706- 1717 في 12 مجلداً) أطلق حركةً في تصورات الغرب للشرق تستعصي على انطباعات التجميد والعزل. والأمر كذلك يمكن قولُهُ عن كتاب Reland الهولندي في مطالع القرن الثامن عشر، والذي ما اكتفى بترجمة نصوصٍ عربيةٍ عن العقيدة الإسلامية؛ بل أضاف لذلك دفاعاً حاراً عن الإسلام في وجه كلّ ثقافة العصور الوسطى الوهمية تجاه الدين الإسلامي، وتجاه الأتراك. ويشير كاتب المقالة إلى دراسةٍ أُخرى بالفرنسية لـ de Breguigny ترجمها الألماني Rinck أواخر القرن الثامن عشر، وذهب في مقدمتها إلى أنّ المعارف عن الإسلام صار تستعصي على التخرصات والأوهام.
ويرجعُ هذا الروح الجديد إلى النزعات التي بثَّها عصر الأنوار، وإلى ظهور مصادر جديدة لقراءة الثقافة العربية والإسلامية حتّى في جانبها الشِعري والأدبي. وقد كان من مقاصد الروح النهضوي لعصر الأنوار إبراز ثقافاتٍ أخرى تواجه الثقافة المسيحية القروسطية. ولا شك إنّ الإغريق وثقافتهم كانوا العامل الرئيس في هذا المنزع.
لكنّ الثقافات الشرقية التاريخية الأُخرى وعلى رأسها الإسلام أدَّت دوراً ملحوظاً. والَمثل على ذلك، واستناداً إلى المصادر العربية المطبوعة بأوروبا، كلٌّ من الفرنسي كومت دي بولنقييه والإنجليزي المتخصص جان غانييه. ويُظهر جان غانييه جوانب نقدية تجاه الإسلام وثقافته لمواجهة المثاليات التي شاعت في القرن الثامن عشر عنه، لكنها جميعا تستندُ إلى نصوصٍ من مصادر إسلامية أصيلة. وهكذا تقدم الجانب الموضوعي في القراءات المستندة إلى المصادر، وبخاصةٍ في ألمانيا، التي كانت بعيدةً نسبياً عن المشاعر المتنافضة تجاهه في بريطانيا وفرنسا. وتبدو الموضوعية والإيجابية في تقدم الرؤى حول النبي ودينه، لقوله بالوحدانية (وهذه قرابةٌ مع المسيحية)، أو كما يقول الفيلسوف Lebniz الذي يُشيد بعقلانية الدين الإسلامي، والحضارة التي أنتجها، ويشاركُهُ في ذلك الألماني الآخر Michaelis، ثم Oelsner الذي اعتبر أنّ النظام الاجتماعي في الإسلام أفضل مِمَّا أنتجته الثورة الفرنسية والدولة الروسية (1809- 1810).
وقد عرف كلٌّ من Goethe والإنسانوي Herder عمل ميخائيليس وأولسنر. وقد وضع هردر في اعتباره الشعر العربي والقيم الواردة فيه ضمن ركائز ومقومات الشخصية والحضارة المميّزة. وما غاب عن تقديره القرآنُ وشخصية النبي محمد e وتأثيراتهما على الثقافة وعلى المجرى التاريخي للتجربة الإسلامية. وتستند رؤية غوته Goethe إلى قراءاتٍ واسعةٍ في الشعر العربي والفارسي، وبخاصةٍ شعر حافظ الشرازي، كما يظهر في (الديوان الغربي ـ الشرقي) له. ورؤية غوته للإسلام ودعوة النبي رؤيةٌ شعريةٌ، لكنها تستند إلى معرفةٍ لا بأسَ بها بالنصوص والمصادر المترجمة. وهي رؤيةٌ مثاليةٌ شديدةُ التعمُّق في روح الدين والحضارة، واعتبار الشرع مفتاحهما. ويفرّق الشاعر الألماني بين الشعر والنبوة، لكنه يعتبر أنّ لهما مصدراً مشتركاً هو: الإلهام. وهو بخلاف فولتير لا يعتبر النبيَّ واهماً أو مُخادعاً؛ لكنه يرى أنّ التطور إلى مشترعٍ وزعيم سياسي أثرَّ سلباً على الإلهامية الخلاّقة والمبدعة! وفي نفس منزع عصر الأنوار يمضي الفيلسوف Daumer (1800 - 1875) الذي أثّرت رؤاه عن الإسلام في فويرباخ وماركس وروغه. ومثل غوته صاغ داومر شعر حافظ بالألمانية، وكتب الموسيقى له برامز وأوتمار شَك. وقد استند داومر في معرفة شعر حافظ إلى ترجمه هامر بورغشتال للديوان. وعند داومر كما عند غوته تلعب رمزيتا الخمر والحبّ أدوار صُنّاع تصورات العالَم الجديد. وما اكتفى داومر بالشعر، بل كتب عام 1848م دراسةً عن (النبي ودعوته) فيها صياغاتٌ شعرية. وفهم ذلك كلَّه باعتباره نقداً للمسيحية التي سبق له أن قدَّم كتاباتٍ ضدَّها، معتبراً أنّ النظام الأخلاقي الإسلامي أفضل بما لا يُقاس.
******************
*) هذا العرض هو تلخيصٌ لمقالة البرفيسور Stefen Leder الأستاذ بجامعة هاله، ومدير المعهد الألماني للدراسات الشرقية ببيروت حالياً، وقد نُشرت المقالة في:
Der Orinent im OK zident. Verlag fur Berlin ـ Braunden burg. Potsdam.