عنصر الماء بين المعتقدات الدينية والممارسات الاجتماعية في المجتمعات المغاربية
حسن حبران
على سبيل التقديم
ارتبط عنصر الماء بالعديد من الممارسات الدينية والديناميات الاجتماعية والثقافية، فهو يشكّل في الحياة اليومية أدوارا اجتماعية وثقافية ودينية؛ كالاعتقاد بقدسية بعض الينابيع والبحار والأنهار والمجاري المائية، وقام الإنسان بإنشاء هالة وقصص حول المياه، يقال عنها أسطورية وخرافية، كانت الغلبة لمن يمتلك الماء ويعمّر ضفاف الأنهار والأودية والمصبّات. كما تجاوز الإنسان هذا الأمر إلى أن أنشأ معبودات ومقدّسات على شكل أضرحة وآلهة تحرس الينابيع والمجاري المائية، واعتبرها هي المسؤولة عن الجفاف وسيادة الخير ولديها القدرة على زواج العوانس وشفاء المرضى وطرد الأرواح الشريرة التي قد يصاب بها الإنسان لسبب من الأسباب. ويُشكّل هذا الأمر صورة من العلاقات الرابطة بين عنصر الماء والممارسات الاجتماعية المتعددة. ومن أجل فهم وتحليل هذه الجدليّة الرابطة بينهما، كان لابدّ من الوقوف منهجيا عند ذاكرة الماء خاصة في الجانب الأنثروبولوجي والتاريخي على اعتبار أنّ العديد من الاكتشافات التاريخية والاهتمامات الأنثروبولوجية وغيرها من التخصصات، تؤكّد أنّ الإنسان لا يستقر في مكان ما، إلاّ إذا توفّر فيه شرط الماء، باعتباره عنصر إغراء للإنسان. فإلى أيّ حدّ يمكن الخوض في البعد التاريخي للماء خاصة في المجتمعات المغاربية؟ وما هي الصور والممارسات الاجتماعية التي يظهره فيها الماء، باعتباره عنصرا مقدّسا ورابطا بين العديد من المكوّنات؟ ثم ماهي طبيعة العلاقة الرابطة بين المعبودات الدينية المائية والممارسات الاجتماعية؟
للمساهمة في تعميق النقاش حول علاقة الماء بالممارسات الاجتماعية، ارتأينا أن يكون المدخل تاريخيا على اعتبار أنّ النقاش الدائر حول الماء ليس جديدا، بل تناولته العديد من التخصّصات والميادين البحثيّة، إلاّ أنّ ما يميّز هذه المساهمة هو الجمع بين ما تمّ تداوله في سياق نظري، وكذا تقديم المعطيات الميدانية التي سمحت لنا بعض المقابلات ــ كتقنية للبحث الكيفي ــ بِتَقَصِّيها.
لقد استندنا في هذه المساهمة إلى مصادر متنوّعة، منها المباشرة وغير المباشرة، كما تم الاستناد إلى الروايات الشفوية المتداولة حول عنصر الماء وعلاقته بالأبعاد الاجتماعية والمزارات والمعبودات الدينيّة.
تاريخ الماء في المجتمعات المغاربية
تمثّل المنطقة المغاربيّة البوّابة الغربيّة) للعالم العربي(، وتقع في شمال أفريقيا ممتدة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط حتى المحيط الأطلسي، وتدين غالبيّة سكّانها بالإسلام وتتعايش فيها أعراق وإثنيات عدّة، أهمها العرب والأمازيغ والزنوج. وتضمّ المنطقة المغاربية عدة دول هي المغرب والجزائر وتونس وليبيا وموريتانيا.
أمّا بخصوص عنصر الماء عند هذه المجتمعات، فقد شكّل عنصرا رابطا بين العديد من الثيمات الدينية والثقافية والاجتماعية، وقبل الخوض في هذا النقاش تستدعي الضرورة المنهجية الحديث عن هذا العنصر الذي شكّل منذ القديم موضوع نقاش تناولته مختلف التخصصات، وما يبرّر هذا الطرح هو تناوله من الزاوية الفلسفية مع الفلاسفة الطبيعيين ــ وربما قبلهم ــ خاصة مع طاليس، حينما اعتبر أنّ الماء أصل الكون، وأنّ النبات والحيوان يتغذّيان بالرطوبة، ومبدأ الرطوبة الماء، وبالتالي ما منه يتغذى الشيء، فهو يتكون منه بالضرورة، وقال إنّ الماء هو المادة الأولى والجوهر الأوحد الذي تتكوّن منه الأشياء، ومن قبل قالت أسطورة بابلية: "في البدء قبل أن تُسمّى السماء وأن يُعرف للأرض اسم كان المحيط وكان البحر. وقد استطاع الإنسان أن ينسج في مخياله الثقافي عبر التاريخ مجموعة من المعتقدات والقيم وآمن بالعادات والتقاليد والآلهة المرتبطة بالماء، ففي الميثولوجيا الرومانية كان الإله نبتون يدين بدعوته البحرية، إذ كان له الدور البارز في ترؤّس الأنهار والينابيع وكل المياه، وعادة ما يتم تمثيله، وهو يقف عارياً وله شعر"[1] كما يقابله الإله "بوسيدون" في الميثولوجيا اليونانية.
وعليه، حظي موضوع الماء ولايزال باهتمام العديد من النقاشات الفلسفة والأنطوبولوجية والتاريخية والجغرافية...، كلّ من الزاوية التي ينطلق منها، لتحليل ودراسة موضوع الماء بشكل عام، وكيفية تدبيره بشكل خاص، والانعكاسات الثقافية لهذا العنصر. ونلاحظ من خلال الدراسات السابقة، أنّ العديد من الشعوب القديمة قدّست عنصر الماء، وربطته بمجموعة من الأساطير، وامتد ذلك إلى الكتب السماوية التي منحت الماء دائما مقاما مقدّسا ومدنّسا في الآن ذاته، وأعطت له قيمة في الربط بينه وبين الأرض في مختلف الأساطير التي نسجها الإنسان حول نشوء الكون وولادة العالم (الأساطير النشوئية)، ثم الحياة والعقاب والإيمان "ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة، أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، قالوا: إن الله حرمهما على الكافرين" (الأعراف، 50)، "وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون" (الأنبياء، 30). وقد جاء في سفر التكوين[2] "في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت الأرض خربة وخالية، وعلى وجه الغمر ظلمة وروح الله يرف على وجه المياه (...)، وقال الله ليكن جلد في وسط المياه وليكن فاصلا بين المياه والمياه"[3]. أمّا في شمال أفريقيا عامة، فتشهد أسطورة "تسليت ن نزار" (تعني بالأمازيغية عروسة المطر) أو "عتي أونزار" (بمعنى عمّت المطر) على قداسة الماء، من خلال علاقتها الحميمة بالأرض. وتتمثل الممارسات الاجتماعية "لتسليت ن اونزار" أو طقس تلغنجا – "تاغنجا" في التطواف بمغرفة "أغنجا" مكسوّة بزيّ عروس تيسليت في موكب تشارك فيه النساء والأطفال، يردّدون الأهازيج والأدعية، ويطوفون عبر الدواوير والقرى والأضرحة. وفي الطريق يتم رش الدمية بالماء من أعالي البيوت، خصوصا من قبل السكان، ويتم تحصيل واستسلام العطايا والصدقات من الأهالي[4].
لكن في حقيقة الأمر، هذه الممارسات ليست الوحيدة الدالة على تقديس الماء، إذ نجد حوريات متعدّدة في بعض النقائش اللاتينية، والكتابات الرومانية على عبادتها بالمغرب قبل وأثناء الاحتلال الروماني، وهي مخلوقات أسطورية مؤنّثة ارتبطت بالمياه العذبة والحمامات والمياه الساخنة، ويفترض العديد من الباحثين، سيرا على منوال المدرسة الأنثروبولوجية الفرنسية، استمرار تقديسها من خلال خلق شخصية شبيهة بها، وهي "عيشة قنديشة"، في حين ظل الماء حاضرا في عهد الفراعنة خاصة عندما بنوا أوّل خزان مائي في التاريخ (في عهد أمنحتب الثالث)، واستخدموا أدوات رفع المياه كالشادوف والساقية، كما أنّ للبابليّين دورا مهمّا في ظهور أول نص قانوني مكتوب ينظّم استعمال المياه، إذ ورد في شريعة حمورابي النص التالي: "إنّ الماء يستعمل بالدرجة الأولى لشرب الإنسان والحيوان، والاستعمال المنزلي، ثم الريّ والملاحة"[5] بالرغم من أنّ الأمر يطرح مسألة إذا ما كانت هناك محاولات لجلب المياه وصياغة أعراف تنظّم تدبير الموارد المائية قبل الفراعنة والبابليين.
تؤكد الأهمية التي تكتسبها المياه بالنسبة إلى حياة الإنسان والنبات والحيوان، أنّه شكّل موضوع عبادة وقداسة. ويكون الأمر طبيعيا أكثر في المجتمعات المغاربية أو شمال إفريقيا عامة الذي يغلب على مناخه الجفاف في كثير من الأحيان، حيث تصبح المياه غير كافية أو نادرة على اعتبار أنّ هذه المجتمعات هي مجتمعات الندرة بامتياز، رغم بعض التغيّرات المناخية التي يشهدها العالم اليوم، أو على اعتبار الماء من الموارد الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها، إذ ترتبط بالعديد من الأنشطة التي يمارسها الإنسان بهذه المناطق، سواء في استقراره أو ترحاله. فإلى جانب نقاط الماء هناك مجموعات بشرية تشكّلت بفضل إغراءات ذات الموارد المائية، وامتدت في غالب الأحيان بين العالية أي منبع المياه وصولا إلى السافلة؛ أي مصب المياه. والملاحظ أنّ المجتمعات التي كانت تقطن العالية خاصة في العديد من واحات الجنوب الشرقي، كانت ذات نفوذ سياسي وسلطة سياسية، في حين ظلّت السافلة في يد المستضعفين. هذه الأمر وغيره في منظورنا هو الذي أعطى للماء قيمة مقدّسة منذ عصور غابرة، وأصبح الإنسان المغاربي يعبّر عن حاجته إليه واستدراره بطرق مختلفة إلى حدود أنّه يوصف في بعض الواحات بالوقود الذي يحرّك الواحة.
غير أنّ الماء بقدر ما كان عامل استقرار، كان أيضا وراء العديد من المشاكل بين مختلف عناصر القبيلة المكوّنة للواحة، خصوصا عندما تشتد الحاجة إليه. غير أنّ المستعملين له استطاعوا تجاوز الخلافات المائية، بفضل اقتناعهم واعترافهم بأنّ الماء حق مشترك، يجب تدبيره بشكل يراعي حقوق المستفيدين[6] في حين ظلّت الحاجة إلى موضوع تقديس يسير نحو فهم (تأويلي) أو ثقافي، بمعنى تلك الوسيلة للتعبير والإشباع لأرقى حاجيات الإنسان وتتمثل في مظاهرها العليا في الذوق والفن والوجدان، على اعتبار أنّها (أي الثقافة) هي استجابة لحاجات بيولوجية صرف، فكلّ حاجة أولية استجابة ثقافية[7]، ذلك أنّ الثقافة لا تهتم فقط بكيفيّة تصرف الانسان وإنما بكيفيّة نظره إلى الأشياء. وقد قامت كتابات "مالينوفسكي" على الدراسات الميدانية، ليخلص بأنّ النشاطات أو الأنشطة الإنسانية وإن كانت يغطّيها جزء من العاطفة والتصوف والسحر والأساطير، فإنّها تخدم الحياة اليومية للإنسان، فبها يحيا ويعيش، بل إنّ غريتز ذهب إلى القول إنّ عددا كبيرا من رجال الدين اعتنقوا الدين لهذا الغرض[8]. كما أنّ هناك علاقة رابطة بين الماء الأرض أساسها السلطة السياسة بين العديد من الإثنيات المشكّلة لهذه البنية الاجتماعية، خاصة عند "الشيوخ" (كبار السن) الذين يرفضون بيع الأراضي مهما كان الثمن باهظا. وهذا الفهم هو ما يدفعنا للقول إنّ "الأرض تمثل القيمة الأكثر أهمية على المستوى الاجتماعي، لأنّها مصدر ترسيخ الهوية القبلية بالنسبة إلى الأشخاص والجماعات على حد سواء. وبناء عليه، فالإحالة دائما تكون على الأرض والتراب كمبدأ أساسي ومهيمن يحتوي القرابة"[9]
لذا يشكّل تقديس الماء لدى هذه المجتمعات حاجة من الحاجات الأولية للإنسان، ثم إنّ نسج مفاهيم القداسة المرتبطة بالماء لا تأتي عبثا، بل هي بناء اجتماعي ونظرة الإنسان إلى المحيط أو المجال الذي يعيش فيه، لكي ينتج مفاهيم ورموزا ثقافية مرتبطة بذات المجال، وبالتالي نكون في نقاش أنثروبولوجي تماما كما تناوله "كليفورد غيرتز"[10] من خلال نظرة الناس للعالم الذي يعيشون فيه، وتأويل الثقافات للوقوف على البعد الرمزي المعبّر عن تشكّل الوعي والممارسات الدينية، والدور الكبير الذي تلعبه المعاني في بناء المعرفة الأنثروبولوجية بالدين. لذلك، فإنّ التعريف الذي يقترحه "غيرتز" للدين باعتباره "نظاما من الرموز يعمل من أجل إقامة حالات نفسية وحوافز كلية ودائمة في الناس عن طريق صياغة مفاهيم عن النظام العام للوجود، وإضفاء هالة من الواقعية على هذه المفهومات، حيث تبدو الحالات النفسية والحوافز واقعية بشكل فريد"[11].
وعلى الرغم من قلة المعطيات الأثرية في مختلف مناطق المغرب الكبير، تقدّم لنا الأركيولوحيا في هذا المجال أدلة عديدة حول أشكال استمرار هذا التقليد في العبادة، منها ما عثر عليه "بيكارد" في وسط الحصن الروماني بموقع "مسعد" الأثري، وهي عبارة عن دمية تشخّص صاحب الملعقة "بو غنجة" وأسطورته الشعبية التي تتعلق بطلب نزول المطر بالمنطقة، داخل بئر في أسفله بناء خاص بالتعبّد تابع لجيش المعسكرات الرومانية، كما يوجد محارب يغطّي البئر العتيق، ويدلّ ضيق المدخل وعزلة البئر في عمق الأرض على الاعتقاد بأنّه كان يستخدم لممارسة عبادات ذات طبيعة أسطورية[12]. كما أنّ هناك حضورا قويّا لذات الطقس في الجزائر، حيث نجد في المناطق الغربية بأنّ الأطفال يرددون أنشوردة "غنجة" في شوارع القرية أو الحيّ، عندما تنقطع الأمطار ويسود الجفاف، وهم يحملون ملعقة كبيرة يلبسونها ألبسة جميلة، فتصبح على شكل دمية يرفعونها إلى أعلى وهم يسيرون بين الشوارع، ويقومون بجمع الموارد الغذائية لتحضير وجبة بعد نهاية الدورة ويأكل الجميع[13] ثم إنّ هناك العديد من المؤشرات الأثرية التي توحي بنوعية هذه العلاقة التي يمكن تصنيفها إلى:
- إسهامات البحر في صناعة وتكوين كهوف لجأ إليها الإنسان القديم
- البحر كمصدر للقوت اليومي
- منتوجات البحر كأدوات للزخرفة
- تنقّلات الإنسان عبر البحر[14]
يقدّم أندريه لالاند في معجمه الفلسفي تحديدا فلسفيا للجسد بأنّه "كل عرض مادي يكوّنه إدراكنا أية مجموعة كيفيات نتمثلها مستقرة أو مستقلة عنا، وواقعة في مكان، من خواصها الأساسية المدى الثلاثي الأبعاد. ومع اللغة والتفكير العفوي يجب تمييز الظواهر المدركة للأجسام بالمعنى الحقيقي من زاوية يجري تصوّر الجسم، كأنّه مجموعة طبيعية من الظواهر المرتبطة والمتكاملة ومجمع الأشياء التي يوفّرها الإدراك."[15]
ويتأسّس الحقل الدلالي الفلسفي الذي يمكن البحث ضمنه عن تحديد لمفهوم الجسد على التصور الفلسفي للإنسان في نطاق ثنائية الجسد والروح؛ أي باعتباره ذاتا تعي وجودها وحريتها، وإرادتها ومسؤوليتها، وتدرك بالتالي ما هو ثابت في وجودها ذاك، ممّا يجعل منها ذاتا مجرّدة. ومن ثم تكون الروح هي الجوهر الداخلي والماهية، في حين يصبح الجسد ذلك المظهر أو التعبير الخارجي عن حقيقة الشخص وأصالته.
أمّا السوسيولوجيا، فترى أنّ الجسد علامة داخل نسق رمزي معيّن يشير إلى انتمائه لوضع نموذج اجتماعي معين، والقصد من ذلك تسليط الضوء على جوانب متعددة من انبهاره بالتنظيم الاجتماعي وخضوعه للأيديولوجيا المهيمنة الهادفة للإنتاج وإعادة الإنتاج. وفضلا عن ذلك، اهتمت السوسيولوجيا بأوضاع تتعلق بالجسد، من قبيل أشكال الخطاب والطقوس وطرائق الأكل والشرب والإيماءات والرقص والاغتسال، وغيرها من الحركات التي تميز انتماء الإنسان الاجتماعي والإثني. هذا الأمر جعل الجسد في ظل السوسيولوجيا، مزيجا من العلاقات والرموز والتنظيمات والأساطير وغيرها من العلاقة التي تربط بين الجسد والماء خاصة في إطار الرمزية التي يتحول فيها الماء إلى عنصر تطهير.
فالماء الطهور يغسل الخطايا ويطهّر الجسد والروح أيضا[16]، فالمياه المقدّسة تشفي وتظهر الجسد في نفس الوقت؛ أي إنّ لهذا العنصر وظيفتين؛ الأولى تتجلى في الشفاء الداخلي من الأمراض التي قد تصيب الإنسان، ولا يتحقق ذلك من الزاوية الاجتماعية والدينية إلا بشرطين هما حسن النية والدعاء لله كما يقال عند شرب ماء زم زم، "اللهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء"، في حين نجد العنصر الثاني يتجلى في الطهارة، وهو مرتبط بالجسد ظاهريا، إذ لا يصير الجسد طاهرا إلا بالاغتسال من الدنس والأوساخ، أو الطهارة بالتراب في حالة عدم توفّر الماء، إذ نجد في هذا السياق بالذات بعض (الأحاديث) التي تم تداولها أو نٌسبت إلى النبيّ محمّد كالطهارة بالماء والثلج والبرد. كما نجد الحمّام، باعتباره فضاء لاستعمال الماء يتداخل فيه المقدّس بالمدنّس، يحظى بإجماع كبير على النصح بارتياده لما يوفره من ميزات تتعلق بالجسد والاسترخاء والعلاج. وهناك اعتقاد يملك دواعي حقيقية، يعتبر أنّ الحمّام من أنجع وسائل العلاج، فهو في ذات الوقت وقائي وشفائي، وذو أفضلية على فصاد الحجامة ومكمِّل بشكل تام لطب التداوي بالأعشاب القديم والمتقن. إنّه "طبيب أبكم" كما تقول الحكاية التونسية[17]، ثم إنّ الماء يقدّم نفسه رمزا طبيعيا للنقاوة، فيعطي معاني دقيقة لعلم نفس تطهير مطنب[18].وهذا الأمر يدفعنا إلى القولإنّالطهارةوالنجاسةطرفانقيضلمدلولاتجسديةموحىبهادينيّا، كماتشيرإلىذلكالنصوصالإلهيةالمقدّسة.
وتُقابل فكرتا الطهارة والنجاسة في عالم الإنسان فكرتي النظافة والقذارة اللتيْن تعبّران عن أوضاع جسدية، "فالاغتسال قبل الصلاة طهارة وبعد المجهود العضلي نظافة، ويبقى الاغتسال اغتسالا. وبغض النظر عن مدى الأوضاع الذاتية التي تعكسها كلتا الكلمتين، لا يمكن إدراك مفهوم النظافة والنجاسة، إلا بالحس المباشر والإدراك بالعيان ورؤية ما توحي به المظاهر الجسدية[19]"، كما أنّ الطهارة نوع خاص من النظافة - نظافة سماوية إلهية مقدّسة تفرضها الشرائع وترعاها الأديان، والنجاسة على العكس من ذلك، نوع خاص من القذارة التي تحرّمها الأديان، وتدعو إلى تجنّب ممارستها[20].
أمّا بخصوص الديانة اليهودية، فهي الأخرى ربطت الماء بالطهارة وغسل الخطايا، وهذا ما عبّرت عنه قصة نوح في سفر التكوين "أنّ الله أرسل المطر أربعين يوما وليلة ليغسل الأرض من خطايا البشر"[21]؛ ما يعني أنّ الشريعة اليهودية قد استخدمت الماء في طقوس التنظيف؛ أي تنظيف كل من على الأرض من دواب وأرض وكائنات حية، حتى يبقى اليهودي دائم الارتباط بالله القدّوس، وبالتالي يكون منفصلا بشكل كامل عن النجاسة؛ فالنجاسة في اعتقادهم هي السبب في الانفصال عن الله. وليس من الغريب أن نجد بعض الأمثال الشعبية التي تنظر إلى اليهود بأنّهم لا يغتسلون، إذ يقول المثل الشعبي المغربي "تنعس من النصراني أو ما تاكولش معاه، أو تاكل مع يهودي أو تنعسش معاه" وهذا القول يلخّص اجتماعيا نظرة المسلمين إلى اليهود من زاوية الطهارة، فسبب رفض المسلمين للنوم مع اليهود هو اعتقادهم بأنّ اليهود لا يغتسلون من النجاسة؛ وبالتالي فاليهودي في اعتقادهم بمثابة "جيفة" أي تلك الجثة التي أعطت رائحة كريحة، في حين يعزون رفضهم للأكل مع النصارى بسبب قدوم النصارى على أكل لحم الخنزير الذي يُعتبر حراما بالنسبة إلى المسلمين.
وتذهب بعض الدراسات الأنثروبولوجية إلى القول، إنّ الجسد قد مثّل منذ القدم ذلك الشيء المزيّن والمقنع، والمتغيّر بتغيّر المجتمعات والثقافات، فهو الرمز الذي يستعمله كل مجتمع على حدة، لكي يتحدّث عن سيرورة يعلن من خلالها مختلف الوسائل التي يستثمرها، ولعل ذلك ما دفع بالبعض إلى اعتبار الجسد بمنزلة ترميز متميّز، يتحوّل فيه الإنسان من مجرد كائن حي ذي غرائز ورغبات عنيفة إلى كائن قادر على أن يتكلّم على العالم وعلى ذاته، بل إنّ الإنسان حينما يولد يتمّ غسله بالماء قصد الطهارة من المدنّس؛ أي من الدم كما لو أنّه جاء من الموت إلى الحياة وبالتالي يتمّ استقباله بحامل القداسة وهو الماء، ونودّع الميت من عالم الحياة إلى دار البقاء بذات المقدّس المائي، بل أكثر من ذلك فالماء هو عنصر الحياة في بداية الخلق ويوم البعث (فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور)[22]، وبالتالي ما دام الإنسان على قيد الحياة، فهو تحت رقابة المجتمع أي من الواجب أن يكون طهورا من كل مدنّس حتى يغسل عند الموت ليلتقي بربّه. "فالماء إذن هو الذي يردّ الفرد من ذلك الوضع الاستثنائي إلى الحياة العادية؛ أي إنّه يردّه إلى المجتمع، وبذلك يعيد التوازن إلى العلاقات التي تربطه بالآخرين"[23] على اعتبار أنّ الماء يستخدم في النظافة الشخصية وفي الشعائر الدينية المتعلقة بالطهارة بمختلف أشكالها ومناسباتها، كما هو الحال في الوضوء الذي يسبق الصلاة، فلكي يلتقي الانسان ربّه في الشريعة الدينية وفي العرف الاجتماعي أيضا يجب أن يكون طهورا، وأن يتخلّص من دنس الحالات الاستثنائية العارضة (الجنابة – دم الحيض بالنسبة إلى النساء) أو غسل الميت المقبل على المحاسبة في القبر.
وعلى هذا الأساس، تمّ اعتبار "الجسد مدخلاً حيوياً للعديد من المقاربات والتصورات العلمية والفلسفية، ساهمت في تراكم أبحاث طالت مناطق شاسعة في خريطة هذا الجسد همّت بالأساس بعديْه الطبيعي والبيولوجي، والثقافي الأنثروبولوجي(...)".[24]
لا يمكن للإنسان أن يعيش في عالم فسيح دون نسق ثقافي يشمل الرموز والقيم. فالرمز هو الذي يربط الإنسان بعالم الموجودات المحسوس، وعالم الماهيات والماورائيات، فدور الإنسان في الحياة لا يقتصر فقط على إنتاج الغداء لضمان البقاء، أو التناسل من أجل التكاثر والعيش في حياة جماعية تركن إلى نظام يحمي الأفراد. إنّه يتوقف أيضا على تقديم أجوبة وتفاسير للألغاز الكثيرة في هذه العوالم[25]، ولعل كلّ من الماء والإنسان والدين في المجال المغاربي تمثّل المجالات التي تتطلب منا تفكيك العلاقة الرابطة بينهما وتفسير بعض الألغاز المرتبطة بالماء، وعليه تمثّل الأضرحة والزوايا والمعبودات المائية ذاتها مجالا للدراسة والتحليل ومحاولة للفهم والتأويل.
فالعديد من الزوايا والأضرحة في المجتمعات المغاربية تتوفر على الآبار أو على الأقل قريبة من المجاري والينابيع والأنهار المائية أو مصبّ الخطارات والمزارات المائية، إذ يكتسي ماؤها طابع القداسة لخصائصه الاستشفائية التي يؤمن بها المقبلون على شربه واستعماله والاعتقاد به من خلال الممارسات الاجتماعية. لهذا، فإنّ الماء يُطهّر الشخص من الكفر والنجاسة، وبالتالي وجب استعماله وعدم التكاسل عن أداء الفروض الدينية المرتبطة بالأضرحة بحجّة ندرة الماء. ومن الأضرحة المشهورة بالمغرب مثلا ضريح "لالة عيشة البحرية" بضواحي آزمور الذي يُطل على نهر أم الربيع، وهو ضريح "مختصّ" في طرد شبح العنوسة عند الفتيات اللائي فاتهنّ قطار الزواج وينعتنّ اجتماعيا "بالبايرات"، وتقوم العانس داخل الضريح بمزج الحنّاء بماء الورد وبلوازم أخرى، وتخطّ بيدها اسم زوجها الموعود على جدار الضريح بجانب كثير من الأسماء الأخرى، ما يدلّ على توافد العديد من العوانس على نفس الضريح.
وعلى الرغم من أنّ هذه الممارسات اليوم لم تعد موجودة كما كانت في فترات ماضية، فإن هنالك امتدادات لرواسب أو بقايا ثقافية تتجلّى عند قدوم بعض العاشقين الذين يتخذون من هذا المكان قبلة لهم لتحريك قضايا الحياة الزوجية والتداول فيها. فالغاية من النبش في هذه العناصر الثقافية ليس من أجل النبش فيها فقط أو البحث من أجل البحث، بل لكون العديد من الدراسات التي اهتمت بجلّ مناحي الحياة الاجتماعية لم تنتبه إلى البعد الثقافي، وهو الذي يمثل وبقوّة جيوب مقاومة التحوّلات.[26]
كما نجد ضريح "سيدي عري" هو المقام الأكثر شهرة في الناظور، يستقبل العشرات كل يوم، وقد ارتبط في الذاكرة الشعبية للناظوريين باسم "سيدي عري" بشفاء المرضى وتزويج العوانس، ويرجع نسب "سيدي عري" إلى أحد الأولياء حسب ما تداولته الذاكرة الشعبية، ويقع هذا الضريح بضواحي مدينة الناظور بالقرب من بحيرة مارتشيكا. وفي المقابل، نجد في الرواية الشفهية لدى سكان منطقة الغرب أنّ نهر سبو وروافده ومناطق تجمّع المياه، كان ينظر إليه قديما بأنّه تسكنه الأرواح الشريرة والجنّ، وبالتالي كانوا يعتقدون أنّ حمّى المستنقعات ليست إلاّ دليلاً على غضب الجن والأرواح الشريرة التي تسكن المستنقعات، لذا نجد بعض الأمراض النفسية آنذاك تفسر ب (مضروب على الماء). وهذه النماذج تدل حسب بول باسكون على تداخل مجموعة مركّبة من الممارسات الطقوسية وأنساق الاعتقاد السابقة على التوحيد، دون أن ننسى الدور البارز الذي تلعبه الزوايا باعتبارها مؤسّسة دينيّة واجتماعية وسياسيّة تسعى إلى الصلح بين القبائل في حالة نشوب صراع أو خلاف حول الماء في الحقول الزراعية، فهي تظلّ في المخيال الثقافي لدى المجتمعات المغاربية الملجأ الوحيد الذي لا يظلم أحدا، وأنّها محايدة في قراراتها.
وغير بعيد عن هذا المجال، نجد في الجزائر العاصمة ضريح سيدي عبد الرحمان الثعالبي الذي يعدّ من بين الأضرحة المتعددة والمتنوّعة المقاصد والغايات المرجوّة منها، وهو مثال عن الأضرحة المحلية، إذ إنّ صاحبه جزائري المولد والتنشئة، بخلاف أولياء آخرين كانوا من الوافدين (سواء الأتراك أو الأندلسيين وغيرهم)[27]. ويعتبر الماء أحد أهمّ الوسائل الاستشفائية، سواءً كان عينا جارية، أو مرقيا بالآيات القرآنية من طرف الشيخ المرابط، وذلك عن طريق شربه مباشرة، أو استعماله في أغراض أخرى كالاغتسال والمسح وغيرها من الاستعمالات، ناهيك عن مناطق أخرى في المجتمعات المغاربية التي يشترط فيه الشفاء؛ أي أن يظل الماء ليلة واحدة داخل الضريح، وفي الصباح يتمّ الاستحمام به أو شربه.
ومازال النساء إلى اليوم في بعض المجتمعات الواحية بالمغرب ـــ واحة فركلة بإقليم الراشدية بالجنوب الشرقي ــ يعتقدن بقدسية ماء الآبار، ففي لحظة انبثاق عين مائي في باطن الأرض (أثناء الحفر) يُطلب من النساء العاقرات أو اللائي لا يلدن ويعانين من مشاكل في إنجاب الأطفال بأن يشربن من الدفعة الأولى لهذه المياه الباطنية، على اعتقاد أنّ هذه المياه تشفي من العقر، ناهيك عن بعض الأضاحي التي تذبح والمحافل التي تعقد في نفس المجتمع أثناء وجود الماء إثر التنقيب. كما أنّ مياه الآبار هنا لا تأتي عن طريق حفر بئر أو من ينبوع ماء، بل يأتي عن صدق النيّة في البحث عن الماء، وعلى هذا المنوال تقدّم البركة حلاّ غيبيا لمشكلة الماء في ذات المجتمعات.
إنّ هذا الوجود الهائل للماء داخل وخارج الأضرحة والزوايا والمزارات الدينية يجعلنا نتساءل عن موقع الماء داخل بنية المقدس المائي خاصة في المجتمعات المغاربية، مع العلم أن إدموند دوتي (E. Doutté) أرجع أسباب ظاهرة زيارة الأضرحة، وتمسّك المجتمعات المغاربية عموما بها، إلى رغبتهم الكبيرة في التمسك بدينهم، وقدّم تفسيرا لذلك يكمن في أنّ عدم وجود وسيط بين الإنسان وربّه في الدين الإسلامي يجعل الإنسان يبحث عن سبل لنيل مرضاة الله، ويتقرب إليه، وأنه يجد ضالته في زيارة الولي الصالح، باعتبار مكانته ومستواه من التقوى والصلاح[28]. وما ازداد الأمر قداسة في منظورنا لهاته الأضرحة هو منذ تلك اللحظة التي ارتبطت بالمقدّس المائي، حيث سعى الإنسان المغاربي إلى ربط الماء بالعديد من العناصر الثقافية والدينية والأسطوريّة والإيكولوجية في قالب فسيفسائي يجمع بين المقدّسيْن: هما الديني والمائي.
ماء البحر في المخيال الثقافي للمجتمعات المغاربيّة
كان البحر بدوره عنصرا مهما في مجال أنثروبولوجيا الماء، حيث شكل عاملا قاهرا وطاغيا في إدراك الإنسان القديم وخبرته، وظلت تحيط به مخاوف في الدخول إلى البحر، وتمّ عزو هذه المخاوف إلى كائنات ميتافيزيقية اعتقد الانسان المغاربي أنّها تسكن البحر، وأنّ هذه الكائنات هي المسؤولة عن تدمير بعض السفن وهيجان البحار، لذا ليس من الغريب أن نجد في بعض الكتابات التاريخية تلك التي تحدثت عن القرابين المقدمة للبحر كما في الأنهار، سواء في فترات الصيد أو طلبا لمزايا روحية، وامتد هذا الأمر إلى المثل الشعبي الذي يقول "ثلاثة ما فيهوم أمان: البحر أو المخزن أو الزمن".
وفي حقيقة الأمر، منذ وجود الإنسان على وجه الأرض ومواقفه تجاه البحر غامضة، فهناك الرهبة والخوف من المجهول الذي لا يمكن التنبّؤ بما يخبّئه واستحالة السيطرة على قواه المدمّرة. ومن ناحية أخرى، هناك التحدي والمغامرة والإبداع والخيال...والبحر كعنصر لا غنى عنه في الحياة كمصدر للغذاء والطاقة وجسر بين أناس وثقافات متباعدة[29]، كما أنّ البحر حاضر وبقوة في هذه المجتمعات المغاربية، وما يؤكد هذا القول أنّه حظي بمكانة متميزة في المنظومة القرآنية، فدلالة البحر كما تشير إلى ذلك الأستاذة "مهدية امنوح" في مقالها "البحر في التصور الإسلامي"، (مجلة البحث العلمي، عدد 46 الرباط 1999) جاءت في سياق الكثير من الآيات القرآنية التي بلغ عددها 48، توزّعت ضمنها مواضيع البحر بين المعجزة والتسخير والإنذار والعلم والإلهي والعظمة والقوة والسلامة والنجاة.
والملاحظ من خلال تتبعنا للكتابات ضمن نفس المجال، أنّ هذا الأمر لا يقتصر على المجتمعات المغاربية فحسب، وإنّما يهمّ تقديم طرائق التنشئة الاجتماعية لحدائق أولئك الذين ينشطون في البحر عامة كمجتمعات تونغوا في فانواتو، إذ يمثّل نصّ كالاندرا امتدادًا رائعًا للأوصاف التي أعطاها مالينوفسكي لحدائق ترويريان المرجان، من خلال جعل الجمال والعناية بأمرهم، والاهتمام بتكوينهم رهانا أساسيا، والقاسم المشترك في تدجين حدائق البحر والأرض. كما أنّ العلاقة التي يرفق بها نص "كاربونيل" هي ذات صلة بالدراسات التي أجريت في الأنثروبولوجيا البحرية. إذا كانت المرأة تشغل، مع بعض الاستثناءات البارزة، (في اليابان وكوريا بشكل خاص) هوامش البحر.[30]
الخاتمة
على سبيل الختم، يمكن القول إنّ عنصر الماء بمختلف الأشكال التي يتخذها (الآبار، المجاري المائية، الأنهار...)، وفي علاقته ببعض الممارسات الاجتماعية والدينية، يٌطرح كموضوع للبحث والتفكّر مع العلم أنّ التفكير في علاقات الإنسان بالماء ليس بالأمر الجديد. فهو جزء من مجموعة عمل هدفها المشترك هو فهم الطرق التي يتفاعل بها الإنسان، وكيف ينظر إلى الماء ودور الديناميات الاجتماعية في هذا التفاعل. وهذا الاهتمام يمكننا عزوهما إلى حقلين فرعيين تحت اسم "الأنثروبولوجيا البحرية" و"أنثروبولوجيا الماء"، وعلى غرار باقي الدراسات الجغرافية التي لها اهتمام بهذا الجانب، حيث شكّلت المجتمعات المغاربية أحد المجتمعات التي يعتبر فيها الماء عنصرا مقدّسا نظرا للمناخين الصحراوي والشبه الصحراوي الذي يغطى جزءا مهما من هذه المجتمعات، ثم حضور بعض الرواسب الثقافية أو البقايا الثقافية التي ما زال الإنسان يحافظ عليها إلى اليوم، وتؤكد الأهمية التي تكتسبها الماء بالنسبة إلى حياة الإنسان والنبات والحيوان عامة، على أنّه شكّلَ موضوع عبادة وقداسة.
إنّ الماء باعتباره معطى طبيعيا ينظر إليه رمزيا كعنصر للنقاوة والطهارة، وبالتالي يعطي معاني دقيقة للحياة اليومية للإنسان، فلا غراب أن تكون الطهارة والنجاسة لدى هذه المجتمعات على طرفيْ نقيض لمدلولات جسدية موحى بها دينيا، وما يعزز هذا القول هو تلك النصوص الإلهية المقدسة التي سبق أن أشرنا إلى البعض منها من جهة، ثم كيفية التعاطي معها اجتماعيا من جهة أخرى.
فإذا كان عنصر الماء، جاذبا من أجل الاستقرار، فقد حوّله الانسان إلى عنصر قداسة يستجيب للعديد من المزايا الروحية التي يسعى الإنسان إلى تحقيقها، وقد اختلفت درجة الارتباط بقدسية الماء لهذه المجتمعات من حيث الحاجة إلى الماء وطبيعة الماء أيضا، سواء كانت مياه البحار أو الأنهار أو الآبار أو المجاري المائية بصفة عامة...، فالماء له دور في غاية الأهمية خاصة وأنّه على علاقة بنظرة الانسان إلى العالم الذي يعيش فيه بالفهم التأويلي له.
إنّ الماء في المخيال الثقافي لهذه المجتمعات، شكّل صورة من العلاقات الرابطة بينه وبين الممارسات الاجتماعية المتعددة، وتجلّت هذه الصورة في مختلف المعتقدات الدينية والإيمان بقدسية الينابيع المائية. لذا نرى أنّ الأمر يتطلب تدخّل العديد من التخصصات العلمية بما فيها التاريخ، والأنثروبولوجيا، والجغرافيا، والجيولوجيا... من أجل فهم وتفكيك طبيعة العلاقات الرابطة بين عنصر الماء والممارسات الدينية والديناميات الاجتماعية والثقافية.
[1] A. Belfaida, «l’eau au Maghreb antique entre le sacré et le profane», préface Nacéra BENSEDDIK, Dépôt légal 2011 mo 1197, Rabat net Maroc. p22
[2] أول أسفار التوراة (أسفار موسى الخمسة) وجزء من التوراة العبرية كما أنّه أوّل أسفار العهد القديم لدى المسيحيين.
[3] مقدّمة سفر التكوين، الإصحاح الأول، التكوين الأول، ص22
[4] محمد أوسوس، دراسات في الفكر الميثي الأمازيغي، المملكة المغربية المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية مركز الدراسات الأنثروبولوجيا والسوسيولوجية، مطبعة المعارف الجديدة – الرباط، 2007، ص7
[5] سامر مخير، خالد، حجازي، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو)، الماء وأثره في الحياة وفي حضارة البلدان المغاربية ص93
[6] LAMRANI Hassan et al; 2003; Projet développement des communautés à travers la réhabilitation des khettaras dans les régions semi-aride de l’est-Sud-Es. O.R.M.V.T.E et JICA
[7] الخليل سمير، دليل مصطلحات الدراسات الثقافية والنقد الثقافي: إضاءة توثيقية للمفاهيم الثقافية المتداولة، دار الكتابة العلمية، مراجعة وتعليق الشيخ سمير، ص 235
[8] كليفورد غيرتز، الإسلام من وجهة نظر علم الإناسة: التطور الديني في المغرب وأندونيسيا، ترجمة أبوبكر أحمد باقادر، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، ص102
[9] جحاح محمد، نفس المرجع، ص123
[10] كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات، ترجمة محمد بدوي، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة الأولى، بيروت، 2009 ص 43
[11] تأويل الثقافات، ص 227
[12] د(ة) فاهمة شابلي، المحافظة على خزانات الماء في العهد الروماني بولاية سكسكدة وتأثيرها الاقتصادي الاجتماعي على المنطقة، جامعة يحيى فارس المدينة – الجزائر, التواصلية، العدد العاشر، ص95.
[13] أبو الحسن، على المسعودي: مروج الذهب ومعادن الجوهر، ج2، بيروت، دار المعرفة، بدون تاريخ، ــ ص 158
[14] رقية بلمقدم بالتعاون مع الجمعية المغربية للبحث التاريخي، البحر في تاريخ المغرب، جامعة الحسن الثاني –المحمدية- منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، سلسلة الندوات رقم7، ص15
[15] أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفية الطبعة الأولى، منشورات عويدات، 1993.ص231
[16] مرسيا إلياد، المقدس والدنيوي، ترجمة، نهاد خياطة، العربي للطباعة والنشر، دمشق ط1، ص12
[17] Millet, L. de Tunis (1950), «Les hammams de Tunis», Bulletin économique et social de Tunisie, 36, p. 63-70., 37, p. 65-73
[18] غاستون باشلار، الماء والأحلام: دراسة عن الخيال والمادة، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة علي نجيب إبراهيم وتقديم: أدونيس، الطبعة الأولى, ديسمبر 2007، ص198
[19] الخوري إسحاق (1997) أيديولوجيا الجسد: رموزية الطهارة والنجاسة، بيروت، منشورات دار الساقي، الطبعة الأولى، ص13
[20] الخوري إسحاق (1997) أيديولوجيا الجسد: رموزية الطهارة والنجاسة، بيروت، منشورات دار الساقي، الطبعة الأولى، ص13
[21] مقدّمة سفر التكوين، الإصحاح الثامن، التكوين الثامن، ص83
[22] سورة فاطر, الآية 9
[23] بو زيد أحمد، الماء والبناء الاجتماعي ومفهوم الزمن.- المجلة العربية للثقافة، العدد 36، مارس 1999م
[24] د. محمدي عبد القادر، أنثروبولوجيا الجسد الأسطوري. بحث في الهوية والامتداد. ط. الأولى 2013. ص10
[25] لحسن آيت الفقيه إملشيل، جدلية الانغلاق والانفتاح، ضمن إصدارات مركز طارق بن زياد للدراسات والأبحاث، يوليوز 2001، ص47
[26] بن محمد قسطاني، واحة غريس والاستعمار آليات التحول وأشكال المقاومة، المعهد الملكي للثقافات الأمازيغية، مركز الدراسات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، سلسلة دراسات وأبحاث رقم 70. دار أبي رقراق للطباعة والنشر بالرباط. ص20
[27] نفيسة دويدة, المعتقدات والطقوس الخاصة بالأضرحة في الجزائر خلال الفترة العثمانية, Insaniyat / إنسانيات, 68 | 2015, 11-34
[28] Doutté, E. (1900), Notes sur l’islam maghrébin, éd. Ernest Leroux, Paris, p. 23
[29] إليشا ليندر، رهبة البحر لدى البشر، علم المعرفة، البحر والتاريخ، 2005، ص33
[30] Hélène Artaud, «Anthropologie maritime ou anthropologie de la mer?», Revue d’ethnoécologie [En ligne], 13 | 2018, mis en ligne le 25 juin 2018, consulté le 22 juin 2019. URL: http://journals.openedition.org/ethnoecologie/3484