الإسلام في الفضاء العام: شريعة للإرشاد لا نظام للحكم
علي رسول حسن الربيعي
يتطلب الدور الكبير الذي يمارسه الدين في الفضاء العمومي للمجتمعات الإسلاميّة، ولاسيما في العقود الأخيرة، إعادة النظر في مكانة الدين في التغيير الاجتماعي وفي تجليات وأشكال هذا الدور من قبل علماء الدين والمختصين في العلوم الاجتماعية والفاعليين السياسيين. ولا يزال يتعين على المناقشات الدستورية معالجة دور القناعات والقيم الدينية في تطوير المؤسسات الديمقراطية لضمان الحريات والحقوق الأساسية في البلدان ذات الغالبية المسلمة.
يتضح من خلال التجربة التاريخية السياسية الحديثة للمجتمعات في السياق الإسلامي أن هناك عائقاً أساسيا يحول دون إرساء الديمقراطية، إنه يتعلق بالطريقة التي تتم بها ممارسة القيم الدينية/ الإسلامية والإصرار على أن يكون هناك تشريع عقائدي واحد يعبر عنها؛ وهذا ما يقف حائلاً دون تطوير شعور شامل بالمواطنة بوصفها مرتكز النظام الديمقراطي. ولاسيما إذا أصرّ الفقهاء والزعماء الدينيون على وضع الشريعة الإسلامية بمكانة المصدر الرئيس لتشريع قانون الحريات والحقوق الدستورية في الدولة. إن هذا الأصرار على تطبيق الشريعة طبقا لفهمها من قبل الفقهاء وماهو سائد بين أغلبية المسلمين سيكون مصدر قلق كبير لأولئك المشغولين بالسلم والاستقرار الاجتماعي، ويعود ذلك لصراع التفسيرات وتعدد المذاهب واختلاف طرق صياغتها للقوانين المتعلقة بالحقوق الاجتماعية والسياسية. بالإضافة إلى ما تتطلبه التعددية الدينية للجماعات في السياق الإسلامي من أن يضع المَشرِع في اعتباره ليس فقط العلاقات بين المذاهب أو الطوائف، بل العلاقات بين الأديان أيضاً. لذا، أصبحت الحاجة إلى البحث في دور القيم الدينية مسألة ملحة وراهنة.
بوسع الأديان عموما بما تحتله من مكانة في الضمير أن تلعب دورًا مهمًّا على الصعيد النفسي، وتنمي التجدد الروحي وأن تكون سنداً للهوية المنفتحه على الآخر
إن التحدي الذي يواجه المجتمعات في السياق الإسلامي اليوم هو الاعتقاد الراسخ بين المسلمين ذوي التوجه الديني بأن الإسلام دليل شامل لحياة الإنسان، ويجب ألا يكون موجها ومرشدا ودليلاً فقط، بل يجب أن يحكم دولة حديثة ذات أغلبية مسلمة. هل يمكن أن نتصوّر أنّ هناك من بين المصادر الكلاسيكية التقليدية الموروثة ما يمكن توظيفه أو استثماره لإنشاء الدولة / الأمة في الوقت الراهن؟
أستكشف هنا إمكانية تصور هذا الاعتقاد الديني في ضوء الظروف المتغيرة التي تدير فيها الدول الحديثة شؤونها. ومن أجل القيام بذلك، سأتناول المصادر الأساسية للخطاب السياسي الإسلامي في السياق الذي شكل فيه هذا الخطاب الأسس السياسية للإمبراطورية الإسلامية.
إن تأمّلاتي حول المصادر التأسيسية مثل القرآن والمصادر التقليدية الأخرى التي تحظى باحترام كبير من قبل المسلمين ستوفر لي الفرصة لتقديم أطروحتي حول الحكم الديمقراطي القائم على نوع من العلمانية الوظيفية ــ سوف أعود إلى هذه العلمانية في وقت لاحق ــ لكن أؤكد من البداية أنني لا أفرض هذا المفهوم على التقاليد الإسلامية، فقد تم الاعتراف بفصل السلطات القضائية واستقلاليتها عن السلطات السياسة في ما يتعلق بالمعاملات بين البشر (بدلاً من الفصل بين الكنيسة والدولة في الغرب) في قانون الإسلام المقدس: الشريعة الإسلامية.
تكشف قراءة التفاعل بين الدين والتاريخ في الإسلام عن ذاك التطور التاريخي للتقاليد الإسلامية، والتي كانت مصدراً لمشروعٍ عامٍ قائمٍ على مبدأ التعايش، هو الإقرار بالحرية للجماعات الدينية الأخرى، أن تحكم ذاتها في ما يتعلق بإدارة شؤونها الداخلية في ظل نظام سياسي ديني واجتماعي شامل. وعلى عكس التصورات الحديثة الدينية أو العلمانية عن دور الدين، فإن من بين جميع الديانات الإبراهيمية المستندة إلى الروح التوراتية لتشكيل ثقافتها العامة، كان الإسلام منذ نشأته أكثرَ وعيًا بجدول أعمال الناس الدنيوية، مؤمنًا بعالمها واشتراطاتها.
نَظمَت الشريعة الممارسة الدينية بهدف الحفاظ على حقوق الفرد والجماعة. وتعامل نظامها الشامل مع الالتزامات التي يؤديها البشر كجزء من علاقتهم بالله والواجبات التي يؤدونها كجزء من مسؤوليتهم الشخصية. ومنها الحفاظ على النظام العام للعبادة، والتعامل الاقتصادي، وكافة مجالات التفاعل البشري. كما اعتبرت الشريعة الإسلامية المعاملات الاجتماعية كافة قائمة على معيار سلوكي أخلاقي مع إنفاذ القانون من خلال الأخذ بعين الاعتبار ما يظهر علناً أو يُمارَس في المجال العام. فلا تملك المحاكم الإسلامية ولاية قضائية على الأفعال الشخصية أو الخاصة، ما لم يحدث انتهاك للحق العام، حينذاك تتم محاكمة القائمين بتلك الأفعال من قبل القضاء دون تحقير.[1]
إن السؤال في سياق البحث عن المبادئ الإرشادية التوجيهية لمجتمع مدني، هو ما إذا كانت تتمكن الجماعة في السياق الديني/ الإسلامي من قبول فكرة أن الجماعات الدينية الأخرى لها وجود مستقل، وحق حكم ذاتها فيما يتعلق بشؤونها الداخلية والاحتكام إلى شريعتها؟ هذا هو الجانب الأكثر تحدّيًا في التزام المرء الديني المؤثر على النظام العام. النقطة الأساس التي تتطلب لفت النظر هي ما إذا كانت الجماعات الدينية مستعدة للاعتراف ببعضها البعض على أنها متساوية روحيا ولها نفس المكانة اللاهوتية، ويحق لكل منها الالتزام بطريقها الخاص للخلاص. ففي ظل نظام ديمقراطي تعددي، يعتمد الإجماع السياسي في الفضاء العمومي على حق ممارسة كل جماعة شعائرها الدينية.
أتعامل، هنا، مع التعددية الدينية على أنها تعني الاعتراف بالقيم المدنيًة البديلة والتعويضية عن التقاليد الدينية المتنافسة. فمن المتوقع أن تتعارض المعتقدات والقيًم الأساس لمجتمع واحد مع قيم أخرى تنظم تعاملات حياة ناس، أو يعيش بها أناس يعيشون في المجتمع نفسه؛ وهنا يتخفى احتمال الصراع والعنف، ما لم يتم التعبير عن التعاليم الدينية لكل فئة متلازمًا مع الحكمة العملية الضرورية المطلوبة للسلم في الفضاء العمومي، وهي الاحتكام إلى القوانين المحايدة دينياً.
إن المشكلة الأساسية التي تنعكس في الصياغة الكلاسيكية للهوية السياسية الإسلامية، هي الاستبداد الديني القائم على ادعاء خصوصية استبعادية، تتعارض مع الروح العالمية التي تنشأ مع الديمقراطية التي تعترف بالتعددية الدينية. ينبثق جوهر التعددية الديمقراطية من احترام حقوق الإنسان لغير المسلمين الذين يعيشون في المجتمعات الإسلامية. وقد كافح المفكرون والاجتماعيون المسلمون والكثير من المؤمنيين الإسلاميين منذ بداية القرن الماضي، من أجل إثبات قدرة الإسلام على بناء مجتمع سياسي يتخطى الحدود التقليدية بين المؤمنين وغير المؤمنين، مما يسمح للكرامة الإنسانية بأن تكون المعيار الوحيد للاستحقاقات الاجتماعية والسياسية.
قدم الإسلام، منذ ظهوره، لأتباعه رؤية معياريًة مُنظِمة للأمة أو الجماعة المؤمنة به، تقودها إلى حياة مثالية. هذه الرؤية لها علاقة بإمكانية وجود نظام حكم عادل في المجال العام، من شأنه تشكيل هوية مسلمة للناس الذين "يخضعون" بإيمان لإرادة الله كأعضاء في مجتمع بشري، وهي في المقام الأول إمكانية إعمار الأرض لحياة مجتمع متعدد الثقافات ومتعدد الأعراق محوره الله وتسنده الرؤية القرآنية للعلاقات بين الناس.
من المهم التأكيد على أهمية الخطاب المعيًاري القرآني الكوني الذي يخاطب كل البشر بعبارة "يا أيها الناس" فيدعو الإنسانية إلى الاستجابة لطبيعتها الفطرية الأصلية القادرة على التمييز بين الحق والباطل أو الصواب والخطأ. ولا يمكن لأي إنسان يتمتع بالعقل أن يفشل في فهم هذه اللغة الأخلاقية. والأهم من ذلك، أنّ هذا الخطاب مصدر للتوحيد بتخطيه للخلافات الدينية. كما أن هذه اللغة تحدّد التوافق الضروري بين التوجيه الأخلاقي الذي يتعلق بالحياة الخاصة والضمير الفردي، والتوجيه العالمي الشامل. وبالتالي، فإن القرآن يربط البشرية طبقاً لاستعدادها الطبيعي، ليس فقط لتكون على بينة من معنى الحقانية والعدالة، ولكن أيضا لتحقيق إرادتها على الأرض.
لا يمكن لأيّ إنسان في أطار هذا الأسلوب العالمي، إذن، أن يدعي الجهل بالمعنى الأخلاقي المميز بين الخطأ والصواب؛ مما يترتب عنه أنه لا يمكن لأحد أن يفلت من الأحكام الإلهية ويتهرب من قانون العدالة على الأرض.
يسمح القرآن لغير المؤمنين به بأن يكونوا بمعية الآخرين في مجال الأخلاق، حيث إن المعرفة الطبيعية للخير والشر تجعل الظلم بأي شكل غير مبرر ولا يغتفر. وبغض النظر عن كيفية تقسيم الأديان للناس، فإن الخطاب الأخلاقي يركز على العلاقات الإنسانية في بناء نظام عادل للناس كافة. ويزودنا بعلاقات إنسانية على المستوى العام كإطار عمل لتوافق الأديان أو الثقافات الأخرى من حيث "نحن" و"هم". فيصبح تعريف الذات الإسلامية قابلاً للفهم ومتاحًا لغير المسلمين من خلال وصف هذه الذات المفاهيمي للآخر. يقع مثل هذا الوصف للآخر غير المسلم في مجال الشريعة، وهو مجال النشاط الديني والأخلاقي القائم على الوحي.
ينشأ التوتر عندما يقوم مصدرا الهويات، الوحي والعقل، بتقديم مطالب غير متوافقة وغير قابلة للتطبيق على الفرد لعقد عضوية حصرية وشاملة في الجماعة والدولة القومية الحديثة
إنَّ الشريعة القرآنية بوصفها تعبيرًا عن المسعى الإنساني لتنفيذ الإرادة الإلهية على الأرض هي في الواقع مطابقة للاعتقاد بأن الإيمان هو أداة للعدالة. يخلق التساوق بين الشريعة والإيمان في حياة الفرد إحساسًا بالمسؤولية الكبرى لتحقيق العدالة من أجل مصلحته. وعندما يتم عرض هذا التساوق على الحياة الجماعية للمجتمع أيضاً، فإنه يؤدي إلى الأمن والنزاهة والسلام لاجتماعي.
فالسلام إذن، هو الاعتقاد المترجم إلى عمل. ولا يكفي أن نؤمن بالعدالة لتحقيق السلام؛ إذ السلام هو نتيجة الحفاظ على العدالة في كل مرحلة من مراحل العلاقات بين البشر، بينما يؤدي فصل الشريعة عن الإيمان إلى عدم الالتزام بالعدالة الذي يؤدي بدوره إلى الفوضى والعنف وحتى إلى الحرب. ومن هنا، فإن الوصفة الإسلامية المعيًارية لتجنب المذابح بين البشر هي الاستجابة لوحي الله، الذي يدعو إلى علاقة مخلصة مع الله وعلاقات إنسانية صادقة. بعبارة أخرى، يصبح الخضوع لإرادة الله نوعًا من قنوات خلق العدالة والإنصاف والحفاظ عليهما على الأرض. في نهاية المطاف، ترتكز رؤية الإسلام المعياري للعلاقات بين الجماعات المتنوعة على مشاركتها في الاهتمام الأخلاقي الديني عبر المساواة، والسلام، والعدالة.
لكن في غير هذه الرؤية المعيارية، نلاحظ أن التفاعل بين هذا الإيمان والتاريخ لم يرسِّخ رؤية مشتركة عن المساواة الروحية بين الأديان. لقد أدى هذا الفهم من عدم المساواة الروحية، في الواقع التاريخي المشخص، عند جزء كبير من المسلمين إلى عدم التسامح، بل إلى استبعاد الآخر حتى من العلاقة الإلهية - الإنسانية. لا يمكن أن تتصور مثل هذه العقيدة أو اللاهوت الدوغمائي الحصري مجتمعًا بشريًا عالميًا إلا تحت الهيمنة الإسلامية. ويصبح تفسير التقاليد الإسلامية، أداة لتعزيز السلطة السياسية "الإسلامية" على الأمم الأخرى. إنَّ الإصرار على الاتفاق بخصوص مسائل العقيدة، في مجتمع متنوع الملل، كشرط مسبق للتنظيم الاجتماعي يمثل تحدّياً كبيرًا ومشكلة معقدة. والحل الذي تقدمه النظرية الليبرالية العلمانية هو: لا يحصل الحكم ذو الكفاءة والفاعلية من الاشتراك في العقيدة، بل من نظام سياسي يجسد مبدأ التعددية الدينية ويتقبله.
لا يتطلب حلّ النزاعات بين الناس دعم بعض المعتقدات الدينية؛ فهي اختلافات في مسائل الإيمان غير قابلة للتوفيق. ولكن ذلك لا يعني أنهم لا يستطيعون مشاركة رؤيتهم عن مجتمع مستقبلي مستوحى من الإيمان الديني. ووفقاً لهذا النمط من التفكير الذي تحافظ عليه الليبرالية السياسية، لا يمكن الوصول إلى الأحكام المستندة إلى الأخلاق الدينية أو يتعذر بلوغها، لأن "بعض المقدمات الأساسية التي تكمن وراء هذه الأحكام لا تخضع للقبول العام أو لإثباتات مقنعة يمكن الوصول إليها بواسطة العقل العمومي".[2]
بوسع الأديان عموما بما تحتله من مكانة في الضمير أن تنشر الثقة بالحياة والمسامحة والتضامن، وأن تلعب دورًا مهمًّا على الصعيد النفسي، وتنمي التجدد الروحي وأن تكون سنداً للهوية المنفتحه على الآخر. وفي هذا السياق تتضمن الأديان الإبراهيمية من بين مذاهبها اللاهوتية مفاهيم عن العدالة الإلهية، ومفاهيم عن الأخلاق الإنسانية حول المسؤولية الفردية والجماعية لتعزيز النظام الأخلاقي العمومي. فلدى التقاليد الإبراهيمية بشكل عام، والإسلام على وجه خاص، الكثير للمساهمة في خطاب حول إدراج حجة دينية عالمية تدعو إلى التعاون الإنساني في تأسيس نظام عام عادل. ونحن كمسلمين علينا مسؤولية مواجهة التحدي المتمثل في الحاجة إلى التقييم النقدي لأوجه عوائق تبني مبادئ حقوق الإنسان، وعدم المساواة بين الرجال والنساء، وتجاهل التجارب الإنسانية، وإعادة تأكيد القيم الإنسانية في سياق إسلامي، وإعادة التوازن للاعتبارات الأخرى، مثل المصلحة الوطنية، وغيرها من الأولويات والتقاليد؛ بالإضافة إلى إجراء تقييم نقدي للفكر والممارسة الإسلاميَين الحاليَين لإثبات "إمكانية الوصول" لتفسيرات دينية تسـهم في تطوير "إجماع متداخل" أو متقاطع، طبقا لرأي راولز، ضروري في مجتمع ديمقراطي لأغراض الحكم الرشيد.
إنَّ هدف الوحي هو توجيه البشر؛ أي أنْ يكون مرشدا ودليلا لطريق الهداية الروحية والأخلاقية، لا نظاما لحكمهم، فلا يقدم القرآن نظرية سياسية إلهية للحكم. ولا يمكن للإسلام، وهو دين كوني لكافة البشر في كل زمان ومكان، أن يُوظَف من قِبل جماعة بشرية في زمان ومكان محدد كوسيلة أو إيديولوجيا للوصول إلى السلطة. نعم، قد تكون هناك صلة ما بين الإسلام والسياسة، ولكن بمعنى القيم الكونية الكبرى التي تأتي من خلال أطر نظرية تأسيسية كبرى.[3]
اعترف الإسلام صراحةً بالأرضية القيميًة المشتركة بين المسلمين وأهل الكتاب، وبأن اليهود والمسيحيين غير محرومين من الخلاص، ومن ثم لا يوضعون في منزلة أدنى في حالة عدم تحولهم إلى الإسلام.[4] لم يشعر المسلمون الأوائل، خلافاً للمسيحيين الأوائل، بالحاجة إلى تأسيس هويتهم الاجتماعية والسياسية والدينية على حساب مجتمع آخر.[5] كما أنهم لم ينظروا إلى الناس، كنظرة اليهود حين اعتبروا أنفسهم جماعة مختارة بشكل فريد لتلقي التوجيه والرعاية الإلهية في عالم خال من ذلك. رأى المسلمون جماعتهم واحدة من بين العديد من الجماعات الدينية ذات الإرشاد الإلهي. وقد نص القرآن على ذلك (كما في سورة المائدة الآية 48)؛ أي باعتبار المسلمين، كغيرهم من الطوائف الدينية الأخرى، كائنا اجتماعيا مستقلا بذاته وله قوانينه الخاصة لأعضائه.
هل يمكن أن يصبح الدين مصدرًا للتعددية الديمقراطية؟
لقد كان استبعاد الدين كأحد مصادر التعددية الديمقراطية اتجاهاً شائعاً في العديد من المجتمعات التي ترعى القيم العلمانية، وترسم خطًا فاصلاً بين المجال العام والخاص للنشاط البشري. لكن، في الوقت نفسه، يتم التسامح مع الدين من قبل العلمانية والاعتراف بوجوده، لكن دون أن يكون له صوت في الفضاء العمومي لافتقاره القدرة على التواصل مع من هم خارجه في المجتمع. لقد استسلمت جميع ديانات العالم، في بعض الأوقات، لضغوط العلمنة، وخضعت للشرط السياسي في مجتمعاتها، فأدت الملاءمة والموافقة بين الجماعات الدينية والسلطة السياسية إلى إزالة الأسس التشريعية لمختلف التقاليد الدينية.
إن تركيز سلطة علمانية أو دينية شاملة في يد قيادة حصرية، رافقها إساءة معاملة لأولئك الذين يعيشون داخل الجماعة وخارجها، ممن يرفضون ادعاءات هذه الجماعة الدينية. لقد حرمت الجماعات التوحيدية من وقت لآخر أعضاءها حقهم في الانشقاق أو الاعتراض على التفسير الجمعي لتقاليدهم بسبب الخوف من أن مثل هذا الخلاف الداخلي (عادة ما يطلق عليه الردة أو الزندقة) قد يكون مدمراً للهوية الجماعية الإيمانية وتماسكها الاجتماعي.
هناك رغبة قوية بين مسيًري شؤون التقديس من مختلف الأديان لمنع أيّ شكل من أشكال الشقاق الداخلي. لقد أدت المواقف اللاهوتية المتضاربة، وحتى المتنازعة حول الحرية الدينية في مختلف المجتمعات العالمية إلى استخدام غاشم للسلطة من أجل ضمان الالتزام بعقيدة واحدة شاملة. وقد تجلى ذلك في ظاهرة التعصب في العلاقات بين الأديان أيضًا. فبينما كان المسلمون يعاملون جماعات دينية أخرى بتسامحٍ نسبيٍّ، الاَّ أنهم غالبًا ما كانوا يُعامِلون معارضيهم الداخليين من ضمن دينهم بقسوة شديدة. فعلى سبيل المثال، في ظل مختلف السلالات الإسلامية القوية الحاكمة، عانت الأقلية الشيعية أو السنية من الاضطهاد أكثر من اليهود والمسيحيين.[6]
لا يُخبر القرآن بأن الإنسانية قد سقطت جراء ارتكاب الخطيئة الأصلية. ولكنه يحذر الناس باستمرار من الفساد والأنانية التي يمكن أن تُضعف العزم على القيام بتنفيذ الأهداف الإلهية للبشرية. يمكن لغطرسة الإنسان أن تصيب وتفسد التعهدات في السياسة، والمعرفة، والسلوك اليومي، والفقه والتفسير واللاهوت. وهذا الأخير هو الجانب الأكثر خداعًا وفساداً لأنه يتم باسم الله.
يؤكد القرآن على تعزيز الروابط الاجتماعية البشرية الإيجابية بين الناس، وعلى المسؤولية الأخلاقية المشتركة تجاه بعضهم البعض، كما يؤكد على العلاقات المتبادلة التي يعززها النسب والأصل الواحد. يأمر القرآن الناس بتكريم نظرائهم. (الإسراء، الآية: 26)، ومن الواضح أن الأهمية التي يوليها القرآن للعلاقات بين الناس تشير إلى تشجيع على إنشاء مجتمع أخلاقي روحي مكون من أفراد مستعدين وقادرين على مواجهة التحدي المتمثل في العمل من أجل الصالح العام.
ماذا عن الادعاء بأن التسامح يؤدي إلى حل وسط للحقيقة الدينية؟ قد تدعي جماعة أن تشجيع التسامح بين أعضائها يؤدي بها إلى التضحية بميزتها الرفيعة وخصوصيتها المتفوقة السامية في علاقتها الفريدة مع الحقيقة الدينية لصالح مواقف براغماتية. من الصعب إن لم يكن من المستحيل حل الاختلافات اللاهوتية حول أي من مسائل الوحي. ومع ذلك، فإن روح التسامح وتسوية الخلافات تتطلب بالتأكيد وجوب البحث عن أرضية مشتركة لتنفيذ المصلحة العامة للمجتمع. إن العمل من أجل هذه المصلحة بدون الإصرار على فرض المعتقدات والرغبات العزيزة على قلب كل فرد يمكن أن ينتج عنه فضاء عام ذو مشروعية يستوعب خبرات دينية إنسانية متنوعة.
هل يمكن أن يتحقق هذا الفضاء العام دون النظر في الأفكار حول المقصد الأسنى والغاية الأعلى من وجود الإنسان على الأرض؟ هل يمكن تحقيقها من خلال التعاون الجماعي من أجل المصلحة العامة أو حتى على نطاق واسع من أجل المصالح الفردية المختلفة التي لا يمكن التوفيق بينها؟ كيف يمكن لجماعة دينية أن تظل محايدة وغير متدخلة في القضايا الأخلاقية التي قد تتعارض من وجهة نظر المرء مع إحساسه بالغايات العلوية أو النهائية للحياة؟ توحي الوصفة العلمانية للديمقراطيات الليبرالية بأن التسامح الديني لا يمكن تحقيقه، إلا عندما يتم إضفاء الطابع المؤسسي على فكرة حرية الضمير في شكل حق الفرد الأساسي في حرية العبادة، أو نشر دينه، أو تغيير دينه أو حتى يتخلى عن الدين تماما.[7] ويُـقيد الإيمان في مجال الضمير الفردي الخاص، الذي يتم ترسيم حدوده بوضوح إزاء أو مقابل المجال العام، وبالتالي فصل المؤسسة الدينية عن الدولة. ولكن للمرء الحق في حرية الاختيار بين العقائد المتنافسة وممارسة إيمانه في المؤسسات الدينية الخاصة، ويرتبط بالمواطنة المشتركة في مؤسسات الدولة العامة. هذا هو الأساس العلماني للنظام العام الذي يتم فيه استبعاد جميع الاعتبارات المستمدة من السلطة المقدسة التي تأتي من الإيمان بالله إلى حياته الخاصة وفصلها من إدارة الحياة العامة.
تأسست التقاليد الإبراهيمية على الكتب المقدسة التي تحدد العدالة في التاريخ من خلال الجماعة. وأن المثل الأعلى للعدالة عند الجماعة الدينية هو نتيجة طبيعية للإيمان بإله أخلاقي يُصر على العدل والمساواة بين الأفراد بوصفه جزء من الكمال الروحي للمؤمن. وإنَّ هنالك ارتباطا لا غنى عنه بين الأبعاد الدينية والأخلاقية للحياة الشخصية؛ وعليها تُقدم مبادئ دينية في الفضاء العام. ويسعى هذا الوضع الأخلاقي الشخصي عند فقهاء ومفسرين وسياسيين "دينيين" إلى ربط المؤسسة الدينية بالسياسة ارتباطًا وثيقًا. ولكن لن يكون هذا الربط ممكناً ومقبولا طبقا لما تطالب به التعددية الديمقراطية، إلاّ إذا خضع لشرط مهم هو أن يتم تقديم محاجّجات عقلانية - منطقية عن مطالب هذه التعددية، لا مجرد الاكتفاء بإصدار فتاوى يراها ملزمة دينيًا في الفضاء العمومي.
حرية الضمير الديني في القرآن
يُعد الاعتراف بحرية الضمير والدين حجر الزاوية في التعددية الديمقراطية.[8] لذا يتطلب أيّ نظام اجتماعي تعددي تعبيرا فعليّا عن العقلانية وعن استقلالية الفرد في مسائل الإيمان الشخصي داخل المجتمع كجزء من العهد الإلهي-الإنساني. وتتطلب الرؤية الحديثة للنظام العام الاستقلالية الفردية وتقاسم الأفراد الأفكار والمثل والقيم الأساسية الموجهة نحو الملامح الرئيسية للمجتمع المدني.[9] كما يتطلب العيش معًا في مجتمع ما التبادل والتفاعل ليس فقط في مسائل التجارة وعلاقات السوق، ولكن يفترض أيضًا أساسًا مشتركًا للأخلاق الملزمة والمشاعر التي توحد الأفراد المستقلين القادرين على التفاوض حول الفضاء الروحي الخاص بهم، وهذه الشروط تنطبق على جميع المجتمعات في كل العصور.
إنّ تراجع الجماعات المتنوعة العقائد عن المطالبة بفرض تعاليمها الدينية لاشتقاق واستخلاص القواعد التي تُؤثر على الحياة العامة، بفضل الرغبة البشرية الطبيعية في التفاعل الاجتماعي، يمكن أن يخلق الاعتراف بالقيم الدينية التي تتعلق بالمشاركة والتبادل وتنفيذها دينًا مدنيًا، ويشجع على التعايش حتى مع أولئك الذين لايشاركون الجماعة المهيمنة رؤيتها الخاصة في الخلاص، إذ يمكن أن يتشاركوا في الاهتمام بالعيش في سلام وعدالة. والاهتمام باستقلالية الإنسان، ولا سيما حرية العبادة (أو عدم العبادة). إن هذا أمر جوهري بالنسبة إلى الرؤية القرآنية للتدين الإنساني.
يطالب القرآن المسلمين بأن يقيموا حوارًا مع تقاليدهم الدينية الخاصة للكشف عن مقاربة عادلة للتنوع العقائدي والتعايش بين الأديان. بالإضافة إلى ذلك، يثبت التحليل الدقيق للقرآن، أنه من المستحيل دون الاعتراف بالحرية الدينية تُصور الالتزام الديني كعلاقة إنسانية- إلهية يُلتزم بها بشكل حر؛ فالحرية الدينية تعزز المساءلة الفردية من أجل قبول المرء للإيمان بالله أو رفضه، والالتزام بممارسة الحياة الأخلاقية، والاستعداد للحكم عليها طبقًا لذلك.
إنّ التمييز بين الاستجابة الأخلاقية والدينية لتوجيه الله أمر بالغ الأهمية، هنا يُخبرنا الله في القرآن فيما يتعلق بإرشاده البشرية عن شكلين من التوجيه: توجيه أخلاقي شامل وهو يتعلق بجميع البشر ككائنات إنسانية، وتوجيه إرشادي محدد يُعطى لمجتمع عقائدي معين. من المُتصَور أن نطلب، على أساس التوجيه العالمي، التوحيد والانتظام، لأن هناك معيارًا أخلاقيًا موضوعيًا يَفترض وجوده ضمان رفاه وسعادة الإنسان. ومن الأهمية بمكان وعلى أساس توجيه محدد من خلال القرآن، يمكن السماح للبشر بممارسة إرادتهم في مسائل الإيمان الشخصي، لأنَّ أية محاولة لفرض العقيدة الدينية من شأنه أن يؤدي إلى نفيها. وعلى الرغم من أن الطبيعة الشاملة للتوجيه القرآني تُقدم وصفًا مفصلاً لحياة الإنسان المثالية على الأرض التي تتفق مع الاعتبارات التاريخية والثقافية للحياة الجماعية في الإسلام، إلاَّ أنها تُزيل العلاقة بين الله والإنسان من الولاية القضائية البشرية.[10] وهكذا، فإنَّ جانباً من التوجيه الذي ينظم العلاقة بين الله والإنسان يتعلق بـ تذكير "الناس" و"تحذيرهم" من عدم الاستجابة للدعوة الإلهية من خلال "الخضوع" لإرادة الله. فلم يستخدم النبي بوصفه قائدًا للجماعة سلطته السياسية لفرض طبيعة العلاقة بين الله والإنسان، لأن هذه العلاقة تقوم على استقلالية الذات وعلى مفهوم الاستخلاف الإنسانية. يُذكِّر القرآن الكريم النبي مرارًا وتكرارًا أنَّ واجبه هو تبليغ الرسالة إلى الناس دون أن يأخذها على عاتقه ليعمل كمنفذ ديني لله. (المائدة، آية: 54؛ ق آية: 45).
يزوّدنا هذا التوضيح (فيما يتعلق) بنوعين من التوجيهات التي يتحدث عنها القرآن أساسًا كتابيًا لحرية الدين. لا يقتصر الأمر على الحفاظ على فكرة القيم الأخلاقية العالمية والموضوعية التي يمكن الوصول إليها معرفيًا بالطبيعة البشرية دون أي تمييز بين المؤمن وغير المؤمن، بل يدعم أيضًا فكرة الضمير غير المعصوم والقابل للخطأ الذي قد يفشل في الاستجابة لدعوة الله. تؤدي هذه الفكرة عن إمكانية رفض التوجيه أو الإرشاد الديني إلى التسامح إزاء حق الاستقلالية الإنسانية في المسائل والأمور المتعلقة في الخيارات الدينية.
لكن يبدأ التوتر حالما يتحدث القرآن عن النظام العادل؛ فهناك العديد من التفسيرات ذات الأبعاد السياسية التي تحمل افتراضات إجرائية إلزامية لا تتعلق بالحرية الدينية الفردية فقط، ولكن تهدف إلى تشكيل نظام اجتماعي "عادل". فطبقا لهذه التفسيرات، يمنح القرآن الدولة أو الحكومة بوصفها ممثلا للمجتمع سلطة كبح "الفتنة في الأرض" التي تنتج عن غياب القانون وحمل السلاح ضد النظام الإسلامي القائم. وكذلك باعتبار أنّ القضاء على الفساد في الأرض، واجب أخلاقي وسياسي لحماية رفاهية الجماعة. وعليه، يجب أن لا يترك، النظام السياسي الإسلامي، الذي ينظر إلى الدين بوصفه لا ينفصل عن الأجندة العامة، لأتباع العقائد المتنافسة حرية ممارسة معتقداتهم، وهذا ما يخلق توترًا متأصلًا بين الجماعات الدينية، لا يمكن حله الاً بواسطة التنظيم القانوني والإجرائي للدولة.
قدم "نظام الملل" في العالم الإسلامي لما قبل الحداثة نموذجاً لمجتمع تعددي دينياً يمنح كل جماعة أو طائفة دينية وضعًا رسميًا ومقياسًا للحكم الذاتي. يعني نظام الملل أن "الأشخاص محددين دينيا"[11]، فكان "نموذجا لحقوق الجماعة"[12] التي تُـعرف من خلال الهوية الجماعية، وبالتالي لم يُعترف بأي مبدأ للاستقلال الفردي في مسائل الدين. ولم تقتصر هذه الهوية الجمعية على تحديد "الأقليات المحمية" غير المسلمة (الذمي)[13]؛ فقد سمح وضع الحكم الذاتي للملل أن تحصل على حق سيادتها أو سلطتها على العقيدة الأرثوذكسية رسميًا بواسطة قادة الملل.استلزم هذا الوضع الجماعي، في ظل الإدارة العثمانية، سيطرة الدولة على الهوية الدينية، وكانت تحت مراقبة المسؤول الإداري ممثل الدولة في ما يتعلق بالمجتمع الديني.[14] سمح النظام الملًيٍ بتطبيق العقيدة الدينية تحت رعاية الدولة، ولم يترك مجالاً للمعارضة الفردية، السياسية أو الدينية. كان يُنظر إلى كل ممارسة فردية لحرية الضمير بأنها تمثل انحرافاً عن العقيدة القويمة المقبولة التي يحافظ عليها وينفذها النظام الاجتماعي - الديني.
لقد تعامل هذا الموقف والتقييم للمعارضة داخل الجماعة المسلمة بكثير من التعصب، وقد تم وصفه بشكل واضح في الأحكام الفقهية التي تتناول الردة والتمرد الديني. وقد أظهرت الدراسات القانونية أدلة وافرة على أن الفقهاء المسلمين لم يُجروا تحقيقات في الفرضيات التشريعيًة الأخلاقية لأحكام محددة في القرآن. أدى غياب تحليل دقيق للأحكام التشريعية القرآنية من جهة، والمقولات الأخلاقية الدينية من جهة أخرى، إلى توليد أحكام لا تعترف بالفصل بين الولاية القضائية التي تتصل بالعلاقة بين الإنسان - والإنسان والأخرى التي مدارها العلاقة بين الإنسان- والله.
إن الاعتراف "بالمساواة في الخلق" هو اعتراف بغير المسلمين، وهو بالتأكيد وضع يمكن منحه للمواطن بغض النظر عن انتمائه الديني
يقدم القرآن وصايا شاملة ليس من السهل دائما التمييز فيها بين الأخلاقي والديني. جمع فقهاء المسلمين بين الانتهاكات الأخلاقية والأخرى الدينية، ثم رتبت عليها العقوبات نفسها. تعاملت الشريعة الإسلامية مع تلك الانتهاكات والتجاوزات على أنها تؤثر على البشر، وعلى العلاقة مع الله، واعتبرت كلاهما تستحق العقوبات نفسها، بينما العقوبات على "الجرائم" المرتكبة ضد الدين تقع خارج نطاق السلطة البشرية، فالسلطة القضائية في الإسلام مخولة بفرض عقوبات فقط عندما يكون هناك إثبات قطعي لاشك فيه أن الجريمة خطيرة، وهي تنتهك حقاً من حقوق الناس، عندئذ يكون واجب الحاكم المسلم حماية المصلحة العامة؛ لكن هذه الوظيفة التي تمنحها التشريعات الفقهية له تخلق مشكلة عندما تخوله سلطة شخصية مطلقة لتحديد الطريقة التي يمكن بها تحقيق أغراض الله على أفضل وجه في المجتمع.
هل من الممكن أن نتوقع أن يساعد التبني الجديد للصيغ الكلاسيكية حول فصل الولاية القضائية في ظهور مكان مهم للإسلام في الفضاء العمومي بوصفه دليلا أخلاقيا- دينيا للتوجيه والإرشاد بدلاً من الحكم؟ يمكن أن تجعل السلطة الدينية، التي يثق بها غالبية من المسلمين، مثل هذا المعنى للشريعة مقبولا. فبدون تعاون علماء الدين في هذا الوقت، من الصعب تحقيق الديمقراطية لمجتمعات في سياق إسلامي موسوم بالتسلط السياسي والديني. الخوف هو أن يبقى الحال مقصورًا بين الشكل الذي يزعم صفة "العلمانية" في سياساته السلطوية، وبين حكم السياسة الدينية المتسلطة. من المؤكد أنه بدون تعاون القيادة الدينية التي يمكن أن تقبل تفسيراً للإسلام خارج أطر النظام المعرفي القروسطي السائد، سيحتفظ الإسلام، ولا سيما نظامه في الوقت الحاضر، بنمطه الكلاسيكي ــ القروسطي في مطالبته بالحكم "تطبيقاً" للشريعة المقدسة للتحكم الكامل في جميع مجالات النشاط الإنساني. هنا يكمن الخطر على القيم الديمقراطية الأساسية للمساواة المدنية لجميع المواطنين في ظل دولة بالمعايير الحديثة. يمكن تبني القيَّم الإسلامية الكبرى بوصفها دليلا ومرشدا بدلاً من أن يحكم دولة أمة حديثة. وبهذه الحالة التاريخية، يمكن للدول الإسلامية الاستفادة من تراثها الديني شرط أن تتعامل مع جميع مواطنيها بوصفهم "نظراء في الخلق". بدون هذا الأساس لا يمكن لأي نظام سياسي أن يَدَّعي أنه ديمقراطي وتعددي.
ملاحظات ختامية
يخلق دور الدين في الثقافة السياسية الإسلامية علاقة ثنائية في معنى الولاء، الولاء للأمة والولاء للتقاليد الدينية. فيكون هذا الولاء المنقسم مصدراً لهويتين في الوعي الإسلامي، الهوية التي تولدها علاقة المرء مع الله، والتي تم تعزيزها من خلال الالتزام بـ"الشريعة" المقدسة، والهوية التي خلقتها تجربة العيش كعضو في هيئة اعتبارية وكيان مؤسسي. ينشأ التوتر عندما يقوم مصدرا الهويات، الوحي والعقل، بتقديم مطالب غير متوافقة وغير قابلة للتطبيق على الفرد لعقد عضوية حصرية وشاملة في الجماعة والدولة القومية الحديثة، على التوالي. يتم توفير الحل في الاعتراف بمبدأ يمكن أن يكون بمثابة أساس للمجتمع المدني. يمكن لهذا المبدأ أن يقود الهويتين إلى التقارب حول هدف مشترك - الإجماع المتداخل - هو الصالح العام في المجتمع. بغض النظر عن الانتماء الديني للفرد، فإن المبدأ، الذي تم التعبير عنه في إحدى صيغ المستندات أو الوثائق الإدارية للإسلام الكلاسيكي، يعترف بأن البشر "متساوون في الخليقة" وبحاجة إلى التوجيه والإرشاد والهداية، وليس الحكم بالدين لغرس القيم التي من شأنها الحفاظ على حياة ذات معنى. كتب الخليفة الأمام علي بن ابي طالب (ت 660م) عندما قام بتعيين والِ على مصر وثيقة طرحت فكرة المساواة المدنية، وأكدت أن عضوية الجماعة لا تتعارض مع المساواة المدنية القائمة على كرامة الإنسان. وطالما كان دور الإيمان هو غرس الوعي الأخلاقي والروحي المؤدي إلى السلوك المسؤول في المجتمع، فإن الحكم يمكن أن يقوم على مبدأ عالمي هو الاعتراف بالبشر الآخرين كنظراء في الخلق. وبعبارة أخرى، كان الشاغل الحقيقي للدين هو توليد الاحترام لجميع البشر وتقاسم الكرامة والشرف بوصفهم خلق لله.
إن الاعتراف "بالمساواة في الخلق" هو اعتراف بغير المسلمين، وهو بالتأكيد وضع يمكن منحه للمواطن بغض النظر عن انتمائه الديني. وبالتالي، يتمثل دور الدين في تعزيز المعايير والمواقف والقيم التي يمكن أن تسند العلاقات السلمية بين مختلف الجماعات العرقية والدينية. إن القواعد مثل "أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق" يمكن أن تكون بمثابة المبدأ المؤسس للحكم من خلال إنشاء مجتمع مدني. والسؤال الذي يجب معالجته هو ما إذا كان المجتمع الحديث بمواطنته التعددية والمتنوعة من حيث التجمعات الدينية والثقافية يمكن أن يتجاهل مثل هذه التوجيهات القيمة في مسائل حكمه لمدينة نموذجية من البشر "أخ لك في الدين أو نظير في الخلق". الرد واضح جدًّا في القرآن الكريم (المائدة، آية: 48) يتوقف الأمر كله على كيفية بدء المجتمعات الدينية في إضفاء الطابع المؤسسي الذي يتضمن إدراك السر الإلهي للسماح للتعددية في مسائل الإيمان والقانون بأن تكون موجودة في المجتمع الإنساني. ما يهم في نهاية المطاف هو المسؤولية الأخلاقية المشتركة التي يتقاسمها البشر من أجل تعزيز الخير العام.
المصادر
- المرزوقي، أبو يعرب، شروط نهضة العرب والمسلمين، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001
- المرزوقي، أبو يعرب، وحدة الفكرين الديني والفلسفي، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001
- المرزوقي، أبو يعرب، الوعي العربي في قضايا الأمة، دار الفرقد، دمشق، 2006
- المرزوقي أبو يعرب، صوناً للفلسفة والدين، دار الفرقد، دمشق، 2007
- Adam, B.Seligman, The Idea of Civil Society (NewYork: FreePress, 1992)
- Benjamin Braude, "Foundation Myths of the Millet System", Christians and Jews in the Ottoman Empire: The Functioning of a Plural Society (New York: Holmes & Meier Publishers, Inc., 1982)
- Joseph Schacht, An introductory to Islamic Law (Oxford: Clarendon Press, 1964), 189-190
- Kent, Greenawalt, Religious Convictions and Political Choice (New York: Oxford University Press, 1988)
- Karl-Josef Kuschel, Abraham: Sign of Hope for Jews, Christians and Muslims (New York: Continuum, 1995), 190
- Mark R. Cohen, Under Crescent and Cross: The Jews in the Middle Ages (Prince ton: Princeton University Press, 1997), 26; Marcel Simon, Versus Israel: A Sh1dy of Relations Between Christians and Jews in the Roman Empire (AD 135-425) (New York: Oxford University Press, 1986)
- M. G. S. Hodgson, The Venture of Islam, 3 vols (Chicago: University of Chicago Press, 1974
- John Rawls, "The Priority of Right and Ideas of the Good": in Philosophy and Public Affairs, Vol. 17 (4), 251-276
- Michael Walzer, Thick and Thin: Moral Argument at Home and Abroad (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 1994)
[1] Joseph Schacht, An introductory to Islamic Law (Oxford: Clarendon Press, 1964), 189-190
يناقش جوزيف شاخت، في كتاب "مقدمة في الشريعة الإسلامية" مراقبة الإجراءات في المحاكم الإسلامية قائلاً: "لا يمكن اتخاذ أي إجراء دون مطالبة. ويقتصر هذا المبدأ على اختصاص القاضي في اتخاذ إجراءات في أمور الرفاه العام... ليس كل أمر يتطلب رفعه للقاضي... فطالما لم يتقدم أي طرف للقاضي بشكوى لايتخذ القاضي أي إجراء."
[2] Kent, Greenawalt, Religious Convictions and Political Choice (New York: Oxford University Press, 1988), 68
[3] حول كونية الإسلام، وأنّه لا يمكن أن يوظف للإحاطة بالجماهير للوصول إلى السلطة، وأن صلة الإسلام بالسياسة ترتبط بالواسطة النظرية البعيدة، انظر الأطروحات المهمة التي قدمها: المرزوقي، أبو يعرب في: 1- شروط نهضة العرب والمسلمين، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001. 2- وحدة الفكرين الديني والفلسفي، دار الفكر المعاصر، بيروت، 2001. الوعي العربي في قضايا الأمة، دار الفرقد، دمشق، 2006. صوناً للفلسفة والدين، دار الفرقد، دمشق، 2007
[4] Karl-Josef Kuschel, Abraham: Sign of Hope for Jews, Christians and Muslims (New York: Continuum, 1995), 190
[5] Mark R. Cohen, Under Crescent and Cross: The Jews in the Middle Ages (Prince ton: Princeton University Press, 1997), 26; Marcel Simon, Versus Israel: A Sh1dy of Relations Between Christians and Jews in the Roman Empire (AD 135--425) (New York: Oxford University Press, 1986), especially chapter 3
[6] تتعامل الشريعة مع الأقليات غير المسلمة كفئة قانونية خاصة من أهل الذمة، مما يمنحهم وضع "الأقليات المحمية". وحتى عندما كان التمسك بالتمييز ضد هذه الأقليات، فإن وضعهم المستقل كمجتمع يتمتع بالحكم الذاتي كان راسخًا. وعلى العكس من ذلك، لا يوجد في القانون ما يضمن حماية حياة "المنشق" وممتلكاته داخل المجتمع. واعتبرت الأقلية الشيعية طائفة "هرطقة" من قبل أغلبية سنية في السلطة. وقد تغير الوضع عندما كانت سلالة شيعية في السلطة. وتزخر المصادر الإسلامية بالتقارير حول إعدام الذين عارضوا بشكل علني وجهة نظر السلطة الدينية الحاكمة. على سبيل المثال، انظر:
M. G. S. Hodgson, The Venture of Islam, 3 vols (Chicago: University of Chicago Press, 1974)
المجلد. 1، 242-251؛ 305-308. المجلد. 2، 536-539؛ المجلد. 3، 33-38
[7] John Rawls, "The Priority of Right and Ideas of the Good: ' in Philosophy and Public Affairs, Vol. 17 (4), 251-276
[8] John, Rawls, "The Priority of Rights and Ideas of the Good, “Philosophy and Public Affairs, Vol.17, No.4, 260, 265
[9] Adam, B.Seligman, The Idea of Civil Society (NewYork: FreePress, 1992),
يتطرق الفصلان الأول والثاني إلى تطور الفكرة في أوروبا والولايات المتحدة. ليس هذا العمل مقارنا بأي معنى، ومن ثم لا يتعامل مع تطور مماثل في مجتمعات أخرى. ولكن، كما هو موضح فيه، فإن المجتمعات الإسلامية هي وريث للأفكار التوراتية واليونانية من النواحي الفردية والخاصة والعامة لنشاط الإنسان. وبالتالي، فإن بعض الخصائص التي تم تحديدها الآن على أنها تتوافق مع المجتمع المدني كانت موجودة في جميع الثقافات حيث كان على الناس تعلم العيش في وئام.
[10] Michael Walzer, Thick and Thin: Moral Argument at Home and Abroad (Notre Dame: University of Notre Dame Press, 1994), x-xi
يستخدم مايكل والزير "سميكًا" لتعيين الإشارة التفصيلية إلى "الخصائص المميزة" عبر ثقافات مختلفة، والتي تمتلك أيضًا "أخلاقًا رفيعة وعالمية" تتقاسمها مع الشعوب والثقافات المختلفة. إن "السماكة" و"النحافة" صفة للتقاليد الأخلاقية لشعوب وثقافات معينة تقودنا أيضًا إلى إدراك المعاني "القصوى" و"الحد الأدنى"، على التوالي، في هذا التقليد، مع فهم واضح بأن "المعاني المبسطة مضمنة في الأخلاق القصوى، التي أعرب عنها في اللغة أو المصطلحات نفسها، وتقاسم نفس ... التوجه "(3). لقد أدخلت توجيهات "عالمية" و"خاصة" في التقاليد الإسلامية في إطار مفاهيمي مشابه، حيث يقدم العالمي وصف الحد الأدنى والضيق للمبادئ الأخلاقية؛ في حين، على وجه الخصوص، يوفر وصفا أقصى وأكثف من للغة أخلاقية متكاملة ثقافيا تستجيب لأهداف محددة.
[11] Benjamin Braude, "Foundation Myths of the Millet System", Christians and Jews in the Ottoman Empire: The Functioning of a Plural Society (New York: Holmes & Meier Publishers, Inc., 1982), 69
[12] Will Kymlicka, "Two Models of Pluralism and Tolerance", in Toleration: An Illusive Virtue, ed. David Heyd (Princeton: Princeton University Press, 1996), 82
[13] Braude, "Foundations; Christians and Jews, 69-72
[14] المصدر نفسه.