البنيّة السّجاليّة في فنّ الرّواية
كه يلان مُحمد
يحدّدُ ميلان كونديرا أخلاقيّة الرّواية بما يكشفه هذا الفنُّ جانباً من الوجود الّذي ظلَّ مجهولاً ما يعني أنَّ النّص الرّوائي يتقاطعُ في وظيفته الإستكشافيّة مع الفلسفة وذلك بإثارة مزيد من الأسئلة عن معطيات الواقع والإبانة عن الهواجس بشأن المستقبل والمصير ولا يقف فنّ الرّواية عند حدود ما هو موجود بشكله المعهود في الحياة إنّما يبحثُ عمّا هو منسيُّ أو واقع في طبقات سحيقة كما الفلسفة ينحتُ إفتراضاته حول الإشكاليات الوجوديّة مع فرق أنّ في الرّواية يتمّ إيجاد التّوازن بين العناصر الفنيّة والقيم الفكريّة المبثوثة في طيّات العمل لأنَّ الفكرة في العمل الرّوائيّ لا تعوّض المستوى الفنّي أكثر من ذلك لا يتجاهل الرّوائي عنصر السّخريّة في حياكة قماشة النّص وهذا ما يبعدهُ عن شرك التّجريد يذكر أنَّ السّخريّة لا تناقض المنهج الفلسفي هي نوع من التّفلسف على حدّ قول باسكال ومن المعلوم بأنَّ النّبرة السّاخرة تضفي مزيدا من المرح إلى النّص وبذلك تصبحُ الأفكار العائمة في وعائه مسوّغةً أكثر. تتنوعُّ التّقنيات المطوّعة لمناقشة الأفكار في سياق الرّواية إذ قد تكون الشّخصيّة الرّوائيّة مكفولةً بإجلاء مضامين النّص من خلال الرّحلة والتّنقل بين الأمكنة مثلما توجدُ هذه النّماذج في الرّوايات العربيّة والعالميّة ولعلًّ الإشارة إلى تجربة باولو كويلو في “الخيمائي” و”إحدى عشرة دقيقة” تكفي مثالاً لرمزيّة الرّحلة ودلالتها الفكريّة كما سلك عددُ من الرّوائيين العرب المنحى نفسه في بناء أعمالهم خصوصاً فيما نشر عن الإرهاب والهجرة القسريّة واللاّهوت حيثُ تكونُ الشّخصيّة الرّوائيّة في مرآة تنعكسُ فيها صورة الواقعين المتضادّين. في حين تقعُ على تجارب أخرى تطمحُ إلى التّغلغل إلى نخاع القيم والإشكاليات إذ تُطلقُ الفرضيات في إطار الأسئلة الجوهريّة كما يحلو ذلك للكاتب البرتغاليّ “جوزيه ساراماغو” الّذي تتكيءُ أعماله الرّوائيّة على البنيّة السّجاليّة بحيثُ يكونُ الحدثُ عاملاً لمُساءلة المسلّمات. وتنزلُ روايات الكاتب الفرنسيّ إريك إيمانويل شميت أيضاً في تخوم الفكر والفلسفة.
غرائبيّة
لا تستمدُّ نصوص ساراماغو أجواءها الغرائبيّة من الإثارة أو من اللاّمعقول بقدر ما يعتمدُ على اللّعبة الذّهنيّة فيضعُ القاريءَ في مستهلّ روايته “إنقطاعات الموت” أمام فرضيّة توقّف آلة الموت ويريدُ المؤلّف بذلك فتح الكوّة على ما لم يكن موضع اهتمام الإنسان صحيح أنَّ حلم الخلود قد راود هذا الكائن الفريد ولايزالُ يبحثُ عمّا يؤجلُ به القدر المحتوم غير أنَّ اللاّمفكر فيه ضمن مسعاه الدّؤوب هو ما يستتبعُ الخلودَ من المعضلات الجديدة عندما يتحوّلُ الجسد إلى حطام ولا يربطهُ بالحياة سوى خيط أنفاس ثقيلة ومن ثمَّ تبدأُ أعراض جائحة الخلود بالظّهور على مناحي الحياة الإجتماعيّة والإقتصاديّة والرّوحيّة إذ تتضاعف كلفة مصاريف خدمات الرّعاية وتفسدُ العواطفُ والمشاعر الأسريّة مثلما يتناولُ صاحب “الأعمي” كلّ ذلك في سرده المطعم بعنصر تراجيدكوميديا في مفاصل روايته إذ تشهدُ سوقُ المشتغلين في المآتم والدّفن ركوداً بعد وقف التّموين بالموتي ولا يخفّفُ إصدار قرار رسميّ ينصُّ على دفن الحيوانات الأليفة من معاناة الوكالات الجنائزيّة وجهر القائمون على بيوت الأفول السّعيدة بأنَّ الموتَ أفضل معلنة عن تضييق خناقها بالوافدين الجدد كما المستشفيات تكتظُّ بمن يتأرجح في البرزخ لا يموت ولا يحي ويتحسّر البعضُ بأنَّه لن يلتقي بمن سبقه إلى العالم الآخر كحال السّيدة المترمّلة الّتى وجدت عوضاً لمسرات اللّقاء في التّلويح بعلم الوطن ويحاكيها في ذلك بنو جنسها بكلّ مناطق البلاد ويكشفُ هذا التّفصيل ذكاء ساراماغو في التقاط ما يعبّرُ عن الحاجة لإستعادة التّوازن وصرف الإنفعال سواء في المحن أو في المسرّات حيثُ تكونُ للرّموز قيمةُ. وما أن يعود الموت إلى عمله الأزليّ حتّى ترفرفُ راية الوطن من جديد على مشارف البيوت. ملمح آخر من الرّواية هو ما يرافق انقطاع الموت من تجارة تهريب المحتضرين إلى بلد مجاور لما يسمّيه الكاتب بمملكة الدّورادو فهناك يتعافى سجينُ الجسد المتهالك من داء الخلود وهذا ما يوفّر بيئة مناسبة لنشاط جماعات تزاحم الحكومة في السّيادة على البلد. الأمر الّذي يسبّب المشاحنات على انتهاك الحدود بين البلدان المتجاورة ماذا عن وظيفة الفلسفة عندما يتوقّف الموتُ ألم يكن التّفلسفُ تحضيراً للموت؟ هل يصادفُ الفلاسفةُ من يستمعُ إلى مقولاتهم؟ هنا تكونُ رؤية ساراماغو مُتطابقةً مع شوبنهاور الّذي علّل ظهور الفلسفة والدّين بوجود الموت فمن الطّبيعيّ أن يخسرَ الأكليروس والفلاسفة دورهم حين ينتهي الخوف من الموت. يصعدُ ساراماغو بالمستوى الغرائبيّ إلى أقصاه وذلك يتمُّ مع عودة الموت إذ يشهدُ البلدُ أزمةَ تراكم الأموات وما يطولُ الوقت حتّى يبدأُ الموتُ بإرسال مغلّف بنفسجي قبل أن يأتي أجله بأسبوع هكذا ينتظمُ أمر الموت مع فرائسه إلى أن يتعثّر وصول مغلّف إلى عازف الفيولونسيل تخطيء الرّسالةُ هدفها ثلاث مرّات لذا بعدما يناقشُ الموتُ مع المنجل تعثر الرّسالة يقتنع بضرورة مواجهة الموقف بنفسه إذ يتقمّصُ شخصيّة امرأة حسناء وتحضر في عرض موسيقي يشاركُ فيه العازفُ وهي تترصّدُ بالأخير ومن ثمَّ تنجحُ في إيجاد قناة التّواصل معه ويدور نقاش ساخن بين الإثنين ما يشغلُ تفكير الموسيقيّ وتصبح المرأةُ لغزاً بالنّسبة إليه والغريب في الأمر يقع في شرك حبّها ويبوحُ لها بمكنون الفؤاد ويجمعهما سرير واحدُ هنا يعلّقُ الرّاوي العليم الّذي يتابعُ تطوّرات الموقف قائلاً بأنَّ النّوم قد داهم الموت الّذي لا ينام أبدا وعندما ينبلجُ الصّبح لا يموت أحدُ طبعاً بعد انتهاء الرّواية تتّخذُ الفرضيات طريقها إلى ذهن القاريء ماذا أراد الكاتب من الجمع بين الموت والحبّ والخلود في سياق واحد هل نفهم ممّا يقصّه ساراماغو بأنَّ الحياة تحفل بألغاز وليس الموت إلاّ واحداً منها أو أنَّ من يعيشُ الحبَّ مرّة يقبل بالنّهاية دون التّعقيد أو ربّما يفهمُ ممّا أثّثه خيال الروائيّ بأنَّ الحبّ خدعة لا شكّ أنَّ أهميّة أيّ كاتب تكمن في قدرته على فتح حلقة الأسئلة المتتابعة لدى قارئه الأمر الّذي تفوّق فيه ساراماغو بإمتياز.
شخصيّة خارقة
بخلاف رواية “انقطاعات الموت” الّتي لا يكون حضورُ شخصياّتها إلّا باهتاً حيثُ تنهضُ الرّواية على مناقشة فرضيّة الخلود ويتكفّلُ الرّاوي العليم برصد التّحوّلات الّتي تمرُّ بها الحياةُ على إيقاع حضور الموت وغيابه فإنَّ الرّوائي الفرنسي “إيريك إيمانويل شميت” يوظّفُ شخصيات روايته المعنونة بـ”يرى من خلال الوجوه” لحفر في مسارب اللاّهوت والفلسفة والإشتغالات الإبداعيّة إذ تتوزّعُ الشّخصيات بين مستويين أوّلاً الشّخصيات الأداتيّة الّتي تكملُ إطار الرّواية مثل شخصيّة بيغارد صاحب صحيفة الغد وحسين البدوي الّذي يفجّرُ نفسهُ أمام كنيسة سان كريستوف وسط جمع من المشاركين في مراسيم التّشيع وتيرليتي وهو ضابط الشّرطة يقومُ بإجراء التّحقيق في حيثيات الحدث ومارك المفتّش بالمقابل ثمّةُ صنف آخر من الشّخصيات يؤسّسُ للبنية السّجاليّة في العمل ويكونُ الحدث منطلقاً لحراك فكري بين ثلاث شخصيات أساسيّة أوغسطين الّذي شاهد العمليّة الانتحاريّة وهو يمتلك قدرات خارقة يرى ما لا يراه الآخرون والقاضية بواترونو الّتي وهي مناوئة للأديان وينضمُّ المؤلّف إيريك إيمانويل شميت إلى الحلقة دون التّستر وراء أسماء مستعارة الأمر الّذي يذكرك بفرانسواز ساغان الّتي تدخلُ إلى حلبة السّرد في “جرح الروح” بوصفها شخصيّة روائيّة. بعدما يخرجُ أوغسطين من المستشفى ويعودُ إلى مقرّ الصّحيفة يبدي رغبته بإجراء الحوار مع مؤلّف “مسيو إبراهيم وأزهار القرآن” فينجحُ في هذه المهمّة إذ يؤكّدُ للمؤلّف بأنَّه قد قرأ مؤلّفاته ويذكر في هذا السّياق عناوين كتبه الإبداعيّة ومن ثمَّ يكتسي الجدل بين الإثنين طابعاً لاهوتياً وفلسفيا حول جذر العنف والرّسالات الدّينيّة والهدف من التّعدديّة الدّينيّة ويطال الحديثُ السّبب وراء الصّراع المحتدم بين أتباع الأديان. ويتمُّ ترويس المتن الرّوائي بنصوص دينيّة واللاّفتُ في هذا الإطار أنَّ شميت يزوّدُ أوغسطين بوصفة تمكّنه من لقاء الرّب هنا تتمُّ استعادة تاريخ الأديان والشّرائع الدّينيّة ويفصحُ أوغسطين عن شكوكه بشأن مفهوم الدّين ولا يختفي صوت إيريك إيمانويل شميت في خضم هذا الجدل إنّما يعلنُ عن رأيه باعتباره جزءاً من منظومة النّص الرّوائيّ. فهو يقول بأنَّ المتطرّف ليس لديه أسئلة بل الأجوبة فقط” مضيفاً بأنّ الإيمان المطلق لا يعبرُ عن الذّكاء. كما أنَّ الأزمة الرّوحيّة برأي شميت لن تحلّ إلّا روحياً زدْ إلى ما سبق فإنَّ الرّوائي ينتحل دور المحلّل النّفسي موضّحاً أنّ مصدر الخوف هو المجهول. يشار إلى أنَّ شميت نجح في تضييق المسافة بين النّص الروائيّ والمفاهيم الفلسفيّة واللاّهوتيّة من خلال بنية المدوّنة وتقنية ميتا النّص والتّطرق إلى العلاقة بين المبدع وتطوّر أساليبه الفنيّة قصارى القول فإنّ هذا النّص على رغم تجنيسه بمفردة الرّواية ضمن الحقل الأدبيّ يمكنك قراءته بوصفه مادة فلسفيّة ولاهوتيّة وفي ذلك يشترك شميت مع ساراماغو في تطويع الرّواية للحفر في تربة الفلسفة. ناهيك عن الملمح الفنتاستيكيّ في رواية الاثنين.