عزيز العظمة: الإسلامويّة… ليست قدراً عربياً
ريتا فرج
طرح المفكّر والباحث السّوري عزيز العظمة (1947) في مؤلّفاته العديد من الموضوعات الإشكاليّة الّتي لها علاقة بقضايا الإسلام؛ كان قد نشر كتاباً في اللّغة الإنكليزيّة ) Islams and Modernities ( “إسلامات وحداثات” وصَمّ فيه الحركات الإسلاميّة المعاصرة بأنّها “إسلامويّة سياسيّة” وليست “أصوليّة إسلاميّة”.
في محاضرة ألقاها عام 2013 تحت عنوان: (Is Islamism The Arab Destiny? ) ضمن سلسلة محاضرات العولمة في “مدرسة الدّراسات الشّرقيّة والأفريقيّة” SOAS) ( (لندن) يحّاج صاحب “التّراث بين السّلطان والتّاريخ” آراء من ينادون بحتميّة الإسلامويين في العالم العربيّ، وأنّ العلمانيّة ليست من نصيبه طالما بُنيت في السّياق الغربيّ. نقلت المحاضرة إلى اللّغة العربيّة ونشرت ضمن إصدارات مركز البوصلة “هل الإسلامويّة قدر العرب؟” (برلين _ 2014) وقام بترجمتها والتّقديم لها الباحث السّوري في الفكر الإسلاميّ حمّود حمّود.
يفضّل العظمة الاستعانة بمصطلح “الإسلامويّة” (Islamism) المستمدّ -غالباً- من الدّراسات الغربيّة، ولم يلق انتشاراً واسعاً في الأبحاث العربيّة؛ ويقابله المفهوم المستحدث “ما بعد الإسلامويّة” (Post-Islamism) الّذي تبلور في تسعينيات القرن الماضي، لا سيّما ضمن التّحليلات الفرنسيّة المهتمّة بالظّاهرة الحركيّة في الإسلام، وقد صاغه أوليفيه روا وجيل كيبل وآخرون، وتطوّر استخدامه مع الباحث الإيرانيّ آصف بيات في مقاله (The Coming of a Post-Islamist Society) المنشور عام 1996 وكذلك كتابه ( Making Islam Democratic: Social movements and the Post-Islamist Turn) الصادر عام 2007.
يناقش عزيز العظمة في محاضرته “هل الإسلامويّة قدر العرب؟” ثلاثة شخصيات: الفيلسوف الكندي تشارلز تايلور وأستاذ عالم الاجتماع الدّيني في جامعة جورج تاون خوسيه كازانوفا والأنثروبولوجي طلال أسد. تركّز النّقاش بطابعه النّقديّ على فكرة رئيسة: دحض الخلاصات الّتي تعتبر العلمانيّة مساراً حضارياً غربياً وأنّها فشلت عربياً مقابل الصّعود الدّينيّ الأصوليّ، بمعنى أدقّ أنّ العلمانيّة _ أو الحلانيّة كما نحتها العلامة والمجدّد الشّيخ عبدالله العلايلي_ أنموذج “ما بعد مسيحي” انبثق من الثيولوجيا الغربيّة وغير قابل للتّطبيق في العالم العربيّ بسبب طابع جوهراني في الإسلام.
يعتبر العظمة أنّ أي حديث عن الإسلام والعلمانيّة يجب أن يبدأ من الحاضر لا من النّصوص المسلمة أو من التّراث، وينفي النّظريات الحتميّة الّتي تدّعي فشل الحداثة مقابل تفشي الراديكاليّة الإسلامويّة. لا يستثني الكاتب العوامل البنيويّة الّتي ساهمت في تعثر عمليّة الاصلاح، سياسياً واجتماعياً ودينياً وثقافياً، غير أنّه يشدّد على معضلات سوء تعامل السّياسات مع ما يسمّيه “الأنموذج المجتمعي للفسيفساء” في العالم العربيّ الّذي أدّى إلى مستويات متنوّعة من التّفكك في أنظمة عربيّة عدّة.
ينقد صاحب “دنيا الدّين في حاضر العرب” الخطابات السّياسيّة الأكاديميّة والعامّة الّتي تقدّم اعتذاريات بشأن استحالة العلمانيّة وقدريّة الإسلامويّة عربياً، ويرى أنّها تتقاطع في قوالبها مع الإيديولوجيّة الأصوليّة في مختلف أشكالها. يموضع نقده التّحليلي لأطروحات تايلور وكازانوفا وأسد، الّتي تركزت حول “الدّراسات ما بعد الكولونياليّة” و”ما بعد الحداثة”، في سياق “الادعاءات الثقافويّة”، وقبل نقاشها يحدّد ما يقصده بـ “التّنقيح السّوسيولوجي للقدر” ويحيلنا على توصيف عام له وعلى العلاقة الّتي يحملها هذا التّنقيح بالحقائق التّاريخيّة الاجتماعيّة.
يعالج العظمة في محاضرته خلاصات كازانوفا الّذي تحدّث عن تراجع التّمظهر الاجتماعيّ للدّين في الغرب على مستوى العبادات كنتيجة لازمة للعلمانيّة ويعلّق عليه قائلاً: ” إنّ أطروحة العلمانيّة على نحو دقيق، لا يترتب عليها هذه النّتيجة اللاّزمة؛ إنّ ما ينطوي عليه، بدلاً من ذلك، هو أنّ العديد من الأشكال الحديثة للتّدين، وخصوصاً الأصوليّة، هي في حدّ ذاتها لوازم للعلمانيّة”. يناقش مقولة تايلور بشأن غياب الدّين أو تقلصه، فهذا الأنموذج ينبني _ كما يوضح العظمة _ على قواعد مضلّلة غير صحيحة، أوّلاً وقبل كلّ شيء، إنّ التّقلص هو جانب تابعي إضافي للعلمنة، إنّه جانب حين تُمارس فيه الأنشطة تحت دالّ الدّين أو من قبل هيئات دينيّة يتمّ السّيطرة عليها بواسطة هيئات علمانيّة. وعليه فإنّ الأنشطة الّتي تُمارس قبلاً من قبل السّلطات الدّينيّة، مثل التّعليم أو وضع النّظام المعرفيّ، هي أنشطة تطورت في ظلّ الأنظمة العلمانيّة بدئياً، بالتّوازي مع السّلطات الدّينيّة.
ينقد صاحب “العلمانيّة من منظور مختلف” فرضيّة العلاقة بين العلمانيّة الغربيّة والتّماثل الحضاريّ الّتي استطرد تايلور في وصفها، معتبراً أنّه على الرّغم من المهارات الفلسفيّة الّتي يتوقعها المرء منه، فإنّ مناقشة المسارات الحضاريّة المنفصلة تبقى “زيفاً تاريخياً” يقوم على الخلط بين الدّيناميات التّاريخيّة والإثنولوجيا الجوهريّة للغرب القائمة وفق التّراث المسيحيّ. هذا النّوع من الخلط يتجلّى عند كازانوفا الّذي يدعي أنّ العلمانيّة هي نتاج الحداثة الغربيّة، وهي تالياً وعلى نحو محتم “ما بعد مسيحيّة” أي أنّها صنفاً غربياً لاهوتياً، ما دفعه إلى اجتراح مقولة الحداثات: حداثات ما بعد الهندوسيّة وما بعد الكونفوشيوسيّة وما بعد الإسلاميّة.
تعقيباً على كلام كازانوفا، يخلص العظمة إلى أنّ الشّروط التّاريخيّة واللاّهوتيّة الّتي تجعل من المسيحيّة الغربيّة تمتلك شروط العلمانيّة بموازاة غيابها عن الإسلام، تحتاج إلى أن تعالج ضمن الشّروط الحاضرة، وليس بالعودة إلى النّصوص الإسلاميّة والتّراث الإسلاميّ القديم، وحتّى الخطاب المتداول حول عودة الدّين في العالم العربيّ، لا بدّ من درسه _ كما يفصل الكاتب _ خارج تأكيد الشّرط الأوّلي للنّقاء غير الملوث بواسطة العلمانيّة والحداثة.
شكّل كتاب طلال أسد (Genealogies of Religion) أساس الجدال النّقدي الّذي بناه العظمة في نقاشه له، واستند أيضاً إلى كتابه الثّاني ( Formation of the Secular: Christianity, Islam and Modernity ). لم يبتعد أسد عمّا تقدّم به كلّ من تايلور وكازانوفا حول استحالة النّهوض بالعلمانيّة في المجتمعات العربيّة والإسلاميّة، بسبب التّعارض بين العلمانيّة والإسلام، لكنّ العظمة شرح أفكاره بشكل تفصيلي، خصوصاً حين يحلِّل خلاصاته بشأن المسلمين في أوروبا ومعضلة اندماجهم في الثّقافة الأوروبيّة العلمانيّة، وما تخلقه من توتر على مستوى الثّقافات، وقوله إنّ المسلمين المهاجرين لا يمكن أن يكونوا ممثلين بصورة مرضيّة في الدّوائر الحضاريّة الأوروبيّة، وذلك بالنّظر إلى بناء أوروبا الإيديولوجيّ.
يخرج العظمة بجملة من النّتائج المهمّة: أوّلاً، أنّ الدّين في العالم العربيّ وعلى مدى فترة قرن ونصف القرن انسحب تقريباً من اشتباكاته بمساحات مختلفة من الحياة: التّعليم والقانون والتّنظيم الاجتماعي والثّقافة والسّياسة والنّماذج المعرفيّة، مخلياً الطّريق للقانون المدنيّ والمدنيّة والدّولة والمؤسّسات التّعليميّة الخاصّة؛ ثانياً، تراجع الدّين إلى الهوامش على الرّغم من وجود الحضور الرمزيّ الرّسميّ، كما أنّ وجوده الرّسمي قد تمّ قيادته تحت نطاق السّيطرة البيروقراطيّة للدّولة، الّتي في الكثير من الحالات قد تعلمنت؛ ثالثاً، تقلّص الخطاب الإصلاحي الإسلامي، وتخبّط عمليات الإصلاح السّياسيّ، وتغذيّة قنوات التّطرف، والتّفكك الاجتماعيّ، والرّكود في مهمّة تحديث الدّول العربيّة، كلّ هذه العوامل وغيرها، دفعت الأصوليّة بالانتقال من الهامش إلى المركز بصرف النّظر عن المجتمع المحدثن أو المعلمن.
بنى عزيز العظمة جداله مع النّماذج المدروسة في محاضرته على أسس متينة، وعلى الرّغم من بعض النّقص الّذي يلحظه القارئ لجهة شرح أسباب تعثر العلمانيّة في المجتمعات العربيّة، الّتي كان لا بدّ أن يوليها اهتماماً أكبر، بعدما قضمت القبليّة والطّائفيّة مشروع الدّولة، فقد نجح في إرساء القواعد النّظريّة النّقديّة اللاّزمة الّتي نفت أن تكون الإسلامويّة قدراً عربياً، والّتي تدخل اليوم في جانبها الجهاديّ في حرب لا هوادة فيها مع العرب والعالم.