فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي

فلسفة العقوبة في الفقه الإسلامي

عوض محمد عوض(*

مبدأ العقاب مسلم لدى كل جماعة، ويكاد أن يكون من الفطرة، لأن العقاب هو رد فعل منطقى للعدوان. غير أن عقاب الجاني ليس غاية في ذاته، وإنما هو وسيلة لغاية، وهي منع الجريمة أن تقع ابتداء، فإذا وقعت وجب منعها أن تتكرر. لكن العقوبة لا تستطيع أن تنفذ إلى هذه الغاية مباشرة، بل لابد لها من وسائط تعينها على ذلك. وهذه الوسائط هي ما يعرف بأغراض العقوبة. والبحث في هذه الأغراض ليس ترفا فكريا، بل هو أمر بالغ الأهمية، لأن سياسة العقاب لا يمكن رسمها إلا في ضوء غرض يضعه المشرع نصب عينه ويسعى إلى تحقيقه، فإذا وضح هذا الغرض أمكن تحديد نوع العقوبة ومداها وأسلوب تنفيذها أيضا.

ولم ترتبط العقوبة على مدى التاريخ بغرض واحد، بل تعددت أغراضها وتباينت. ويميل الفكر الجنائي الحديث إلى رفض الانحصار في غرض واحد، وإلى توجيه العقوبة لتحقيق أغراض عدة، هي العدل من جهة، والردع العام والخاص من جهة أخرى. أما الغرض الأول فأدبى خالص، وأما الثاني بشقيه فنفعي. ولكل غرض من هذه الأغراض أهميته ومجاله، وعلى المشرع أن ينسق بين الأغراض جميعا بحيث لا يطغى واحد على الآخر. فإن وقع التعارض بينها في بعض الأحوال وعز على المشرع رفعه، فليس أمامه ـ في نظر الفكر الجنائي المعاصر ـ إلا أن يرجح كفة الردع الخاص على كفة العدالة والردع العام. أما رجحان الردع الخاص على العدالة فلأن الردع الخاص ـ في منطق هذا الرأي ـ يؤدى دورا نفعيا ملموسا ويحقق للمجتمع مصلحة أساسية، في حين أن العدالة ـ على أهميتها ـ ليس لها غير قيمة أدبية. وأما رجحانه على الردع العام فلأن الردع الخاص يواجه خطورة إجرامية محققة تنبعث من شخص الجاني، أما الردع العام فيواجه خطورة محتملة لدى الآخرين، وعند المفاضلة يكون الخطر المحقق أولى بالاهتمام من الخطر المحتمل.

ولسنا من هذا الرأي، بل الرأي عندنا أنه إذا وقع التعارض فما ينبغي أن يكون هناك اعتبار أرجح كفة من العدالة، لأن التسليم بوجود التعارض ثم التنكر للعدالة صراحة يعنى تغليب ما ليس عدلا على ما هو عدل، ولا يخلق بمشرع أن يجعل ذلك أساسا لقواعده. والواقع أن التعارض بين الاعتبارات المختلفة إما أن يكون ظاهريا أو حقيقيا. فإن كان ظاهريا وكان تحقيق الردع الخاص محققا في نفس الوقت معنى العدالة، فهي مكفولة على أي حال. وإن كان التعارض حقيقيا وكان تحقيق الردع الخاص مهدرا لمبادىء العدالة فليس بوسعنا مهما تكن المبررات ترجيح ظلم لا ريب فيه على عدل لا ريب فيه.

وليس صحيحا أن تغليب العدالة على ما عداها لا يوفر الحماية إلا لقيمة أدبية خالصة؛ فهذا فهم للعدالة على غير وجهها الصحيح. ذلك بأن العدالة ليست فكرة مثالية فحسب، وإنما هي فكرة نفعية أيضا. فالعقوبة العادلة ـ فوق ما فيها من تأكيد للمثل العليا والقيم المجردة ـ كفيلة إذا ما أحسن تطبيقها وتنفيذها بزجر الناس كافة عن الإجرام، وبصدَ الجاني نفسه عن العود إليه. فأما زجر الكافة فيحققه التهديد بالعقوبة العادلة من جهة، ويحققه ـ من جهة أخرى ـ إنزال تلك العقوبة فعلا بمن أجرم. وأما ردع الجاني فيحققه توقيع العقوبة المناسبة عليه وتنفيذها على نحو يحول ما أمكن دون ترديه في الإجرام من جديد. وعلى المشرع في سعيه لتحقيق هذين الغرضين ألا يغفل العدالة مطلقا؛ فإذا قدر أن الردع العام أو الردع الخاص يقتضى توقيع عقوبة لا تسيغها العدالة لما تنطوى عليه من إفراط أو تفريط، فعليه أن يستجيب لداعى العدالة وأن يقف بالعقوبة أو يصل بها ـ نوعا ومقدارا ـ إلى حيث تقضى العدالة بأن تقف أو تصل، وعليه بعد ذلك أن يسلك سبلا أخرى لكى يستكمل وسائله ويحقق غايته. وتتحدد العقوبة العادلة على أساس مزدوج، قوامه جسامة الجريمة من جهة، وحال الجاني وظروفه من جهة أخرى. والأمر الأول موضوعي لا يختلف باختلاف الجناة، والاعتداد به يحقق الردع العام، أما الثاني فإنه شخصي يختلف من جان لآخر، والاعتداد به يحقق الردع الخاص. والسياسة الجنائية الرشيدة توجب أن تكون النصوص مرنة لكى تحقق الغرضين معا. والسبيل إلى ذلك أن يقرر المشرع لكل جريمة عقوبة تناسب جسامتها، وأن يسمح لمن يوقعها مع ذلك بقدر من الحرية يمكنه من تحقيق المواءمة بين العقوبة التي يقضى بها وبين حالة كل جان وظروفه.

ولما كانت أحكام الشريعة الإسلامية منزلة من عند الله أو مردودة إليه، فما ينبغي أن يثور الشك لحظة في الغرض الذي تتوخاه من عقاب الجناة؛ فهذا الغرض ينحصر في إقامة العدل، وهذا لا ينفي وجود أغراض أخرى للعقوبة، إلا أنها تأتى بطريقة تبعية. فالشريعة الإسلامية ـ كغيرها من الشرائع السماوية والوضعية ـ تسعى إلى حماية المجتمع وتحقيق سعادته، وذلك بضمان أمنه وكفالة استقراره وتقدمه، وحماية أفراده بصون حقوقهم، وبتعبير أخصر فإن أحكامها تسعى في الجملة إلى درء المفاسد وجلب المصالح. ولما كانت المفاسد والمصالح تتشابك وتتداخل، فإن درء المفسدة تحقيقا ـ أو تغليبا ـ للمصلحة يجب أن يكون بالقدر الذي تندفع به المفسدة وتتحقق به المصلحة، وهذا القدر لا يحدده سوى العدل. والعدل أحد المقاصد التي تدور عليها أحكام الشريعة، بل لعل له الصدارة على غيره من المقاصد. ذلك أن أحكام الشريعة أوامر ونواه، ولكل أمر أو نهي جزاء، والعدل لا ينفك عن الجزاء. ولهذا فإنه مِمَّا يجرى على ألسنة الفقهاء أن العدل عماد الشريعة، كما أن التوحيد عماد العقيدة. والعدل مركوز في الفطرة الإنسانية، وإذا كانت للجسد حواس فللعقل مثلها، ومن هذه الحواس حاسة العدالة. ولما كان الإسلام دين الفطرة، فمن الطبيعي أن تكون أحكامه أكثر انسجاما مع فكرة العدل.

ولا يتسع المقام هنا لاستقصاء الأحكام التي تؤكد هذا المقصد في مجال العقاب، وإنما نجتزىء ببيان الدور الذي يؤديه مقصد العدل في تقرير وفي ضبط كثير من الأحكام في هذا المجال.

أولا: مبدأ الشرعية:

هذا المبدأ يتردد في الدساتير المعاصرة، وهو مقرر في الشريعة الإسلامية، ويعد من القواعد الكلية التي تدل عليها النصوص. قال تعالى: ﴿وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا﴾ (الإسراء الآية 15)، وقال تعالى: ﴿وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا﴾ (القصص الآية 59). وهذا المبدأ يمليه العدل، لأن الأصل في الأفعال الإباحة، وأنه لا تكليف قبل ورود الشرع؛ فمتى أريد حظر فعل أو الإلزام بفعل فالعدل يوجب إعلام المخاطب بالأمر أو بالنهي، وإلا كانت مفاجأته بالعقاب ظلما يتنزه عنه الله تعالى. وقد أراد الشرع بالنذارة قبل العقاب أن يقطع الحجة على العصاة، ولهذا قال تعالى: ﴿رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل﴾ (النساء الآية 165)، وقال تنزيها لذاته عن الظلم: ﴿ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى﴾ (طه الآية 134). والمعنى أنه لو جاز أن يحاسب الإنسان عما لم يكلف به سلفا لانخرمت العدالة وكان لعقابه على من يحاسبه وجه. وقد طبقت هذه القاعدة بصرامة بالنسبة لطائفة من الجرائم، وهي الحدود والقصاص؛ فقد تعينت أفعالها وتحددت عقوباتها، فلا تجوز الإضافة إليها. وقد يظن أن القاعدة انحسرت عن التعازير اعتمادا على أنه لا توجد نصوص تفصيلية بشأنها تحدد الأفعال المجرمة والعقوبة المقررة لكل منها، وأن لولي الأمر بناء على ذلك أن يؤدب من يشاء بما يشاء على ما يشاء. غير أن هذا القول فيه إطلاق تأباه مبادىء الشريعة وروحها، فالمتفق عليه أنه لا تعزير إلا في معصية، والمعصية هي فعل المحظور أو ترك الواجب. والأمر والنهي يقتضيان نصا، فلا جريمة إذن بغير نص، وبهذا يسلم شطر القاعدة الأول. أما الشطر الثاني وهو تحديد العقوبة فقد دل العمل على أن ولاة الأمر لم يكونوا يحرصون على إعلام المخاطبين سلفا بالعقوبة المقررة لكل معصية، غير أن هذا لا يعنى أن أصول الشرع تحظر عليهم ذلك وتخولهم سلطة العقاب دون سبق نذارة، بل إن روح الشرع ـ فضلا عن أصوله ـ توجب النص على العقوبة، لأن هذا هو ما يقتضيه العدل حتى يكون كل امرىء على بينة من أمره، وحتى لا يختل ميزان العدل إذا ترك الأمر لتقدير ولي الأمر في كل حالة على حدة؛ فقد يفضى ذلك إلى اختلاف مصائر المتهمين باختلاف أولي الأمر وما يعتريهم من أهواء. ومن هذا نرى أن قاعدة الشرعية مقررة في شطرها الأول في الشرع، وأنها في شطرها الثاني مقررة في طائفة من الجرائم، ولا يتعارض إعمالها في سائر الجرائم مع الشرع، بل إن إعمالها فيه أكثر اتفاقا مع مقصد العدل.

ويتفرع عن مبدأ الشرعية مبدأ آخر، هو عدم الرجعية، وهو مقرر كذلك في الشريعة الإسلامية. ويعتمد هذا المبدأ في أساسه على العدل. فالعدل يأبى أن يعاقب شخص عن فعل أتاه أو امتنع عن إتيانه إلا إذا كان ما وقع منه تاليا لصدور الأمر أو النهي، لأن تكليفه بالامتثال قبل ذلك تكليف بما لا يطاق، فإذا عوقب رغم ذلك كان هذا هو الظم بعينه. وثمة شواهد من النصوص على ذلك: قال تعالى في سورة النساء بيانا للمحرمات: ﴿ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إلا ما قد سلف﴾ (الآية 22)، وقال تعالى: ﴿حرمت عليكم أمهاتكم... وأن تجمعوا بين الأختين إلا ما قد سلف﴾ (الآية 23)، فدل ذلك على أن ما وقع قبل ذلك لا إثم فيه ولا عقاب عليه.

ثانيا: مناط المسئولية

المسئولية عبء لا يقوى كل إنسان على حمله، وإنما يحمله من كان أهلا لذلك. ولهذا فليس بمستبعد أن يقع الفعل المؤثم من إنسان ثم لا يسأل عنه، لأن التلازم غير مطرد بين ارتكاب الجريمة وتحمل عقوبتها. وإذا كان العدل يقضى بعقاب الجاني، فهو يقضى في الوقت نفسه بأن يكون الجاني أهلا لأن يسأل عن أفعاله. ولهذا فاستحقاق العقاب لا يرتهن فقط بارتكاب الجريمة، بل يرتهن كذلك بكون الجاني أهلا لتحمل المسئولية. ومناط المسئولية في القانون الوضعي هو التمييز وحرية الاختيار، وهو كذلك في الشريعة الإسلامية؛ فمناط التكليف فيها هو العقل وحرية الاختيار. وضابط العقل فيها هو البلوغ والسلامة من الآفة العقلية، أما ضابط الاختيار فهو حرية الإرادة والقدرة على الامتثال. ولهذا لا يسأل الصغير الذي لم يبلغ الحلم لعدم اكتمال عقله، ولا يسأل المجنون لزوال عقله، ولا يسأل من أتى فعلا محظورا نتيجة إكراه تعرض له فأعطب إرادته أو عطلها لعدم اختياره. ذلك أنه لا يكفي للعقاب إتيان مادة الفعل أو صورته، لأن العدل يأبى عقاب من كان وقت ارتكاب الفعل فاقد العقل أو الاختيار.

وقد يصاب الشخص بآفة تضعف لدية القدرة على الإدراك أو الاختيار دون أن يصل الضعف إلى حد الفقد التام. وبعض التشريعات الوضعية تعتبر هذا الضعف عذرا يخفف العقاب، وبعضها يغفل شأنه ويعامل الجاني معاملة الشخص السوي. ويرى بعض المحدثين أن الشريعة الإسلامية لا تأخذ بفكرة التخفيف إلا في الجرائم التعزيرية، أما جرائم الحدود والقصاص فلا يصح فيها تخفيف العقوبة ولا استبدال غيرها بها. وهذا الرأي محل نظر في شقه الثاني؛ فالمتداول على ألسنة الفقهاء أن الحد والقصاص عقوبة محضة فيستدعى جناية محضة، ويقصدون بقولهم هذا أنه لا ينبغي أن تخالط الجناية شبهة، فإن خالطتها درئت العقوبة. ولا شك أن ضعف الإدراك وضعف الإرادة شبهة تلحق الفاعل فتخل بكمال الشروط اللازمة لإيقاع العقوبة عليه. ولهذا فالراجح لدينا أن الحد والقصاص يندرئان في هذه الحالة ـ عدلا ـ وإن كان هذا لا يحول دون تعزير الفاعل بالعقوبة الملائمة.

ثالثا: العلم شرط لاستحقاق العقاب

ينقسم العلم من حيث محله عند فقهاء القانون الوضعي قسمين: علم بالقانون وعلم بالواقع. أما الأول فمفترض في جانب المخاطبين كافة لمجرد نشر القانون في الجريدة الرسمية، فلا يعذر أحد بعد ذلك لجهله به، ولهذا فالعلم الحقيقي به والجهل سواء. أما العلم بالواقع فلا يفترض، بل يلزم إثباته، وإلا امتنع العقاب.

وهذا التقسيم سبق إليه فقهاء الشريعة، فالعلم عندهم ينقسم إلى علم بالحكم الشرعي وعلم بالعين، أي بالواقع. ويبدو مقصد العدل واضحا فيما قدموه من حلول لمشكلة الجهل بالأمرين، وهو ما يفسر وجه الخلاف بينهم وبين فقهاء القانون الوضعي في بعض الأمور.

ويرى فقهاء الشريعة أن العلم بالحكم شرط للتكليف، لأن تكليف من يجهل الحكم الشرعي بالامتثال له تكليف بما لا يطاق، وهو لا يستقيم مع عدل الله. والأصل أن العلم بالحكم الشرعي ثابت في حق كل مخاطب ما لم يقم الدليل على العكس. والمسألة مردها إلى الإثبات.

على أن الجهل المعتبر في نفي التكليف هو الجهل بالحكم الشرعي وحده، أي بالأمر أو النهي، فأما إن علم ذلك وجهل جزاء المخالفة فإن الجزاء لا يسقط عنه. وليس في هذا إخلال بمقصد العدل، إذ كان على المكلف ـ كما يقول الفقهاء ـ وقد علم بالتحريم أن يمتنع عن مقارفة الفعل المحرم، فإذا هو لم يفعل فإنه يكون عاصيا جديرا بالعقاب. والحق أن العلم بنوع العقوبة ومداها لا اعتبار له في هذا المقام، لأنه إذا كان التحريم من خطاب التكليف، فإن استحقاق المكلف للعقاب عند مخالفة التحريم هو من خطاب الوضع، فلا يلزم علم المكلف به. وهذا تطبيق لقاعدة فقهية حاصلها أن من علم تحريم شيء وجهل ما ترتب عليه لم يفده ذلك. وإذا قيل إن في شق الجزاء تكليفا أيضا فهو تكليف بإيقاعه لا باحتماله، والمخاطب به هو ولى الأمر، فلا يجدى المخالف أن يدعى الجهل به.

هذا عن جهل المخاطب بالحكم الشرعي، أما جهله بالعين فالمتفق عليه لدى الفقهاء أنه إذا قام الجهل في جانب الفاعل وكان محله ركنا أو شرطا لازما لثبوت التحريم فلا عقاب على الفاعل. وهذا ما يقتضيه العدل أيضا، لأن من أتى الفعل بحسن نية ليس كمن أتاه وهو على بينة من أمره وإن حقق كلاهما بفعله نفس المفسدة. ذلك أن الثاني آثم، أما الأول فغير آثم، فلا ينبغي التسوية بينها في مجال العقاب. ولهذا قال الفقهاء: إن زفت إليه غير زوجته وقيل هذه زوجتك فوطئها يعتقدها زوجته فلا حد عليه، وكذلك إذا دعا زوجته فجاءته غيرها فظنها المدعوة فوطئها أو اشتبه عليه ذلك لعماه. وقال الفقهاء: إذا شرب ما ظنه ماء أو دواء ثم ظهر أنه مسكر فلا حد عليه.

على أن الجهل بالعين إذا حال دون العقاب في الجرائم العمدية بإطلاق ـ كالحدود والقصاص ـ لتخلف القصد الجنائي، فإنه لا يحول دون التعزير في الجرائم غير العمدية ما لم يثبت أن الفاعل كان معذورا في جهله وأنه لم يأل جهدا في تحرى حقيقة الواقع، وأن الشخص العادي كان قمينا أن يقع فيما وقع فيه لو أنه وجد مكانه. أما إذا كان الجهل ناشئا عن خفة ورعونة أو عن تقصير وإهمال، فإنه لا يعفي من التعزير، وإن كان العدل يوجب أن تكون هذه العقوبة أدنى من عقوبة من توفر العلم في جانبه، لأن الجهل والعلم لا يستويان واقعا فلا يستويان حكما.

رابعا: شخصية المسئولية

ربما بدا هذا المبدأ للفكر المعاصر من البديهيات التي تستغني عن التعليل والبرهان. غير أنه لم يكن كذلك فيما مضى، بل وإلى عهد قريب. فقد كانت بعض النظم القانونية لا ترى بأسا من أن يمتد العقاب إلى غير الجاني؛ فكانت تجيز ـ فضلا عن عقابه ـ عقاب أفراد أسرته، وأحيانا كل عشيرته، سواء كانوا مشاركين له في الجريمة أو غير مشاركين، عالمين بفعلته أو جاهلين، وسواء كان لهم عليه سلطان أو لم يكن. ولا شك أن هذا يتنافي مع العدل، لأن العدل يأبى امتداد العقاب إلى غير من أجرم. وقد أقرت الشريعة الإسلامية هذا المبدأ فلم تجز عقاب غير الجاني. والنصوص في هذا الشأن تترى. قال تعالى في سورة البقرة: ﴿تلك أمة قد خلت لها ماكسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون﴾ (الآيتان 134 و141)، وقال تعالى في سورة الأنعام: ﴿ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ (الآية 164)، وقال تعالى في سورة الطور: ﴿كل امرئ بما كسب رهين﴾ (الآية 21)، وقال e لأبي رِمثة حين رآه مع ابنه: (أما إنه لا يجنى عليك ولا تجنى عليه).

وقد توحي بعض النصوص بعدم اطراد هذا المبدأ وبجواز معاقبة الإنسان في بعض الأحوال على إثم لم يقع منه، بل وقع من غيره. غير أن هذا الوهم ما يلبث أن يزول، إذ يتضح عند التأمل أن العقاب لم يكن بسبب فعل الغير، بل كان بمناسبته، وإنما وجب العقاب من أجل فعل آخر أتاه من استحق العقاب. من ذلك قوله تعالى: ﴿لعن الله الذين كفروا من بنى إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون﴾ (المائدة الآيتان 78- 79)، وقوله تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ (الأنفال الآية 25). وليس في هذه الآيات وغيرها مِمَّا هو من قبيلها دليل على انخرام مبدأ شخصية المسئولية، لأن العقاب فيها كان إما عن ارتكاب المنكر ذاته أو عن السكوت وعدم التناهي عنه، وهو منكر بدوره.

خامسا: المساواة

من المعلوم أن القواعد التشريعية كلها ـ وضعية كانت أو شرعية ـ هي قواعد عامة، أي أنها تسرى على كل من تتوافر فيه شروطها. والشروط التي وضعتها الشريعة الإسلامية لانطباق أحكامها شروط مجردة لا تفرق بين إنسان وغيره بسبب جنسه أو أصله أو لغته أو مكانته أو حتى بسبب دينه، وإنما هي تساوى في المعاملة بين الناس جميعا.

ومبدأ المساواة يضرب بجذوره في الشريعة ويتغلغل في عامة أحكامها. ويرجع هذا إلى سبب جوهرى صرحت به النصوص كثيرا، وهو وحدة الأصل الإنساني؛ فلا يستقيم مع عدل الله وقد خلق الناس جميعا من أب واحد وأم واحدة أن يفضل بعضهم على بعض بسبب خلقته أو انتمائه إلى أسرة أو جماعة معينة فيقرر له حقوقا يمنعها من غيره، وإنما يتفاضل الناس لديه بأعمالهم، سواء في الدنيا أو في الآخرة. والنصوص التي تقرر مبدأ المساواة لا تحصى كثرة. قال تعالى: ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء﴾ (النساء الآية الأولى)، وقال تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾ (الحجرات الآية 13). وقال e في خطبة الوداع: (أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، وكلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبيض، ولا لأبيض على أحمر فضل إلا بالتقوى)، ووصف e الناس بأنهم (سواسية كأسنان المشط)، وقال: (إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها).

وقد يبدو للناظر في بعض الأحكام أنها تنطوى على تفرقة في المعاملة بين الناس تخل بمبدأ المساواة. غير أنه يبين عند التحقيق أنه ليس فيها تمييز فئة على فئة ولا تفضيل إنسان على إنسان، وإنما يرجع اختلاف المعاملة إلى اختلال بعض الشروط المعتبرة في الحكم الشرعي. أما القاعدة المطردة في الشريعة الإسلامية فهي المساواة في المعاملة عند التساوى في العناصر الفاعلة. وهذه القاعدة هي ما تقتضيه شريعة تجعل العدل من أبرز مقاصدها، إذ لا يستقيم في ميزان العدل أن تميز إنسانا على غيره دون أن يكون لتميزه سبب يقره العقل وتطمئن له النفس وتقبله مبررا للتمييز.

على أن التفاوت في الجزاء عن الفعل الواحد قد يقع لا على وجه المحاباة بالتحفيف عن الفاعل ـ وهو محظور ـ بل من باب النكير عليه لوجوده في حال كانت توجب عليه التنزه عن إتيان ما وقع منه. فالنعمة التي يخص الله بها بعض عباده توجب عليهم أن يكونوا أكثر التزاما بأوامر الشرع ونواهيه، وتقتضى ـ عدلا ـ أن تكون عقوبتهم عند المخالفة أشد من عقوبة غيرهم، لأن إثمهم يكون أكبر من إثم غيرهم. والإثم لا يقاس بالمفسدة التي أحدثها الفعل فحسب، بل بها وبحال الفاعل أيضا، وهذا منتهى العدل، ليكون أصل العقاب مقابل المفسدة وتكون الزيادة فيه مقابل جحد النعمة. وهذا ما تدل عليه نصوص الشرع، قال تعالى في سورة الأحزاب: ﴿يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ (الآية 30)، وهو ما تقرره كذلك بالنسبة للزانى المحصن، إذ كان تغليظ عقوبته مقابلا لنعمة الإحصان.

وربما كان اختلاف الدين من الشبهات التي تلقى ظلالا من الشك حول عموم مبدأ المساواة في الشريعة الإسلامية، بدعوى أن أحكامها لا تسوى بصفة مطلقة بين المسلمين وغير المسلمين في الحقوق والواجبات. ولا شك أن هذه الشبهة لو صحت لانخرم مقصد العدل فلم يعد من المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وهو ما لا نسلم به. ومما يدحض هذه الشبهة أن إسلام المؤمنين به لا يكتمل إلا إذا آمنوا برسل الله السابقين وبالكتب التي أنزلت إليهم. واعتراف الإسلام بالأديان السابقة هو اعتراف بوحدة الدين، وهذا الاعتراف ينفي عن الشريعة الإسلامية دعوى التمييز بين الناس في الحقوق والواجبات لمجرد اختلافهم في الدين. ومن هنا كانت القاعدة أن لغير المسلمين مالنا وعليهم ما علينا. ويقول السرخسى إنهم قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم. وليس صحيحا أن من أصول الإسلام أن يعامل غير المسلمين في الدولة الإسلامية بذلة وصغار. وإذا كنا نجد في بعض المؤلفات ما يرشح لهذه التهمة فإنها ثمرة تأويلات خاطئة دعت إليها ظروف تاريخية معينة، لكنها بيقين ليست من صحيح الدين.

وقد اختلف الفقهاء في قتل المسلم بالذمي على ثلاثة أقوال: فقال قوم: لا يقتل مؤمن بكافر، وقال قوم يقتل به، وممن قال بذلك أبو حنيفة وأصحابه وابن أبى ليلى، وقال قوم لا يقتل به إلا أن يقتله غيلة، وذلك بأن يضجعه فيذبحه، وبخاصة على ماله. وذكر ابن رشد أن أصحاب أبى حنيفة اعتمدوا آثارا، منها أن رسول الله قتل رجلا من أهل القبلة برجل من أهل الذمة، وقال: أنا أحق من وفي بوعده، وروى ذلك عن عمر. واعتمد الأحناف كذلك على القياس فقالوا إن إجماع المسلمين على أن يد المسلم تقطع إذا سرق مال الذمي، وتساءلوا: إذا كانت حرمة ماله كحرمة مال المسلم، فحرمة دمه كحرمة دمه. وعندنا أنه إذا تساوت أدلة المختلفين فإن مبدأ المساواة يصلح أن يكون مرجحا لرأي الأحناف. ويروى أن جنازة مرت على رسول الله وكان جالسا فوقف، فقيل له إنها جنازة يهودى فقال: أليست نفسا! وهذا دليل على أن نفوس البشر كلها تتكافأ، وأن حرمة أي نفس كحرمة كل نفس.

واختلف الفقهاء في مقدار دية غير المسلم، فذهب الأحناف إلى أن قدر الدية لا يختلف بالإسلام والكفر، ولذلك فدية الذمي والحربي والمستأمن كدية المسلم. وروي أن النبي e وأبا بكر وعمر قضوا في دية أهل الكتاب بدية المسلمين. وهذا قول ابن مسعود وجماعة يعتد بهم من الفقهاء. أما الأئمة الثلاثة فيرون أن دية الكتابى على النصف من دية المسلم. وحجة الأحناف قول الله تعالى: ﴿وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله﴾، فقد أطلق سبحانه وتعالى القول بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل، فدل أن الواجب في الكل على قدر واحد.

وقد أشرنا من قبل إلى أنه إذا اختلف الرأي وتعارضت الأدلة وجب ترجيح الرأي الذي يكون أكثر اتفاقا مع مقاصد الشرع. ولما كانت النفوس تتكافأ فكذلك أبدالها، ولهذا فالأصح في اعتقادنا أن دية غير المسلم يجب أن تكون مثل دية المسلم. وهذا ما يوجهه كثير من المحدثين؛ فقد ذكر الشيخ محمود شلتوت أن نظرية اتِّحاد قدر الدية بالنسبة إلى جميع الناس مبنية على أن الدية في مقابل الدم فقط، والناس في نظر الشريعة من هذه الحيثية سواء. ونقل عن الشيخ محمد عبده أن الواجب في قتل المعاهد الذمي هو كالواجب في قتل المؤمن. ويرى الشيخ محمد أبو زهرة أن الحق في المسألة هو ما ذهب إليه الحنفية من التسوية بين الدماء المعصومة.

وربما ثارت شبهة كذلك في مدى مساواة المرأة بالرجل، لما هو ثابت من اختلافهما في بعض الأحكام الشرعية، كالشهادة والميراث. وقد أفاض كثيرون في تعليل هذا الاختلاف، وليس من شأننا هنا الخوض فيه. لكن الذي يعنينا أن نقول بوجه عام إن اختلاف المرأة عن الرجل في بعض الأحكام ليس دليلا على أنها في نظر الشرع أدنى من الرجل، وإنما يرجع الاختلاف إلى اعتبارات موضوعية يقرها العدل، بل يفرضها فرضا. وليس من المقبول عقلا أن تتهم الشريعة الإسلامية بالتحيز للرجل ضد المرأة لا لشيء إلا لأنه ذكر وأنها أنثى. ولو صح أن الشريعة تنتصر للرجل على حساب المرأة لأبقت على الأحكام الظالمة التي كانت تنال من حقوقها، بل من إنسانيتها في الجاهلية. ولا يمكن للناظر في كتاب الله أن يقبل مثل هذه الدعوى. قال تعالى: ﴿ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا﴾ (النساء الآية 124)، وقال تعالى: ﴿فاستجاب لهم ربهم أنى لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض﴾ (آل عمران الآية 195).

ولا ندرى كيف يكون الذكر أفضل من الأنثى وهو بعض منها، وكيف يكون أفضل منها وكلاهما يجزى عند الله عن عمله على وزان واحد. ولهذا فقد اتفق عامة أهل العلم على أن الذكر يقتل بالأنثى، وقيل: إنه إجماع.

واختلف الفقهاء في دية المرأة، ومذهب الأكثرين أنها على النصف من دية الرجل وحجتهم أن عليا وعمر وابن مسعود قضوا بذلك، وأن المرأة في الميراث والشهادة على النصف من الرجل. وذهب آخرون إلى أن ديتها كدية الرجل، وذلك لقوله تعالى: ﴿ومن قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله﴾، والإجماع على أن هذه الآية يدخل فيها الرجل والمرأة، فوجب أن يكون الحكم ثابتا فيهما بالسوية. وقد عرض الشيخ أبو زهرة للرأيين ورجح الثاني، وعلل بأن النصوص التي اعتمد عليها الرأي الأول أكثرها أخبار آحاد والتوفيق بينها ممكن، ولا يمكن ترجيح خبر على خبر، وأن الآية صريحة في عموم أحكام الدية في القتل الخطأ.

وإذا كان الأئمة الأربعة متفقين على أن دم المرأة في القصاص كدم الرجل، وأن كلا منهما يقتل بصاحبه، فمن التناقض القول بأن دية المرأة على النصف من دية الرجل، لما هو معلوم من أن الدية بدل النفس، ومقتضى المنطق أن تكون ديات النفوس المتكافئة متكافئة، وإلا اختل معنى البدلية. أما قياس دية المرأة على شهادتها وميراثها ففيه بعد، لأن لكل من الحكمين علة معقولة المعنى لا وجودلها في قضية الدية. وإذا لم يكن من القياس بدَ، فإن قياس الدية وهي بدل نفس، على القصاص وهو إتلاف نفس مقابل نفس، أولى من قياسها على الشهادة والميراث. والخلاصة: أنه إذا تساوى اثنان في الشروط الموجبة للحكم، فالعدل يوجب التسوية بينهما في ذات الحكم، ومن ثم فالرأي الذي يستقيم مع أصول الشريعة هو أن دية المرأة كدية الرجل.

سادسا: ضوابط العقاب

السائد عند جمهور الفقهاء أن سلطة ولي الأمر في العقاب تنحصر في دائرة التعزير، أما الحدود والقصاص فلكونها عقوبات مقدرة شرعا لجرائم محددة حصرا، فليس لولي الأمر فيها أي تقدير. وهذا القول صحيح بوجه عام. فإذا استوفي الحد وكذلك القصاص شروطه وانتفت موانعه، وجب على ولي الأمر إيقاعه دون أن يكون له أي تقدير، فليس له أن يزيد فيه ولا أن ينقص منه ولا أن يبدل به غيره ولا أن يعفو عنه، وإن جاز لولي الأمر في بعض الأحوال التي يمتنع فيها الحد والقصاص أن يستعمل حقه في التعزير. وأظهر هذه الأحوال حالة الشبهة، فهي إن كانت تدرأ الحد أو القصاص فإنها لا تدرأ التعزير بالضرورة.

والمجال الحقيقي لسلطة ولي الأمر في تقرير العقاب وتقديره هو التعزير. وسلطته فيه تكاد تماثل سلطة المشرع الوضعي في مجال العقاب، فله بوجه عام أن يقرر للفعل عقوبة أو يكتفي بما دون العقوبة من جزاءات. وإذا عاقب فله أن يعين لكل جريمة عقوبتها المناسبة من حيث النوع والمقدار، وله أن يجعل العقوبة ذات حد واحد أو يجعل لها حدين: أدنى وأقصى، وله أن يجعل للجريمة عقوبة واحدة أو أكثر من عقوبة يقضى بها على سبيل الجمع أو على وجه البدل. وله أن يقرر تشديد العقوبة أو تخفيفها إذا احتفت بالجريمة ظروف تقتضى التشديد أو التخفيف وجوبا أو جوازا. وله أن يمنح القاضى سلطة وقف تنفيذ العقوبة أو الإعفاء منها إذا قدر أن في ظروفها ما يقتضى وقف التنفيذ أو الإعفاء. ولولي الأمر في ضوء ما يجدَ من الظروف أن يعيد النظر في العقوبة التي قررها فيشددها أو يخففها أو يستبدل بها عقوبة أخرى، وذلك كله عملا بأصل شرعى حاصله أن تصرف الإمام في الرعية منوط بالمصلحة.

وذهب رأي في الفقه المعاصر إلى أن العقوبات التعزيرية في الشريعة الإسلامية واردة على سبيل الحصر، فلا يجوز للقاضي أن يعاقب بغيرها ولا أن يخرج على حدودها. وهذا الرأي محل نظر؛ ذلك أنه إذا كان العمل قد أثبت أنواعا من العقوبات التعزيرية، فهذا دليل ـ فحسب- على مشروعيتها، لكنه لا ينهض دليلا على حظر ما عداها. فما ورد النص به أو انعقد الإجماع عليه من هذه العقوبات لم يقصد لعينه، بل لما يحققه من غاية. والقول بوجوب انحصار هذه العقوبات في دائرة معينة ينطوى على تضييق لا مبرر له؛ فقد تقضى ظروف الحياة ومصالح الجماعة بترشيح عقوبات أخرى يراها ولي الأمر أجدى وأفعل، فيكون حظرها غير مفهوم العلة، بل يكون على خلاف العلة. ولما كانت العقوبة مجرد وسيلة، وكانت العبرة بالمقاصد لا بوسائلها ما لم تتعين شرعا، فإن كل عقوبة تحقق المقصود منها يجب أن تكون مقبولة شرعا مالم تخالف أصلا من أصول الشريعة.

وهذا يعنى أن سلطة ولي الأمر ليست مطلقة، بل هي مقيدة بقيود تمليها نصوص الشريعة الخاصة من جهة، ومبادؤها الكلية من جهة أخرى. وترد هذه القيود في الجملة إلى أصلين مقررين، هما المشروعية والملاءمة، وكلاهما يحكم نوع العقوبة التعزيرية ومداها. فالتعزير إنما شرع لغاية، هي منع الفساد بالزجر عنه وإصلاح مرتكبه. وما ينبغي له أن يخرج عن هذه الغاية ولا أن يقصر عنها، وإلا عاد على أصله بالنقض.

أ- ومقتضى المشروعية ألا يسن ولي الأمر عقوبة يحظرها الشرع؛ ففيما عدا القتل تعزيرا ـ وفيه الخلاف ـ لا يجوز أن تكون العقوبة مهلكة أو متلفة. وإذا تعين القتل تعزيرا وجب تنفيذه بأيسر الطرق وأخفها مئونة على المحكوم عليه، فلا يصح تعذيبه ولا التمثيل به، لأن الإسلام ينهي عن المثلة، ويأمر بالإحسان في كل شيء حتى في القتل والذبح ولو كانت الذبيحة دابة. ولا يصح التعزير بجدع الأنف ولا بصلم الأذن ولا بقطع اللسان أوالشفة أو الأنامل ونحو ذلك لأن فيه إتلافا لطرف محترم، ولأن فيه مثلة يحظرها الشرع. وإذا سقط القصاص في النفس أو في الطرف سواء بالعفو أو بالصلح على دية ورأي ولي الأمر أن يعزر الجاني لم يجز له التعزير بعقوبة من جنس القصاص.

كذلك فإنه لا يصح أن تكون العقوبة شائنة ولو كان موجبها شائنا، لأن حفظ كرامة الإنسان من مقاصد الشرع؛ فقد كرم الله الإنسان فلا يجوز لمخلوق أن يهدر كرامته ولو كان قد وقع منه هو ما حط من كرامة غيره. ولهذا لا يجوز تعزير من هتك عرض غيره بهتك عرضه، ولا من سب غيره بسبه، كما لا يصح التعزير بحلق الشارب أو اللحية ولا بتسخيم الوجه، لما في ذلك من إهدار للكرامة. وإذا كان قد وقع في العمل ما يخالف ذلك في بعض العصور فإنه لا يصلح حجة على الشريعة، بل هو مخالف لأصولها.

ولا ينبغي كذلك أن يكون التعزير بإتلاف مال محترم، كتخريب الدور وقلع الزورع وإتلاف الثمار والشجر، لما في ذلك من تبديد لنعمة حظ الجماعة فيها كحظ مالكها، فلا خير لأحد في تبديدها، بل المصلحة في الحفاظ عليها والانتفاع بها، ما لم يكن في الإبقاء عليها ضرر يصيب الجماعة أكبر من الضرر الذي ينشأ عن إتلافها.

ومقتضى المشروعية أيضا ألا يعاقب ولي الأمر على معصية من جنس الحد بعقوبة الحد ذاته، فلا يجوز التعزير على الشروع في السرقة ولا على سرقة ما دون النصاب بقطع اليد أو قطع بعض الأنامل. ولا يجوز العقاب على مقدمات الزنا التي ارتكبها محصن بالرجم، كما لا يصح العقاب على الشروع في القتل بالقتل. ذلك أن القطع والرجم والقتل ـ حدا أو قصاصا ـ عقوبات مرهونة بتوافر شروطها، فلا يجوز إيقاعها عند تخلف بعضها للتلازم بين المشروط وشروطه.

ب- أما الملاءمة فمقتضاها أن يكون هناك تناسب بين العقوبة التي تصيب الجاني ووطأة المعصية على المجنى عليه وعلى الجماعة، وهذا ما يوجبه العدل، إذ ينبغي أن يكون هناك تكافؤ بين السيئة وجزائها، امتثالا لقوله تعالى: ﴿وجزاء سيئة سيئة مثلها﴾ (الشورى الآية 40). فإذا اختل التناسب اختل ميزان العدل، فتكون العقوبة إما مسرفة في الشدة أو مفرطة في اللين، وكلاهما يحول دون تحقيقها للمقصود منها.

غير أن التناسب- أو التماثل ـ بين السيئات لا يقتضى بالضرورة أن تكون صورة العقوبة مماثلة لصورة العدوان. وإنما حسب العقوبة أن تكون زاجرة ومقومة، أي مانعة للجاني من العود ومطهرة لنفسه من الشر، ومانعة غيره من التأسى به حذرا من أن ينزل به ما نزل بالجاني. وهذا الغرض بشقيه يتحقق عندما تصيب العقوبة الجاني في حق من حقوقه فتذيقه قدرا من الألم يكفي لزجره وتقويمه. وإذا كان شرط المشروعية هو الذي يحدد ما يصلح من الحقوق ـ وما لا يصلح ـ أن يكون محلا للعقاب، فإن شرط الملاءمة هو الذي يحدد نوع العقوبة ومداها، بل وطريقة تنفيذها أيضا بما يكفل تحقيق الغرض منها بغير إفراط ولا تفريط.

وتبدو فكرة التناسب بوضوح في القصاص، وعلى الأخص في القصاص في النفس، حيث تقع المقاصة بين نفس القاتل ونفس القتيل. والقصاص عند الفقهاء هو إيقاع عين الأذى بالجاني، ليس فقط من حيث محله، بل ومن حيث وسيلته أو أداته أيضا إلا أن يحول دون ذلك مانع شرعي. وقد اقتضت فكرة التناسب كذلك الاعتداد بالموقف النفسى للقاتل وقت ارتكاب فعل القتل، وهل تعمد إزهاق روح المجنى عليه أو أحدث الوفاة خطأ. ذلك أن القصاص بمعناه الدقيق لا يقتضى المماثلة في الفعل وحده، بل يقتضيها فيه وفي القصد أيضا. فإذا كان الجاني لم يتعمد قتل المجنى عليه عدوانا، فلا يجوز لولي الدم ولا لولي الأمر أن يتعمد قتله قصاصا، لأن اختلاف القصد في الحالين يذهب بمعنى القصاص. ولهذا قضى الشرع بالقصاص في القتل العمد وبالدية في القتل الخطأ، وهو منتهي العدل.

أما القصاص فيما دون النفس ففيه مقال، سواء من حيث مشروعيته أو من حيث شروطه عند القائلين به.

أما من حيث مشروعيته فليس هناك نص واضح في القرآن ولا حديث قطعى الدلالة في السنة على تقرير القصاص في الجروح. وقد عرض الشيخ محمود شلتوت للنصوص الخاصة والعامة الواردة في هذا الشأن وانتهي إلى أنها غير حاسمة في إيجاب القصاص فيما دون النفس، ولكنه يذكر أن لهذا القصاص مصدرا آخر يعتد به وهو الإجماع.

وأما عن الشروط اللازمة لاستيفائه فالملاحظ أن الفقهاء جميعا يتشددون فيها حتى ليصح القول بأن الأصل أصبح منع هذا القصاص والاستثناء إمكانه. فقد وضعوا لاستيفائه شروطا يتعذر عملا توافرها؛ فالأحناف على سبيل المثال يشترطون أن يكون الاستيفاء ممكنا من غير حيف، وأن يكون العضو الذي يجرى القصاص فيه مماثلا للعضو الذي أصابه الجاني من كل الوجوه، سواء من جهة السلامة والشلل، والكمال والنقصان، والأصالة والزيادة، وذلك لانتفاء التماثل بين عضو صحيح وعضو أشل، ولا بين يد كاملة الأصابع وأخرى ناقصتها، ولا بين إصبع أصلية وأخرى زائدة، ولا بين رجل وامرأة، ولا بين واحد وجماعة، ولا قصاص عندهم في جروح الرأس والوجه إلا في واحدة، وهي الموضحة، فلا قصاص فيما قبلها ولا فيما بعدها.

والفقهاء متفقون على أنه يشترط في القصاص أن يكون ممكنا من غير حيف، وهذا الشرط عسير تحققه على صعيد الواقع، ولهذا قلنا إن الأصل يكاد أن يكون هو حظر القصاص فيما دون النفس لتعذر ذلك. على أنه إذا امتنع القصاص فيما دون النفس وجبت الدية، ولا يخل ذلك بحق ولي الأمر في تعزير الجاني، لأن الدية في تقديرنا ليست عقوبة، بل هي ضرب من التعويض.

أما الحدود فالشأن فيها مختلف، والكلام في التناسب بين مفسدتها وعقوبتها يثير كثيرا من الجدل، سواء من حيث نوع العقوبة المقررة لها، ومن حيث الأحكام الشرعية التي تنفرد بها. والمعلوم أن عقوبات الحدود مقدرة شرعا، وأنها لا تقبل التبعيض، فإما أن تجب بتمامها أو لا تجب أصلا. والملاحظ أن عقوبات الحدود تتفاوت شدة وخفة تبعا لنوع المفسدة التي تنشأ عنها، أما أحوال الجناة فإن أثرها فيها محدود. ولما كانت عقوبات الحدود مقدرة بالنص عليها، فإنها تلحق من حيث التعليل بالعبادات وسائر المقدرات، بحيث يصح القول بأنها غير معقولة المعنى. نعم هي تتفاوت من حيث جسامتها بتفاوت المفسدة الناتجة عنها، لكنها من حيث النوع والمقدار يتعذر تعليلها عقلا.

ولم يقف الفقه الشرعي جامدا أمام صرامة الحدود، بل وضع الفقهاء لها أحكاما خاصة حرصوا فيها على تحقيق التوازن بين صرامة الحد والمبادىء الكلية للشريعة الإسلامية. ومن هذه الأحكام حصر الحدود في نطاق الجرائم التي وردت بها النصوص، على أساس أن المقدرات الشرعية لا يدخلها القياس ومن هذه الأحكام أيضا تشدد الفقهاء في شروط الحدود تشددا قد لا يحتمله ظاهر نصوصها، وتشددهم كذلك في إثباتها. ولعل نظام الشبهة من أبرز الأدلة على حرص الفقهاء على الاقتصاد في إيقاع الحد ـ وكذلك القصاص ـ على الجاني. والشبهة باب واسع تمكن الفقهاء من خلاله من درء العقوبة، وعلى الأخص عقوبة القتل والرجم والقطع في أحوال كثيرة رغم توافر شروط إيقاعها ظاهرا.

*****************

*) قاضي وأكاديمي من مصر.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=557

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك