الدين والإثنية بين العولمة والصراع الدولي

الدين والإثنية بين العولمة والصراع الدولي

عبد الرحمن السالمي*

1

بنهاية الحرب العالمية الأولى تفككت إمبراطوريتان هما العثمانية والنمساوية، وتحولت بقاياهما إلى دولٍ مستقلّة. وبداعي هذا التفكك ظهرت أُطروحة الرئيس الأميركي وودرود ويلسن بشأن حقّ تقرير المصير للشعوب المستعمرة. وبالطبع أمكن وضْع ترتيبات ملائمة لكلّ الشعوب والإثنيات في البلقان والشرق الأَوسط، وتأثّرت الحلول بمصالح الدول المستعمِرة وبخاصةٍ فرنسا وبريطانيا. وقد اصطَنع الحلفاء الحلَّ المعروف بالانتداب، أي توكيل الدول المنتصِرة بالشعوب والإثنيات التي ظهرت ناجمةً عن سقوط الإمبراطوريتين؛ بشكلٍ مؤقَّتٍ بحجة تدريبها على بناء المؤسَّسات قبل إطلاق سراحها إلى الاستقلال. ونجم عن تلك العقبات والمطامح ظهور مشكلات جديدة؛ من مثل المشكلة العربية، أي عدم السماح بخلْق دولة عربية واحدة في بلاد الشام (فلسطين والأردنّ وسورية لبنان) - وإبراز ثلاث ملفّاتٍ بانتظار حلِّها فيما بعد: الملفّ الأرمني، والملفّ الكردي، والملفّ اليهودي.

بيد أنّ المشكلة الأكبر تمثلّت في بقاء الإمبراطورية الروسية بشعوبها المتعددة، ومناطق نفوذها الكثيرة في آسيا الوسطى وشرق أوروبا والبلطيق والقوقاز. فقد زالت القيصرية الروسية خلال الحرب عام 1917م. لكنّ الدولة الكبيرة لم تتفكّك بسبب استيلاء الماركسية اللينينية على مقدَّرات الإمبراطورية القيصرية، وحفاظها على تلك الإمبراطورية بالقوة والعنف تحت اسم الاتِّحاد السوفياتي؛ بحجة أنها وجدت حلاًّ أُمَمياً للمسألة القومية. وبذلك بقيت عشرات القوميات والإثنيات تحت السيطرة الروسية محرومةً من حقّ تقرير المصير النَظَري والعملي.

ولم تؤثر الحربُ العالميةُ الثانيةُ على البناء الروسي/ السوفياتي، بل زادتْه قوةً وامتداداً، لأن روسيا كانت من ضمن الدول التي تحالفت ضدّ هتلر والنازية والفاشية الإيطالية والصعود الياباني. وفي نهاية الحرب العالمية الثانية وبين 1943 و1945م عقد الحلفاء عدة مؤتمرات أعادوا فيها تقسيمَ العالَم، فسيطر الروس على نصف القارة الأوروبية، والأميركيون على النصف الآخر. وعندما نشبت الحربُ الباردةُ بعد العام 1947م ظهر بالتدريج حلفا الأطلسي ووارسو. أمّا الأطلسي فيتكون من دول- أوروبية في الغالب- مستقلة لكنْ داخلة في التحالف الذي تتزعمه الولايات المتحدة. وأمّا حلف وارسو فَأَمَّنَ للروس إطاراً لدولٍ مستقلّةٍ لكنْ تابعة لموسكو، بالإضافة إلى الشعوب والأقاليم الموروثة من القيصرية الروسية، والتي اعتبرها الروس جزءًا أصيلاً من دولتهم.

2

انصبَّ الصراعُ في الحرب الباردة (1950-1990م) على ملفَّين رئيسيَّين تسلّمت الولاياتُ المتحدةُ أحدَهُما، وتسلّم الاتِّحاد السوفياتي الملفَّ الآخَر. قاد الاتِّحاد السوفياتي ملفَّ التحرُّر من الاستعمار في آسيا وإفريقيا. وقادت الولايات المتحدة ملفَّ الحرية وحقّ تقرير المصير للإثنيات والقوميات. وحقّق الاتِّحاد السوفياتي حتى السبعينات من القرن العشرين نجاحاتٍ كبرى في مسألة التحرر من الاستعمار، فظهرت عشرات الدول المستقلة في القارتين القديمتين وانضمت للأُمم المتحدة، وشكّلت جبهة دعايةٍ ضد الولايات المتحدة وحلفائها. بيد أن التلاقي بين القوتين الأعظَم لم يكن ممكناً إلاّ على مشروعين اثنين: التخلُّص من السيطرة البيضاء في إفريقيا السوداء (جنوب إفريقيا وروديسيا على الخصوص)، وإقامة الدولة اليهودية في فلسطين. في جنوب إفريقيا وروديسيا ما أمكن للتحالُف الغربي الداعي للمساواة بين البشر، والقائل بالحرية، أن يظلَّ داعماً للسيطرة الأقلوية البيضاء،وبخاصةٍ بعد صعود نفوذ الأقلية السوداء بالولايات المتحدة. وفي فلسطين، اتفقت القوتان الأعظَم على إيجاد دولة لليهود على أرض فلسطين لإنهاء المأساة التي تسببتْ بِها العنصرية النازيّة. وبذلك حدث أمران: صار مستحيلاً إقامة الدولة القومية العربية، وتهجَّر مئات الآلاف من الشعب الفلسطيني.

وحدث أمرٌ ثالث خلال الحرب الباردة أيضاً: تجمدت كلُّ الصراعات داخل القارة الأوروبية (وبخاصة في البلقان والقوقاز وشرق أوروبا) للخوف من الاشتباك النووي، وللإصرار الروسي على عدم تغيير الحدود الإمبراطورية السابقة رغم كلّ شيء. ويضافُ إلى ذلك أنّ الغربيين ما كانوا مقتنعين بإمكان إيجاد دويلةٍ لكلِّ إثنية في البلقان المضطرب وجواره منذ القرن السابع عشر. وهكذا فقد كان من مفاعيل (التوازُن) الجديد القائم على قطبين فرض استقرار شبه كامل في أوروبا وإن يكن مؤقَّتاً، واستمرار الاضطراب المنضبط في قارتي آسيا وإفريقيا. مع بقاء الفكرتين الرئيسيتين على قيد الحياة: فكرة حق كلّ قومية أو إثنية في إقامة دولة من طريق تقرير المصير، وحقّ البشر أفراداً وجماعاتٍ في الكفاية والحرية.

3

كانت أواسطُ السبعينات من القرن الماضي الحدَّ الفاصلَ بالنسبة لهذا النظام نجاحاً وفَشَلاً. فحتى ذلك الحين استطاع الاتِّحاد السوفيتي الاحتفاظ بكلّ الإمبراطورية الروسية التاريخية، وأضاف إليها دولاً كثيرةً تابعةً في شرق أوروبا والبلطيق والقوقاز. وأمكن جَمْعُ الجزء الأوسط من البلقان تحت إمرة صربيا السُلافية من ضمن الاتِّحاد اليوغوسلافي. وحدث الخَلَلُ بالتدريج من خلال عدة عوامل: فشل الروس في إدارة الإمبراطورية والحلف، وازدهار فكرة الحرية بسب نجاح تجربة أوروبا الغربية تحت المظلة الأميركية،ودخول الدين عاملاً جدياً إضافةً للحساسيات الإثنية، وصعود اليمين الجديد في الولايات المتحدة والمؤمن بإمكان دَحْر الاتِّحاد السوفيتي من عدة طُرُق: التحريض من أجل الحرية، ونُصرة القوميات الخاضعة للروس، وإدخال الدين عنصراً في الصراع، وفرض سِياق تَسَلُّح على السوفيات.

وبدأت تلك الخطوات جميعاً عام 1979/1980م. ففي ذلك العام الفاصل وصل إلى كرسي البابوية يوحنا بولس الثاني وهو من أصل بولندي فرفع شعارَ الإيمان والحرية، وعلى أثر ذلك اندلعت الاضطرابات العمالية من خلال نقابة التضامن بغدانسك ببولندا التي دعمها البابا باسم الشعارين. وفي ذلك العام أيضاً وصل إلى كرسيّ الرئاسة بالولايات المتحدة رونالد ريغان اليميني الجديد، الذي رفع أيضاً وباسم الإنجيليين الجدد والليبراليين الجدد شعار الإيمان والحرية، وفرض (حرب النجوم)، معلناً المُضيَّ في الصراع إلى نهايته مع إمبراطورية الشرّ (=الاتِّحاد السوفياتي). وأخطأ الروسُ حينها في فهم هذه الإشارات فتدخلوا عسكرياً في أفغانستان لنُصرة الانقلابيين الشيوعيين هناك. فردَّ الأميركيون بجمع (مجاهدين) مسلمين من سائر أنحاء العالَم لمقاتلة السوفيات الكفَرة وإخراجهم من أفغانستان المسلمة. وهكذا في أواسط الثمانينات من القرن العشرين كانت ثلاثة ديانات كبرى تخوض حرباًَ ضد السوفيات: العرب والمسلمون المتحولون عن الروس، والذي مضى شبابُهُم للقتال بأفغانستان تحت قيادة الولايات المتحدة، والكاثوليك بزعامة البابا والذين تمردوا ببولندا وزعزعوا أُسُسَ السيطرة الروسية بشرق أوروبا. والإنجيليون الجدد الذين سيطروا في إدارة ريغان بالإصرار على خوض سباق التسلُّح، وعلى نصرة التمردات على السوفيت وعلى مكافحة نفوذهم في كلّ مكان. في العام 1986م، وعلى مشارف الغلاسنوست، حركة الانفتاح التي قام بِها غورباتشوف في محاولةٍ لإنقاذ النظام الشيوعي، مات الماريشال تيتو زعيم يوغوسلافيا، فسارع الصرب للاستئثار بالسلطة وحدهم بالتدريج، مما سرَّع في عملية تفكُّك الاتِّحاد اليوغوسلافي إلى عناصره الأولية.

4

وفي النهاية، وعلى مشارف التسعينات تفكَّك الاتِّحاد السوفيتي بالفعل، تحت وقع الضغوط الخارجية من جهة، والفشل في الإدارة الداخلية من جهةٍ ثانية. وبنتيجة ذلك حَدثَ ما يلي:

1- استقلت ستّ قوميات إسلامية في آسيا الوسطى كانت جمهوريات ذات حكم ذاتي ضمن الاتِّحاد السوفيتي، وهي أجزاء من الإمبراطورية القيصرية القديمة.

2- وإلى جانب عودة آسيا الوسطى للظهور في شكل دول قومية،ظهرت شرق أوروبا والقوقاز والبلطيق. والدولُ هذه هي في الأصل خليط من الإمبراطورية القديمة، ومن نتائج الفوز في الحرب العالمية الثانية: جورجيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء، ودويلات البلطيق الثلاث.

3- تفكك حلف وارسو على وقْع انفصال بولندا ثم بقية الدول الداخلة فيه.

4- وفي التسعينات نشبت الحروب بين الصرب من جهة، والقوميات التي كانت داخلةًَ في الاتِّحاد اليوغوسلافي. ولم يصارع الصرب كما صارعوا للاحتفاظ بالبوسنة والهرسك من جهة، وكوسوفا من جهة ثانية. ولذا حدثت مذابح ذهب ضحيتها عشراتُ الأُلوف، وتهجر الناسُ بالملايين، وفي النهاية لم يبقى أحد داخل الاتِّحاد اليوغوسلافي غير صربيا؛ بما في ذلك القوميات القريبة من الصرب مثل الجبل الأسود.

وأعلنت الولاياتُ المتحدة عن قيام نظامٍ دوليٍ جديد. لكنها بالمقابل لم تتخلّ عن حلف الأطلسي. ثم إنها انصرفت إلى إحلال سيطرتها محلَّ السيطرة الروسية في البلقان وشرق أوروبا والبلطيق. وذلك خلال سنوات الفوضى التي حلّت بروسيا والتي لم تستطع بالتحكم بزِمام النظام بداخلها إلاّ بعد العام 1998م.

والواقع أنّ هذه الظواهر عَنَتْ انهيار الإمبراطورية الروسية متأخّرةً سبعين عاماً عن الإمبراطوريتين الأُخريين العثمانية والنمساوية. كما عنت أيضاً زوال أكثر مكاسب الحرب العالمية الثانية التي حققتْها روسيا بتضحيات كبيرة.

ومن جهة ثانيةٍ ظهور العاملين القديمين من جديد في السياسات الدولية: العامل القومي والإثني، والعامل الديني. وقد التقى العاملان في ملفّ مثل الملفّ البولندي (= قومية+ كاثوليك)، وافترقا في ملفاتٍ أُخرى صراعية؛ مثل التنافُس بين الكاثوليك والبروتستانت على الدول الجديدة وهويتها الدينية والثقافية، ومثل تقدم البروتستانت في المجال الكاثوليكي في أميركا اللاتينية، وتقدم الكاثوليك على حساب الأرثوذكس في شرق أوروبا والبلقان، وتقدم الإسلام في أوروبا الغربية والوسطى من طريق الجاليات المُهاجرة، وتصاعُد الحساسيات الدينية والقومية بأوروبا ضد الإسلام والمسلمين.

وفي العامين 2007و2008م تقدمت عدةُ ظواهر:

1- استمرار التبلور القومي/الديني في البلقان والقوقاز من طريق : ظهور دولة البوسنة/الهرسك الاتِّحادية.

2- استقلال كوسوفا.

3- وأخيراً تعرُّض الروس لجورجيا بحجة حماية إثنيتي الأبخاز والأوسيت الصغيرتين، ولمنع الجورجيين والأوكرانين من الدخول في الحلف الأطلسي، ومنع الولايات المتحدة من نصب صورايخ في بولندا وتشيخيا.

والمُلاحظ في أوروبا إنّ الظاهرة القومية تختلط بالظاهرة الدينية، مع بروز الظاهرة الإثنية أكثر. في حين تظهر حيوية ٌ دينيةٌ قويةٌ ضمن الإسلام والبروتستانتية خارج أوروبا. وتتراوح الهندوسية والبوذية بين الأمرين.

ويختلف الباحثون في أسباب هذا الاضطراب، هل كان ذلك بسبب الاختلاط الذي أحدثتْه العولمة؟ أم بسبب انهيار الاتِّحاد السوفيتي؟ أم بسبب ثوران الأديان ومنها الإسلام؟ والواقع أنّ هذه الأسبابَ كلَّها ظاهرة، ويصعُبُ تقديمُ عاملٍ على آخَر. وإنما يحسُنُ في هذه الخاتمة تقديم ثلاث ملاحظات: أنّ القوميات والإثنيات ما كانت لتُصبح مشكلةً الآن لولا سقوط الاتِّحاد السوفيتي، وسقوط يوغوسلافيا. وأنّ الصراع الدولي (بين الروس والأميركيين) هو الذي شجَّع الإثنيات والقوميات على الثَوَران وأَيقظ آمالها. والثالثة أنه لا بد من ضبط الثوران الإثني والديني بالعودة لتقوية فكرة الدولة، وإلى فعالية النظام الدولي من خلال المؤسسات الدولية، أو يتشرذم العالم إلى ما لا نهاية نحو مجتمع القبليات.

*******************

*) رئيس المجلة.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=549

الأكثر مشاركة في الفيس بوك