الرحّالة الأعمى
عبد الله إبراهيم
ارتسمت للرحّالة الإنجليزي "شارلز دوتي" في كتابه الضخم "ترحال في صحراء الجزيرة العربية" صورة لاهوتيّ متصلّب يلوذ بالكتاب المقدّس في ضبط علاقاته بالمسلمين؛ فأحكامه التوراتية عبّرت عن نفسها بلغة متكلّفة، وبدا متجهّما وقد فارق المرح نفسه إلى الأبد، وعلى عكس دلالة الاسم العربي الذي انتحله، وهو "خليل النصراني" لم يفلح في أن يكون خلّا لأحد طوال مكوثه في الصحراء، بل كان مسرفا في سوء الظن، وريبته بمن حوله لا تنضب، وبدل أن ينقّب في تضاريس الأرض التي اختصّ بها أفرط في التنقيب في داخل نفوس العرب عامة، وأهل الصحراء بخاصة، بطريقة أقرب ما تكون إلى التحقّق من مساوئهم، بما يوافق تصوّراته المسبقة عنهم، وبدل أن يصف جماعات مغايرة له في المعتقد راح يهجوها بحذلقة مركّبة من ضغائن نفسية، ومجازات توراتية، ولعله انغمس في كراهية مستغربة، وتخلّى عن الحسّ السليم في تقدير الآخرين؛ فما يعيب بعض الرحّالة، عدم قدرتهم على الصفح، وشلّ الرغبة في الغفران، وإعادة إنتاج الإهانات الفردية، باعتبارها خصومات عقائدية أو عرقية، فيصبح الاختلاف خلافا تؤسّس له اعتبارات قصيرة النظر.
أظهر "دوتي" سلوكا متعاليا في علاقته بالبدو، فقد وضعهم في مرتبة دون مرتبته العرقية والدينية، وعلى هذا انهارت ثقتهم به، وأفضى ذلك إلى عدم رغبتهم في قبوله، ولعلّه من الرحّالة الذين أبدوا عجرفة منكرة في علاقته بأهل الصحراء تتخطى التوجّس وسوء الظن، إنما تصرّح بالمساوئ، وتضخّم المثالب، وكان ذلك مثار نقاش دائم، إذ عرض "شاز" التفسير الآتي للتعالي الذي أبداه "دوتي" تجاه عرب الصحراء تقدّم أجزاء كتاب "الصحراء العربية" وصفا للعرب من وجهة نظر بريطانية خالصة، وليس من وجهة نظر موضوعية مستقلّة من مراقب محايد. وقد كان اعتداد دوتي المفرط بنفسه لما يتمتع به من معرفة متعمّقة في تاريخ أوروبا في القرون الوسطى، ولاسيما تاريخ الحملات الصليبية، كبير الأثر في تحامله على العرب؛ كما كانت "وطنيته الشديدة عاملاً آخر دفعه إلى رفض كلّ ما هو غير بريطاني"، وإلى كل ذلك فقد "أكد على انتمائه ومشايعته للإمبراطورية البريطانية".
قام "دوتي" برحلته في النصف الثاني من سبعينيات القرن التاسع عشر، وشغل بتدوينها خلال عقد من الزمان، فنشرت عام 1888 ولم تلفت انتباه أحد، فقد كانت ضخمة جدا، وفي مجلّدين كبيرين منضّدين بحروف صغيرة عجز المتخصّصون عن الاطّلاع عليها، فركنت في خزانات الكتب دونما اهتمام يذكر إلا من طرف قلة قليلة وجدت فيها غايتها، وأسهم في ذلك لغتها الملتوية وتفاصيلها المملّة. جاءت رحلة "دوتي" كدرة ثقيلة بأكثر من نصف مليون كلمة، كُتبت بلغة حاولت عبثا تقليد أسلوب التوراة، لكنّها فشلت في محاكاتها، فجاءت نثرا ملتويا، وعويصا، وخادشا، على الرغم من كل الثناء الزائف الذي قيل فيها. وشتّان ما بين رحّالة يكتب، وهو يعيش ويشارك ويكتشف، وآخر ينهل من معجم القدح كل ما يتضمّنه من ذم وانتقاص. ولولا التقريظ الذي تفضّل به عليها "لورنس العرب" في العقد الثاني من القرن العشرين لبقيت طيّ النسيان.
لكن اهتمام "لورنس" بكتاب الرحلة لا يعود إلى قيمته الأدبية، أو لغته التوراتية، كما وقع الترويج لذلك، إنما لأنه رأى فيه دليل إرشاد عسكري للحملات البريطانية ضد السلطنة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى، وعلى هذا عدّه الأول من نوعه، فهو كتاب مميز لا نظير له، بل هو "كتاب مقدّس" وفيه كل ما يحتاج إليه المرء عن موضوعه، لأنه "أول كتاب عن عرب الصحراء، ولا غنى لأي إنسان عنه". أما عن صاحبه، فقال "لورنس" بأنه وإن تظاهر باللباس العربي، والكلام العربي، فإن "رؤيته إنجليزية قلبا وقالبا"، فكان بذلك "رائدا أوروبيا من ناحية، ومسيحيا من الناحية الأخرى، في كل الأماكن التي دخلها"، وأخيرا روى "لورنس" عن العرب قولهم عنه "إنه لم يكن يبدو لهم متفاخرا إلا بمسيحيته"، فقد كان مبالغا في الافتخار بها إلى درجة تثير حفيظة المجتمع الذي ارتحل إليه.
اقتران أوربية "دوتي" بمسيحيته في ذروة السعي للسيطرة الغربية على الأراضي العربية، لا يفهم على أنه انتماء طبيعي يتلازم فيه العرق بالدين، إنما كان، آنذاك، من ركائز المشروع الاستعماري الذي كانت بريطانيا العظمى تحامي عنه، وما لبث أن انخرط "لورنس" فيه بكل ما للكلمة من معنى، لذلك وجد في سلفه المغامر "داوتي" مثيلا يمنحه شرعية الحضور في أرض العرب، فجعل من كتابة دليل إرشاد ينبغي اعتماده من طرف موظفي الإمبراطورية وضبّاطها في التعرف إلى ذلك العالم الذي أصبح من المتاح بسط نفوذها عليه. لم يلفت انتباه "لورنس" في ذلك الكتاب المتضخّم إلا المعلومات التي تفيده في غرضه، وعلى هذا جاء تقريظه للكتاب متوافقا مع التطلّعات الإمبراطورية في الشرق العربي، وجرى تناسي الأخطاء التي وقع فيها "دوتي". وإلى ذلك، فقد أشار "جون فيلبي" في يومياته إلى أنه خلال انشغاله مع "لورنس" في تشكيل مملكة الأردن في خريف عام 1921 كان يعود إلى رحلات "دوتي"، ليتعرّف إلى طبيعة المناطق الشمالية قرب "المَفْرَق" التي أراد الإنجليز جعلها جزءا من الأردن.
بعثت الحروب الاستعمارية للإمبراطورية البريطانية ضد السلطنة العثمانية الاهتمام برحلة استطرادية عزف عنها أهلها، وصارت، فيما بعد، محلّ اهتمام العسكريين من قادة الفرق الإنجليزية، وعيونهم الذين كانوا يجوبون ديار العرب لمعرفة الكيفية التي يحكمون عليها سيطرتهم. وفي وقت جرى الاحتفاء فيه بكتاب "دوتي" في الأوساط الاستعمارية، لم تخف على رحّالة آخرين مثالبه، ومن ذلك فإن "بيرتون" وهو رحالة مشبّع بالقيم الإمبراطورية، وممثل للرؤية الاستشراقية في إعادة إنتاج الشرق بمواصفات غربية، صرّح بأن في الكتاب قدرا واضحا من "التكلّفات، والغرائب، والانحيازات، والمغالطات".
بدأ "دوتي" رحلاته في جنوب أوروبا، فزار إسبانيا، ثم إيطاليا، وبعد أن زار اليونان، عبر البحر المتوسط إلى مصر عام 1875، وجريا على عادة معظم الرحّالة الغربيين الذين يهتدون بوقائع الكتاب المقدّس، ومسارات أنبياء بني إسرائيل، كان لابد من زيارة سيناء، وتصفّح وهادها وجبالها، ومنها اتجه إلى مدينة "البتراء"، وحالما انتهى من تطوافه فيها اتجه إلى "مدائن صالح" راغبا في استنساخ النقوش على الأضرحة الصخرية، وبدل أن يقفل راجعا إلى الشام مع قافلة للحجيج قادمة من الحجاز، انزلق برفقة بعض القبائل البدوية إلى عمق الصحراء، فزار "تيماء" ومنها توجّه إلى "حائل" ثم "خيبر" لكن حاكمها طرده، وما قبل أن يمضي في رحلته إلى الجنوب، فقفل راجعا إلى "حائل" وفيها لم يرحّب به أحد هذه المرّة، فتوجّه إلى "بريدة" ثم "عنيزة"، فلاقى من مشاقّ النبذ والإزراء بسبب عجرفته الدينية والشخصية، ما جعله يهرب باتجاه الطائف، ثم وصل جدة في صيف عام 1878. وحينما عاد إلى بلاده كان مجروح الكبرياء، وما لبث أن جعل من كتابه وسيلة خدش لأهل الصحراء الذين وصفهم بالمكر والخداع، وفشل في اقتراح تسوية يُقبل فيها بوصفه غريبا بينهم، مادام كان يصرّح بما يخالف معتقداتهم، ويطعن في أخلاقياتهم، فركّب لهم صورا مستكرهة أسهمت في تعميق الفجوة القائمة بين المجتمعات الشرقية والغربية.
حجبت نظرة "دوتي" القاتمة لأهل الصحراء العربية أهم ما كان بحاجة إليه، فكأنه رحل إلى ربوعهم دون أن يراهم. أما وأنّ الإيمان الكنسي كان مرشدا له، فقد ظهر البدو متحلّلين يعومون على بدائية مقيتة، فجاشت نفسه بموجات متوترة من الغضب الأعمى عليهم، فكأنه عاش في عالم لا يفتأ ينأى عن إيقاعه، سواء كان ذلك في وطنه أم في أوطان الآخرين. ولم يحدث أن جنى أحد ثمرة طيبة من ذلك، فالإنصات لروح العصر هو سرّ المعاصرة، وما كان يجوز له أن يتعمّد قطيعة قائمة على الإيمان الديني القويم والذوق الأدبي المهجور، إذ ما برح سخاؤه الديني يتصاعد في قلب البادية متأملا في فرضيات لاهوتية ظنّ بها إحقاق الحق نافيا عن نفسه الخطأ بلغة عصر النهضة. وقد جانب التقاليد الموروثة التي هذبها الرحّالة عبر العصور، وامتثل لروح استشراقية معتمة لم تكن قادرة على ارتياد موضوعها وفهمه، إنما اصطنعته في المخيال العام وجعلت من الشرقيين موضوعا له، فهي لا تتخطّى الحدود وصولا إليه إنما تستحضره وتخضعه لها؛ فالعبور إلى الآخر يقتضي تضحية كبيرة ما كان" دوتي" متمكّنا منها.
رسم "دوتي" صورة مشينة للعرب المترحّلين في الصحراء، ولم يكبح جماح انفعالاته، وكان التعميم ركنا أساسيا في أحكامه، ولو خصّص لكان ذلك أفضل له ولهم "شاهدت الخيالة الأعراب الذين اقتربوا منا؛ ولكن عددنا كان أكبر من عددهم، وجاءوا إلينا ليطلبوا منا بوقاحة إعطاءهم حفنة من التبغ، هؤلاء الأعراب يكونون مضيفين طيبين في مخيماتهم؛ ولكن لو قدر لنا الوقوع في أيديهم في الصحراء لاكتشفنا أنهم أعداء واوغاد، ولكانوا جردونا من كل شيء معنا ولربما تملكتهم الوحشية وذبحوا البعض منا"، ولم يكتف بذمّ بدو الصحراء، إنما شمل ذمه العرب قاطبة "الوعود بعيدة الأمد لايقبلها العرب، لأن عالمهم خال من الثقة، فضلا عن أنهم أنفسهم لا يعترفون حتى بالاتفاقات شديدة الدقة".
بوسعنا التأكيد أن الانحراف في سلوك أفراد من أهل البادية شائن، ومستهجن، وغير مقبول، إنما لا ينبغي تعميمه، وبالمثل لا يجوز اعتبار "دوتي" نموذجا للرحّالة أجمعين، كونه ضخّم الصغائر، فارتقى بها إلى رتبة الطبائع الثابتة، والمساوئ التي لا تغتفر، ولم يتغاض عمّا تعثّر به معظم أسلافه، فكان ضنينا في مشاعره، وقاسيا في أحكامه، فارتسمت له صورة الرحّالة المغمور بالامتعاض، والعائم على سراب من الازدراء، وكاد يصاب بجنون الارتياب من الآخرين جرّاء العدائية التي ظهرت له في قلب الصحراء، فلم يفلح في تذليلها بالتواصل ومدّ جسور الثقة، إنما لم يتورّع عن إذكاء فتيلها، فكان أن تفشّى اليأس في نفسه، وحيثما اتجه كان يُردّ منظورا إليه في كثير من الأحيان، باعتباره خادشا للمعتقد الديني الراسخ، فلطالما لازم السخطُ الكراهيةَ، حيثما أفرد الغريب نفسه عن الجماعة، وانكفأ على ذاته متوهّما أن أخلاقياته التي حملها معه لها الأفضلية دوما في أرض الآخرين.
وضع "دوتي" ثقافته ومعتقداته حاجزا بينه والمجتمع الذي ارتحل إليه، فراح يقارن، ويحلّل، ويحكم، ثم انتهى إلى تسفيه ما لا يتوافق مع القيم الدينية والاجتماعية التي ينتمي إليها، بل إنه أزرى بما رأى من تقاليد وعلاقات ومعتقدات، فحجب عنه ذلك جملة من الحقائق التي كان يمكن له أن يكتشفها؛ إذ كان خائفا، بل مذعورا، ولطالما جهر بمساوئ أهل الصحراء؛ مما ألحق به من الضرر ما ليس بحاجة إليه على الإطلاق، فقد جرّ عليه التصريح بآرائه الهجائية بعض الويلات، وكاد يقتل. ولعلّ سبب مقاومة أهل الصحراء له تعود إلى طبيعته النفسية، وعداوته المعلنة لمعتقداتهم الدينية. وتصلح أن تكون رحلاته مثالا عن الرؤية الاستشراقية التي تريد شرقا يوافق شروط الإمبراطورية، فتصاب بالعمى الثقافي الذي يحجب عنها حقيقة الشرق وأهله، فلم ينهج أسلوبا يفضي به إلى المعرفة، إنما افتعل ما شاء من الأسباب التي منعته من تحقيق هدفه.
وليس بخاف أن أهداف الإرتحال إلى الصحراء العربية متباينة، وتناقضت أسباب الحكم على أهلها؛ فقد تحامل بعض الرحّالة في نظرتهم إلى مجتمع الصحراء، وشرعوا في الانتقاص من قيمه الاجتماعية والدينية؛ فلا عجب أن يلتبس عليهم الأمر لقصور في فهم المنظومة العقدية والاجتماعية، فراحوا يصدرون أحكاما بغيضة لا يمتّ معظمها بصلة لذلك المجتمع، معبّرين عن رؤيتهم الغربية في إعادة إنتاج صور الآخر طبقا لشروط الثقافة التي ينتسبون إليها، ونتج عنها سوء فهم لا يخفى. ويعود ذلك، فيما يعود إلى أن الرحلات تكتب استنادا إلى تجارب استعاديّة تقيّدها مدوّنات أولية قام بها الرحّالة يوما بعد يوم إبّان ارتحالهم. وثمة أمر إشكالي يواجه كلّ رحّالة في أرض غريبة عليه، فهل يحافظ على الحالة النفسية التي رافقت تدوين يومياته، بما في ذلك الصعاب والمخاطر التي تعرّض لها أم أنه يجرّد رحلته من كلّ ذلك ساعيا إلى وصف المظاهر الإجمالية، والسلوك العام للمجتمعات التي ارتحل إليها؟. انقسم الرحّالة الغربيون إلى صحراء العرب بين هذا وذاك، ففئة منهم تعثّرت بالصعاب اليومية وما رافقها من خوف وجوع وعطش وخطر وضياع، مما جعلها تنشغل بذلك عن الهدف الأكبر للرحلة، وأخرى سعت إلى استخلاص تجربة الارتحال، وبيان حال عالم الصحراء وأهله، بما في ذلك الغوص في قيمهم الدينية، وأعرافهم القبلية. وفي جميع الأحوال تُكتب الرحلات للمجتمعات التي ينتمي إليها الرحّالة لا المجتمعات التي ارتحلوا صوبها، وما يريده هؤلاء غير ما يريده أولئك.