العدالة وحكم القانون في التجربة الإسلامية

العدالة وحكم القانون في التجربة الإسلامية

رضوان السيد(*

في الحقبة الأُولى للتجربة السياسية العربية الإسلامية، كان هناك تحاوُرٌ وتجاوُرٌ بين مصطلحَي الشورى والعدل. فالمَثَلُ الأعلى للنظام السياسي السويّ، هو ذلك النظامُ الذي يقومُ على أساس الشورى والاختيار، أو أنّ الحُكْمَ العادلَ هو الذي يتأسَّسُ على الشورى. وكانت تلك هي الميزة التي اعتبر المسلمون أنها ميّزتْ عهود الراشدين الأربعة، بل ورأى بعضُ التابعين وتابعيهم أنّ ذلك هو الذي مَيَّزَ نظامَ (الخلافة) قبل تحوُّلِهِ إلى مُلْكٍ عَضوض. وهكذا صار هذان المفردان أو المصطلحان هما رُكْنا الشرعية. ولذلك فإنّ كلَّ المعارضين السياسيين للأُمويين ـ باستثناء دُعاة العبّاسيين ـ كانوا يُداولون في بياناتهم وسِيَرِهم بين الدعوة لإعادة الأَمْر شورى، أو العودة لحكم الكتاب والسُنّة. أمّا الدُعاة للرضا من آل محمدٍ وبينهم العباسيون؛ فقد كانوا يحملون حقَّ أهل البيت ويدافعون عنه ويثورون من أجلِه. وتراجَعَ شعارُ الشورى، والكتاب والسُنّة بعد قيام الدولة العباسية. ومع تطاوُل الزمان صارت الشرعيةُ وظيفيةً إذا صحَّ التعبير؛ إذ ما عاد أحدٌ يسألُ عن كيفية الوصول إلى السلطة، بل يكتفون من السلطة بأن تكونَ عادلة. والعدْلُ هنا يعني التساوي في العلائق مع فئات الأمة، كما يعني التساوي في (قسمة الفيء) أو توزيع موارد الدولة. وهكذا غلبت على المشروعية التأسيسية مفاهيمُ الشرعية القائمة على المصالح. وأُضيف إلى المهامّ والشروط التي تدعمُ (شرعية) النظام القائم: منع الفتنة بالداخل، والدفاع عن الأمة ودار الإسلام ضدَّ أعدائهما.

ومنذ القرن الثالث الهجري/ التاسع الميلادي، تركَّز معنى العدل والعدالة في المجال القضائي، إذ شمل الأمر في البداية السلطة السياسية والمؤسسة القضائية، ثم اقتصر الإطلاق على السلطة القضائية في سائر عصور التجربة الإسلامية الوسيطة. وفي البداية (أي في القرنين الأول والثاني للهجرة) كان أمير المؤمنين ووُلاتُه شديدي الحرص على وضع زِمام العدالة بأيديهم، بحيث يكونُ القُضاةُ نُوابَهُم. وما كانت هناك مؤسَّسة قضائيةٌ مستقلّةٌ، ليس لأنها لا تنفردُ بتطبيق أو إنفاذ سُنّةٍ معيَّنةٍ أو قانونٍ معيَّنٍ وحسْب؛ بل ولأنّ القاضي كان متعدد الاختصاصات مثل أن يكونَ متولّياً على الخراج أو على القَصص أو رئيساً للشُرْطة بالإضافة إلى مهمته القضائية، أو الحكم في النزاعات بين الناس. وحدث تغيُّرٌ بارزٌ أيام هارون الرشيد (170 - 193هـ) عندما عُيّن أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم (ت182 أو 184هـ) قاضياً للقُضاة. إذ كان معنى ذلك ظهور جهاز هَرَمي له رأسٌ، ومهمةٌ وحيدةٌ هي فضُّ النزاعات، والتدخل في التنظيمات المالية والإدارية لجهة ما هو مشروعٌ وما هو غير مشروع. وظلَّ رأْسُ السلطة هو الذي يُعيِّنُ القُضاة، لكنْ بناءً على اقتراح قاضي القُضاة. وهذا تطورٌ حدث في بغدادَ العاصمة، ثم ساد خلال أقلّ من قرنٍ في سائر أنحاء دار الإسلام، حتّى بعد ظهور الدويلات، وزوال مركزية السلطة.

والواقعُ أنّ قوَّة السلطة القضائية واستقلاليتها النسْبية، تابعةٌ لأَمْرٍ آخَرَ، وليس سببها ضعف السلطة المركزية أو توزُّعها. فقد حدث تطورٌ في علاقة الدين بالدولة، وهذا التطور هو السببُ الرئيس في ظهور القضاء المستقلّ أو السلطة القضائية شبه المستقلّة. ويرجعُ ذلك إلى أنه مع ظهور فقهاء الأمصار، ثم المذاهب الفقهية، أو المدارس الفقهية، صار الفقهاءُ مشترعين؛ إذ صاروا حَمَلة الشريعة وحُرّاسَها والمجتهدين فيها، وأصحاب الحقّ والأهلية في استنباط أحكامها، وفي الحُكْم بها. ومنذ أيام عمر بن عبد العزيز الأُموي (99- 101هـ) وحتّى أيام المأمون العبّاسي (198- 218هـ)، حاولت السلطات بشتّى السُبُل أن تفرضَ قانوناً معيَّناً أو حتّى مذهبَ واجتهاداتٍٍ فقيهٍ معيَّن. وعندما لم يأْتِ ذلك بنتيجة، جرى التسليمُ بالتمايُز بين الشريعة والسياسة أو الحُكْم السياسي، وصار القضاءُ بأيدي الفقهاء، كما صارت الأحكامُ الصادرةُ عن المحاكم تتبع مذهباً معيَّناً أو اجتهادات القاضي أو تخيُّراته. ولذا فقد رأى الأستاذ وائل حلاّق، أستاذ الفقه الإسلامي بجامعة كولومبيا أنّ الحكم بالشريعة (أو ما يوازي حُكْمَ القانون اليومَ) يصحُّ على التقاليد القضائية الإسلامية أكثر مِمَّا يصحُّ على التقاليد القانونية الأُخرى؛ لأنّ النهج أو المناهج التي يتبعها القُضاةُ المُحْدَثون في أحكامهم تحت إشراف السلطة السياسية إنما هي من نتاج الجهات المشترعة في النظام السياسي نفسه، ولذا لا تتوافرُ لها الحياديةُ والاستقلالية بقدْر ما تتوافرُ في النظام القضائي الإسلامي، الذي يطبّق منهجاً أو مناهجَ أنتجتْها اجتهاداً مذاهبُ ومدارسُ فقهيةٌ مستقلّةٌ عن النظام السياسي القائم. وبذلك فإنّ هذا التمايُزَ بين الشريعة والحُكْم السياسي جاء لصالح أمرين: مدنية النظام من جهة، أي أنه ليس نظاماً معصوماً يتولى الشأنَ الديني باسم القيام على الشريعة ـ وأنّ السلطة القضائية أو القضاء الشرعي مستقلةٌ لاستظلالها بالشريعة من جهة، وقيامها على مبادئ مسلَّم بها في مفاهيم العدل والظُلْم، والإباحة والحرمة، والصحة والفساد. فهناك من جهة أنّ التشريع لا علاقة له إنتاجاً أو تنفيذاً بالسلطة السياسية. وهناك الاحترام الذي يكتسبه التشريع لدى الناس لاستظلاله بالشريعة.

وحظيَ القضاءُ الشرعي الإسلامي بشعبيةٍ كبرى خلال عصور التاريخ الإسلامي التي دامت فيها التجربة. ويُعبّر عن ذلك اللقب الذي أُطلق على القاضي بالأندلس حين سُمّي (قاضي الجماعة)، وليس قاضي الأمير أو الإمام. لكنْ ليس معنى ذلك أنّ المشكلات انتهت. فقد يكونُ القاضي ظالماً، لكنْ في هذه الحالة يُنْسَبُ ظلُمُهُ إليه وليس إلى الشريعة. وقد يعودُ عدمُ الملاءمة إلى المذهب القانوني/ الفقهي الذي يتبعه القاضي. فقد اعتاد المصريون مَثَلاً على إيقاف الأوقاف الكثيرة. بينما كانت الأجيالُ الأولى من القُضاة الأحناف ـ وتبعاً لأبي حنيفة مؤسِّس المذهب- لا تقولُ بتأبيد الوقْف. وعندما عيَّن أمير المؤمنين قاضياً حنفياً في مصر، وكان رجلاً ورِعاً لكنه (لا يرى الأحباس)، أضرَّ ذلك بمصالح الناس. على أنّ مشكلات النظام الفقهي الإسلامي ما اقتصرت على الظُلْم الفردي أو عدم ملاءمة آراء في مذهب معيَّن لعُرف البلد السائد؛ بل كان هناك نظامُ الأدلّة والشهود العدول، والذي تسبّب في بطءٍ شديدٍ وتعقيدات ومُطاولات. وكان هناك الصراع بين القضاة والمدارس الفقهية أو القانونية في المدينة الواحدة، والبلد الواحد، والصراع على الاقتراب من السلطة السياسية. فهناك ما يدل على أنّ السلطة أثّرت في مَدَياتٍ متطاولةٍ على سائر التقاليد الفقهية لصالح مراعاة احتياجاتها أو احتياجات رجالاتها. بيد أنّ المشكلات أتت أيضاً من الشأن السياسي. فما كان أهلُ الشأن السياسي يُسلّمون للقضاء بمحاكمة المعارضين والثوار السياسيين، رغم اجتهاد الفقهاء في اشتراع أحكامٍ للبُغاة (= المعارضين السياسيين). وقد كان هدف الفقهاء والقضاة الحفاظ على النظام العام، والإبقاء في الوقت نفسه على حقّ الاعتراض، حتى لا يتحول كل تذمُّرٍ إلى انشقاقٍ دينيٍ أو تحرك سياسي عنيف أو دامي. ومنذ زمنٍ مبكّرٍ أصرَّت السلطات على حقّها في تقويم الخارجين بنظرها على الدين (= ديوان الزنادقة)، وليس على السلطة فقط. وكانت للاتهامات الدينية في أكثر الأحيان عللٌ سياسيةٌ، وقد تدخل القضاء مراراً للتحقق وحماية حرية الاعتقاد. بيد أن السلطة كانت تستغلُ في كثيرٍ من الأحيان الاختلافات بين المذاهب الفقهية في حدود الحرية الدينية.

ومنذ زمنٍ مبكّرٍ أنشأ أمير المؤمنين ديوان المظالم أو قضاء المظالم، ليُحاكَمَ أمامهُ كبارُ رجالات الدولة، بحجة أنّ القُضاة العاديين لا يستطيعون إخضاعهم للمحاكمة! وفي أزمنة الفتنة والاضطراب، كان أربابُ الشأن السياسي ـ ومن أجل فرض القانون والنظام ـ يلجؤون إلى (تغليظ العقوبات) بحجة أنّ العقوبات الشرعية غير رادعةٍ بما فيه الكفاية. واختلفت مواقف الفقهاء والقضاة من (القضاء الخاصّ) أو الاستثنائي، والتدخل السياسي أو الإداري في أحكام القضاء. فكان منهم من سمّاه حُكْم السياسة في مُواجهة حُكْم الشريعة. وكان منهم من تحدَّث عن (السياسة الشرعية)، أي الحدّ الأوسط بين ما يمكن قبولُهُ وما لا يمكنُ قَبولُهُ من القضاء السياسي، وتحت أيّ ظروفٍ، وتُجاه أيّ فئات. فقضاء المظالم ـ الذي يجري مجلسُهُ في (دار العدل) ـ يحضُرُهُ القُضاةُ، ويُستشارون في قضاياه. وهو يعبّر عن اتّجاه السلطة لإحلال العدالة بسُرعةٍ ولصالح الناس. والذين قالوا بالسياسة الشرعية، إنما قصدوا بالسياسة: المصلحة التي تقتضي إجراءً معيَّناً في ظرفٍ طارئ، قد لا يستطيع القضاءُ الشرعي اتّباع نهج المرونة أو التشدُّد فيه، لأنه مرتبط بمذهبٍ معيَّنٍ أو بنصٍ معيَّن. بينما أصَرَّ آخرون على اعتبار كلّ مُقاضاةٍ خارج مجلس القاضي الشـرعي أو المحـكمة، حُكْم الطاغـوت. وقد كان طريفاً ما ذهب إليه المقريزي (ـ 845هـ) المؤرّخ والفقيه الحنفي، من أنّ (حُكْم السياسة) لدى حُكّام المماليك بمصر إنما هو حُكْمُ (الياسة) أي قانون جنكيزخان، وليس حكم الشرع أو الإسلام! وكانت هناك شوائب أُخرى في بعض العصور؛ إذ إنّ وُلاة الأمر أعطوا المحتسب (= صاحب السوق) أو رئيس الشرطة أو الحاجب صلاحياتٍ قضائية في المسائل اليومية أو التنظيمية أو الأُخرى المتعلقة ببعض الفئات مثل العَسْكر، الذين كان لهم قاضٍ خاص، ونظامٌ خاصّ. وفي حين يُقرُّ الماوردي (ـ 450هـ) ذلك، لا يـرى معاصـره إمام الحرمـين الجويني (ـ 478هـ) مبرراً للتسويغ.

ومع الوقت اقترب مفهوم الأقسام القانونية من الفقه من مفهوم (القانون العامّ) أو الـCommon Law، فقد اعترفت الدولة أيام المماليك (665هـ) بالمذاهب الأربعة، باعتبارها مصادر للقضاء. ومن المعروف أنّ المذاهب الفقهية شاملةٌ بمعنى أنها تتناول بالمعالجة (أي تفسير الشريعة أو الاشتراع فيما لا نصَّ فيه) المسائل الشعائرية (= العبادات) والأُخرى المتعلّقة بالمعاملات بين الناس، وتصرُّفاتهم. والقسم الثاني هذا هو الذي يتناولُ الجوانب التنظيمية والأُخرى القانونية من حياة الفرد والجماعة. ومن الواضح أنه ما كان للقضاء أن يتدخَّل في الحياة الشعائرية للناس. أمّا الجوانب التنظيمية من حياة الإنسان فإنّ الفقيه يستطيعُ الاجتهاد أو التكلُّم فيها؛ لكنها ليست موضوعاً للقضاء؛ لأنها مسائل اعتباريةٌ أو إداريةٌ تدخل في الأعراف والشؤون العامة التي تتولاّها السلطة الاجتماعية أو السياسية. فيبقى القسم المتعلّق بفضّ النزاعات بين الناس في معاملاتهم وعقودهم وتصرفاتهم، وما هو من حقوق الأفراد أو الأَخْذ للضعيف من القوي. وهذه الأُمورُ هي مجالُ عمل القضاء والقُضاة. وينقسمُ عملُ القاضي فيها إلى قسمين: مُنَفِّذ للحكم الشرعي في الحدود، أو مُنشئٌ له اجتهاداً وتقديراً فيما ليس فيه حدٌّ. وفي مجال الحدود يقتصر عملُ القاضي على النظر في تحقق الشروط أو عدم تحققها. أمّا خارج ذلك فإنّ للقاضي المسلم حرياتٍ أو سلطاتٍ تقديرية واسعة (= الغرامات والتعزيرات أو المصالحات).

وبلغت المؤسسةُ القضائيةُ ذروة سطوتها وقوتها في العصر العثماني، حين زالت كُلُّ الهواجس لدى السلطة السياسية من القضاء الشرعي. لكنْ في ذاك العصر بالذات جرى الحديث لأول مرة عن قضاء الشريعة، وحُكْم القانون. و(القانون) سُمّيت به المراسيم والأوامر السلطانية في الشؤون المالية والإدارية، ولبعضها صِبْغةٌ قضائية. بيد أن ّمؤيّدي (السياسة الشرعية) ذهبوا إلى أنّ (السلطان) كان يستشير في تلك المراسيم (شيخ الإسلام) أو قاضي القُضاة، ولا يُصدرُها إلاّ بعد موافقته. وهم يستشهدون على ذلك بالتعاوُن الذي كان قائماً بين السلطان سليمان القانوني وشيخ الإسلام أبي السعود. ويذكرون في هذا الصدد إجازة (وقْف النقود)، بعد أن لم يكن الوقْف جائزاً إلاّ في الأعيان والعقارات. وقد دار نقاشٌ طويلٌ استمرَّ عقوداً من السنين بين مؤيّدي الوقْف الجديد ومُعارضيه. لكنّ المؤيّدين لهذا النوع من الوقْف، ما استطاعوا أن يُنكروا أنّ السلطان عاقب الفقهاء المُعارضين لذاك الوقف، لتصادُم اجتهادهم مع اجتهاد السلطات. وعندما نقول إنه في هذا العصر صار القضاء بالغَ القوة؛ فلأنّ السلطة السياسية تركت له ممارسةَ كلّ شؤون العدالة (باستثناء الثوار والمتمردين). وإضافة لذلك إعطاءه صلاحيات تنظيمية وإدارية في مجالاتٍ ما كان يتدخل فيها قبل العثمانيين.

على أنّ هذه المؤسَّسة العريقة (مؤسسة الفقهاء) ـ والتي سادت لأكثر من عشرة قرونٍ، وتركت ميراثاً ضخماً في الأصول والقواعد والتوثيق والإثبات وشتّى الفروع الفقهية ـ انتهت إلى نهاياتٍ غير مُشْرقة. ففي القرن التاسع عشر الميلادي، ومع امتداد السوق العالمية إلى ديار الإسلام، حصل تداخُلٌ وتنافُسٌ شديدٌ خلالها بين منظوماتٍ قانونيةٍ شتّى؛ وسواءٌ لجهة الافتقار إلى نصٍ قانونيٍ سائدٍ وواضح ـ رغم سواد المذهب الحنفي ـ أم لجهة أُصول المحاكمات، وإجراءات التقاضي. وقد حاول الفقهاء والقانونيون العثمانيون المتمسكون بمرجعية الشريعة والفقه الموروث، أن يُنْقذوا المؤسَّسة بتقنين الفقه الحنفي في (مجلة الأحكام العدلية) التي عاشت لأكثر من نصف قرن. لكنّ الأمر كما ـ قال الوزير خير الدين التونسي ـ كان (كالسيل الذي لا يمكنُ دفْعهُ). فمع مطالع القرن العشرين، ما عاد القضاء الشرعي في أكثر أنحاء العالم الإسلامي صاحبَ مرجعيةٍ إلاّ في مجال الأحوال الشخصية، والتي جرى تقنينُ نصوصها أيضاً، وعدم تركها لتقدير القاضي. والملاحَظُ في هذا الصدد أنّ التغييرات شملت عدة جوانب: المرجعية العليا للحُكْم القضائي، وفلسفة القانون، وإجراءات التقاضي وأُصول المحاكمات. فالمرجعيةُ العُلْيا ما عادت لمذاهب الفقهاء (المستظلّة بالشريعة)؛ بل للمجالس المنتَخَبة، واللجان التي تعيّنها السلطة التنفيذية. وفلسفتُها أو مصادرُها القانونُ الطبيعيُّ ومفاهيمُهُ الإنسانيةُ للعدالة. وجرى الابتعاد بالتدريج عن مفاهيم القانون العامّ بالاعتماد على النصّ المدوَّن والتفصيلي وعدم ترك الكثير لتقديرات القاضي. وتغيّرت التنظيمات المتعلّقة بتكوين الحكم ودرجاته وإمكانيات المراجعة فيه. وفي حين رأى فقهاء وقانونيون كبار في القرنين التاسع عشر والعشرين، أنّ التوفيق ممكنٌ بين المنظومتين، إذا كانت هناك نهضةٌ فقهيةٌ كبيرةٌ، وانفتاحٌ لباب الاجتهاد ـ رأى آخرون أنّ المنظومتين مختلفتان في الطبيعة والفلسفة، والملاءمة غير ممكنة إلاّ في التفاصيل.

ترتبطُ التجربةُ الإسلاميةُ الوسيطةُ في العدالة وحكم القانون إذن، بطبقة الفقهاء، وبالمؤسسة الفقهية، وعمادُها ـ خارج نطاق العبادات والطقوس ـ الأعرافُ المستقرةُ في المذاهب الفقهية التاريخية. وهي تجربةٌ ما تزال قيد الدرس والمُراجعة. ويصعُبُ إلى الآن في ظلّ قلّة الدراسات التاريخية والنقدية وقصورها، إصدارُ حُكْمٍ لها أو عليها. لكنْ من جهةٍ أُخرى، قد لا يكونُ ذلك ضرورياً باستثناء التأريخ لتلك التجربة المنقضية.

************

*) مفكر وأكاديمي من لبنان، ومستشار تحرير مجلة التسامح.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=556

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك