مستقبل النّظام بعد وباء كورونا
نورة بنعلي
ونحن نعيش في زمن جائحة كورونا نستحضر الطّاعون الجارف الّذي ضرب المغرب والعديد من المناطق الأخرى خلال منتصف القرن الثّامن للهجرة حيث يقول ابن خلدون في مقدمته على أثر الطّاعون الّذي ضرب العالم في القرن الرّابع عشر بعد الميلاد “ما نزل بالعمران شرقا وغربا في منتصف هذه المائة الثّامنة من الطّاعون الجارف الّذي تحيّف الأمم، وذهب بأهل الجيل وجاء للدّول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلّص من ظلالها، وأوهن من سلطانها وتداعت إلى التّلاشي واضمحلال أموالها، وضعفت الدّول والقبائل…وكأنّما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة، وإذا تبدّلت الأحوال جملة فكأنّما تبدّل الخلق من أصله وتحوّل العالم بأسره وكأنّه خلق جديد ونشأة مستأنفة وعالم محدث”.
منذ عام 2010 والعالم يشهد ثورات وأمواجا ستشكل الحقبة المقبلة ولم يكد يمضي هذا العقد حتّى ترك لنا في آخر أيّامه أقصى المفاجآت تعقيدا وتأثيرا.
مساء 31 ديسمبر أعلن موقع حكومي صيني على الأنترنيت عن اكتشاف حالة التهاب رئوي لسبب غير معروف في المنطقة المحيطة بسوق للمأكولات البحريّة بجنوب الصّين في مدينة ووهان الصّناعيّة الّتي يبلغ عدد سكانها 11 مليون نسمة.
تمّ تشخيص الحالات لاحقا بفيروس كورونا المستجد، وعلى مدى الثّلاثة الأشهر جمّد الفيروس السّفر الدّولي والنّشاط الاقتصادي وحجّر أكثر سكّان الأرض في منازلهم.
ويمكن الإقرار بأنّ هذه الجائحة قد طالت أوجه الحياة المختلفة سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع، كما أحدثت تأثيرا بالغا على التّوازنات الجيوسياسيّة على المستوى الدّوليّ. وبكون إنّ أبعاد وتداعيات هذا الوباء لم يكن لها نماذج استشرافيّة في التّفكير الاستراتيجي كي يتمّ مواجهتها من خلال رسم مشاهد متعدّدة كما هو الحال مع الأزمات الاقتصاديّة والسّياسيّة والعسكريّة فإنّ صانعي القرار دخلوا في دوّامة وفي تخبّط كيفيّة المواجهة، النّسبة الغالبة منهم وقعوا في أخطاء بالغة الخطورة أدّت إلى تفاقم الوباء وبروز تبعاته على مستوى المجتمع وعلى مستوى الاقتصاد الوطنيّ، وكذلك على مستوى العلاقات الدّوليّة.
ومن الواضح أنّ هذا الوباء قد أدّى إلى شلل العلاقات الاجتماعيّة كما أدّى إلى انهيار الأسواق وأسعار النّفط وارتفاع معدّلات البطالة بشكل سريع ومفاجئ كنتيجة لتعطلّ الماكينة الانتاجيّة والخدميّة وبالتّالي نؤكّد في دراستنا هذه أنّ هذه الأزمة العالميّة ستؤدّي إلى إعادة توازن القوى سياسيًا واقتصاديًا على المستوى الدّولي ممّا تؤدّي على المدى المتوسط والبعيد إلى ولادة نظام عالمي جديد سنتطرّق إلى أبعاده في هذه الدّراسة.
ولعلّ الأمر غير المسبوق أنّ تداعيات هذا الوباء على العلاقات الدّوليّة وصعود ونزول القوى المتحكّمة بالنّظام الدّوليّ تتمّ بشكل متسارع، ففي الشّهرين الماضيين وعندما ظهر وباء كورونا في الصّين ولم يتسرّب بعد إلى خارجها، وبدأ الغرب والولايات المتّحدة الأمريكيّة بالذّات تسخر من هذا الرّجل الآسيويّ “العجوز” كما أطلقوا على الصّين. ولم تمر إلّا أسابيع معدودة حتّى أعلنت الصّين تغلّبها على الوباء، وبدأ باجتياح القارّة الأمريكيّة الّتي كانت تسخر من الوباء وتعتبره بدعة سياسيّة. ما نلاحظه الآن، أنّ الرّأي العامّ العالمي بدأ ينظر بعين الإكبار للقدرة الصّينيّة، في حين يسخر تخبطهم من التّصريحات المتناقضة للسّاسة الأمريكان وفي إيقاف التّسارع الرّهيب في إنشاء المرض الّذي طال خلال شهر واحد أكثر من 150 ألف شخص، كما أبرز مدى ضعف البنيّة الصّحيّة الأمريكيّة مقارنة بالبلدان الآسيويّة.
وقد علّمتنا دروس التّاريخ بأنّ النّظام الدّولي وتوازنات القوى الفاعلة في إطاره يتغيّر عادة بالتّدريج الّذي يأخذ عقودا في الوجه المعتاد ولكنّه يصل إلى لحظة مفصليّة تتبدّل فيه التّوازنات بالكامل وتتداعى دول وتصعد دول أخرى.
وقد يكون من المفيد أن نستذكر تراجع بريطانيا كقوّة عظمى في النّظام الدّولي، إذ كانت اللّحظة المفصليّة هي اجتياح قناة السّويس عام 1956، حيث انهارت مقوّماتها السّياسيّة بالكامل والأثر سيكون كذلك بالنسبة للولايات المتّحدة الأمريكيّة، إذ أنّ موقفها من هذا الوباء وكيفيّة مواجهتها وعزوفها عن قيادة العالم لمواجهته، سيشكل بداية النّهاية لموقعها القويّ في النّظام الدّولي.
لقد بدأت الإدارة الأمريكيّة منذ تسلّم الرّئيس ترامب لولايته عام 2016 باتّباع سياسة انعزاليّة تحت شعار (أمريكا أوّلا) وتنكّرت للقانون الدّوليّ وللمجموعة الدّوليّة بما في ذلك حلفائها الأوروبيّون، متناسيّة أنّ العالم متشابك بشكل لا يمكن لأيّة دولة أن ترى مصالحها خارج العولمة وتشبيكاتها الاقتصاديّة والسّياسيّة والأمنيّة ويجمع العديد من علماء الاجتماع بأنّ هذا الوباء الّذي اجتاح العالم قد أخبرنا بجملة حقائق علينا الانتباه لها: أوّلاها أنّ المجتمع المعوْلم قائم ولا يمكن التّنكر له، وأنّ الأمر لا يتعلّق فقط بالتّشبيك الاقتصاديّ وسلاسل القيمة التّجاريّة فحسب بل هناك تشبيك أيضا في تجلّيات العولمة من قضايا البيئة والتّقنيات الرقميّة والإشعاعات النّوويّة والأوبئة، الّتي تتطلّب بأجمعها مواجهات كونيّة، وبحيث لا يستطيع أي بلد أن يتنكّر لها ولقوانينها، وبمعنى آخر هنالك معادلة قائمة بين الدّولة الوطنيّة والسّيادة من جهة بين البعد المعوْلم الّذي يجب أن يدخل في أي خطّة استراتيجيّة وطنيّة سواء على المستوى السّياسيّ أو الاقتصاديّ أو الأمنيّ فما يحدث في مكان بعيد عنك عليك أن تدرك بأنّ آثاره ستطولك.
وبهذا فكلّ من يعتقد بأنّ الحدود وإقامة الحواجز وتقسيم النّاس وفق جيناتهم وأعراقهم أو معتقداتهم الدّينيّة أصبح واحدا إذ كلّ هذه التّقسيمات تفقد معناها أمام هذه الجائحة، فالجميع معرضون لتبعاتها فهي لا تعترف بجوازات السّفر ولا تعترف بالفروق الاجتماعيّة والاقتصاديّة ويساوى بين الجميع.
ومن الأكيد أنّ هذه الجائحة أعادت إلى الواجهة النّزعة الّشعبويّة والنّزعة القوميّة، وستؤدّي بالقريب المنظور إلى تداعيات بعض التّنظيمات الإقليميّة وظهور تنظيمات أخرى أو تحوير ماهو قائم.
والمثال على ذلك هو الاتّحاد الأوروبي، حيث أنّ مجموعة الدّول التّابعة لها أغلقت الحدود فيما بينها وتنكّرت للاتفاقيات الموقعة واتّبعت سياسات وطنيّة متفرّدة دون الرّجوع إلى بروكسل. ومن جانب آخر لم تكن إدارة الاتّحاد الأوروبيّ بالمستوى المطلوب لمواجهة الأزمة وتقدم تلعون للبلدان المتضرّرة ورسم معالم سياسة أوروبيّة لإلزام الدّول الأعضاء بها، حيث أنّ ردود فعلها جاءت متأخّرة فالبنك الأوروبي المركزي بدأ متردّدا في البداية لتقديم يد العون وكذلك الأمر ذاته مع مسؤولي المفوضيّة الأوروبيّة الّذين لم يكن لديهم رؤية واضحة في معالجة الأمر.
وباء كورونا أحدث ضررا مضاعفا في الاتّحاد الأوروبيّ. زعزع أركان التّكتل بكلّ قوّته الاقتصاديّة والعسكريّة والسّياسيّة ليس فقط لأنّ أضرار الجائحة كانت مهولة ومفاجئة وإنّما لأنّ الاتّحاد في هيكلته يعاني هشاشة تكشف بوضوح في أزمة الفايروس بعدما اختبأت لسنوات طويلة خلف شعارات عدّة.
المسألة تتلخّص في أنّ الاتّحاد الأوروبي يسير منذ الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008 بمبدأ الدّكتاتور القويّ والثّريّ، المتلخّص في ألمانيا وهولندا. والآن فتح التّساؤل حول متانة الرّبط الّذي يجمع 27 دولة تشترك في الجغرافيا وتختلف في درجة الثّراء والأنماط الفكريّة والاجتماعيّة الّتي تحلّ محلّ الدّستور في الشّدائد.
الوباء يمثّل التّحدي الثّالث للاتّحاد الأوروبيّ منذ بداية الألفيّة الجديدة بعد الأزمة الماليّة العالميّة وخروج بريطانيا من عضويته. لا يجب الإنكار أنّ المفوضيّة الأوروبيّة لم تتحرّك بشكل سريع لاحتواء تداعيات الوباء وما نتج عنه غياب التّضامن بين أعضاء الاتّحاد في المرحلة لانتشار الفيروس وظهر التّكتل أقلّ تماسكًا وأكثر تشتتًا بسبب هذه التّحديات. وهو ما دعا له رئيس الوزراء الإيطالي جوسيبي كونتي الاتّحاد الأوروبي إلى عدم ارتكاب أخطاء فادحة في عمليّة مكافحة الفيروس، وإلاّ فإنّ التّكتل الأوروبي بكامله قد يفقد سبب وجوده”.
عموما، تجمع الدّراسات الاستراتيجيّة بأنّ عام 2020 سيكون نقطة انعطاف في مسار العولمة، متمثلة في ضعف وتراجع الإدارة الأمريكيّة عن موقعها القياديّ الدّوليّ. وكذلك تشظّي القرار الأوروبيّ وضعف وحدته، فارتفاع وتيرة الشّعبويّة داخل الدّيمقراطيات الغربيّة وتكريس الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتّحدة والصّين، كلّ ذلك سيؤدّي إلى حالة من الرّكود الجيوسياسيّ.
هذه التّوقعات المستقبليّة قامت بها الدّوائر الاستراتيجيّة قبل اندلاع موجة الوباء والاعلان عنه في حالاته الأولى في الصّين أو نهاية العامّ الماضي، وقد تعزّزت تلك التّوقعات وثبتت صدقيتها، حاليا فالقرار متعدّد الأطراف القائم على اجماع المجموعة الدّوليّة في إطار القانون الدّولي وقرارات وتشريعات المجتمع الدّوليّ أصبح معطّلا.
ومن هنا يعتقد العديد من المحلّلين أنّ ما نشهده حاليا هو نهاية النّظام اللّيبراليّ العالميّ الّذي تمّ إرساء قواعده بقيادة الولايات المتّحدة في أعقاب الحرب العالميّة الثّانية وعن النّظام العالميّ القادم سيكون نظاما متعدّد الأقطاب وبحيث يشهد توازن قوى جديدة يميل لصالح البلدان الآسيويّة وبالذّات الصّين وروسيا.
كما أنّ هنالك من يعتقد بأنّ التّقارب الآسيوي – الأوروبي سيكون هو الأساس للنّظام العالميّ القادم وبعزلة تامّة للولايات المتّحدة الأمريكيّة الّتي من المتوقّع أن تفقد موقعها في النّظام الماليّ العالميّ الّذي يتّجه لتخلّي الدّول الكبرى عن الولايات كمعيار نقدي عالمي، بالإضافة إلى فقدان موقعها السّياسيّ في التّأثير على الأحداث العالميّة.
وإذا ما كانت أحداث قناة السّويس عام 1956 هي لحظة نزول الإمبراطوريّة البريطانيّة فإنّ هذه الجائحة هي لحظة تراجع نفوذ الولايات المتّحدة.