العنف الجندري: أُمية نَسَوية رجولية بين التطبيع والتمَأْسس
عبد الصمد الديالمي
المقصود بالعنف الجندري ذلك العنف الممارس من طرف الرجل (باسم العادات والقيم والقوانين السائدة) ضد المرأة بسبب نوعيها البيولوجي (الأنوثة) والاجتماعي (الجندر الدوني). والنوعان متكاملان، حيث يؤسس كل واحد منهما الآخر قصد شرعنة تفوق الرجولة وقصد الحفاظ على امتيازاتها وسلطها. وتعني الممارسة الرجولية للعنف ضد النساء دون أدنى شعور بالذنب، بل وبوعي سعيد، أن الرجل فاقد للثقافة النسَوية المساواتية التي تحثه على التخلص من العنف ضد المرأة، والتي تطالبه بالتعبير عن رجولته بطرائق غير عنيفة. مفاد الأمية النّسَوية (analphabétisme féministe) عدم الوعي بضرورة المساواة بين الرجال والنساء في كافة الحقوق والواجبات.
بديهي أن العنف الجندري عنف بنيوي يوجد في مختلف المجتمعات الأبيسية، حيث يشكل أداة نسقية في يد الرجل للتحكم في أجساد النساء، إن في السوق الزوجية الإنجابية، وإن في السوق الجنسية المتعوية، بل وفي السوق الاقتصادية بشكل أعم، وهو من ثم عنف عرضاني يخترق كل حقول المجتمع، الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والرمزية، حيث يتواجد في كل البنى؛ السفلى والعليا دون استثناء.
نسب العنف الجندري تتأثر بمستوى تطور الدولة القُطرية، فكلما كانت الدولة ديمقراطية ومتطورة اقتصاديا، كلما قلت فيها نسبة العنف الجندري
سوسيولوجيا العنف الجندري
تجدر الإشارة إلى أن العنف الجندري ظاهرة لصيقة بالمجتمعات الحديثة والمعاصرة أيضا، لكن بدرجات متفاوتة، مما يدل على أن تحسين الشرط النسائي أمر ممكن بفضل سياسات عمومية حازمة وناجعة تؤدي إلى تراجع ذلك العنف. وبالتالي، لا بد من إثارة الانتباه إلى أن نسب العنف الجندري تتأثر بمستوى تطور الدولة القُطرية، فكلما كانت الدولة ديمقراطية ومتطورة اقتصاديا، كلما قلت فيها نسبة العنف الجندري. أيضا، للعوامل الداخلية مثل الثقافة المحلية والسن والمستوى الدراسي ومكان الإقامة والمهنة أثر فعال في تغير نسبة العنف وطبيعته... في هذا الإطار، هناك مثلا ميل إلى "تفضيل" نوع من العنف الجندري على نوع آخر، وهو ما نلمسه في المثل المغربي التالي: "ضربة بِدَمِها أخف من كلمة بِسُمِّها" (وفي صيغته العامية "اللهم ضَرْبَة بدَمها وَلاَّ كَلْمَة بسَمها")، وهو المثل الذي اقتطفناه من البيئة الفاسية الحضرية المحافظة خلال بحث ميداني حول الظاهرة، تلك البيئة التي تعطي للكلمة الجارحة أهمية أكبر، والتي ترى أن الجرح النفسي الذي تحدثه الكلمة في نفسية المرأة أعمق وأشد من الجرح الدموي العابر الناتج عن الضرب. أيضا، إذا كان العنف الجندري الجسدي مثلا يتواجد في كل الطبقات الاجتماعية وفي كل الفئات العمرية، فإن تكراريته في الطبقات الشعبية وفي صفوف الشباب أعلى بالنظر إلى أن لغة الضرب واللكم لغة أكثر ارتباطا بتلك الطبقات وبفئة الشباب. مثال آخر يبين أن نسبة العنف الجندري الجنسي في المدينة تشكل ضعف ما يقع في البادية من اعتداءات جنسية ضد النساء. ويسير المثال الأخير في نفس الاتجاه، حيث إن ضحايا العنف الاقتصادي هن بالأساس النساء الأميات. وهذا ما خلص إليه إجمالا البحث الوطني حول العنف الجندري الذي أنجزته "المندوبية السامية للتخطيط" سنة 2009 من أن العنف الجندري ظاهرة حضرية في الغالب، وأنها مرتبطة بالشباب وأن تكراريتها ترتفع كلما ارتفعت الهشاشة الاجتماعية والاقتصادية.
من نتائج هذا البحث الوطني الأول عن العنف الجندري أن نسبة النساء المعنفات تصل إلى 63٪ من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 18 و64 سنة. أما البحث الأخير الذي أنجزته "وزارة التضامن والمساواة والأسرة" سنة 2018، فيزعم أن النسبة انخفضت إلى 54٪، وهو ما تنفيه الجمعيات النسَوية بالاستناد إلى ما تتوفر عليه مراكز الاستماع التابعة لها من معطيات كيفية وكمية. فالجمعيات النسَوية تقر أن العنف الجندري ارتفع على العكس، وأن الوزارة المعنية بمحاربته لم تفلح في كبح انتشاره وتضخمه.
العنف الجندري، حق الرجل!
من أجل محاربة العنف الجندري باعتباره ظاهرة مرضية، لا بد من إشراك الرجال والفتيان. فإذا كان الرجال والفتيان جزءا من المشكل، فهم أيضا جزء من الحل إذ لا مناص من تحسيسهم بخطورة الظاهرة لا على النساء فحسب، بل على الأطفال والأسرة أيضا، وعلى المجتمع والدولة ككل، لكي يقتنعوا بضرورة التوقف عن ممارسة العنف ضد النساء. من أجل ذلك، كان لا بد من تشخيص تمثلهم حول الظاهرة وحول مدى إدراكهم لها كظاهرة مرضية.
من اللافت للانتباه، أن الفتيان يذكرون أصنافا من العنف أكثر مما يذكره الرجال، وهو مؤشر على ممارستهم العنف الجندري بأشكال خاصة ومتجددة نظرا لشبابهم ولعدم تحملهم مسؤوليات. من بين تلك الأصناف سلب الشريكة الجنسية مالها أو استغلال وعد الزواج للحصول على العلاقة الجنسية والتلصص على الفتيات في مراحيض الإعداديات والثانويات... وتتمحور تلك الأصناف حول العنف الجنسي، وهي في معظمها ترميق للتعويض عن افتقاد نشاط جنسي مُرْضي في الحياة اليومية العادية.
والأهم أن بعض أشكال العنف الجندري لا يشار إليها مثل فرض الحجاب على نساء الأسرة والزواج المدبر من طرف العائلة والزواج المبكر وإخراج الفتاة من المدرسة وعدم السماح للزوجة بالاستشفاء دون إذن الزوج وإلزام الفتاة بالعذرية ومعاكسة النساء في الشارع، ومنع الزوجة من العمل خارج البيت واللامساواة بين الأخ والأخت في الإرث. ويرجع تطبيع هذه السلوكيات إلى المعايير الثقافية السائدة التي لا ترى في هذه الممارسات الاجتماعية أشكالا من العنف الجندري. وتجد المعايير الأبيسية ترجمة لها في بعض فصول "قانو الأسرة" أو لا تجد ما يمنعها في "القانون الجنائي". وبالتالي لا تدرك تلك السلوكيات كعنف جندري. فهي سلوكيات مطبعة إلى حد كبير في صفوف الرجال والفتيان معا. أكثر من ذلك، يعتبر المبحوثون العنف الجندري الجسدي المباشر سلوكا عاديا وحق من حق الرجل، كما تبين ذلك الشهادات التالية:
- "في بداية حياتنا الزوجية، كنت أضرب زوجتي لكي أتحكم فيها، ولكي تصبح قادرة على فهمي" (رجل متزوج، تمارة)،
- "عندما يتم العقد، فهي زوجته، وللزوج الحق في ضربها" (فتى غير متمدرس، فاس)،
- "أنا حر في أن أفعل بزوجتي ما أشاء" (رجل متزوج، مراكش).
السببية الأبيسية
ما هي الأسباب العينية المباشرة المبررة للعنف الجندري في نظر الرجال والفتيان؟
تأتي السببية الأخلاقية في مقدمة الأسباب المذكورة، وهي السببية التي تحمل مسؤولية العنف ضد المرأة للمرأة نفسها وتتمظهر في سلوكيات معينة مثل عدم الطاعة واللباس السافر وطريقة المشي في الشارع والإثارة الجنسية. في هذا الإطار، صرح رجل إطار متزوج في تمارة قائلا: "فتاة لوحدها ليلا في الشارع، دون عذر معقول، اغتصابها مقبول... خصوصا إذا كان لباسها غير محترم... في هذه الحالة، من حق الرجل أن يغتصبها".
وأقدم بعض المبحوثين على تحميل قيم التحرر والمساواة مسؤولية تعنيف النساء: "المساواة في الحقوق تقود المرأة إلى إهمال بيتها وأطفالها، وهو ما يدفع زوجها إلى تعنيفها" (رجل متزوج، مراكش). إنها سببية قيمية يحولها الرجل إلى سببية أخلاقية، بمعنى أن مطالبة النساء والفتيات بالحرية وبالمساواة (أو ممارستها الفردية الفعلية) تتحول إلى تهمة رجالية/رجولية أخلاقية ضدهن. إن "الانحراف" عن الأدوار النسائية الإنجابية يعتبر تمردا وزيغا من طرف (معظم) الرجال، ويستدعي بالتالي عنفا تأديبيا وتطويعيا وتحكميا.
من الأسباب المفسرة الأخرى التي يذكرها الرجال والفتيان قصد تبرير العنف الجندري الأسباب هوياتية. والمقصود بها الزعم الأبيسي أن المرأة نفسها تبحث عن التعنيف وتتلذذ به، لأنها مازوخية بالطبع. أيضا، تدعي الأطروحة نفسها أن المرأة تشعر بالافتخار عند التعنيف، لأن ذلك يدل على أنها محبوبة، وأن رجلها رجل حقيقي كامل الرجولة. وفي هذه النقطة بالذات، يعتقد الفتيان أن إظهار العنف وإظهار القدرة عليه وسيلة لإغراء الفتيات. فالفتاة في نظرهم تعجب بالفتى العنيف، لأن العنف في نظرهم مؤشر على الرجولة والفحولة، وهو طرح متداول بشكل أكبر بين الفتيان عند مقارنتهم بفئة الرجال. وهناك طبعا من يحيل على أسباب أخرى، مثل رفض الزوجة مساعدة زوجها ماديا أو ميلها إلى التبذير.
ثلاث حالات فقط يتم فيها تحميل الرجل مسؤولية العنف: الأولى تفسر عنف الرجل ببطالته، والثانية بالاكتظاظ في المنزل، والثالثة بشربه الخمر أو بتناوله مخدرات. وكلها أسباب تجعل الإنسان يتفهم ويتعاطف مع الرجل المُعنِّف كما لو أنه مغلوب على أمره وغير قادر على ضبط نفسه لأسباب قاهرة.
لا بد من العمل على تغيير صورة الرجل من خلال تنشئة الطفل الذكر وتربيته على فك الارتباط بين الرجولة والعنف ضد المرأة
على عكس هذه التمثلات الأبيسة المنتشرة، تميل أقلية ضعيفة إلى اعتبار العنف الجندري سلوكا غير مقبول وغير طبيعي وغير قانوني. من الأقوال الدالة على هذا الاتجاه النَّسَوي (féministe) في صفوف الرجال أن "العنف ضد النساء ليس رجولة"، "الرجل العنيف حيوان"، "الرجل الذي يضرب زوجته ليس رجلا، إنه شماتة، "حقار"؛ أي إنسان يعتدي على من هو أضعف منه، فلا شرف له من ذلك"، "العنف ضد المرأة ليس حلا"...
توصيات
من التوصيات الأساسية لمحاربة العنف الجندري ضد النساء ما يلي:
- تمكين الرجال والفتيان من معرفة كل أشكال العنف الجندري من خلال الأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام؛
- محاربة القول إن العنف الجندري لا يمكن القضاء عليه؛
- تمكين المرأة اقتصاديا، حتى تستطيع إعالة نفسها في حالة الطلاق هروبا من عنف الزوج؛ فالكثير من النساء لهن خياران لا أكثر: إما "متزوجة ومُعَالة ومُعنَّفة"، وإما "مطلقة وغير معالة ومعرضة للتشرد والضياع"...؛
- العمل على تأويل نَسَوى للقرآن والسنة، يرفض قطعيا تعنيف المرأة وعدم الاحتماء بما صرح به أحد المسؤولين عن الشأن الديني قائلا: "الأقل ضررا أن نضرب المرأة من أن نضرب النص"، ويعني بالنص النص القرآني؛ بمعنى أن النص القرآني يبيح ضرب المرأة، ولا سبيل للاجتهاد مع تلك الإباحة النصية.
- العمل على ترسيخ مبدأ المساواة بين الجنسين، انطلاقا من أن الاختلاف لا يبرر اللامساواة وإبراز إيجابيات المبدأ المساواتي على كلا الجنسين وعلى المجتمع.
- العمل على إبراز حق المرأة في التواجد في الفضاء العمومي دون قيد ولا شرط، مثلها في ذلك مثل الرجل.
- العمل على تغيير صورة المرأة، فهي ليست دونية وليست مخلوقة للبيت وللطاعة، كما أنها ليست كائنا خطيرا ينبغي الاحتراز منه وضبطه، وهي ليست بعورة ينبغي حجبها. إن إنتاج امرأة جديدة غير مقتنعة بصورتها الأبيسية ضرورة وطنية.
- العمل على تغيير صورة الرجل من خلال تنشئة الطفل الذكر وتربيته على فك الارتباط بين الرجولة والعنف ضد المرأة، وأن لا حق له في معاقبة المرأة وتأديبها، وعلى أنه ليس مسؤولا بصفته رجلا عن الأخلاق العامة.
- وبما أن القضاء على العنف الجندري في الحياة اليومية مهمة عسيرة تتطلب زمنا طويلا لتغيير العقليات الأبيسية، لا بد من العمل على انسحاب الدولة من شرعنة ومأسسة العنف من خلال العمل على القضاء على كل أشكال التمييز ضد المرأة بفضل سياسات عمومية استعجالية.