الفكر الإسلامي والنزعة الإنسانية

الفكر الإسلامي والنزعة الإنسانية

زكي الميلاد(*

ـ1ـ

الكتابات الإسلامية والنزعة الإنسانية

تعد الكتابات والدراسات التي تناولت الحديث عن النزعة الإنسانية في مجال الفكر الإسلامي، من داخله، ومن المنتسبين إليه، أو المشتغلين عليه، تعد ضئيلة ومحدودة جدا، يسهل عدها وحصرها والاحاطة بها. ولهذا السبب تكتسب هذه الكتابات والدراسات أهمية فائقة، بغض النظر عن تقييمنا لها، واختلافنا أو اتفاقنا معها، وذلك لكونها اعتنت بهذه القضية، ولفتت الانتباه إليها، وقدمت لنا نتاجاً وعطاءً يساهم ويضيء ـ بصورة من الصور ـ في تكوين المعرفة بهذه القضية.

وقد وجد الدكتور محمد أركون أن هذا النقص في دراسة النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي يشمل حتى الكتب العلمية والاستشراقية على حد وصفه. وإذا كانت قد ظهرت أبحاثاً استشراقية عديدة عن تاريخ الفكر والثقافة في المجال الإسلامي، لكن القليل منها كما يضيف أركون، التي كرس لمسألة النزعة الإنسانية في ذلك الفكر وتلك الثقافة، وتحمل شيئاً جديداً ومبتكراً في مجال البحث العلمي. ولم يجد أركون إلا خمسة مؤلفات في هذا الشأن، بالإضافة إلى أربعة من مؤلفاته(1).

والملاحظ بصورة عامة على الكتابات التي تناولت هذه القضية، والمصنفة على المجال العربي والإسلامي، أنها كانت متأثرة بطبيعة النسق والموقف الفكري الغربي من جهتين. من جهة الانطلاق من موقف الرد على المزاعم والمقولات والنظريات الغربية التي تصور بأن النزعة الإنسانية لم توجد إلا في الثقافة الأوروبية، ولم تظهر إلا في عصر النهضة في القرن السادس عشر الميلادي. ومن جهة التمسك بمفهوم النزعة الإنسانية كما تحدد حصرياً في النسق الفكري الغربي، وحسب المضامين والمعطيات والمحددات التي تعطى له في هذا النسق الفكري الغربي.

وهذا ما نكتشفه ونتعرف عليه حين العودة إلى تلك الكتابات، وفي هذا النطاق يمكن الإشارة إلى ثلاثة محاولات مهمة، كل واحدة لها طبيعتها الخاصة، ومنطقها الفكري، وبنيتها النسقية، وفضاؤها المرجعي.

وهذه المحاولات هي:

أولاً: محاولة الدكتور علي شريعتي الذي تطرق لهذه القضية في محاضرة معروفة له، نشرت بعنوان (الإنسان في الإسلام)، شرح في مفتتحها منطلقه في الحديث، والذي جاء كرد على موقف الحضارة الغربية المعاصرة التي حاولت أن تميز رؤيتها للإنسان عن رؤية باقي الديانات الكبرى التي عرفها المجتمع الإنساني، وللتشكيك في رؤية هذه الديانات، بقصد تفكيكها وانزياحها، وحتى الإطاحة بها. ورداً على هذا الموقف اعتبر الدكتور شريعتي إن قضية الإنسان وموقف الإسلام منها مهمة للغاية، فنحن نسمع ـ كما يقول ـ في العديد من الأوساط بأن الحضارة المعاصرة تقوم على النزعة الإنسانية، وتعتبر الإنسان أساس بنائها وهدفها، بينما كانت الأديان والمذاهب القديمة في تصورها، تحطم شخصية الإنسان، وجعلتها قرباناً للآلهة. كما اعتبرت الإنسان عاجزاً أمام الله، ومخلوقاً مسلوب الإدارة، يلتمس من الله تلبية مطالبه عن طريق الدعاء والابتهال. أما النزعة الإنسانية فقد أصبحت مذهباً تقدمياً وعصرياً، وذلك منذ عصر النهضة في أوروبا.

وفي مقابل هذه الرؤية، ورداً عليها، يرى شريعتي أن هدفه هو شرح موقف الإسلام من الإنسان، ليرى حسب قوله، هل من الصحيح أن يسحب على الإسلام أحكام وتقييمات متعلقة بأديان أخرى وظروف أخرى؟ وهل صحيح القول بأن الإسلام لا ينطلق من كون الإنسان أصلاً وأساساً لحركته، ويعتبره مخلوقاً عاجزاً أمام الله؟ وهل الإيمان بالإسلام يعني القبول بسلبية الإنسان وإلغاء دوره؟ أم أن الإيمان بالإسلام والانتماء إليه، يعني إعادة الإنسان إلى أصالته، ويعني كذلك اعترافاً بإرادتها وفضائله؟(2) وهذا ما حاول شريعتي التأكيد عليه، والانتصار إليه.

ثانياً: محاولة الدكتور هشام جعيط الذي نشر مقالة عام 1992م بعنوان (النزعة الإنسانية والعقلانية في الإسلام) وضمنها كتابه (أزمة الثقافة الإسلامية) الصادر عام 2000م. ومنذ البداية يكشف الدكتور جعيط كيف أن هذا الموضوع سيطرت عليه مواقف ردات الفعل، وذلك حين حاول الغربيون وصف أنفسهم بالعقلانية والنزعة الإنسانية، وسلب هذه الصفات عن غيرهم. ويرى الدكتور جعيط أن المسلمين منذ أكثر من قرن لما رأوا الأوروبيين يحتقرون ثقافتهم، ويتهمونهم بالجمود واللاعقلانية، والتشبث بالخرافات الزائفة، قاموا بردة فعل قوية هدفها تبرئة الإسلام ديناً وثقافة. وبعد أن برزت كلمات جديدة مثل العقلانية والنزعة الإنسانية للغرب، والغيبية بالنسبة للإسلام، وعلى أثر ذلك كما يقول جعيط، جاء الحديث عن النزعة الإنسانية في الإسلام.

ويتطابق حديث جعيط مع الرؤية الأوروبية، والسياق التاريخي لتطور وتشكل النزعة الإنسانية في الثقافة الأوروبية، لكنه لا ينفي وجود مثل هذه النزعة في ثقافات العالم الثالث، ويؤمن أيضاً بوجود نزعة إنسانية في الإسلام.

وفي هذا النطاق يفرق جعيط بين ثلاثة أنماط من النزعات الإنسانية:

النمط الأول: ويعطيه وصف النزعة الإنسانية الواعية بذاتها، ويعتقد أن هذا النمط موجود في الغرب، ويحتل قيمة عليا في جوهر الثقافة الغربية.

النمط الثاني: ويعطيه وصف النزعة الإنسانية العفوية، وهي نزعة موجودة عندنا حسب قوله، وفي العالم الثالث، وموروثة عن الثقافة الأصلية من دين وأعراف وتعايش إنساني.

النمط الثالث: ويعطيه وصف أنه يعبر عن شكل من أشكال الوعي بالنزعة الإنسانية، ويرى جعيط أن هذا النمط موجود في الثقافات العليا القديمة كالإسلام حسب تعبيره. ويقصد بهذا النمط النزعة التي ترتكز على الإنسان، وعلى المعرفة، والانفتاح على كل ما هو إنساني. ويضيف جعيط أن الثقافة الإسلامية تعطي السيادة لله، إلا أن القرآن يركز كثيراً على الإنسان من أول الخليقة، كما أن إنسانية ـ النبي على عظيم شأنه لدى الله ـ أمر أساسي في الإسلام(3).

وحين يقترب جعيط من الحديث عن ملامح ومكونات النزعة الإنسانية في الإسلام، يشير إلى ثلاثة أبعاد هي: النزعة الإنسانية في القرآن، والنزعة الإنسانية في الثقافة الدينية، والنزعة الإنسانية في الثقافة الدنيوية.

ولعل من المستغرب عند البعض أن يجري الحديث عن النزعة الإنسانية في القرآن، ومنشأ هذا الاستغراب هو الفهم النمطي الشائع لمفهوم النزعة الإنسانية كما تحدد في الثقافة الأوروبية. ويشير جعيط لمثل هذا الاستغراب حين يتساءل (كيف استطاع نص منزل مركز على الله إلى مثل هذا الحد، أن يؤسس نزعة إنسانية كائنة ما كانت؟ فهو بطبيعته مركز على الله لا على الإنسان. نقول ذلك ونحن نعلم أن هذا المفهوم الشائع في الثقافة الدنيوية والحديثة، يعتبر الإنسان كقيمة عليا، ويحرره من كل رجوع إلى كل ما هو إلهي، أو مقدس، أي يتجاوزه ويتعالى عليه. ولكن على الرغم من ذلك لا يمكننا أن نستبعد من الأشكال المختلفة التي اتخذتها النزعة الإنسانية على مدار التاريخ ذلك الشكل المتضمن في الأديان الكبرى. ولئن كان صحيحاً أن كل شيء يرجع إلى الله في الخطاب القرآني، فإن الإنسان يحتل فيه أيضاً مكانة مركزية. فهو المختار من الله، وشغله الشاغل)(4).

فإذا كانت توجد في القرآن مركزية إنسانية، وأنها خاضعة للمقاصد والمخططات الإلهية، فإن هذا في رأي جعيط بحد ذاته يمثل شكلاً من أشكال النزعة الإنسانية. كما يعتقد جعيط أن في القرآن درجة إنسانية أرفع، إنها مكانة الإنسان في مغامرة الوجود، وفي غائية الخلق، وفي التاريخ.

وبعد التعرف على النزعة الإنسانية في القرآن الكريم، يرى جعيط أن من الضلال والخطأ ما ذهب إليه المستشرق الفرنسي فون غروبناوم حين اعتبر إن الإسلام أظهر منذ بدايته، قليلاً من الاعتبار للإنسان.

ـ 2-

محمد أركون والنزعة الإنسانية

ثالثاً: محاولة الدكتور محمد أركون. وقد تقصدت تأخير الحديث عن هذه المحاولة لتسليط الأضواء عليها بصورة أكبر، لكونها أوسع وأضخم المحاولات التي تناولت الحديث عن النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي، وأكثرها تراكماً وثراء، ولعلها من أسبق المحاولات زمناً. حيث ترجع إلى ستينيات القرن العشرين، حين اشتغل الدكتور أركون على هذا الموضوع في إطار رسالته للدكتوراه التي أنجزها عام 1969م، وصدرت في كتاب بالفرنسية عام 1970م، ولم تعرف في العالم العربي إلا متأخراً، وبعد ما يزيد على ربع قرن حين صدرت الترجمة العربية للكتاب عام 1997م بعنوان (نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي)، وأتبعه لاحقاً بدراسات جمعها في كتاب حمل عنوان (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية) صدر بالعربية عام 2001م.

وما بين هذين الكتابين تظهر مفارقات أساسية تكشف عن ملامح التطور والتغير في رؤية أركون لمسألة النزعة الإنسانية في مجال الفكر العربي والإسلامي.

ومن هذه المفارقات أن أركون في الكتاب الأول كان محكوماً بذهنية المكتشف الذي وجد ضالته حين تعرف على فترة ذهبية مبكرة في تاريخ الفكر العربي الإسلامي، ترجع إلى القرن الرابع الهجري ـ العاشر الميلادي. وهي الفترة التي شهدت ازدهار الفلسفة وتجلت فيها العقلانية، وظهرت فيها النزعة الإنسانية، فقبض أركون على هذه الفترة، وظل يبشر ويبجل بها، وكأنها من مكتشفاته الفكرية. وأما في الكتاب الثاني فكان أركون محكوماً بذهنية المناضل والمدافع من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، وعنوان الكتاب يعطي أقوى إيحاء لهذا المعنى، حين أشار فيه إلى ما وصفه بالمعارك الفكرية التي خاضها من أجل فرض الأنسنة الحية ـ حسب تسميته ـ في السياقات الإسلامية.

وفي الكتاب الأول كانت مهمة أركون التعريف والترويج لفكرة الأنسنة، ومحاولة لفت النظر لهذه الفكرة، وإدماجها في المجال التداولي العربي والإسلامي. وفي الكتاب الثاني كانت مهمته معرفة وقياس إلى أين وصلت تلك الفكرة؟ وما هي المنزلة التي حضيت بها؟ وما هو الأفق الفكري الذي أضافته تلك الفكرة إلى الفكر العربي والإسلامي؟.

وفي الكتاب الأول كان أركون باحثاً في التاريخ، وناظراً لجيل مسكويه، وأبي حيان التوحيدي، وأبي الفضل ابن العميد، والصاحب بن عباد، وجميع الأدباء والفلاسفة والكتاب الذي ساهموا في إنعاش المناظرات الشيقة حسب وصف أركون، وفي خلق الجو الفكري الاستثنائي كما يقول، الذي ساد في مجالس العلم أثناء القرن الرابع الهجري. وفي الكتاب الثاني كان باحثاً عن الحاضر في الدرجة الأولى، وناظراً إلى السياقات الإسلامية المعاصرة، وداعياً إلى إحياء الأنسنة فيها.

في الكتاب الأول كان أركون متقيداً بشروط البحث الأكاديمي الصعب ومقتضياته، وبالصرامة العلمية، والضبط المنهجي، لكون الكتاب رسالة للدكتوراه مقدمة لجامعة عريقة، هي جامعة السوربون، وإلى كلية لها تقاليدها هي كلية الإستشراق للدراسات العربية والإسلامية. وحين يشرح أركون الواقع العلمي الذي عاصره يقول: (كان طالب الدكتوراه في ذلك الوقت مضطراً لمراعاة القواعد الصارمة السائدة في السوربون قبل ثورة 1968م... وكنت مضطراً للتقيد بجميع القواعد الأكاديمية الثقيلة، من أجل إكمال أطروحتي ومناقشتها، وخاصة إني كنت في أكثر أقسام السوربون محافظة، أي قسم الاستشراق الخاص بالدراسات العربية والإسلامية)(5).

وأما كتابة الرسائل الجامعية فكانت تتطلب كما يضيف أركون أسلوباً خاصاً، وتفرض إكراهات وقيوداً معينة على الباحث. تتعلق هذه القيود بطريقة التصميم الفكري للرسالة، وبالمنهجية المتبعة لإنجازها، وبطريقة الأسلوب والعرض الشكلاني لها.

وعندما أراد أركون تقديم هذا الكتاب إلى الوسط العربي، فكر في تقديم نسخة مختصرة وخفيفة أو مخففة تكون سهلة المنال على الجمهور العريض، ولكن سرعان ما اضطر للتراجع عن هذا الحل السهل، بعد أن فكر في الأمر ملياً كما يقول. وذلك بعدما أخذت تنتشر النزعة التبجيلية والتسليمية والإيديولوجية، حسب وصفه، في الكتب المتعلقة بالإسلام والحضارة الإسلامية(6).

أما في الكتاب الثاني فقد كان أركون أكثر تحرراً من تلك القيود والإكراهات، ومن تلك الصرامة العلمية والمنهجية الشديدة والمفرطة. وذلك بعد أن تحول من كونه طالباً يسعى لكسب الاعتراف بالجدارة العلمية، إلي كونه أستاذاً مرموقاً له منزلته العلمية، وما يستتبعه هذا التحول من مفارقات طبيعية، تظهر في طريقة التعاطي مع قواعد المنهجية والبحث العلمي. ويمكن القول أن الكتاب الأول يعد كتاباً مرجعياً في موضوعه، وتخصصياً في مجاله، بينما الكتاب الثاني يمكن أن يكون أكثر متابعة وتداولاً وانتشارا حتى لو عد هذا الكتاب من تذييلات وحواشي الكتاب الأول.

في الكتاب الأول كان أركون يحاول أن يبرهن على وجود نزعة إنسانية في الفكر العربي والإسلامي، مشابهة لتلك النزعة التي ظهرت في الفكر الأوروبي خلال عصر النهضة في القرن السادس عشر. أما في الكتاب الثاني فقد ظل يلفت النظر إلى وجود أنواع من النزعات الإنسانية وليس نوعاً واحداً، وحسب قوله (نحن نعترف اليوم بوجود عدة أنواع من النزعات الإنسانية، وليس نوعاً واحداً. وهي أنواع ذات تلوينات دينية أوعلمانية، روحانية أو فلسفية)(7).

وبعد أن كان أركون في الكتاب الأول مسكوناً بهاجس البحث عن النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي، أصبح في الكتاب الثاني مسكوناً بهاجس البحث عن نزعة إنسانية يصفها مرة بالشاملة، ومرة بالكونية، على أن تكون نزعة إنسانية محسوسة أو واقعية، لا تجريدية ولا شكلانية، تتجاوز في نظره حدود الأديان والطوائف والقوميات والأعراق لكي تصل إلى الإنسان في كل مكان. وإلا فلن تكون هناك نزعة إنسانية حقيقية، وهي إذا ما استثنت إنساناً واحداً من نعمها تكون قد فقدت إنسانيتها.

بالإضافة إلى أن طبيعة المناخ الفكري والسياسي الذي كان سائداً في زمن الكتاب الأول، يكاد يختلف بصورة جذرية عن طبيعة المناخ الفكري والسياسي الذي كان سائداً في زمن الكتاب الثاني. فحينما عاد أركون إلى كتابه الأول ليكتب مقدمة للطبعة العربية التي صدرت عام 1997م، أشار إلى بعض ما حصل من تحول مذهل في طبيعة المناخ الفكري والسياسي، بقوله (عندما كتبت أطروحتي في الستينات ما كنت أستطيع أن أتخيل كل هذا الجو المرعب والقمعي الهائل الذي يهيمن علينا اليوم بسبب انتشار الحركات المتطرفة. في ذلك الوقت كانت الفرحة العارمة بنيل الاستقلال تهيمن على الشعوب التي تخلصت من نير الاستعمار. كانت الشعوب فخورة بنيل استقلالها المكتسب لأول مرة، أو المعاد اكتسابه بالنسبة للبعض)(8)

وفي الكتاب الثاني أشار أركون إلى التحولات الجديدة التي دخلت على المناخ الفكري والسياسي، وفي طليعة هذه التحولات وأكثرها خطورة وتأثيراً، انبعاث العولمة التي جعلت العالم بمثابة الوطن للناس.

وجوهر أطروحة أركون تقوم على أمرين أساسين ومترابطين، هما:

الأمر الأول: البرهنة على وجود نزعة إنسانية عرفها الفكر العربي والإسلامي في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، نشأت بعد استلهام التراث الفلسفي الإغريقي. فدراسة الأدبيات الفلسفية للقرن الرابع الهجري، تتيح لنا كما يقول أركون أن نتأكد من وجود نزعة فكرية متركزة حول الإنسان في المجال العربي والإسلامي. وهذا ما يدعوه أركون بالأنسية العربية، بمعنى أنه وجد في ذلك العصر السحيق تيار فكري يهتم بالإنسان، وليس فقط بالله. وكل تيار يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله ـ حسب رأي أركون ـ يعتبر تياراً إنسياً أو عقلانياً.

وهذا الرأي هو بخلاف ما هو شائع وثابت عند المستشرقين الأوروبيين الذين لم يكن يعتقدون بوجود نزعة إنسانية إلا في عصر النهضة، وفي الحضارة الأوروبية بالذات. وبالتالي فإن النزعة الإنسانية هي شأن وامتياز أوروبي، ينبغي أن يسجل عليه صنع في أوروبا.

وإلى سنوات الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين ظل بعض المستشرقين ـ مثل الفرنسي غوستاف فون غروبناوم، كما يقول أركون ـ يحتج على تطبيق مفهوم النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي، باعتبار أن هذا المفهوم مرتبط بانبثاق الحداثة في أوروبا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ولا علاقة له بعالم الإسلام.

في حين يرى أركون أن النزعة الإنسانية ظهرت في الحضارة العربية الإسلامية، قبل أن تظهر في الحضارة الأوروبية بعدة قرون.

الأمر الثاني: تحليل الأسباب الفكرية والتاريخية التي أدت إلى نسيان أو ضمور واضمحلال النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، بعد مجئ السلاجقة. وبالتالي البحث عن كيف ماتت واضمحلت النزعة الإنسانية في الفكر العربي والإسلامي خلال فترة قصيرة، وكيف استمرت وتنامت في الفكر الأوروبي منذ عصر النهضة وإلى اليوم؟.

ولهذا يرى أركون أن المهمة الملقاة على عاتق المؤرخ أو المفكر، اليوم هي تبيان كيفية ضمور تلك النزعة الإنسانية الواعدة.

والغاية من هذه الأطروحة ـ في نظر أركون ـ هي البحث عن ما هو السبيل إلى بعث الأنسنة من جديد في المجال العربي والإسلامي؟ وكيف يمكن وصل ما انقطع واستلهامه مجدداً لكي يبنى عليه نهضة جديدة؟

هذا ما يريد أركون أن يسجله لنفسه، منذ أن إلتفت متأخراً إلى المجال العربي والإسلامي، بعد أن كان غائباً ولزمن طويل عن هذا المجال، ولعله برغبته وإرادته، فجميع مؤلفاته كتبت بالفرنسية، ونقلت إلى العربية مترجمة، مع أنه يحمل شهادة ليسانس حصل عليها من قسم اللغة العربية، كلية الآداب بالجامعة الجزائرية في خمسينيات القرن العشرين.

فقد أراد أركون من هذا الحديث المكثف والواسع عن الأنسنة، أن يقدم ـ حسب تصوره ـ فتحاً عظيماً وجديداً للفكر العربي والإسلامي، يذكره ويصله بعصر الإبداع والتجدد الفكري والفلسفي في القرن الرابع الهجري من جهة، ويذكره ويصله من جهة أخرى بعصر الحداثة الظافرة في الفكر الأوروبي الحديث والمعاصر. وهاتان هما القطيعتين الفكريتين، اللتان يدعو أركون لتجاوزهما من أجل الولوج في عالم الحداثة، والسير في ركب المدنية.

كما أراد أركون أن يقدم نفسه بصفته المفكر الذي يخوض المعارك الفكرية من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ولعله ينظر لنفسه كذلك على أنه المفكر الوحيد الذي جعل من قضية الأنسنة جبهته التي يخوض فيها معاركه الفكرية، وباعتباره المفكر الذي فتح على الفكر العربي والإسلامي الاهتمام بقضية الأنسنة، وتطوير المعرفة بها، والانخراط في معاركها.

ولهذه المهمة تقصد أركون ـ كما يقول ـ أن يستعمل مصطلحاً جديداً وغريباً، وغير مستخدم في السابق من قبل أحد، وهو مصطلح الأنسنة الذي أدهش الجمهور العربي حسب قوله أو الناطق بالعربية، وربما أربكه. وظل أركون يشير إلى هذه الملاحظة بشكل ملفت عدة مرات، وفي كل مرة يشير إلى جانب مختلف عن الآخر، ولا أدري هل هو بقصد منه، أم هو نوع من الإرباك. فمرة يقول (لقد اقترحت مصطلح الأنسنة لكي ألفت الانتباه إلى تلك الأبعاد الغائبة بعد ازدهارها في عهد الأدب والأدباء، ثم لكي أدعو بإلحاح إلى ضرورة إحياء الموقف الفلسفي في الفكر العربي خاصة، والفكر الإسلامي عامة)(9).

ومرة ثانية يقول: (وأنا عندما اعتمدت مصطلحاً غريباً وجديداً كالأنسنة، فإني أردت لفت الانتباه إلى ضرورة إعادة التفكير في النزعة الإنسانية الدينية المشتقة من الإنتروبولوجيا الروحانية القرآنية، كما أردت في الوقت ذاته إعادة التفكير بالنزعة الإنسانية الفلسفية أو المستلهمة من قبل الفلسفة)(10).

وفي مرة ثالثة يقول: (عندما ترجم كتابي مؤخراً إلى اللغة العربية ـ نزعة الأنسنة في الفكر العربي ـ اضطررت إلى اشتقاق مصطلح جديد هو الأنسنة، كمقابل للمصطلح الفرنسي Humanisme، وكنت آمل من وراء ذلك تشجيع الجمهور العربي أو الناطق بالعربية على فتح مناقشة حول ترجمة مفهوم مفعم بالمضامين القديمة والغنية لهذا المفهوم)(11)

ومرة رابعة حين توقف مترجمه هاشم صالح أمام مصطلح الأنسنة، شارحاً تفضيل أركون لهذا المصطلح، وتعليل إصراره عليه، بقوله (محمد أركون اخترع مصطلح الأنسنة، كتعريب للمصطلح الأوروبي هيومانيزم ـ Humanisme ـ وكنت أنا شخصياً قد اقترحت ترجمتين هما: النزعة الإنسانية، والفلسفة الإنسانية. ويصر أركون على الفرق بين الأنسنة والنزعة الإنسانية، لأن الأولى تركز النظر في الاجتهادات الفكرية لتعقل الوضع البشري وفتح آفاق جديدة لمعنى المساعي البشرية لإنتاج التاريخ، مع الوعي أن التاريخ صراع مستمر بين قوى الشر والعنف وقوى السلم والخير والجمال والمعرفة المنقذة من الضلال)(12).

والحقيقة إننا لسنا أمام مشكلة مصطلح بحاجة إلى من يخترعه لنا، أو يلفت نظرنا إليه بقوة أو غرابة، ـ كما صور ذلك أركون ـ وإنما المشكلة في توليد هذه النزعة الإنسانية من داخل منظومتنا الفكرية، وفي بناءها وتحققها وممارستها الفعلية في بيئتنا الاجتماعية. ويظهر على أركون أنه مسكون بهاجس اختراع المصطلحات والتسميات الجديدة والغريبة، التي تتكاثر في مؤلفاته، وبحاجة إلى من يشرحها ويعرف بها، وهذا ما يقوم به معرب مؤلفاته وشارحها هاشم صالح.

ويربط أركون وآخرون أيضاً النزعة الإنسانية بازدهار النزعة العقلانية، فلا نزعة إنسانية حسب رأيهم بدون فلسفة أو فكر فلسفي يغذيها ويدعمها. وهذا ما يفسر عند أركون انبعاث واضمحلال النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي. فانبعاثها في القرن الرابع الهجري كان نتيجة استلهام التراث العقلي والفلسفي الإغريقي، واضمحلالها في القرن الخامس كان نتيجة تراجع التراث العقلي وموت الفلسفة في السياقات العربية والإسلامية. وأما الفكر اللاهوتي أو الديني كما يقول هاشم صالح معلقا على كلام أركون في الهامش، لا يكفي وحده لضمان الأنسنة أو النزعة الإنسانية.

ومن هؤلاء الآخرون الذي أقصدهم هشام جعيط الذي يرى أن مفهوم النزعة الإنسانية في المجال الأوروبي تطور بتأثير العقلانية التي قلبت القيم القديمة في داخل الفكر الأوروبي، لهذا يعتقد جعيط أن هناك التحام بين النزعة الإنسانية والنزعة العقلانية في مظاهرها المتعددة والمتشعبة.

أما حينما يقيم أركون إلى أين وصلت محاولته في ترسيخ وتدعيم منحى الأنسنة في المجال العربي والإسلامي، وقياس مستويات التقدم في هذا الشأن، فإنه يرى أن كتابه (نزعة الأنسنة في الفكر العربي) الذي صدرت ترجمته العربية عام 1997م، لم يلحظ حتى فترة صدور كتابه الثاني (معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية) عام 2001م، ولم يلحظ حسب رأيه بأي اهتمام، مثله في ذلك مثل بقية المنشورات ذات الأبعاد العلمية والفكرية. وهذا ما يعطينا في نظره فكرة بليغة عن ظروف ممارسة الفكر والبحث في السياقات الإسلامية، ومدى تدهورها وانغلاقيتها(13).

ورجع أركون مرة ثانية لمثل هذا الانطباع، واعتبر أن نفس الكتاب السالف الذكر لم يقرأ إلا قليلاً، والمناقشة المأمولة لم تحصل. وهذا دليل عنده ـ كما يقول ـ بين أدلة أخرى عديدة، على ما كان قد دعاه منذ زمن طويل بالمستحيل التفكير فيه، واللا مفكر فيه، المتراكمين داخل الفكر الإسلامي منذ القرن الثالث عشر(14).

وأما شارحه هاشم صالح فله تقدير آخر، حيث يرى أن أركون يتشاءم (أكثر مِمَّا ينبغي وينسى أن فكره أصبح أحد التيارات الأساسية في الساحة الثقافية العربية. أقول ذلك على الرغم من أن ترجمته لم تكتمل بعد، بل لا تزال في بدايتها بعد عشرين سنة من العمل المتواصل. أو قل وصلت إلى منتصفها لكي نكون أكثر دقة. والواقع أن فكره صعب ولا يمكن فهمه إلا بعد الإطلاع على التراث الإسلامي نفسه، وتراث الحداثة الأوروبية، وكيفية تطبيق المناهج والمصطلحات الحديثة على التراث الديني، وهذه أشياء ليست متيسرة لجميع الناس، بل وليست متيسرة حتى لأساتذة الجامعات في بعض الأحيان، فما بالك بالقارئ العادي؟)(15).

ـ3ـ

ملاحظات ونقد

إذا كنا نعترف لأركون أنه قدم أوسع حديث عن النزعة الإنسانية، وأوسع معرفة معجمية أو قاموسية تتحدث عن المفاهيم والمصطلحات المرتبطة بالنزعة الإنسانية، وهو يتفوق من هذه الناحية على الآخرين في النطاق العربي. ومؤلفاته تعد ثرية من هذه الناحية، ومرجعية لكل من يبحث حول هذا الموضوع. إلا أننا نسجل بعض الملاحظات في هذا الشأن:

أولاً: لقد كان أركون محكوماً بالمعنى الغربي الذي يعطى لمفهوم النزعة الإنسانية، وهو المعنى الذي يدافع عن المركزية الإنسانية في مقابل المركزية اللاهوتية، ويحاول إحلال مركزية الإنسان بدل مركزية اللاهوت أو العقيدة الدينية. ويتناغم هذا المعنى مع طبيعة السياق التاريخي الأوروبي الذي اصطدم بذهنية العصور الوسطى، التي جعلت من اللاهوت نظاماً قيمياً ومعياراياً له حاكمية على كل شيء، وعلى أساسه تحدد قيمة الأشياء ومصائرها، فالعلم ليس له قيمة إذا لم يتوافق مع اللاهوت. وهكذا الإنسان ليس له قيمة إذا لم يتوافق كذلك مع اللاهوت. فلم يعد الإنسان قادراً على أن يمارس حريته، أو يدافع عن حقوقه، أو يحفظ كرامته. وأمام هذا الواقع الذي وصفته الأدبيات الأوروبية بالمظلم، اندفع الأوروبيون لتغييره عندما حانت الفرصة لهم، فقاموا بانقلاب على اللاهوت، وطوروا لأنفسهم فلسفة جديدة عرفت بالفلسفة الإنسانية التي جعلت من الإنسان مركزاً بديلاً عن اللاهوت والعقيدة الدينية. وقادتهم هذه الفلسفة للعودة إلى تراث ما قبل عصر اللاهوت، وهو التراث الإغريقي والانفتاح عليه بصفته تراثاً إنسانياً، لكي يسهم في ترسيخ وتدعيم الفلسفة الإنسانية ومركزية الإنسان. وهذا يعني أن النزعة الإنسانية في الفكر الأوروبي مرتبطة بسياق تاريخي هو الذي شكل طبيعتها وهويتها، وبلور ملامحها ومحدداتها، وهو سياق يختلف جذرياً وطبيعة السياق التاريخي الذي عاصره الفكر الإسلامي. وبالتالي فإن النزعة الإنسانية هذه، هي نظرية أوروبية ننفتح عليها، ونتعاطى معها، على هذا الأساس، وليس بصفتها نظرية كونية نسلم بها بصورة مطلقة وتامة.

ثانياً: لكون أن هذه النزعة الإنسانية جاءت كرد فعل عنيف أمام سطوة وقوة هيمنة وجبروت اللاهوت، وتشكلت فلسفة هذه النزعة على أساس إحلال مركزية الإنسان مكان مركزية اللاهوت. وهذه كانت فلسفة عصر النهضة في القرن السادس عشر الذي اندفع فيه الأوربيون بحماس كبير نحو الاقتلاع من القيود والأغلال التي حاصرتهم وضيقت عليهم في ظل هيمنة ومركزية اللاهوت. لذلك فقد حملت هذه النزعة معها موقفاً عدائيا تجاه الدين، أو بذور موقف عدائي تجاه الدين، أو إقصائي له، سعياً نحو التحرر والتمرد على الوضعيات السابقة، ومن ذهنية التحريم والتكفير.

وتواصلت هذه المغامرة في تقييد الدين وإقصاءه من عصر النهضة، إلى عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وفي هذا العصر تمت تصفية البقية الباقية من العلاقة مع اللاهوت، وحصل أكبر تمرد في أوروبا على الدين والعقيدة الدينية، وأصبح العقل هو الدين الجديد لأوروبا، بعد الإطاحة بالدين القديم. وذلك بسبب ما تعرض له الدين من نقد منظم وجذري قوضت أركانه وأساسياته، ووصل الحال إلى أن أعلن نيتشه في القرن التاسع عشر صرخته المدوية لقد مات الإله.

لهذا فإن النزعة الإنسانية التي وصلت إلينا ليست بريئة من العداء إلى الدين، أو أنها تحمل معها مثل هذه البذور. الأمر الذي يجعلنا نتحفظ على هذه النزعة، ونتعامل معها بطريقة نقدية لتصفية تلك البذور العدائية للدين.

وحتى النزعة الإنسانية التي يدعو إليها أركون ويكافح ويقارع من أجلها، لا تخلو من بذور عدائية للدين، ونلمس هذا الأمر في نصوص صريحة له، مثل قوله (وإذا ما أردنا أن نقوم اليوم باستعادة نقدية لمسألة النزعة الإنسانية في البيئات التي يهيمن عليها الإسلام كدين، فإنه ينبغي علينا أن نأخذ بعين الاعتبار هذا البعد التراجيدي أو المأساوي، فهو الذي يساعدنا على العودة إلى الأصول المفهومية الأولى للفلسفة الإنسانية)(16).

وحين يتساءل أركون ماذا أأأاأأأأقصد بالبعد التراجيدي؟ يجيب بقوله: (أقصد بأن هناك قدراً تاريخيا يصيب المجتمعات البشرية بشكل لا حيلة لها فيه، ولا مرد له. وينبغي أن نحسب له الحساب، وليس فقط لعامل الإسلام، صحيح أن هذا العامل يميل إلى أن يكون مهيمناً حالياً بسبب ضغط التراث وفعاليته الإيديولوجية الرهيبة)(17).

وهناك العديد من النصوص في مؤلفات أركون، التي تشير إلى مثل هذا الموقف السلبي، أو غير الإيجابي تجاه الدين. خصوصاً وأنه يتطلع لثورة فكرية في المجتمعات العربية والإسلامية، شبيهة بالتي حصلت في المجتمعات الأوروبية، تقوم بإحلال مركزية الإنسان مكان مركزية الدين.

ثالثاً: يحاول أركون أن يقدم نفسه على أنه ضد الإيديولوجيات والموقف الإيديولوجي، وينسب نفسه إلى المجال المعرفي، ويحلو له أن يصنف مواقفه، ويعطيها صفة الموقف المعرفي والعلمي. ويضع نفسه في موقع الممارس لنقد الإيديولوجيات وتفكيك خطاباتها. لكن هذا الموقف، وهذا الفعل لا يعطي الإنسان صك براءة، أو حصانة من الإيديولوجيا، والوقوع في فخها، أو التلوث بها.

وفي خطاب أركون نلمس مثل هذه الإيديولوجيا التي يكرهها، حين يحاول ربط أو توظيف النزعة الإنسانية بما يخدم العلمنة العزيزة على قلب أركون، والمستميت في الدفاع عنها، والمقارع من أجلها. فهو يمتزج بين الأنسنة والعلمانية، ويعتبر أن كل تيار يتمحور حول الإنسان وهمومه ومشاكله يعتبر تياراً إنسياً أو عقلانياً أو علمانياً(18). ويصف الفترة التي وجدت فيها النزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي خلال القرن الرابع الهجري، بفترة العلمنة الجنينية، وحسب قوله: (نلمح من خلال دراسة تلك الفترة، ظهور علائم على العلمنة الجنينية، أو البدائية. من أبرز هذه العلائم إضعاف هيبة الخلافة من قبل الأمراء البويهيين، ثم ازدياد أهمية الدور الذي يلعبه العقل الفلسفي من أجل تجاوز الصراعات المتكررة والحاصلة بين الطوائف، والمذاهب، والعقائد، والتراثات العرقية/ الثقافية. ومن المعلوم أن الخلافة تتمتع برمزانية دينية عالية، واستخفاف البويهيين بها يعني السير في طريق العلمنة لمؤسسة السلطة العليا. كما أن صعود العقل الفلسفي على حساب العقل المذهبي الأرثوذكسي يعني أيضاً تأكيداً لعلمنة الفكر في الساحة العربية/ الإسلامية. وهذه عناصر كانت موجودة في القرن الرابع)(19).

كما يرى أركون أن انتصار الفلسفة والعلم الإغريقي في الساحة العربية والإسلامية، هو الذي أتاح تقوية النزعة الإنسانية المعلمنة في القرن الرابع الهجري(20).

فهذا الربط بين الأنسنة والعلمنة عند أركون يضيف تحفظاً واحترازاً. وفي مثل هذه الحالة تكون العلمنة بمثابة العقيدة للأنسنة، بحيث لا يمكن الوصول إلى الأنسنة بدون العلمنة، وهذه هي الإيديولوجيا بتمامها.

رابعاً: في وقت سابق اعتقد الدكتور محمد إقبال أن الفلسفة اليونانية القديمة، قد غشت على أبصار مفكري عالم الإسلام، وحجبت عنهم روح القرآن والاستلهام من معارفه الصافية والمتجددة. وتعد هذه القضية من أبرز القضايا التي حاول إقبال معالجتها في كتابه الشهير (تجديد التفكير الديني في الإسلام).

ونفس الكلام أقوله اليوم: أن الفلسفة الأوروبية الحديثة قد غشت على أبصار مفكري عالم الإسلام، وحجبت عنهم روح القرآن والاستلهام من معارفه الصافية والمتجددة. وهذا ما يصدق عندي على محاولة أركون. فبدل أن يستلهم النزعة الإنسانية من منابع القرآن، ومن روح وجوهر الإسلام، ليكون معرفاً ومكتشفاً لهذه النزعة، ومحافظاً على استقلاله الفكري، ومدافعاً عن هذه النزعة في معاقل الفكر الأوروبي، بدل ذلك يغلق أركون الطريق أمام الاستلهام من القرآن الكريم، ويتمسك بالمعنى الغربي، ويحاول إسقاطه على المجال الفكري العربي والإسلامي. لأنه واقع تحت تأثير مديونية المعنى حسب الاصطلاح الذي يستخدمه أركون نفسه، وهو من اختراع الباحث الفرنسي المعاصر مارسيل غوشيه، فأركون مدين للفكر الأوروبي في معارفه.

وهذا المنحى عند أركون هو بخلاف نهج المفكرين الآخرين الذين وجودوا في القرآن الكريم منبعاً ثرياً وصافياً ومتجدداً لاستنباط واكتشاف نزعة إنسانية إسلامية. وهذا ما سعى إليه الدكتور علي شريعتي الذي رجع في محاضرته عن الإنسان في الإسلام إلى الآيات القرآنية التي تحدثت عن بداية خلق الإنسان، والآيات التي تحدثت عن الإنسان والمعرفة، والإنسان والأمانة، والإنسان ذو البعدين، بعد (وخلقته من طين) وبعد (ونفخنا فيه من روحنا).

وهذا ما سعى إليه أيضاً الدكتور هشام جعيط الذي خصص قسماً في مقالته السالفة الذكر عنونه (الإنسانية القرآنية)، حيث رجع إلى نفس الآيات التي رجع إليها من قبل الدكتور شريعتي، وأضاف إليها آيات أخرى مثل الآيات الخمس الأولى من سورة العلق، وهي أول ما نزل من الذكر الحكيم، فقد اعتبر أن مِمَّا له دلالة خاصة أن يخاطب الوحي الأول الإنسان في قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك الذي خلق. خلق الإنسان من علق. اقرأ وربك الأكرم. الذي علم بالقلم. علم الإنسان ما لم يعلم)(21).

ولعل أوسع محاولة في هذا النطاق ما سعت إليه الدكتورة منى طلبة في مشاركة لها بعنوان (قراءة القرآن بين الوعي الشفهي والكتابي.. تأملات في نشأة النزعة الإنسانية في الثقافة العربية) نشرت ضمن كتاب حمل عنوان (النزعة الإنسانية في الفكر العربي.. دراسات في النزعة الإنسانية في الفكر العربي الوسيط) صدر في القاهرة عام 1999م.

ولهذا يمكن القول: إنه توجد نزعة إنسانية في الإسلام منبعها القرآن الكريم، الذي خاطب الإنسان في أول آية نزلت، بآية العلم (اقرأ) وشجعه على طلب العلم، والسير في الأرض للنظر والاعتبار والتعارف، وخصص سورة كاملة باسم الإنسان، واختتم بكلمة الناس في سورة الناس. إلى غير ذلك من دلائل وإشارات كثيرة، وثرية بالمعاني.

خامساً: يعطي أركون في مؤلفاته إيحاءات كما لو أن جهده، هو الجهد الفريد والنادر والوحيد الذي يستحق المتابعة والاهتمام، لكونه المحيط بالعلم والمعرفة، والقادر على صنع التأثير والتغيير. وفي المقابل لا يرى في جهد الآخرين أنها مجدية أو فاعلة، وبصريح العبارة عنده أن (كل الجهود التي يبذلها المثقفون والباحثون في هذا الاتجاه غير مجدية علمياً وفكرياً. لماذا؟ لأنهم لا يفعلون إلا أن يكرروا نفس المعارك والمناقشات والتدريبات التربوية التي شهدها بغزارة المسار الأوروبي للحداثة الفكرية في مواجهة النظام المعرفي الخاص بمجتمعات الكتاب المقدس)(22).

وفي الوقت الذي تحفل مؤلفات أركون بأسماء المفكرين والفلاسفة والمستشرقين الغربيين، فإنه لا يأتي على ذكر مفكري العالم العربي والإسلامي، وحين يأتي على ذكر أحد منهم، فإنه غالباً ما يكون في سياق نقدي، حيث يقلل من شأنهم ومنزلتهم، ومكانتهم الفكرية والعلمية، كما لو أنه يظهر تعالياً عليهم.

والخلاصة: أن أركون حاول البحث عن نزعة إنسانية في المجال العربي والإسلامي، تكون شبيهة للنزعة التي ظهرت في الفكر الأوروبي ومعبرة عنها، ومتماهية معها، كما لو أنه يبحث عن المعنى الأوروبي للنزعة الإنسانية في المجال العربي والإسلامي.

وهذا ليس هو نهاية المطاف، ويبقى البحث مشرعاً في الكشف عن النزعة الإنسانية في التصور الإسلامي.

**********************

الحواشي

*) باحث وكاتب سعودي.

1- محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي.. جيل مسكويه والتوحيدي، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الساقي، 1997م، ص6.

2- فاضل رسول: هكذا تكلم علي شريعتي، بيروت: دار الكلمة، 1987م، ص219.

3- هشام جعيط: أزمة الثقافة الإسلامية، بيروت: دار الطليعة، 2000م، ص47.

4- المصدر نفسه، ص49.

5- محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، مصدر سابق، ص13.

6- المصدر نفسه، ص43.

7- محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ترجمة: هاشم صالح، بيروت: دار الساقي، 2001م، ص44.

8- محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ص12.

9- محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، مصدر سابق، ص12.

10- المصدر نفسه، ص30.

11- المصدر نفسه، ص47.

12- المصدر نفسه، ص7.

13- المصدر نفسه، ص31.

14- المصدر نفسه، ص47.

15- المصدر نفسه، ص31.

16- محمد أركون: نزعة الأنسنة في الفكر العربي، ص10.

17- المصدر نفسه، ص10.

18- المصدر نفسه، ص605.

19- المصدر نفسه، ص47.

20- محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في الساياقات الإسلامية، ص65.

21- سورة العلق. آية 1- 5.

22- محمد أركون: معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، ص55.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=576

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك