التحديات المعاصرة للمجتمعات المسيحية والإسلامية

التحديات المعاصرة للمجتمعات المسيحية والإسلامية

جورزي زدانوسكي(*

بِما أن معتنقي المسيحية والإسلام يشكلون تقريبا نصف سكان العالم، فإن العلاقات بين هاتين الديانتين والحضارتين مهمة للعالم ولمستقبله.

إن الوضع الراهن لهذه العلاقات مترد للغاية. فالهجمات الانتحارية في نيويورك وواشنطن ومدريد ولندن والهجمات على السياح الأجانب في أندونيسيا ومصر وتركيا بالإضافة إلى الحروب الدائرة في البلقان والعراق وأفغانستان والسودان، كلها قد تبرز مدى تصاعد وتيرة الصراع بين الحضارات وقد تنذر بحرب شاملة ومفتوحة بين الإسلام والحضارة الغربية. وما يزيد من احتمال وقوع ذلك الاصطدام هي الظروف التي يجري فيها الحوار بين الإسلام والمسيحية، والتي تدهورت في السنوات الأخيرة بينما تنامت وتعاظمت الصور النمطية السائدة في كلا الطرفين.

وفي المقابل، للإسلام والغرب 1400 سنة من العلاقات المتبادلة في سجلهما، بما في ذلك من فترات مواجهة تتمازج مع مراحل تبادل مكّثف للقيم الثقافية والقيم المادية. وقد طبعت هذه المراحل بحب استطلاع متبادل وبكمّ كبير من الاقتراض الثقافي وكذا بمحاولات لمحاكاة بعضهما البعض. إن الإسلام والمسيحية هما كذلك جاران منذ أمد بعيد ويعيش محتضنوا الديانتين بجوار بعضهم البعض في الشرق الأوسط والبلقان وتركيا والهند والفلبين وأوروبا والولايات المتحدة.

الحوار والصراع

يا ترى، ما مستقبل هذه العلاقات المتبادلة، وماذا يعني ذلك للعالم برمته؟ هناك عدد من القضايا التي تساهم في إبراز الصورة الكاملة لهذا التعايش، ويعدُّ الجانب الديني واحداً من هذه القضايا. فالإسلام والمسيحية ـ نوعًا ما ـ ينحدران من نفس المصدر حيث أن كلاهما إبراهيمي. فهما يذكران نفس الشخصيات من قبيل آدم وحواء وإبراهيم وموسى وحتى عيسى وأمه. وهما يقدمان نفس النظرة إلى الحياة وإلى العالم وتاريخه وكذا نفس المفاهيم التي تحكم عجلة الوقت والصورة نفسها للخالق. ومن جهة أخرى، فهناك عدد من الاختلافات وهي حقًا اختلافات جوهرية حول ما سبق ذكره.

فالمسلمون يرفضون فكرة الثلاثية المقدسة. ولا يؤمنون بصلب المسيح. فهم يحترمونه لكونه رسولاً ولكن لا يعترفون بإلوهيته. وفي المقابل فإن المسيحية لا تعترف بقدسية القرآن، وهو الكتاب الذي يعتقد المسلمون أنه يحوي خاتمة الرسالات. وقد ظهر تيار قوي داخل الديانة المسيحية منذ القرن السابع الميلادي والذي يعتبر الإسلام هرطقة. فيبدو إذًا أن الحوار الديني كان سارياً بين الديانتين منذ قرون. وقد اتخذ هذا الحوار أشكالاً أخرى بعد عهد مجلس الفاتيكان الثاني، إلا أنه اضمحل بصورة واضحة خلال السنوات الأخيرة.

فالخصومة بل وحتى العداوة الناجمة عن ذلك لها جذور في التاريخ: فأحداث عدة مثل استيلاء المسلمين على القدس في القرن السابع الميلادي واقتلاع المسيحية من شمال أفريقيا والحروب الصليبية وطرد المسلمين من الأندلس وخصوصًا الاستعمار، والثمن الباهض من الدماء المسفوكة الذي كان على بعض البلدان الإسلامية دفعه في سبيل الاستقلال والانعتاق؛ كل هذه الأحداث تركت آثار صدمات نفسية وحواجز تحول دون الاتصال والتواصل بين الجانبين. ويكفي ذكر أن الحروب الصليبية عند مسلمي الشرق الأوسط قد تركت صورة حية للفرنجة ـ كما كان المسيحيون الغربيون يعرفون آنذاك ـ الماكرين القساة والكافرين.

الصور النمطية الحية

لقد عرف التاريخ كذلك صورًا نمطية عدة والتي تبدو على أنها فعلاً جد متجدرة وذلك لأنها تنعكس من الأعمال الدينية والثقافية بما في ذلك أهم وأسمى الأعمال التي تشكل القالب الثقافي للحضارة. لقد كانت ثقافة العامة في القرون الوسطى تستقي معلوماتها من أناشيد ملحمية (Chansons de Gestes) كانت تقدم البطل الشرير على أنه ذلك العربي المسلم الماكر القاسي. وهكذا فقد حكمت الكوميديا الإلهية لمؤلفها دانتي (Dante) على محمد بالتعذيب الشديد، وهو حكم يستحقه لكونه مداناً بالهرطقة.

وفي المقابل، فإن الجانب الآخر يرد الصاع صاعين. فمنذ أوائل القرن التاسع عشر الميلادي، كانت الأمهات المكاويات يحذّرن أبنائهن من الذهاب إلى جدة لأنهم قد يلتقون هناك بوحوش مخضرّة الوجوه لا يترتب عن لقائها خير ـ طبعاً كناية عن المسيحيين الأوروبيين. وما يعجب له المرء هو أن هذه الصور النمطية لا تتلاشى بمرور الوقت.

إن الاختلافات الدينية والإدراك المتبادل للآخر يشكلان مشكلة عويصة للعلاقات بين الإسلام والغرب. غير أن التحدي الحقيقي لكلا الجانبين يكمن في المشاكل السياسية العالقة وفي الاحتياجات الملحة للنمو. فما من شك أن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ـ الذي استمر منذ 1948م ـ لازال يلقي بظلاله على الحالة العامة لعلاقات الغرب مع العالم الإسلامي. فالدعم الأحادي الجانب لإسرائيل من طرف الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوربية بالإضافة إلى ركود مسلسل تفعيل الإتفاقيات الدولية بخصوص مستقبل الفلسطينيين، كل هذا يستنهض الإحساس داخل المجتمعات الإسلامية بظلم تاريخي، الشيء الذي من شأنه أن يشعل فتيل الخصومة مع الغرب ويذكي الإحساس بانحياز وتحامل الغرب ضده. وطبعاً، فمن الصعب توقع تحسن صورة الغرب في مجتمعات الشرق الأوسط وتخفيف التوتر بين الحضارات بمجرد نشوء الدولة الفلسطينية. غير أن ذلك قد يشكل منعطفاً مهما في تلك العلاقات وقد يفضي حتمًا إلى الجنوح وتخفيف التوتر.

الحرب على العـراق

مشكل سياسي مهم آخر يتعلق بتدخل البلدان الغربية في العراق في آذار ـ مارس 2003م، وهكذا فإن ما يقارب %90 من المستجوبين في الشرق الأوسط عارضوا هذا التدخل. ففي حين يرى أغلب المستجوبين بعين الرضى خلع صدام حسين، فإن هؤلاء الأشخاص عينهم يعارضون التواجد الطويل الأمد للأمريكيين وحلفائهم بالعراق. فهم يؤمنون بأن الغرب له نوايا أخرى غير إرساء دعائم الديمقراطية في العراق؛ وهذه النية المضمرة ستشكل هدفا لاحقا سيتم الكشف عنه وهو الرغبة في الإستحواد على منابع النفط العربي وتوفير التغطية الأمنية لإسرائيل وبذل قصارى الجهود للسيطرة على العالم الإسلامي. وفي هذا السياق يبدو تدخل سنة 2003م على أنه استعمار جديد وحلقة جديدة في سلسلة الوقائع التاريخية بين الجانبين، من أزمة قناة السويس سنة 1956م وحرب الأيام الستة سنة 1967م إلى تدخل الاتِّحاد السوفيتي في أفغانستان سنة 1979م. ومن هذا المنظور، فإن عددا لا يستهان به من ساكنة المنطقة يتعاطف مع نضال القاعدة ضد الغرب رغم أن 6 إلى %7 فقط من المستجوبين يدعمون الإرهاب.

هناك معطى آخر يحول دون الوصول إلى الصلح ويتعلق باضطهاد بعض المسيحيين في البلدان الإسلامية وبوتيرة متصاعدة منذ أحداث 11 أيلول ـ سبتمبر 2001م. فقد أصبح المسيحيون في الشرق الأوسط، حيث كانوا متواجدين منذ 2000م سنة، يغادرون المنطقة أسرابا أسرابا. ويعود سبب هذه الهجرة إلى عدم الاستقرار وغياب الأمن في الوضعية السياسية وكذا الأزمة الاقتصادية المزمنة وازدياد انتعاض واحتقان الأغلبية المسلمة جراء التواجد العسكري للغرب المسيحي في المنطقة.

أسلمة أوروبـا؟

هناك خوف متنام من الأسلمة التامة والشاملة ليس فقط في الشرق الأوسط بل وفي أوروبا, كذلك نظراً لوتيرة النمو الديموغرافي المستقر عند السكان المسلمين للاتِّحاد الأوروبي والتي تضم اليوم 20 مليون نسمة أي ما يعادل %5 من مجموع سكان بلدان الاتِّحاد الأوروبي. وقد عبر بوضوح عدد من الممثلين الرسميين للدول الإسلامية عن حتمية أسلمة الغرب مستقبلا، وهم بتصريحاتهم هذه يصبون الزيت على النار، ويزيدون في إذكاء نار العداوة بين الجانبين. فيمكن النظر إلى السلسلة المتواصلة للارتياب المتبادل والخوف والهوس على أنها تفضي إلى أحداث من قبيل أعمال الشغب في فرنسا سنة 2005م. وتجدر الإشارة إلى أن أعمال الشغب هذه قد اندلعت على خلفية تنامي المعاداة للمهاجرين والمسلمين في أوروبا.

إن الشرق الأوسط الإسلامي هو جار أوروبا المسيحية الأقرب. وهو يتخبط في مشاكل تنموية عويصة، وهو حتما سوف لن يتمكن من مواجهتها لوحده. كما أنه من البديهي إن لم تحل تلك المشاكل فإن تبعاتها السلبية قد يكون لها وقع كذلك على أوروبا المجاورة. ويمكن حصر هذه المشاكل في: عدم الاستقرار الاقتصادي وضعف نمو الناتج القومي الخام والاكتظاظ السكاني والنمو الديموغرافي السريع وتفشي البطالة والارتفاع المضطرد للأمية إضافة إلى طرق التعليم البدائية المعتمدة. وهكذا، فالعالم العربي الذي يشكل %5 من مجموع سكان العالم لا يحظى إلا بـ%2 من المبادلات العالمية ولا يستقطب سوى %1 من الاستثمار الأجنبي المباشر. وهو ينتج أقل القليل من الأعمال الفنية والعلمية ذات القيمة العالمية.

وفي المجال السياسي، فهو تحت حكم أنظمة مستبدة وقمعية تخنق صوت المجتمع. ويساعد الحكم المستبد بدوره على تفشي المحاباة العائلية والزبونية والمحسوبية والرشوة. فيصبح الارتقاء الاجتماعي والمهني رهيناً ليس بما في جعبة الفرد من علم ومعرفة بل بصلاته وقرابته. فغياب أي تحسن سريع في الوضعية الاقتصادية والسياسية هو مدعاة للإحباط واللامبالاة وجنوح إلى وسائل أكثر تطرفاً وعنفاً.

سيناريوهات المستقبل

إن تحسين وضعية السكان وتفعيل الإصلاحات في العالم الإسلامي هي مواضيع ترد أكثر فأكثر في المؤتمرات واللقاءات التي تعقد حول المنطقة. إنها تثير الانتباه إلى أن المشاكل المتعلقة بالتنمية سوف تزداد حدة في ظل الوثيرة السريعة للنمو الديموغرافي في الشرق الأوسط.

إن المنطقة الممتدة من المغرب غربًا إلى عُمان شرقا يسكنها الآن 320 مليون نسمة: وفي 2050 سوف يرتفع هذا العدد إلى 550 مليون. وبات لزامًا إثارة الانتباه كذلك إلى استمرار العالم الإسلامي في «إدارة ظهره» لأوروبا على الصعيد الفكري. فهو لا يهتم كثيرًا بما يجري في الغرب، لا ثقافة ولا علمًا. والدليل الحي على هذا الأمر هو ندرة مراكز الدراسات الأوروبية في الجامعات العربية إذا ما قيست بمراكز دراسات الشرق الأوسط بالجامعات الأوروبية. وفي هذا الاتجاه، يتمسك سكان الشرق الأوسط باعتقادهم الراسخ أن عالمهم أرفع منزلة، لاعتقادهم أن الإسلام أحسن الديانات وأسماها.

تدرك أوروبا والاتِّحاد الأوروبي مشاكل جيرانها حق الإدراك. وتحاول مساعدتهم وذلك بواسطة إبرام اتفاقيات مع جمعيات من بلدان المنطقة وعبر برامج مساعدة تنخرط في سياسة الجوار المتوسطي وعبر عدة أشكال أخرى للتعاون بين مؤسسات حكومية وغير حكومية. فترى الطلبة المنتسبين إلى جامعات عربية يشركون في برامج الاتِّحاد الأوروبي مثل ايراسموس (Erasmus) وباحثين منتسبين لمراكز عربية يشتركون في برامج تمولها المنظمة الأوروبية للعلوم بستراسبورغ. هذه أنشطة تسير في الاتجاه الصحيح لكونها تساعد على إنشاء روابط وعلاقات شخصية من شأنها أن تمهد الطريق للحوار بين الحضارات.

إن الصراع بين الإسلام والغرب لحقيقي بحكم الواقع، ويتجلى هذا الصراع على مستويات عدة ويخلق مشاكل مستعصية. ورغم أن الفردانية الغربية غالباً ما تكون صعبة التوافق مع روح الجماعة السائد في البلاد الإسلامية، فإن الاختلافات القائمة حالياً لا يجب أن تؤدي بالضرورة إلى نزاع مسلح بين الحضارتين. فالمطلوب هو التسامح والتفاهم المتبادل. ويجب إرساء دعائم استراتيجية طويلة الأمد تضع نصب أعينها الاندماج والإدماج الاقتصادي وبناء علاقات شخصية مبنية على مبدأ الاستفادة والربح المتبادلين.

وأما البديل فيبقى تعاظم إرهاب الأجانب واستبداد الدولة على نطاق واسع، ما من شأنه أن يؤدي إلى فوضى عارمة. فكيف يا ترى ستتطور العلاقات المستقبلية بين الغرب والعالم الإسلامي؟ هذا يتوقف على كلا الجانبين؛ فالأمر رهين بمدى تمكن أوروبا من تجاوز مخاوفها من جيرانها ومدى قدرتها على النظر بعمق إلى مشاكلهم. كما يبقى رهينا كذلك بمدى قدرة النخبة الاجتماعية الإسلامية على الاستفادة من الفرص الكامنة في العنصر البشري بالمنطقة، ومن المواد الخام ومن العولمة.

*****************

*) باحث ومدير دراسات البلدان غير الأوروبية في الأكاديمية البولندية.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=572

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك