مفهـوم الفن: رصد تاريخي

إبراهيم ونزار

 

تقديم:

يمثّل التفكير في فلسفة الفن وفي تاريخها، بحثا في أهم اللحظات وأقواها التي كان فيها الفن موضوع دراسة للفلسفة ومباحثها. والتفكير الفلسفي في الفن، هو بالتحديد تفكير في كيفية تكوّن عمل فني، وفي معايير فنّيّته.

إنْ كان يلزمنا الانطلاق دوما من التجربة الفكرية الإغريقية، فإنّ ذلك سيفرض علينا اختيار نموذج مهم مثل أرسطو-Aristote، بالوقوف عند مفهومي: "الشاعرية" و"المحاكاة". ولعل أهمهما هو "المحاكاة" بوصفه تحليلا لكيفية نشوء إرادة الإبداع لدى الفنان من خلال استلهامه لنموذج ما، سواء أكان نموذجا عينيا ملهما، أو نموذج فعل الإبداع عينه.

ثم بعد ذلك، سيكون علينا أن نأخذ نموذجا حديثا كان له الأثر البالغ في مسار الفكر الفلسفي البشري، وهو هيغل-Hegel، عبر محاولته جعل الفن علما: له قواعد وأسس ومناهج، ومستقل بمفاهيمه وفرضياته. لقد نظر هيغل إلى الفن بوصفه تصورا يجمع بين خصوصية الجميل-Beau، وبين طابعه الفني الملازم له. فالجميل هو بالضرورة عمل فني.

في مستوى آخر، سنرى كيف أنّ التصور الهيدغري للفن سيجعله جزءً من مشروع تقويض الميتافيزيقا الغربية. لقد انطلق هيدغر من كون الفن مثالا للتجلي الأبرز والأكثر أصالة للوجود، والذي من خلاله أيضا يمكن رسم معالم كينونة الإنسان. فاللغة تُبدع قولا قادرا على تجاوز حدود العقل التقليدي كما رسمته الميتافيزيقا التقليدية، وهذه اللغة التي يقصدها هي لغة الشعر.

كما يفتحنا، في مستوى أخير، كتاب الهيرمينوطيقي المعاصر جورج هانس غادامير-H.G. Gadamer، "تجلي الجميل"، على أفق إشكالي غني بالقضايا الفلسفية الموجهة لمقاربة كبرى مفاهيم الفن. هذا العمل الفلسفي الفني، الذي أصله مجمل مقالات غادامير، هو مساهمة في تثبيت وتوضيح الأصول التداولية لكل مفهوم يحظى اليوم في الفن المعاصر بأشكال الاهتمام. لقد عاد غادامير إلى: "المحاكاة"، و"التعبير"، و"الإيماء"، و"العلامة"، و"الرمز"... معتبرا أنّ كل تفلسف في الفن لا يمكن تحققه بمنأى عن فهم رصين لهذه الأسس النظرية الفلسفية العريقة، التي يعود جُلُّها إلى التجربة اليونانية الرائدة.

1. فلسفة الفن عند أرسطو

يستدعي الحديث عن كل مدخل فلسفي إلى الفن وقضاياه، تحديد أكثر المفاهيم ذيوعا في تاريخه، وأكثرها استعمالا من طرف كل متكلم في هذا المجال. «(...) فالفن، وفقا لرأي أرسطو، هو محاكاة؛ ولكنه ليس محاكاة لشيء، بل محاكاة لفعلٍ»[1]. إذا كان الفن عملا إبداعيا يقوم فيه الفاعل بإبراز إمكاناته التمثيلية والتصويرية التعبيرية واللغوية البيانية، فإنه ليس بالضرورة محاكاة وتقليدا لنموذج بعينه، وقد يكون كذلك أيضا، لكنه محاكاة لفعل الخلق والإبداع في حد ذاته. إلا أنّ نظام محاكاة الأشياء يخضع بدوره إلى سلطة الخلفية التي تصوغها تلك الأشياء نفسها، فتسمح بأنْ تستحضرها كنموذج موجود بفعل عمل إبداعي، لا بما هو نموذج للتقليد. لكن ومع ذلك، فإنّ أرسطو في جانب من تصوره الفلسفي للفن يقول: «إنّ الشاعر هو من يكون محاكيا، سواء أكان رساما أو أي فنان آخر ضمن هذا الإطار، فإنه يخضع بالضرورة لنظام محاكاة الأشياء»[2]. تبقى هذه "المحاكاة" المفهوم الأكثر شيوعا في المتن الفلسفي الفني الأرسطي؛ ذلك أنه المفهوم المعبر بشكل دقيق عن التصور الفني الذي يقود الفنان في كل عمل يقوم به. فالفنان من منظور أرسطو لا يخرج عن التقليد، أكان هذا التقليد منطلقا من الشيء أم من فعل صانعه. «(...) لم يكن أرسطو يخلط بين الفن والمعرفة العملية، بل كان يقول إنّ غاية الفن تتمثل بالضرورة في شيء يوجد خارج الفاعل، وليس على الفاعل سوى أن يحقق إرادته فيه، في حين أن غاية العلم العملي هي في الإرادة نفسها، وفي الفعل الباطن للفاعل نفسه»[3].

إنّ غاية الفن عند أرسطو أخلاقية بامتياز؛ حيث يسعى من خلالها إلى استثمار الفنون في التنشئة والتربية والتعليم، بما ينمي إمكانات العقل ويطورها، ويهذّب الذوق واللذات الحسية. وليس الانسجام الذي يدعو إليه أرسطو في تصوره للفنون إلا دليلا على ضرورة الانسجام الذي ينبغي أن يسم حياة الفرد في علاقته بذاته وبمجتمعه. «والواقع أن غاية الفن عند أرسطو، وكما يرى المحدثون، هي تحقيق التوازن النفسي لدى الفرد، والتكامل بين أعضاء المجتمع، ومن هنا كان الفن من ضرورات الحياة البشرية، ولقد كان لفلسفة أرسطو في الفن تأثيرا عظيما في العالم الأوروبي. فتأثر النقاد بكتابه "فن الشعر"، وخاصة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وعنه أخذ الكلاسيكيون المعايير العقلية للنقد الفني، وأهمها ضرورة توفر الوحدة العضوية في العمل الفني»[4].

تستلزم عملية التفلسف شيئا من الاحتكاك والاستشعار لكل ما هو جميل في الأشياء والوجود عامة

من أبرز ما انكب عليه البحث الأرسطي في الفن، إلى جانب مفهوم "المحاكاة"، هو جماليات القول الشعري من الناحية الفنية والبلاغية؛ فالأهم عند أرسطو ليس أن يكون الإبداع مجازيا متعاليا عن اللغة العادية، لكن ثمة قدرا من الواقعية ينبغي للخطاب أن يلتزم به، ويخضعه هو الآخر للمنطق، وبالتالي ليس الإبداع الفني مجالا مطلقا يمكنه استيعاب المغالطات. يقول أرسطو: «تصطدم الشاعرية بنوعين من الأخطاء: الأولى، ذات طابع جوهري، والأخرى عرضية (ثانوية). بالتالي، إذا كانت الشاعرية تسعى إلى المحاكاة تحت شروط مستحيلة، فإنّ الخطأ يعود إليها بالذات، في حين أنّه إذا كان الرسم صحيحا، لكنه يصور لنا حصانا يقدّم إلى الأمام رجليه اليمنيين، أو ارتكاب خطأ ضد فنّ خاص، مثل الطب أو كل الفنون الأخرى، فإنّ المستحيلات المتخيلة لن تُعزى إلى هذه الشاعرية نفسها»[5]. إذن، فإنّ للفن منطقا يحكمه، ويرفع هو الآخر عن التناقض، ويقوّم نشاطه عند أرسطو. إنْ كانت المحاكاة تقلّد الشيء في الواقع أو الفكرة في الذهن، فإنّ شرط إمكان اعتبارها ممارسة فنية لا يقتصر على مدى تحقق المحاكاة فقط، بل على مدى معقولية مضامين المنتوج الفني. لكن، ومع ذلك، فإنّ «(...) المستحيلات من المتخيَّلات، إنها غلطٌ؛ لكنها صواب، إذا كان الغرض من الفن قد تحقق»[6]. لا ينفصل غرض الفن عند أرسطو، مهما بلغ قيمته الإبداعية، عن الغاية التربوية والأخلاقية؛ ذلك أنّ الفنّ وإنْ كان محاكاة، فإنه محكوم بنمط تقليد ينقل جملة من القيم، وينشئ عليها المتلقي، هذا علاوة على شرطي العقلانية والواقعية، الذي ينبغي توفرهما في كل عملي فني.

2. فلسفة الفن عند هيغل

إنّ كل عمل يقدم قدرا ما من الجمال هو عمل فني بالضرورة، وحيثما وجَدَ الإنسان في شيء ما يجذبه، ويدفعه إلى التفاعل معه جماليا، فإنه شيء قد توفّرت فيه بعض الخصوصيات الفنية أو جلها. لا يفصل هيغل بين الإمكانية المتاحة للتفلسف حول العمل الفني، وبين ما يحمل في طياته من جمالية؛ ذلك أنّ ما يدعو الفلسفة في الأصل إلى وضع أسئلتها رهن إشارة الإنتاجات الفنية، لهو بالأساس ما يفعل الجميل في الإنسان، وما يتركه عليه من الآثار. «(...) إن عملا ما يروم تقديم شيء من الجمال، يكون إذن عملا فنّياًّ»[7]، وهو ينسحب على جميع الإنتاجات الأخرى. بالإضافة إلى الطابع الجمالي، المؤدي إلى حالة التفلسف حول العمل الفني، فإنّ ثمة سمة أخرى تميّز الشيء الفني فلسفيا، وهو كونه جليلا- Sublime[8]؛ فالجليل إلى جانب الجميل، هما سمتا كل عمل فني من وجهة فلسفة الفن عند هيغل، ثمّ إن ثمة شيئين يحملان العمل إلى مستوى الجمال، وهما: حصول وعي للعقل الحر، ثم الوعي بالعناصر الثانوية المحسوسة الطبيعية التي تجد لها أصلا في هذا العقل أيضا[9]. إنّ أهم ما جاء به التصور الهيغلي هو إخضاع كل مجالات النشاط الإنساني الخاص إلى العقل وسلطته الصارمة. فالفن جزء من إمكانات العقل المطلق-Esprit absolu، وبالتالي فهو خاضع للمقولات المنظمة لأنشطة هذا العقل نظريا وعمليا.

يسمح التصور الهيغلي لفلسفة الفن بأنْ نفهمه على أجزاء ثلاثة: أولها، كونها فكرة للجميل في الفن، أو المثال المعتبر في عموميته؛ ثم ثانيها، كون فلسفة الفن تسعى إلى تقفي أثر تطور المثال في أشكاله الخاصة، كما صيغت عبر سيرورته التاريخية؛ أما الجزء الأخير، فإنه يتضمن نسق الفنون الخاصة: الهندسة، النحت، الرسم، الموسيقا، والشعر[10]. تُلازم فلسفة الفن تطور العقل في تمثلاته، وفي تطور أشكال وعيه المجرد[11] والمحسوس. ومن هنا تُنسج رابطة بين فلسفة الفن، كمفهوم أكثر دقة، والإستيطيقا بوصفها «(...) الإمبراطورية الأوسع للجميل في الفن. ولكي نكون أكثر دقة في استعمال التعبير الملائم، فإن الأفضل لهذا العلم أن يسمى "فلسفة الفن"»[12].

تستلزم عملية التفلسف شيئا من الاحتكاك والاستشعار لكل ما هو جميل في الأشياء والوجود عامة. وبمجرد حصول هذا الشعور الحسّي بالجميل، وتحقق لذة تجاهه، فإنّ ذلك لا محالة يكون بموجب انجذابنا إلى شيء ما بعينه في ذلك العمل الفني، لذلك اعتبر هيغل أنّه عندما نمارس عملية التفلسف أمام عمل فني معين، فإننا نركز على أشياء بعينها[13]. بهذا المعنى يكون كل عمل فني مكتفٍ بذاته من حيث خصوصياته الشكلية والمضمونية، وبالتالي فهو لا يحتاج إلى شيء مخارج له، يعضد به موقفه الجمالي تجاه العالم الخارجي؛ لأن الطبيعة ليست بالضرورة نموذجا للمحاكاة بالنسبة إلى الفنان، بل إنّ الفن هو إبداع لعمل ما بالموازاة مع إبداعات الطبيعة، ذلك أنّه «(...) لا يحتاج الفن إلى مادة خارجة عنه معطاة، تحمل في سماتها صورا وتمثلات موضوعية، بل ينبغي أن تكون [هذه المادة] أكثر من كونها أشكالا وصورا للطبيعة بدلالاتها، لكي تعبر عن المحتوى الروحي المضمر»[14]. الفن إذن، إطباق لمحتويات العقل المجرد على المادة الخارجية، وإبراز لمكامن التمثلات التي يؤسّسها عن ذاته والعالم الخارجي، من دون أن تكون معطيات الطبيعة نسخة أولى ينطلق منها للتقليد، فليس ثمة، عند هيغل، ما يمكن اعتباره ضدا مقابلا للفن أكثر من الطبيعة نفسها[15]؛ إذْ إنّ الإبداع الفني الحقيقي كما تحدّث عنه هيغل، يشترط أن يكون عملا موازيا للطبيعة وليس نسخة عنها، أو تقليدا لأحد أشيائها، «(...) إنّ من شأن الفن أن يصنع ما عجزت الطبيعة عن تحقيقه»[16].

3. مفهوم "العمل الفني" عند هيدغر

يضع هيدغر على قمة هرم الفن "الشعر" إيمانا منه بقدرته على التعبير الفلسفي عن الكينونة. فالشعر خطاب تتمدد فيه اللغة لتستوعب دلالات الوجود الواسعة. إنها اللغة الفلسفية الأكثر أصالة، والأكثر ارتباطا بفعل التفلسف. من شأن الشعر، بوصفه فنا، أن يكون طريقا إلى مراجعة مسلمات الميتافيزيقا التي وُضعت منذ أفلاطون؛ ذلك أنّ الرجوع إلى النموذج الفلسفي الأكثر عراقة مع أسلاف سقراط، وتحديدا بارمينيدس، لهو دليل على مدى أهمية اعتماد الشعر كأسلوب في التفلسف، وبالتالي تقويض أوهام الميتافيزيقا، وإنشاء تصورات جديدة عن الكينونة والوجود، والحقيقة والفكر، والعقل والفن. إنّ جوهر الفن هو الشعر؛ لأنه جوهر لا يُعنى بما هو متشكّل بصورة مسبقة، بل بما يجسّد فيه فعل الخلق والإبداع، وينزل عليه سمة الوجود[17]. إنّ فاعلية الإنسان (الملقى به هناك-Da-sein) كامنة في مدى قدرته على إبراز المكنون الإبداعي الإنساني القادر على التعبير من جديد عن حقائق الوجود. لا يعبر العمل الفني عن طريق ما هو حقيقي وواقعي، بل إنّ «العمل الفني رمز المجاز والرمز معا، وهما يقدمان إطار التصور الذي يتحرك في مجال رؤيته وصف العمل الفني منذ مدة»[18].

بين الفنان والفن علاقة تلازم مستحيلة الانتهاء، فمن خلال العمل الفني، يكتسب الفنان هويته الجديدة في هذا العالم، «(...) ويكون كذلك عن طريق العمل الفني»[19]. بذلك، يصير الإنسان الكائن الأقدر على التفكير في حقيقة وجوده اللا متميز، على عكس ما تذهب إليه النزعات الإنسانية المنافحة عن هذا الأخير بوصفه محور المعرفة والوجود والقيم. إنّ كينونة الإنسان هي نمط وجود لا مفاضلة فيه بينه وبين الموجودات الأخرى، إلا من حيث هو كائن "يقول-Parler"[20]، وسمة القول فيه هي التي تجعله مميزا بوصف اللغة التي يتقوَّل بها قادرة على إبداع المعاني لوصف الوجود. لكن أكثر ما دفع هيدغر إلى مساءلة العمل الفني في حقيقته، هو كون الفن شيئا له جوهر: فما هو هذا الجوهر؟ وكيف يمكن للعمل الفني أن يحمله في عناصره؟

كل حديث عن الأصل يفترض بالضرورة سؤالا عن: «(...) من أين وبماذا يكون هذا الشيء وما هو وكيف هو. هذا الذي يكون عليه الشيء وكيف هو، نسميه جوهره»[21]. وبالتالي، فإنّ تقفي أثر الجوهر داخل العمل الفني، هو تتبع لشيء ما، ومحاولة للقبض عليه. فما قيمة الشيء هنا أيضا؟ الشيء هنا هو التعين الفيزيقي لمادة العمل الفني. من هذا التعين الحسي يمكن تحديد ملامح الإبداع، التي هي في حد ذاتها إضافات الفكر الإنساني على مادة موجودة، ومن هنا يتحقق المفهوم الواقعي للفن؛ حيث يقول هيدغر: «(...) الفن مجرد كلمة لم يعد يطابقها شيء حقيقي. من الممكن أن تعتبر تصورا جامعا، لا نضع فيه إلا ما ينتسب إلى الفن حقيقة؛ أعني الأعمال الفنية والفنانين»[22]. يطرح هيدغر إشكالا حول كيفية إمكان الحديث عن عمل فني من دون الوقوف على معنى محدد لجوهر الفن! هذا من الأمور الصعبة التي طرحتها فلسفة هيدغر في الفن، ذلك أنها واجهت مسألة الجوهر والأصل في قضية الفن بوصفهما سعيا إلى بلوغ الحقيقة القصوى للعمل الفني. وبالتالي، فإنّ «(...) السؤال عن أصل العمل الفني سؤال عن مرجع جوهره»[23]، كما خلص إلى ذلك هيدغر نفسه.

إنّ طبيعة الشيء في العمل الفني، هي طبيعة مادة أولية لابد من توفرها كشرط أدنى من شروط الإبداع. فكل الأجسام يمكن توظيفها في العمل الفني، ولا يزيد ذلك إلا من التأكيد على الطابع الحسي الواقعي للفن ومظاهره، ونفي التصور العدمي والميتافيزيقي له. إنّ الشيء يؤكّد على جوهرية الفن الحسية والواقعية؛ إذْ«(...) لا تستطيع التجربة الجمالية غضّ الطرف عن الطابع الشيئي للعمل الفني. فالحجر موجود في العمل الفني المعماري، والخشب موجود في العمل الفني المحفور، واللون موجود في اللوحة المرسومة، والصوت موجود في العمل الفني اللغوي، واللحن موجود في العمل الفني الموسيقي»[24]. وبالتالي، فالشيء هو كل ما ليس عدما، على حد قول هيدغر.

4. فلسفة الفن عند غادامير:

قارب غادامير أهم مفاهيم فلسفة الفن عبر تاريخ الفلسفة، مقاربة تأويلية، رام من خلالها فك رموز الارتباط بين الأعمال الفنية على مر التاريخ، وبين الدلالات الروحية، السياسية، الاجتماعية، والعلمية... سعيا منه إلى فهم العمل الفني القديم والمعاصر على أسس بديلة، يُعيد التفكيرُ مساءلتها واختبار نجاعتها من جديد، قصد تصويب المفاهيم النقدية والتحليلية والتأويلية التي تشتغل بها فلسفة الفن المعاصرة. يفترض غادامير أنّ كل فهم للفن في عصر ما من العصور، هو قياس لمنسوب الميل إلى فكرة أو حقيقة أو معتقد ما. فالفن هو المدخل الذي يمكن من خلاله أيضا فهم الماضي والحاضر، من خلال الوعي بشروط تشكل الأعمال الفنية في الماضي، وكذا في ما تتأسس عليه مفاهيمها في الحاضر.

من "المحاكاة-Imitation" إلى "التعبير-Expression":

عندما أراد غادامير تحليل إشكاليات الفن الحديث، عاد إلى فيثاغورس-Pythagore وأرسطو-Aristote، ثم عرّج على كانط-Kant. فربط دلالة الفن عند هذا الأخير بالسرور واللذة التي يستشعرها المرء أمام عمل فني ما؛ حيث يقول: «(...) إنّ الفن يتم إنتاجه لكي يسرنا. ومن الصحيح أيضا أنّ العمل الفني يقدّم ذاته دائما بطريقة عقلانية»[25]. أما أرسطو، فقد قال عنه: «وعلى الرغم من كل الأحكام المسبقة الكلاسيكية والمضادة للكلاسيكية في هذا المجال، فإنني أود أن أستدعي أرسطو باعتباره الممثل الرئيس لنظرية المحاكاة الكلاسيكية، كي يساعدنا في محاولتنا فهم الفن الحديث. (...) ولكي نفهم ذلك، فإنه يجب أن ندرك أولا أنّ أرسطو لم يطرح نظرية حقيقية في الفن بالمعنى الواسع»[26]، وهذا أول مدخل إلى فهم أرسطو وفهم الفن الحديث وقضاياه من خلاله، وكذا فهم أنّ أرسطو كان يسعى من خلال المحاكاة إلى التعرف على العالم أكثر عبر تقليده، ولعل هذا التعرف وحده، الذي فتح أفقا لكشف الحقائق في العالم، هو ما من شأنه أن يعيد الاعتبار للتصور الفلسفي الفني الأرسطي. عاد غادامير إلى فيثاغورس أيضا، فقال فيه: «(...) وفي سعينا هذا للعثور على مفتاح يفسر لنا الفن الحديث، فإنني أودّ لأن أرتد إلى ما هو أبعد من أرسطو، إلى فيثاغورس»[27]. إنّ السر الفيثاغوري في التصور الفني للعالم، يتداخل فيه البعد الرياضي والعلمي والروحي. فالنسيج المشروط في النغمات الموسيقية، هو محاكاة لنظام الكون النموذجي، ومن خلال هذه المحاكاة ندخل، حسب فيثاغورس، في حوار مع الكون أساسه الاندماج والفهم، وبالتالي المعرفة[28]. إنْ كان ثمة ما ينبغي للفن الحديث أن يستثمره في قراءته للعمل الفني، فهو مفهوم "النظام" المستوحى من الفلسفة الفيثاغورية.

بين الفنان والفن علاقة تلازم مستحيلة الانتهاء، فمن خلال العمل الفني، يكتسب الفنان هويته الجديدة في هذا العالم

ينبغي أن نوضح منذ البداية مع غادامير، أنّ المقصود بالصورة هنا ليس هو نفسه ذلك المضمون الذي تشكل منذ أسطورة "نارسيس-Narcisse"، الذي اكتُشفت معه الصورة، من خلال مشاهدته اليومية لوجهه في ماء النهر، إلى درجة إعجابه به، فظن في لحظة ما أنّ مَنْ في الصورة امرأة جميلة... تجرأ على لمسها فتعكر الماء واختفت ملامح الصورة فمات أسىً على ذلك فذبل جسمه، ونبتت مكانه نبتة تسمى "النرجس"، وهي التي تحيل اليوم على المبالغة في حب الذات، وتشكل حالة مرضية في الدراسات النفسية. إنّ الصورة التي يتحدث عنها غادامير هي مجموع التعبيرات عن المضامين والأفكار التي تقدمها أجناس فنية متنوعة. ففي اللغة صورة، وفي الرسم التشكيلي صورة، حسب غادامير. إنّ أهم المفاهيم التي ينبغي الوقوف عندها لمقاربة القضايا الفسلفية في الفن الحديث، وتحديدا في فن التصوير هو مفهوم "المحاكاة"، فهو «أوّلُ المفاهيم (...) التي سوف تساعدني على الاقتراب من مشكلة فن التصوير»[29]. يرتبط إنتاج العمل الفني بكل مبدع، وحسب ما يميل إلى الاشتغال به من الأجناس الفنية الإبداعية عموما. لا يرسم غادامير حدودا بين هذه الأجناس إلا من باب التفريق الذي ينظم الحديث عن كل منها قصد الفهم. إنّ الفنان الذي يختار الرسم، فهو يخزّن دلالته ومقاصده في الألوان، والخطوط، والأشكال. كما يفعل الموسيقي أيضا، حين تحاكي نغمة آلته تصورا معينا للوجود. «(...) فإذا أمكن لفنان ما أن يعبّر بالكلمات عما ينبغي عليه أن يقوله، فإنّه لن يرغب عندئذ في أن يبدع، ولن يكون بحاجة إلى أن يهب صورة لأفكاره»[30]، وهكذا الأمر في شؤون الفن. لكن التفكير في كل من هذه الأجناس الإبداعية يبدو في غاية الأهمية، خصوصا إذا شاطرنا غادامير الرأي في القول بأنّ جميعها تسعى إلى محاكاة شيء معا! هل هذا يعني أنّ غادامير فعلا يود الإبقاء على المبدأ الأرسطي العريق في العمل الفني؟

لا يدافع غادامير عن المحاكاة بالقدر الذي يُخضعها لأشكال المساءلة النظرية والتطبيقية؛ أما من حيث المساءلة النظرية، فلأنه يتتبع خيوطها رغبة في رصد الدلالات الممكنة لهذا المفهوم منذ القدم؛ ذلك أنّ غادامير يعترف بأنّ «(...) المحاكاة مفهوم واسع قد نشأ في عصر القدماء، ولكنه قد بلغ ذروته الجمالية والثقافية في فترة الكلاسيكية الفرنسية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، قبل أن يكون له تأثير فيما بعد على الكلاسيكية الألمانية. فهذه الحركة الكلاسيكية قد سلّطت الضوء على مذهب الفن بوصفه محاكاة للطبيعة»[31]. إلا أنّ إقراره هذا بعراقة المفهوم نظريا في تاريخ الفلسفة والفن، يجعله ينتقل إلى المساءلة التطبيقية، التي ارتأى أن يختزل نتائجها في اعتبار المحاكاة القديمة أصل كل فلسفة للفن الحديث والمعاصر، لكن بِنُسَخ وصيغ معدّلة تدّعي تطوير المضمون القديم، في الوقت الذي لا تزال فيه الطبيعة مصدر إلهام الفنان، ومعيار دقته وبراعته وإبداعيته. وما دام الأمر يتعلق باستنساخ أشكال الفهم للطبيعة، وإسقاطها على الأعمال الفنية، فإنّ التقليد بصيغ مختلفة هو ما أطّر الفن بوصفه طريقا إلى اكتشاف العالم.

ينتقد غادامير مضمون مفهوم "المحاكاة"، ويضع له أجلاً انتهت عنده صلاحيته بموجب تحولات فكرية، واجتماعية، وسياسية، وعلمية، ودينية... وصار من اللازم أن يجد الفن لنفسه مفهوما أكثر حداثة يستطيع مسايرة روح العصر، ليقتدر الفن نفسه عن التعبير. فكان "التعبير" هو البديل الأبرز الذي وجده غادامير قد نافس المحاكاة في أَوَجِّ الحداثة؛ حيث يقول: «وعلى الرغم من ذلك، فإنّ مفهوم "المحاكاة" لا زال يبدو غير موافق للعصر الحديث. وإذا استرجعنا النظر في التطور التاريخي للفكر الجمالي، فإننا نلاحظ أن مفهوم "المحاكاة" قد واجه تحديا قويا، وتم إبطال مفعوله آخر الأمر في القرن الثامن عشر بواسطة مفهوم جديد تماما هو مفهوم "التعبير-Expression" (...) الذي انبثق من جماليات الموسيقا في القرن الثامن عشر»[32]. لقد ألهمت الموسيقا الفن، ووجد في التطور الذي شهدته خلال عصر الأنوار، نموذجا راقيا وصالحا للاقتداء. لا يكفي أن يعود المرء إلى الإبداعات الموسيقية التي أُنتجت في تلك الحقبة لكي يفهم سر تفوق الموسيقا في القرن 18م، بل لابد من فهم الأسس التي انبثق عنها هذا التصور أولا، وكيف سمح بأنْ تقطع الموسيقا أشواطا مقارنة بباقي الفنون الأخرى، من الناحية الثانية، حسب غادامير. التعبير هو القدرة على تمرير المضامين والخطابات بشكل رمزي، بشرط أن يكون كل عنصر من عناصر العمل الفني المرموز هذا متسقة مع الأخر، لكي يقدموا في الأخير مضمونا فكريا ما، فيسمى "تعبيرا". هنا، أضحى العمل الفني هو مدى قدرة الفنان على الخلق، والوصف، بعيدا عن التقليد والمحاكاة. لكن المبالغة في هذا التعبير، وتكثيف المعاني في الأعمال الفنية، سيسمح بأنْ يفقد مفهوم "التعبير" هو الآخر بريقه، بمجرد تبيُّن أنّه لا يستجيب لشرط الرقي الفني عندما يكون كثيفا. وبالتالي، فإنّ غادامير سيعتبر أنّ «(...) الفن الهابط يمثّل بالتأكيد صورة مكثّفة من التعبير، وافتقاره التام إلى القيمة الفنية الأصلية لا يبرهن على عدم وجود الشعور الذاتي والإخلاص الأصيل، سواء لدى المستهلك أو المنتج. (...) سيبدو لنا [الأمر] عندئذٍ أن كلا من مفهومي المحاكاة والتعبير قد أثبتا عدم كفايتهما»[33]. بهذا كان الحسم في المفهومين، وتلك كانت حجج عدم نجاعتهما فلسفيا، لكي نقرأ بهما الأعمال الفنية المعاصرة.

"العلامة-Signe" بوصفها بديلا:

"العلامة" بديل دلالي عما كانت المحاكاة في التقليد والاستنساخ تمارسه، وكذا عما كان التعبير يحشد لأجله الدلالات ويكثّفها. إنها بديل رمزي يختزل المضامين في اللوحات، إذا تعلّق الأمر بالرسم، وفي الخطاب اللغوي، إذ تعلّق الأمر بالشعر. «(...) إننا نذكر أنّ الفن في الفترة المبكرة من المسيحية قد استند في تبرير شرعيته إلى إنجيل (Biblia Pauperum) الذي كان يمثّل بالنسبة إلى كل أولئك الذين لم يكن بمقدورهم القراءة أو الكتابة، احتفالا بالتاريخ المقدس والبشري بالخلاص[34]. والقصص المألوفة كانت تُقرأُ بدورها من خلال اللوحات الماثلة أمامهم. ويبدو أنّ اللوحات الحديثة تتطلب قراءة مماثلة، رغم أنها تقدم لنا علامات شبيهة بتلك العلامات التي تكون على صفحة مكتوبة أكثر مما تقدم لنا صورا في ذاتها»[35]. هذا يعني أن في اللوحة معرفة ما، وشيئا ما ينبغي اكتشافه: فهل هذا ممكن؟ وما هو يا ترى؟

لقد سمحت العلامة بإبراز إمكان فلسفي آخر له جدّة وجدوى في عملية تفكيك رموز الأعمال الفنية على اختلاف أجناسها، وإن كنّا قد مثّلناها باللوحات المرسومة فقط. إنّ اللوحات الحديثة حسب غادامير، قد صار مفهوم "العلامة" قاصرا أمامها ليكون دلالة على كل جزء من الأجزاء المكونة لهويتها، وبالتالي مشهدها العام. لم تعد اللوحة قابلة للقراءة باعتماد مفهوم العلامة؛ لأن ما يدرَك في بعض الحالات لا يقبل فهما متجانسا ومترابطا، بقدر ما يفترض وعيا بالتناقض الممكن الذي اختارت اللوحة منذ البداية أن ترسم تجربته. «(...) وهكذا، فإنّ مفهوم "العلامة" يفقد دلالته الحقيقية، وتميل اللغة الحديثة (...) بصورة متزايدة نحو رفض المطالبة بلغة مقروءة بوضوح في الفن»[36]. لا يقدم العمل الفني دوما مضمونا واضحا وبسيطا. وإن كانت الكنيسة تراهن في البداية على الصورة المرسومة، فهذا من باب تعزيز الوصايا المقدّمة في الخطب الدينية المسيحية. وبالتالي، فإنّ ما تودّ الكنيسة ترسيخه في ذهن المسيحي البسيط، هو ما كانت تقدّمه له بشكل لفظي، مسموع في الغالب، ليوجّه فهمه أثناء حَمْلَقَتِهِ في تلك اللوحات المرسومة على جدران الكنيسة. بين الرسومات والخطابات والوصايا مسافة تأويلية كانت المؤسسة الدينية تراهن عليها، لبسط الجسور، وإبراز العلاقات، وبناء الحجج، واستمالة العامة. كل هذه الاعتبارات، ساهمت في اعتبار العلامة في العمل الفني أسلوبا في القراءة الواضحة. لكن هذا الوضوح لم يعد هو رهان العمل الفني الحديث والمعاصر، مما حتّم على فلسفة الفن مرة أخرى أنْ تعيد النظر في مفهوم "العلامة".

العمل الفني بوصفه نتاجا للعب:

يقول غادامير: «(...) إنّ اللعب يكون قادرا على تخلل كل أبعاد حياتنا الاجتماعية عبر كل الطبقات، والأجناس، والحظوظ المتباينة من الثقافة؛ لأنّ هذه الأشكال من اللعب هي أشكال من حريتنا»[37]. يسمح اللعب بالتعبير عن حيز الحرية المتمثل في كل إبداع فني. العمل الفني هو وثبة نحو حقل لا متناهي من الممكنات، وضمن هذا الحقل أشكال متنوعة مختلفة من الأجناس والأنواع الإبداعية التي يعبر كل منها على حالة خروجه من الضرورة ودخوله إلى الحرية. هذا اللعب هو فرطٌ في الحياة والحركة، لكنه في الحقيقة يحتفظ بوعيه الكامل تجاه شروط اللعبة، وملتزم بقواعدها أيضا. الفن قوة خلاقة في الحياة، وفائض في الإحساس والحيوية. إنّ الجدّ ليس أكثر من نسيان للحرية الممكنة، تلك الحرية التي ينكشف من خلالها مكنون الوجود عبر مساءلة الفن.

أراد غادامير إثبات مشروعية "الإيماء" من خلال تبرير فشل الأشكال التعبيرية التقليدية عن مسايرة مستجدات الأعمال الفنية. بالمقابل، يبسط أمامنا حقيقة الأعمال الفنية في عصرنا هذا، معتبرا إياها مفعمة بالرموز. «إنّ الرمز هو شيء ما يُسهِّل عملية التعرف، والندرة العزيزة للرمز هي سمة مميزة للحظة التاريخية التي نعيشها الآن»[38]. لا يزال غادامير محتفظا هنا بالمفهوم التّعرّفي[39] للعمل الفني، وإنْ كان يقرّ بأنّ كل إبداع فني هو تجسيد للتحرر الذي تعيشه ذات الفنان. وبالتالي، فإنْ كانت فلسفة الفن المعاصرة تسعى إلى اكتشاف آلية جديدة لفهم الأعمال الفنية، فإنّ ذلك سيقودها حتما إلى مواجهة القدر الغزير من الرموز التي صار الفنان المعاصر يقفل بها الوضوح على القارئ. إنّ الإيماء هو ما صارت الأعمال الفنية اليوم تعتمده في الإبلاغ عن مكنوناتها، وهي في الحقيقة دعوة إلى الفهم، والتفسير، في أفق تأويل ممكن. «إنّ الإيماءة هي شيء ما يكون جسديا برمته وروحيا برمته في وقت واحد. (...) لأنّ ما تكشف عنه الإيماءة، إنما هو وجود المعنى أكثر من كونه معرفة المعنى»[40]. من هنا أضحى الطابع الإشكالي هو السمة المميزة للعلاقة بين الفن والطبيعة، بعدما كانت هذه الأخيرة مصدر إلهام الفنان. ومن علامات ذلك، ما اعتمده علماء الموسيقا بخصوص ظاهرة "الصمت" بما هي نوتة كباقي النوتات ولها جماليتها الخاصة. لكن غادامير يقدم لنا مشهد الصمت بعناصر أخرى تقرّب دلالته، حين يقول: «(...) عندما نقول إنّ شخصا ما يكون "صامتا"، فإننا لا نعني بذلك أنه لا يكون لديه شيء يقال، بل الأمر على العكس من ذلك، فإنّ هذا الصمت، هو الحقيقة نوع من الكلام»[41]. فالمتردد في الكلام (متمتم/متلعثم) لا يقدّم نفسه بما هو فاقد لشيء يقوله، بل بوصف الكلام شيئا آخر مخفي وراء ما يقوله، وهو كلام كثير في الآن ذاته. الصمت رمز كلام لم يتحقق لفظيا؛ إنه تعبير عن كلمات لا حاجة لها لكي تُنْطق، إنّه الأمر نفسه حينما تُستدعى أساطير قديمة يمكن أن يستثمرها الفنّ المعاصر أيضا. صمت العمل الفني الكامن في لوحة مثلا، هو صمت مشهد تم القبض عليه أثناء الرسم والتشكيل، وبالتالي «(...) فأينما تُعلّق اللوحة، فإنها تدعونا لأن نجتمع أمامها كما لو كان لديها الكثير لتقوله لنا»[42]، وبالتالي فإن هذه اللوحة تتكلم لغة صامتة.

إنّ العلاقة بين "اللعب" و"الإيماء" هي علاقة تكامل وتشارط في الآن ذاته؛ فحيثما وُجد إيماء وترميز عمل فني ما، فإنّه يدل على لعبٍ فني مارسه الفنان، واستشعر معه فرط حرية وحيوية سمحتا له بإخراج عمله إلى الوجود.

استنتاج عام:

حاولنا في هذه الورقة البحثية إبراز بعض المفاهيم المساهمة في تشكل معالم فلسفة الفن في تاريخ الفلسفة. فقد رأينا مع أرسطو كيف أسس نظريا لمفهومين اثنين لا زالا يناقَشان في الفكر الفني المعاصر، وهما مفهوم "الشاعرية" ومفهوم "المحاكاة". ولعل أهمهما هو "المحاكاة" بوصفه تحليلا لكيفية نشوء إرادة الإبداع لدى الفنان من خلال استلهامه لنموذج ما سواء أكان نموذجا عينيا ملهما، أو نموذج فعل الإبداع عينه.

ثم حاولنا أن نتخذ من اللحظة الهيغلية محطة ثانية، لها من الأهمية ما يسمح باعتبارها مرحلة تأسيس الفن كعلم، له قواعد وأسس ومناهج، ومستقل بمفاهيمه وفرضياته. لقد كان التصور الهيغلي للفن من زاوية فلسفية، تصورا يجمع بين خصوصية الجميل-Beau، وبين طابعه الفني الملازم له. فالجميل هو بالضرورة عمل فني. كما زاد هيغل على ذلك أمرا أساسيا، وهو احتساب الفن على إمكانات العقل المطلق، في سعيه إلى إدماج العناصر التي كانت خارج العقل، ووضع منطق خاص بها. إنّ فلسفة الفن مع هيغل، هي سعي إلى الدفاع عن الإبداع الإنساني المتفرد، وليست دفاعا عن المحاكاة والتقليد لما هو موجود سلفا في الطبيعة، بل هي محاكاة لأفق العقل المجرد، وتنزيل لتمثلاته، وسير على المنوال الموازي لإبداعات الطبيعة.

أما هيدغر، فإنه نموذج فكري يمثل تصورا معاصرا للفن، من حيث هو جزء من مشروع تقويض الميتافيزيقا الغربية. لقد انطلق هيدغر من كون الفن مثالا للتجلي الأبرز والأكثر أصالة للوجود، والذي من خلاله أيضا يمكن رسم معالم كينونة الإنسان. فاللغة تُبدع قولا قادرا على تجاوز حدود العقل التقليدي كما رسمته الميتافيزيقا التقليدية، وهذه اللغة التي يقصدها هي لغة الشعر. فالشعر هو الخطاب الرسمي القادر على تمثيل الفن ومقاصده خير تمثيل، هذا بالإضافة إلى باقي أشكال التعبير الفني الأخرى. ليس اختيار الشعر لشيء، سوى لأن اللغة هي القيمة المميزة الوحيدة للإنسان، وبالتالي فهو يتحدد من خلالها فقط. إنّ أصل العمل الفني وجوهره محكوم بماهية الفن نفسه التي تلازم ماهية الفنان، ولا تنفصل هذه الأمور جميعها عن ماهية الشيء الذي نحكم عليه فنقول: إنه شيء فني.

إلى جانب ذلك، انكب سعينا على إبراز مظاهر فلسفة الفن عند غادامير من خلال كتابه: "تجلي الجميل". وقد ركّز هذا الجانب منذ البدء على أهم المفاهيم المؤطرة لتاريخ فلسفة الفن، بدءً بالمحاكاة، والتعبير، ثم الإيماء فاللعب. كان التطور الذي يحصل على مستوى هذه المفاهيم مؤثرا في التحول الحاصل عبر تاريخ الفن. لم تكن هذه المفاهيم فاعلة في جانب قراء الأعمال الفنية فقط، وتغير تمثلاتهم، ولكن أيضا في جانب الفنانين المبدعين، الذين أضحت أعمالهم تُنتج بناءً على هذه الخلفيات الفكرية الجديدة، التي ساهمت في ظهورها مختلف العوامل.

 

بيبليوغرافيا:

اللائحة العربية:

  • علي (حسين)، فلسفة الفن: رؤية جديدة، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009، بيروت-لبنان.
  • هيدغر (مارتن)، أصل العمل الفني، ترجمة: أبو العيد دودو، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003م، ألمانيا.
  • هيدغر (مارتن)، المنادى إنشاد: قراءة في شعر هولدرلن وتراكل، تلخيص وترجمة: بسام حجار، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1994م، الدار البيضاء-المغرب.
  • غادامير (هانز جورج)، تجلي الجميل، تحرير: روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشرح: سعيد توفيق، المجلس الأعلى للثقافة-المشروع القومي العربي للترجمة، 1997م.
  • المسكيني (أم الزين بن شيخة)، "الفن والدين من خلال كتابات غادامير: أو في معاني الألفة مع العالم"، مجلة ألباب، عدد 3، صيف 2014م، الرباط-المغرب.

اللائحة الفرنسية:

  • Aristote, Poétique, Traduction de: Jules Barthélemy-Saint-Hilaire, Paris, Ladrange, 1838 (Œuvre numérisée par J. P. MURCIA http://remacle.org/ Nouvelle édition numérique http://docteurangelique.free.fr 2008).
  • Hegel (Georg Wilhelm Friedrich); Philosophie de l'esprit, Tome 2, Traduit par: A. Véra, Germer Bailliére-libraire éditeur, 1869, Paris-France.
  • Hegel (Georg Wilhelm Friedrich), Esthétique, Tome premier, Traduction française de: Ch. Bénard.
  • Hippolyte (Taine), Philosophie de l'art: voyage en Italie: Essais de critique et d'histoire, Hermann, Nouv. éd. rev. et corr 2009, Paris-France.
  • Gadamer (Hans-Georg), Les Chemins De Heidegger, Traduction et présentation par: Jean Grondin, Vrin, 2002, Paris.
  • Grondin (Jean), "L'art comme présentation chez Gadamer: Portée et limites d'un concept", Études Germaniques, N°: 62, 2007.

[1]- علي (حسين)، فلسفة الفن: رؤية جديدة، التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، 2009، بيروت-لبنان، ص: 108

[2]- Aristote, Poétique, Traduction de: Jules Barthélemy-Saint-Hilaire, Paris, Ladrange, 1838 (Œuvre numérisée par J. P. MURCIA http://remacle.org/ Nouvelle édition numérique http://docteurangelique.free.fr 2008). P: 28

[3]- علي (حسين)، فلسفة الفن: رؤية جديدة، ص: 19

[4]- المرجع نفسه، ص: 120

[5]- Aristote, Poétique, Traduction de: Jules Barthélemy-Saint-Hilaire, Paris, Ladrange, 1838, P: 28

[6]- Ibid, P: 28

[7]- Hegel (Georg Wilhelm Friedrich); Philosophie de l'esprit, Tome 2, Traduit par: A. Véra, Germer Bailliére-libraire éditeur, 1869, Paris-France, P: 459

-[8]يقول هيغل في الموضع نفسه: «(...) إنّ الجليل-Le sublime هو السمة المميّزة للفن».

Ibid, P: 460

[9]- Ibid, P: 465

[10]- Hegel (Georg Wilhelm Friedrich), Esthétique, Tome premier, Traduction française de: Ch. Bénard, P: 36

[11]- يقو هيغل: «(...) وبالتالي، فإنّ فلسفة الفن لها هدف رئيس تحتكر تنزيله، من خلال الفكر المجرّد».

Ibid, P: 231

[12]- Ibid, P: 15

[13]- Hippolyte (Taine), Philosophie de l'art: voyage en Italie: Essais de critique et d'histoire, Hermann, Nouv. éd. rev. et corr 2009, Paris-France, P: 21

[14]- Hegel (Georg Wilhelm Friedrich); Philosophie de l'esprit, P: 457

[15]- Ibid, P: 458

[16]- علي (حسين)، فلسفة الفن: رؤية جديدة، ص: 106

[17]- Gadamer (Hans-Georg), Les Chemins De Heidegger, Traduction et présentation par: Jean Grondin, Vrin, 2002, Paris, P: 126

[18]- هيدغر (مارتن)، أصل العمل الفني، ترجمة: أبو العيد دودو، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2003م، ألمانيا، ص: 62

[19]- هيدغر (مارتن)، أصل العمل الفني، ص: 58

[20]- يمكن التوسع في أطروحة هيدغر هنا، بالرجوع إلى:

هيدغر (مارتن)، المنادى إنشاد: قراءة في شعر هولدرلن وتراكل، تلخيص وترجمة: بسام حجار، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 1994م، الدار البيضاء-المغرب.

[21]- هيدغر (مارتن)، أصل العمل الفني، ص: 58

[22]- المصدر نفسه، ص ص: 58-59

[23]- المصدر نفسه، ص: 58

[24]- المصدر نفسه، ص: 62

[25]- غادامير (هانز جورج)، تجلي الجميل، تحرير: روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشرح: سعيد توفيق، المجلس الأعلى للثقافة-المشروع القومي العربي للترجمة، 1997م، ص: 211

[26]- المصدر نفسه، ص: 212

[27]- المصدر نفسه، ص: 217

[28]- أنظر: المصدر السابق، ص: 218

[29]- غادامير (هانز جورج)، تجلي الجميل، تحرير: روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشرح: سعيد توفيق، ص: 206

[30]- المصدر نفسه، ص: 205

[31]- المصدر نفسه، ص: 206

[32]- المصدر نفسه، ص: 207

[33]- المصدر نفسه، ص: 208

[34]- يمكن الرجوع للتوسع في هذه الفكرة إلى:

المسكيني (أم الزين بن شيخة)، "الفن والدين من خلال كتابات غادامير: أو في معاني الألفة مع العالم"، مجلة ألباب، عدد 3، صيف 2014م، الرباط-المغرب، ص: 42-61

[35]- غادامير (هانز جورج)، تجلي الجميل، تحرير: روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشرح: سعيد توفيق، ص: 208

[36]- المصدر نفسه، ص: 209

[37]- المصدر نفسه، ص: 265

[38]- المصدر نفسه، ص: 175

[39]- لتوضيح مسألة: "التعرّف" و"الانكشاف" في العالم، ضمن فلسفة الفن عند غادامير، يمكن الرجوع إلى:

Grondin (Jean), "L'art comme présentation chez Gadamer: Portée et limites d'un concept", Études Germaniques, N°: 62, 2007, PP: 337-349

[40]- غادامير (هانز جورج)، تجلي الجميل، تحرير: روبرت برناسكوني، ترجمة ودراسة وشرح: سعيد توفيق، ص: 183

[41]- المصدر نفسه، ص: 189

[42]- المصدر نفسه، ص: 190

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك