من تجليات الجمالية السليمانية في القرآن الكريم
محمد إقبال عروي
تهيأت أسباب الحديث عن تجليات الجمالية السليمانية، من خلال مشهد قرآني يلتفت إلى جوانب من العمران الجمالي والوظيفي في عهد سليمان عليه السلام . وهي جوانب انخرط في رفع قواعدها نفر من الجن، بناء على رؤى تخطيطية وتوجيهات دقيقة من هذا النبي الكريم عليه السلام ، تكشف عمق الرؤية الجمالية والإحساس الذوقي الذي حظي به النبي سليمان في بيت والده داوود عليه السلام. وذلك كله يؤكد قاعدة “إعمال الجمال أولى من إهماله”، التي نذهب إلى أنها من القواعد القرآنية في العمران الإنساني.
المشهد الثاني
ورد في القرآن الكريم مشهد دال ضمن قصة سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ بلقيس، يقع في خاتمة أحداث القصة؛ يقول عز وجل: (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)(النمل:44).
لقد أنشأ سليمان عليه السلام لبلقيس قصرًا ذا مواصفات جمالية بهيجة، وذلك من أجل استقبال هاته الملكة القادمة من فضاء الملك والثراء، والمتشبعة بثقافة الجمال والذوق الملوكي المدني. ونظرًا إلى مقصدية التأثير في نفسيتها ووجدانها، فقد حرص نبي الله سليمان عليه السلام على أن يكون القصر آية في الجمال، إيمانًا منه بأن الجمال مدخل من مداخل الإيمان بالواحد الأحد، والابتعاد عن الشرك. ولم يأت هذا الفهم منه عرضًا، وإنما هو ثمرة التنشئة الذوقية والجمالية التي رُبّي عليها في بيت النبوة والملك، تنشئة لم تعرف التباعد والتباين بين القيم الجمالية والقيم الدينية، ولم تُقِم حواجز نفسية بين التلقي الجمالي والتربية القيمية، ولم يتسلل إلى منظومتها عناصر التزهيد والتنفير والتحقير، فاستطاعت أن تجعل الجمال شعبة من شعب الإيمان.
فكانت أرضية القصر مصنوعة من الزجاج، تجري المياه تحته. وقد قال بعض المفسرين إن النهر بأسفله يحتوي على الحيتان، وللمتأمل أن يتخيل جدران القصر وسقفه والعناصر المتضافرة في إحداث التمثل الجمالي المفضي إلى الاستجابة الإيمانية من نبات وأزهار وأشجار وعناصر إيقاعية مصاحبة.
ولذا، فبمجرد ما رأت بلقيس جمال القصر، وبعد أن استوعبت الصدمة القوية للتلقي الجمالي، أعلنت مباشرة تخليها عن العقيدة الشركية، وتفيؤ ظلال التوحيد.
ومن المؤسف أن الخطاب التفسيري لم يول هذه المعاني ما تستحق من عناية تأصيلاً لمقصدية الجمال في القرآن، ولم يكلف نفسه التساؤل عن أسرار إيراد القرآن لذلك المشهد، مع أنه مشهد قد لا تتأثر بنية القصة ومعانيها بحذفه. وفي المقابل فقد اشتغل بعض المفسرين بمَرْويات خرافية؛ من مثل أن سليمان شيد القصر بأرضيته الزجاجية، وبمواصفاته الموهمة بوجود الماء على تلك الأرضية، من أجل أن يصل إلى الخبر اليقين في ما يروج حول طبيعة جسم بلقيس التي اختارها زوجة له، لأن بعض الإشاعات كانت تقول إن نصفها العلوي بشر ونصفها السفلي جني، فتأكد له -بعد دخول بلقيس القصر وكشفها عن ساقيها- أن ساقيها ساقا بشر. وشتان بين الأفق الجمالي الذي رصده القرآن في ذلك المشهد، وبين التوجيه التفسيري المتأثر بالمرويات الغريبة.
المشهد الثالث
وهو مشهد مرور الخيل على نبي الله سليمان عليه السلام واستغراقه في تأمل منظرها. يقول القرآن الكريم في هذا المشهد: (وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ)(ص:30-33)؛ وهو مشهد يعكس الخلفية الجمالية لسليمان عليه السلام ، فهو يحرص على أن يمر بين يديه قطيع الخيل كل عشي، يتأملها ويستشعر نعمة الله عليه من خلال تمثل جمال هيئتها وشكلها، إلى درجة أنه يكرر التجربة مثلما يكرر ذكر الله المعادل اللساني للأوبة القلبية التي امتدحه الله بها: (إِنَّهُ أَوَّابٌ).
لكن خطاب المفسرين كاد أن يغيب هذه الروح، واستحضر بعض المفسرين مَرْويات لا يمكن أن يقبل السياق القرآني بها، من مثل ما يروون من أنه لشدة فتنته بمنظر الخيول -وهي تعرض بين يديه- نسي صلاة العصر، وعندما أدرك أنها فاتته، شعر بالندم فانتقم من الخيل التي كانت سببًا في انشغاله عن أداء الصلاة في وقتها، واندفع نحو قطع أعناقها وسوقها بالسيف. وهذا المذهب التفسيري ينطلق من ثنائية الجمال والجلال، ويتوهم إمكانية التعارض بينهما، ويزهد في كل جمال يمكن أن يؤدي إلى تعطيل التمثل الجلالي لرب الجمال.
ومن المؤسف القول إن هذا المذهب ما يزال يسيطر على بنية التفكير الإسلامي في الجماليات، ففي آخر كتاب حول “علم الجمال: رؤية في التأسيس القرآني” للدكتور عبد العظيم صغيري، نلحظ سيطرة هذه الرؤية، يقول: “إن منظر الخيل -وهي مهيأة للاستعراض في أبهى صور وأجمل منظر يأخذ بالألباب- ومشهدها الجميل يشغل ويلهي، لكن ليس إلى الحد الذي يفتن صاحبه عن الواجب، إذ المتعة المتحققة في مناجاة الله تعالى، والقيام بين يديه بالواجب، أعظم وأجل من كل المتع والملذات. لذلك، لما أحس نبي الله سليمان عليه السلام -وهو مأخوذ بجمال الخيل، مفتون بروعتها وتألقها- بخروج تجربته الجمالية هاته عن حدود قصد الشارع، آب إلى ربه عز وجل ورجع إليه تعالى، وغاب عن رؤية جمال الخيل في رؤية جمال محبوبه وربه”(1).
إن هذه الرؤية ثمرة تحكيم للمرويات في الموضوع، وهي مرويات يتوجه إليها العديد من الاستدراكات المفضية إلى تهوينها، مما يكر على ثمراتها بالضعف والتهوين.
فلم يثبت أولاً، أن الأقوام قبل الإسلام كانوا يعرفون صلاة باسم صلاة العصر، فضلاً أن يستصحبوا معهم أهميتها، وخطورة تأخير وقتها، وتمثل الوعيد الشديد لمن يتهاون في أدائها في وقتها. ثم هل يعقل أن يعمد سليمان عليه السلام إلى إتلاف ثروة حربية تقدر بأموال طائلة، لا لشيء إلا لأن تلك الثروة فتنته وشغلته عن الصلاة، وكيف يجوز لسليمان عليه السلام أن يفعل ذلك على مرأى ومسمع من مستشاريه وقواده وولاته، دون أن ينكروا عليه فعله، وهم يعلمون أن إتلاف تلك الثروة مضعف للأمة، وكاشف عن غياب الحكمة، لأن العاقل يدرك أن لا جريرة تلحق الخيل بسبب سلوك الإنسان؟
ثم إن تلك الرؤية ثمرة للنظر الأصولي الفقهي، الذي بعد تقسيمه لمقاصد الأحكام والسلوكات إلى ضرورات وحاجيات وتحسينيات، وجد نفسه مضطرًا إلى إدراج الجماليات ضمن التحسينيات التي لا تتضرر الحياة بفقدها، ولا يمس الناس حرجًا بفقدانها، بالتالي جعلها من المنافع غير الضرورية، يقول ابن عادل في تفسيره “اللباب في علوم الكتاب” وهو بصدد الحديث عن منافع الخيل والبغال في السياق القرآني: “ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها وهي إما ضرورية أو غير ضرورية. فبدأ بذكر المنافع الضرورية فقال: (لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ). وأما المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام، فأمور، وعد منها قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ)(النحل:6)(2)، وهذا يستدعي مراجعة دقيقة لمشمولات التحسينيات في التصنيف الأصولي المشهور، وإدراك أثر السياقات الثقافية والاجتماعية والحضارية للعصور، فقد يصبح ما هو تحسيني في مرحلة أو زمن أو بيئة، من الحاجيات أو الضرورات في مرحلة أو زمن أو بيئة أخرى. ومن ثم، فقد يكون مناسبًا في بيئات وثقافات القول: “على أنه إن أبحنا الغناء والموسيقى بالقيود التي أشرنا إليها، فإننا لا نرى المداومة على ذلك، بحيث يصبح السماع هو ديدن الإنسان وهجيراه، حتى تفسد طباعه إن أساء استعمال هذا الأمر، وإنما يكون سماعه للتخفيف عن نفسه ليثابر في عمله، ويعبر عن فرحه في المناسبات الشرعية”(3). لكن هذا التقييد قد لا ينفع مع السياق الثقافي والفني العالمي في العصر الحديث، حيث دخلت الموسيقى في حياة الناس اليومية، وامتزجت بمناشطهم في التربية والرياضة والاستشفاء والإدارة ومرافق الترفيه وغيرها… ولم يعد يتصور معها أنها قد تلهي الناس عن أعمالهم، أو قد تفسد طباعهم وهي التي يراد منها أن تهذب الطباع مثلما هو مقرر في مناهج التربية والتعليم وعلم النفس.
إن مما يزيد الإشكال تعقيدًا، أن البحث الفقهي المعاصر في موضوع الفنون، لم يتجاوز الإطار النفسي والمنهجي للنظر الفقهي المواكب لأوضاع وأحوال ونفسيات ماضية، فجاء تحليله مستصحبًا للأفق الذي استقر عليه الفقه قديمًا من التشدد في حدود الإباحة، وربط الانفتاح على الفنون في حدود الترويح عن النفس المثابرة في الجد، والتحذير من إضاعة تلك الفنون لوقت المسلم، وكأن شأن الفنون ما يزال شأنًا خاصًا بالأفراد، وكأنه لم يتحول إلى بنية نفسية وسلوكية ضاغطة مهيمنة تصرف عليها ميزانيات، وتدخل في إستراتيجيات توجيه الذوق الفني والجمالي والقيمي للبشرية جمعاء.
مع العلم أن التخفيف والتعبير عن الفرحة أمران نسبيان يختلفان باختلاف الذوات، دون إغفال الإشارة إلى أن الاستماع إلى الموسيقى -مثلاً- صارت له عادات، فهو يأتي مصاحبًا لإنجاز الإنسان لمختلف أعماله، فلا يتصور في الاستماع إليها مضيعة لوقته، فهو يتاجر ويستمع إلى الموسيقى، ويراجع دروسه وهو يستمع إليها، وقس على ذلك بقية أنشطته العلمية والتربوية والرياضية وغيرها.
فالربط الآلي بين الفنون وإضاعة الوقت ربط محتاج إلى استدراك؛ وجعل الفنون -في منظور الشريعة- مجرد استرواح وتخفيف وتعبير عن فرح في مناسبات شرعية، يحتاج إلى لائحة من الاستدراكات، لأنه ربط لا يعتد بالنصوص ومقاصدها، وإنما يعتد بأفهام بعض الفقهاء ومواقفهم، وطبائع الحياة في عصورهم، والسياق الثقافي والاجتماعي في أزمانهم.
إن الفقه المعاصر يستند إلى آراء القدماء في الموضوع، وهي آراء جاءت مطبوعة بالسياق الثقافي والاجتماعي لعصورهم، وهو سياق تحكمت فيه انطباعات لعل أقواها اعتبار الفنون والجماليات شأنًا فرديًّا ونخبويًّا؛ فما زال العديد من علماء الأمة وفقهائها، يتعاملون مع موضوع الفنون والجماليات باعتبارها قضية جزئية تتصل بآحاد الناس، وما زالوا ينظرون إليها وكأنها سلوك يمكن أن يأتيه الإنسان نادرًا أو لمامًا. وقد يتعاملون معه وكأنه مما يتعرض للإنسان مرة أو مرتين في حياته الخاصة أو العامة، وقد لا يلتفتون إلى أن الفنون والجماليات صارت سمة العصر ولغته وأسلوبه وأبرز مظهر في الحياة الخاصة والعامة للناس على مختلف طوائفهم وانتماءاتهم. يقول الدكتور محمد عمارة: “فلم تعد الفنون ترفًا إنسانيًّا ولا امتيازًا لشريحة من المترفين المتعطلين -كما كانت لدى البعض في فترات التاريخ- وإنما هي اليوم مكون رئيسي من مكونات الذاتية الإنسانية السوية، وأداة فاعلة في تحصيل العلم وحفظ المعلومات (…) وإنها واحدة من ضرورات الوجود والارتقاء بالنسبة للإنسان”(4)، بل صارت مشكلة لرؤى الناس وعواطفهم وأذواقهم.
الجمالية السليمانية بينتجليات الجمالية السليمانية الفقهي والكليات القرآنية
إن الهدف من إيراد الآيات والمشاهد المرتبطة بالجمالية السليمانية، يكمن في إبراز الرؤية الجمالية في القرآن الكريم. وإذا ظهر تعارض بين هذا التحليل وبين ما يذهب إليه بعض المفسرين، فإن الاحتكام يكون للكليات القرآنية، وهذا ما يسوغ المقدمات الموجودة في هذا العرض. فهي تُبرز احتفاء القرآن بالجمال في أبعاده المختلفة، وإن كان لنا من خاتمة نمسك بها عن الكلام -المباح أو غير المباح لست أدري- فإننا نستدعي من الخطاب القرآني الجميل موقفين يؤكدان كليته المحتفية بالجمال والجماليات:
الموقف الأول: اعتبار الجمال آية، وهذا واضح في قوله تعالى واصفًا حدائق مملكة سبأ: (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ)(سبأ:15)، فهنا يتحول الجمال -وتخطيط الحدائق يقع في صلب الجماليات فنًا ومعمارًا وزينة- إلى آية تستدعي الشكر. ولعل القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد الذي طبع علاقة الإنسان بالجمال، ورفع قدره إلى أن جعله آية، فانعكس ذلك في تخطيط الحدائق والبساتين بالمدينة الإسلامية، واحترام البيئة وإيجاد الفضاءات الجمالية في المجال العام.
الموقف الثاني: نقيض الجمال قبح قد يصل إلى حد العقوبة. ويعرض القرآن الكريم لنموذج حي يبرز كيف أن أكبر عقاب للجاحدين والمعرضين عن الإيمان، يتمثل في أن يزيل نعمة الجمال من محيطهم ما دامت أجهزة الاستقبال الجمالي المفضي إلى الاستجابة الجلالية قد تعطلت بداخلهم، يقول عز وجل: (فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ)(سبأ:16).
ومن عجائب الأسلوب القرآني، أن الألفاظ -في هذا السياق- تأتي مساوقة للجو العام، فهي ألفاظ ثقيلة في أصواتها، غريبة وحشية في معانيها، توحي بالغلظة والخشونة والقبح، وليس فيها من جمالية سوى أنها انتظمت في الأسلوب القرآني، وفق مقصدية الاستهجان والتقبيح. فما معنى الخَمط؟ وما هي دلالة الأثل؟ وما قيمة هذا النفي في كلمة “سدر” التي لم يكتف بتنكيرها احتقارًا لها، بل حوصرت يمينًا بكلمة “شيء” التي تفيد -بتنكيرها ودلالتها على القلة- ضعف قيمتها، كما حوصرت شمالاً بكلمة “قليل” التي تفيد القلة التي تكاد تعني لا شيء؟
إن انتماء تلك المفردات إلى غريب اللغة ووحشيها، بالإضافة إلى معانيها الدالة على البشاعة (خمط)، والفاقد للثمر (أثل)، والسدر (شجر النبق)… ذلك كله يرسم صورة قبيحة تساوق صورة الذي أغفل عن تمثل الجمال وتذوقه والاستجابة إلى أنواره وصولاً إلى الإيمان بالله وشكره.
إن البحث التفسيري محتاج إلى جمع هذه الآيات وغيرها، في سلك تفسير موضوعي للجمال والجماليات في الخطاب القرآني، ثم دراستها دراسة تراعي مقاصد القرآن وصلوحيته في الزمان والمكان والأعراف والبيئات، وتستحضر القواعد الحاكمة للعمران الإنساني في الحياة، وتستثمر الكسب الإنساني المعاصر في قضية الفنون والجماليات، وتنزل مقتضيات ذلك تنزيلاً حكيمًا يحقق التوازن والتكامل بين مختلف مناشط الإنسان.
وهذا الاتجاه التفسيري المقترح، مطلوب منه أن يستند إلى نظرية يعمل على صياغتها روادٌ لا يستغرقهم التخصص الفقهي فيَنفرون ويُنفرون من الفنون والجماليات ويَزهدون ويُزهدون فيها، ولا يبتلعهم التخصص الفني فيستنكرون توجيه الدين للجمال والجماليات… روادٌ يصفهم سيد قطب في كلام جامع بأنهم: “أصحاب الطاقات الروحية الفائقة، الذين يحملون الشعلة المقدسة التي تنصهر في حرارتها كل ذرات المعارف، وينكشف في ضوئها طريق الرحلة مزود بكل هذه الجزئيات قوية بهذا الذات، وهي تغذي السير نحو الهدف السامي البعيد… الرواد الذين يدركون ببصيرتهم تلك الوحدة الشاملة، المتعددة المظاهر في العلم والفن والعقيدة والعمل، فلا يحقرون واحدًا منها، ولا يرفعونه فوق مستواه”(5).
هذا الاتجاه محتاج إلى تأصيل العلاقة الحميمية بين الفن والجماليات والقيم الدينية، وفق منظور يعبر عنه الأستاذ محمد فتح الله كولن بقوله: “إذا كان هناك طائر فكري يأخذ بيد الإنسان، لكي يسبح في السماء الواسعة التي لا نهاية لها وفي أعماقها، وفي أجواء السموات الزرق؛ فهو الفن. وبفضل الفن يستطيع الإنسان أن يفتح أشرعته ليسبح في أجواء السموات والأرض، فيصل إلى مشاعر ورصد ما وراء الزمان والمكان”(6). وهو المنظور الذي يؤكد عليه كولن في نص آخر ورد فيه: “ألم يجعل الفن -وهو يرافق الإيمان- هذه الدنيا معرضًا للجمال بالمعابد الفخمة، وبالمنائر التي تشبه أصابع الشهادة المتوجهة إلى السماء، وبفن الحفر على أحجار المرمر، وبالألوان والتصاميم الجميلة، وفنون الخط والتذهيب والنقوش الجميلة جمال أجنحة الفراش؟”(7).
وهذا الاتجاه التفسيري، حين ينجز هذه المهام العلمية التنموية، يكون قد اهتدى إلى قاعدة جوهرية من قواعد القرآن في العمران الإنساني، نلخصها في العبارة الآتية: “إعمال الجمال أولى من إهماله”.
(*) المنسق العلمي لأكاديمية “مدارات” للاستشارات والتدريب / المغرب.
الهوامش
(1) علم الجمال: رؤية في التأسيس القرآني، للدكتور عبد العظيم صغيري، كتاب الأمة، قطر، ص:98-99.
(2) اللباب في تفسير القرآن، لابن عادل الدمشقي، ج:10، ص:80.
(3) الغناء والموسيقى بين الإباحة والتحريم، للدكتور المكي اقلاينة، ص:94.
(4) الإسلام والفنون الجميلة، لمحمد عمارة، دار الشروق، بيروت، ط:2، 2005، ص:148.
(5) أفراح الروح، لسيد قطب، دار ابن حزم، بيروت، ط:1، 2003، ص:22-23. وهي الرسالة المطبوعة تحت عنوان “رسالة إلى أختي المسلمة”، دار المختار الإسلامي، القاهرة، ص:27-28. مع التذكير بأن بعض الدارسين يشكك في كونها رسالة موجهة، وإنما هي نصوص جمعها بعضهم في شكل رسالة.
(6) الموازين أو أضواء على الطريق، لمحمد فتح الله كولن، ترجمة: أورخان محمد علي، دار النيل للطباعة والنشر، مصر، ص:153.
(7) المرجع نفسه، ص:153