الإنسان والإيمان
لا يزال “فتح الله كولن” يواصل فتوحاته في مجاهيل عالَم الوجدان البشري، ويبني ما يتداعى من جوانب هذا الوجدان على أساسٍ من “معرفة الله”. وهو يدرك ويأسف في الوقت نفسه لأولئك الذين يحرصون على إبقاء “البشرية” اليوم في جوع روحي أبدي ولا يريدون أن ينقضي أو أن ينتهي، مصمين آذانهم، ومديرين ظهورهم لصرخات الألم التي يطلقها هذا الوجدان، مما تعاني منه أشواقه الرفيعة من اختناق ومن ضغوط وقيود.
إن الفوضى الأخلاقية العارمة التي تجتاح العالَم اليوم، مردها إلى فراغ الوجدان من المعرفة الإلهية لدى إنسان اليوم، وتنكره لمناقب الخير والعدل والحق، التي أرسى عليها الله تعالى قواعد عالمي الغيب والشهادة.
فـ”كولن” لا ينفكُّ يحذر الإنسان من أن هروبه من وجه الله تعالى سيدفع به إلى متاهات هائلة يغيب فيها عن نفسه طوال حياته، فيرى نفسه -والكون معه- عبارة عن خليط عشوائي مضطرب تحركه قوى عمياء لا تدرك شيئًا مما تفعل.
فالبشرية اليوم غارقة في طوفان من الأفكار والمعتقدات، غير أن غالبية هذه الأفكار والمعتقدات لا تبدي الاهتمام المرجو بقضايا الإيمان والوجدان، وتقف في أخصب أفكارها وأبعد آفاقها، عند عتبات المتناهي والنسبي في القضايا التي تعالجها، الأمر الذي سبب للبشرية مزيدًا من الالتصاق بالأرض والتمرغ بترابها، والمزيد من الاختناقات الوجدانية والإيمانية، والمزيد من التعطش الروحي الذي يكاد يبلغ حدَّ الاحتراق.
إن خمود الجذوة الانفعالية في الوجدان البشري بقضايا الربوبية والألوهية، هو موت لهذا الوجدان، وبالتالي فهو موت للإنسان في أسمى جوانبه الإنسانية والأخلاقية. فافتقار الوجدان لهذه المعاني العالية التي تحبب إلى نفسه جنس الإنسان، قد ينقلب إلى حقد وكراهية ضده، كما لمسنا -ولا زلنا نلمس ذلك- في الأيدلوجيات التي تعتمد فلسفة الإنكار والجحود محورًا لسلوكياتها الإنسانية مع نفسها ومع العالم من حولها. فالإنسان إذا ما وعى حقيقة إنسانيته، لا يستطيع قبول وجوده الأرضي من دون أن يكون على صلة بوجودات أخرى تعطيه الأمل بالبقاء والخلود الأبديين واللذين يمثلان تبريرًا ميتافيزيائيًّا لوجوده فوق هذه الأرض. فالنفس لا تشعر بأنها حيّة ومفعمة بالحياة، إلا إذا ارتعشت بكلّيَّتها وهي في حالة تماس روحي مع العوالم الغيبية التي تظل ترسل بإشعاعاتها إلى ظلمات قلوبنا لعلّنا ننتبه إليها ونقوم بالانحناء تعظيمًا لها وتقديرًا وشغفًا بالجلال والجمال اللانهائيين اللذين تتجلى بهما على عالمنا الأرضي. وقد يدفعنا هذا الشغف العارم إلى أن نرسل أرواحنا وإراداتنا بعيدًا لكي يصبحا جزءًا لا يتجزأ من روح هذه العوالم وإراداتها.
ويرى “كولن” أن الوجدان البشري، له من السَعَة ما يستطيع بها احتواء جميع الأفكار التي تجول في عقل الإنسان، وفي هذا الوجدان تتأصل هذه الأفكار وتصبح مكينة فيه بحيث يستحيل استئصالها منه. فالأفكار المستنبتة في حديقته، تستعصي على كل معاول الهدم من قبل الملحدين والجاحدين، وعلى العكس من ذلك الأفكار التي ليس لها سند وجداني.
وأغلب ظني أن هذه الفكرة، هي التي بنى عليها “كولن” قواعد كتابيه الفذين “ونحن نقيم صرح الروح” و”نحن نبني حضارتنا”؛ فهذان الكتابان في المحصلة النهائية، هما عبارة عن مزيج عجيب من العقل والوجدان، يترادفان ويمشيان معًا خطوة بخطوة. و”كولن” يرى كذلك أن للحياة نفسها عقلاً وأفكارًا، ولها نبض ووجدان، وإن كانت هذه الأفكار قد حولتها الحياة إلى سنن ونواميس ودساتير، فالدخول إلى باحة الحياة من دون الاستئذان من هذه النواميس والدساتير والسنن، مغامرة لا تحمد عقباها، وربما غضبت علينا الحياة وطردتنا من موطنها إلى الأبد.
أما أصحاب الوجدان الرفيع، فهم على الدوام موضع ترحيب من الحياة، لأنهم يظلون يضربون في معارج الرقي ولا يقفون عند حد، بل يمضون حيث يمضي بهم هذا الرقي ولسان حالهم يقول: خلُّوا سبيلنا، ودعونا نضرب في الأعالي، وإلى حيث ينتهي بنا المطاف إلى “قاب قوسين” أو أدنى من روح الوجود وقمة الخلود. وهناك يخرُّون سجدًا شاكرين الخالق الذي وهبهم هذا الوجدان الكبير وقد سما بهم هذا السمُّو العظيم. وأمثال هؤلاء هم الذين سيبعثون في البشرية القوة والأمل لمواصلة حياتها في إطار من الخلُق والفضيلة والإيمان.
هذا الإيمان المتسامي المتَّسع لكل الأفكار الطاهرة والصادقة، حتى إنه ليرسل في كل نبضة من نبضاته دفعة حياة من منابع الأبدية إلى روح الإنسان ليحيا بها ويتغذى عليها، دافعة إياه في الوقت نفسه للالتفات الجاد نحو الكون والكائنات من حوله، وعقد صلة وُدٍّ وتعارف بينه وبينها، فما أسرع -عند ذاك- ما تأتيه الأفكار شُرعًا لتزيد في اتساعه وعمقه، فيظل في لهفة محمومة إلى المعرفة طوال حياته يتساقاها كأسًا بعد كأس وكأنه في يوم عيد مهرجاني، يتهادى فيها الأفكار وكأنه قد قام للتَّو من شلل روحي وسُقم نفسي. فالفكر الذي كان قد استحوذ على عقل “كولن” ووجدانه في فترة التأمل ومراجعة النفس، واستولى على معاقد فكره، وانسرب إلى طوايا نفسه وخلايا عقله، انبثق عنه من خلال لهب فكري مضيء، يلقح الأنفس والعقول والأرواح، ويدفعها لتخوض تجربة روحية جديدة في دورة انبعاثية، للخلاص من شقائها القتّال المميت. فأفكاره العالية وإن كانت غاية في السمو والعلو، إلا أنها طريقة حياة، وأسلوب عيش مختلف عن كل ما تعرفه هذه الشعوب من طرق حياة وأساليب عيش.
فإذا كانت الأمم تفخر وتتباهى بأعظم أحداث تاريخها، غير أنها لا زالت ترى الحدث الأكبر هو أن ينجم من بين صفوفها “الرجل المفكر” القادر على إخراج فكرها من تشبثه وفوضويته، وانبعاث ما اندثر من وجدانها، وإرواء ما جفّ من خيالها ومشاعرها، فيمسك بأزمّة أفكارها، ويبتعث أضوأ أيام تاريخها، ويعيد إليها نفسها الضائعة، وذاتها الذائبة، وهويتها المسلوبة، وقدراتها المشلولة… إنه فاتح أفكار، وباعث أرواح، ومشعل أضواء، ومثير أشواق.
وأي مؤرخ يريد أن يؤرخ لتاريخ الفكر في تركيا الحديثة، فإنه بلا شك سيرى في “فتح الله كولن” واحدًا من أكثر مفكري تركيا تأثيرًا في فكر شعبها ووجدانه، وكذلك في فكر ووجدان كل مَن تسنى له الاطلاع على كتبه وكتاباته.