تساؤلات فلسفيّة في الكونيات

معاذ قنبر

 

(1)

مقدمة

قد يبدو من البديهيّ أنّ وظيفة العلم تتلخّص في إزالة الغموض عن الظّواهر، ولكن هذا ليس كلّ شيء. فإزالة الغموض لا تنهي البحث عن الأسرار النّاشئة عنها، ذلك أنّ التّفسير العلمي نفسه يحمل معه أسرارا جديدة وغموضا جديدا وممتعا يحتاج إلى تفسير. فإذا أخذنا مفهوم الجاذبيّة مثلاً: نحن نعرف أنّ نيوتن استطاع بعبقريّة تجاوز تفسيرات أرسطو الغامضة حول لغز سقوط الأجسام من الأعلى إلى الأسفل، فوضع مفهومه عن الجاذبيّة أو ما يسمّى قانون “الجذب العامّ”. لكنّ ذلك التّفسير نتج عنه غموض جديد يتعلّق بماهيّة هذه القوّة الجذبويّة وكيفيّة تجاذب جسمين على مسافة معيّنة، الأمر الّذي ساهم فيما بعد بتوليد فكرة الحقل الّذي ساهم بوضعه فاراداي وماكسويل، فنشأت فكرة الحقول المغنطيسيّة والكهربائيّة والجاذبيّة، وهي حقول تتكوّن من جسيمات حقيقيّة أو افتراضيّة، وهذا يفترض بدوره تذبذب وتبادل محيّر بين لعبة الحقل والجسيم إذ تصبح مسألة تفسير الجاذبيّة عن طريق الحقل الغرافيتوني (جسيم الغرافتون الافتراضي كجسيم للجاذبيّة) عمليّة أشدّ غموضاً. ثمّ جاء أينشتاين في النسبيّة العامّة فأدخل الضّوء والحيّز الزّمكاني في اللّعبة لتغدو الجاذبيّة لا تعبّر عن تأثير قوّة، بل تغيير في هندسة الزّمكان تحرف من خلالها مسار الأشياء حيث الكتلة تتحول إلى قوّة تشوّه الهندسة الإقليديّة، هذا التّفسير الجديد العبقري خلق ألغاز لا تقلّ إمتاعاً وجدّة فنقلنا إلى مستوى وعمق جديدين. إنّ إحضار نظام المعادلات. الّذي يوصف بأنّه عدّة نيوتن الدّقيقة نظراً لانتظامه وخضوعه للقواعد من السّماء إلى الأرض، لا يمكنه أن يتجاهل الحقيقة الجليّة الّتي مفادها أنّ عدد المجاهيل المُراد حسابها يزداد إلى حدّ مّا تقديره حينما يدخل الجسم البشري وأنماط السّلوك في اللّعبة، وحتّى إذا أقرينا بأّنه توجد منذ زمن طويل بضعة قوانين أكثر من قوانين نيوتن. إلاّ أنّ أحداً لن يفترض أنّ عددها أكبر من عدد المكوّنات الّتي تعمل معاً وتتعاون في حياة مّا وتمكنها.

والواقع أنّ الجمال الكامن في العلم الطّبيعي يتعلّق بمدى إثارته لمشكلات جديدة مع كلّ ثورة علميّة تعالج المشكلات الملحة الّتي تخلقها نظريّة سابقة، لذلك فإنّ الغاية من هذه المحاضرة هي إثارة التّساؤلات دون البحث عن حلول.

مشكلات وقضايا كونيّة

طبيعي أنّ قوانين الطّبيعة تسمح بكثير من الحسابات لكثير من الظّواهر، ولكن ما من مبرر للخشيّة من أن يتمّ بذلك تحديد العالم، وأن يغدو بالتّالي جامداً ومتصلّباً ويكفّ عن تقديم أي فسحة للحريّة. فقوانين الطّبيعة من هذه النّاحية مثل قوانين البشر، هي تعطي تماسكاً واستقراراً للكلّ، من غير أن تقيّد الفرد بلا موجب.[i] ومن المتّفق عليه بين العلماء أنّ القوانين هي الّتي تهيمن وتقود فهمنا للعالم الفيزيقي، لكن قدراً من الانقسام يلوح في الأفق حين نقرّر طبيعة هذه القوانين هل هي اكتشافات موضوعيّة للحقيقة، أم مجرّد اختراعات ماهرة من جانب العلماء؟ فمثلاً معادلة نيوتن في الجاذبيّة هل هي اكتشاف عن العالم الواقعي كما يحدث أي كشف عن شيء موضوعي في العالم، أم هي ابتكار مبدع من نيوتن كنموذج رياضي تصادف أن أصبح مفيد في كيفيّة شرحنا لحوادث؟[ii]. سؤال فلسفي بامتياز يطرح إشكاليّة العلاقة بين الذّات والموضوع، تلك الإشكاليّة الّتي استطاعت الكموميّة أن تحلّ بعض من أثارها عندما ألغت في الواقع الفصل الحدي بين الذّات والموضوع – الرّاصد والمرصود- فأعطت بالتّالي دلالة مختلفة للموضوعيّة. لكن كيف نعرف الواقع الموضوعي المستقل؟ لاشكّ أنّ هناك ما يحكم ظاهرات هذا العالم، لكن كيف نعرف أن ما نعتبره القانون الحاكم في الكون هو نفسه الواقع الحقيقي الموضوعي؟ هل الرياضيات هي من يحدّد لنا الواقع الفيزيقي، وبالتّالي إثبات ما هو موضوعي يتضمّن وسيلة عقليّة بالغة التّجريد؟ وإذا كانت قوانين الفيزيقا جاءت للوجود مع الكون، فإنّ هذه القوانين لا يمكنها تفسير أصل الكون، لأنّها ليست موجودة إلاّ مع وجود الكون. وهذا يكون ملحوظاً بوضوح حين يتعلّق الأمر بالشّروط الابتدائيّة لأنّ قانوناً مثل هذا يفهم منه تفسير كيف أصبح الكون موجوداً على الشّكل الّذي هو عليه بدقّة.

والواقع أنّ أهمّ اكتشاف علمي في عصرنا، هو أنّ الكون المادي لم يكن موجوداً دائماً، ولا يوجد في العلم تحد أكبر من تفسير كيف جاء الكون إلى الوجود، ولماذا نُظم بالكيفيّة الموجود فيها، ورغم أنّه لأوّل مرّة في التّاريخ يصبح لدينا نظريّة علميّة منطقيّة عن الوجود، إلّا أنّ التّحدي لا يزال قائماً. ففي نظام هوكنغ – هارتل مثلاً ليست هناك لحظة فعليّة للخلق، وإذا لم تكن القوانين متجاوزة ذاتها، فإنّ المرء مجبر على قبول حقيقة متعسّفة هي أنّ الكون ببساطة “هناك” كحزمة من الملامح المختلفة الّتي تصفها القوانين القائمة فيه، ولا يمكن وجود تفسيرات عن سبب الكون هكذا إلاّ بقوانين متجاوزة وفق توصيف ديفيز.[iii] وهذا لا يعني بالطّبع البحث عن تفسيرات ميتافيزيقيّة، بل تفسيرات خارج الحيز الزمكاني لكوننا تفسيرات أقرب للتصورات الكموميّة في عالمنا ولكن من منظور متعدّد الأكوان.

ومن جهة أخرى، تؤكّد نظريّة التّضخم الّتي جاء بها ألان جوث كبديل مقنع لنظريّة الانفجار العظيم من متفرّدة، على أنّ الكون جاء إلى الوجود وسط زخم هائل من الطّاقة وتضخم خلال أجزاء متناهيّة من الزّمن أضعاف مضاعفة بسرعة هائلة، وخلال فترة وجيزة جدّاً، فإنّ منطقة الفضاء الّتي تشكّل حالياً كامل كوننا المرصود، قد نمت من واحد بالألف من المليون من حجم البروتون إلى سنتميترات عديدة، قبل أن يتوازن ليخضع لتأثيرات الجاذبيّة، وظلّت هذه الطّاقة باقية في إشعاع الخلفيّة الحراريّة، وفي المادة الكونيّة –الذريّة، الّتي تتكوّن منها النّجوم والكواكب في صورة كتلة – طاقة مختزنة، لكنّ السّؤال يبقى، من أين جاءت هذه الطّاقة الّتي منحت كوننا الحياة في النّهاية؟ وفقاً للنظريّة التّضخميّة فإنّ الحلّ المقنع لهذا التّساؤل الفلسفي هي أنّها جاءت من فضاء فارغ، من ما يسمّى الخواء الكميّ، لكن أليس في ذلك خرق لقانون حفظ الطّاقة، وبالتّالي تغليب للغز الفلسفي عن كيفيّة إيجاد الموجود من العدم؟ وفق نظريّة التّضخم فقد بدأ الكون بالأساس بطاقة صفر ونجح في استحضار هذا الكم الكبير من الطّاقة في الثّانية الأولى فإنّ التّضخم الكوني الأولي كان ذا ضغط سالب أي على عكس ما هو مألوف (لاحظ أنّنا نتكلم عن الكون المتمدّد ككلّ وليس عن حيز زمكاني ضمن الفضاء) وعندما يتمدّد سائل ذا ضغط سالب فإنّ طاقته ترتفع بدلاً من أن تهبط كما في الأحوال العاديّة. وبالتّالي، عندما دفع الطّرد الكوني الكون نحو تمدّد كتسارع تضخمي، وطوال الفترة الّتي كانت فيها الطّاقة الكليّة مستمرة بالارتفاع، فإنّ هذا ولد طاقة كافيّة بحيث أنّه عند توقف مرحلة التّضخم تراكمت الطّاقة بشكل هائل لتطلق تفجير عظيم واحد ولد الحرارة والمادة الّتي خرجت لتولد الكون ليسود الضّغط التّمددي الموجب وتبدأ الطّاقة بالهبوط مرّة أخرى. نظريّة حاولت أن تقدّم تساؤل ضلّ يحير الفلاسفة منذ الحقبة اليونانيّة حيث لم يعتاد الفلاسفة على فكرة خلق شيء من لاشيء فكانت سرمديّة الكون وأزليته أكثر راحة للعقل الفلسفي الطّبيعي.[iv]

هذا الإشكال يمتدّ في الواقع من نشأة الكون إلى طبيعته، فمن المشكلات الّتي تحاول الفلسفة الواقعيّة أن تحلّها، أو تتجنبها على الأقلّ، هي معنى الوجود. فكيف لي أن أعرف أنّ المنضدة ما زالت موجودة إذا خرجت من الغرفة ولم أعد أستطع رؤيتها؟ ماذا يعني القول أنّ الأشياء الّتي لا نستطيع رؤيتها كالإلكترونات والكواركات موجودة؟ يمكن للمرء أن يمتلك نموذجا للمنضدة تختفي فيه عندما أغادر الغرفة، ثمّ تعود للظّهور بالموضع نفسه عندما أعود، لكنّ هذا سيكون عملاً مربكاً، فماذا لو حدث وأن سقط السّقف أثناء خروجي من الغرفة، وعاودت المنضدة الظّهور وهي مكسورة؟ هكذا نجد أنّ النّموذج الّذي تبقى فيه المنضدة ولا تختفي هو أكثر بساطة ويتوافق مع الملاحظة. وهذا كلّ ما يطلبه المرء.[v] لقد تجادل الفلاسفة بداية من أفلاطون وما بعده على مرّ السّنين حول طبيعة الواقع. فالعلم الكلاسيكي يتأسّس على الاعتقاد بوجود عالم خارجي حقيقي تكون خصائصه محدّدة ومستقلّة عن الملاحظ الّذي يدركها. ووفقاً لهذا العلم الكلاسيكي، فإنّه توجد أشياء معيّنة ذات خصائص فيزيائيّة مثل السّرعة والكتلة، يكون لها قيم محدّدة جيّداً، وفي هذه الرؤية، فإنّ نظرياتنا هي عبارة عن محاولات لوصف تلك الأشياء وخصائصها، كما تتوافق قياساتنا وإدراكنا لها، وكلّ من الملاحِظ والملاحِظ، هما جزءان من عالم له وجود موضوعي، وأي تمييز بينهما ليس له أي أهميّة ذات معنى. وبالتّالي إذا رأيت قطيعاً من الحمير الوحشيّة تدخل مزرعة، فالأمر الواقعي هو كذلك وكل الملاحظين الآخرين سوف يقيسون الخصائص نفسها، وهو ما يسمّى بالفلسفة الواقعيّة، لكن ما نعرفه في الفيزياء المعاصرة يجعل من الصّعب على المرء الدّفاع عنها، فوفقاً لمبادئ النظريّة الكموميّة، فإنّ الجسيم ليس له الموضع نفسه ولا سرعة محدّدة إلاّ إذا تمّ قياس هاتين الكميتين بواسطة ملاحظ، وبالتّالي ليس صحيحاً القول أنّ القياس يعطي نتائج معيّنة لأنّ الكميّة المقاسة تكون لها تلك القيمة في وقت القياس. وفي بعض الحالات فإنّ الأشياء الفرديّة لن يكون لها حتّى وجود مستقل، لكنّها تتواجد فقط كجزء ضمن مجموع أشياء كثيرة، وإذا ثبت صحة النّظريّة المسمّاة بالمبدأ الهولوجرافي، فقد نكون نحن وعالمنا رباعي الأبعاد ظلالاً على حدود زمكان أكبر خماسي الأبعاد، وفي هذه الحالة، سيكون وضعنا في الكون مشابهاً لسمكة تعيش في حوض مقعر.[vi] وقد انتقد الفيلسوف توماس تورانس هؤلاء الّذين وقعوا في فخ الإغواء بالاعتقاد أنّ الكون هو نوع من الحركة الخالدة، موجود بذاته، مدعوم بذاته، جاذبيته مفسرة بنفسها، وبالتّالي سيكون سجيناً لضرورة لا مهرب منها، كما حذر من أنّه لا سبب جوهري لوجود الكون على الإطلاق، أو لماذا يجب أن يكون على ما هو عليه؟ وما دمنا قد اكتشفنا أنفسنا من خلال علمنا الطّبيعي الّذي نظنّ أنّنا بنيناه، فإنّ الكون لا بدّ أن يكون على ما هو عليه.[vii] إذ يقول هوكنغ: إنّ أدمغتنا تترجم الإشارات الواردة من أعضائنا الحسيّة يعمل نموذج للعالم، وعندما ينجح هذا النّموذج في تفسير الأحداث، نميل لأن نعزو إليه، وإلى العناصر والمفاهيم المكوّنة له نوعيّة الواقع أو الحقيقة المطلقة، لكن قد تكون هنالك طرق أخرى مختلفة يمكن من خلالها للمرء أن يضع نموذجاً للموقف الفيزيائي نفسه ويوظّف فيه مفاهيم وعناصر أساسيّة مختلفة. فلو تنبأت نظريتان فيزيائيتان أو نموذجان من هذا النوّع بالأحداث نفسها بدقّة، فلن يستطيع أحد القول إنّ إحداها أكثر حقيقيّة من الأخرى، وبدلاً من ذلك سيكون لنا مطلق الحريّة في استعمال النّموذج الأكثر ملائمة. [viii]

ومن جهة أخرى، هل فكرة التّماثل الكوني، بمعنى تعميم القوانين على كامل الكون في الزّمان والمكان تصحّ من منظور استقرائي؟ الأمر ببساطة لا يصحّ. لأنّ تصوّراتنا للقانون مرهونة بموقعنا الزمكاني المتشكّل منذ الدّقائق الثّلاث الأولى من عمر الكون، لكن ماذا كان يحصل قبل ذلك؟ نجد اليوم في الكون أربع قوى أساسيّة، النوويّة الشّديدة، النوويّة الضّعيفة، الكهرطيسيّة، الجاذبيّة. ولكلّ من هذه القوى شدّتها، وأضعفها الجاذبيّة، في الحقب الكونيّة المبكرة للغاية ربمّا كانت هذه القوى متساويّة في شدّتها وموحدة في قوّة واحدة” وهو أمل يراود فيزيائيين عصرنا التّوصل إليه من خلال نظريّة كلّ شيء” وبناءً على ذلك، من المنطقي ربّما اختلفت قوانين الفيزياء في هذه المرحلة المبكرة من عمر الكون عنها الآن، وبالتّالي ربّما اختلفت الثّوابت الكونيّة أيضاً.

والسّؤال المثير هنا: هل يمكن للكون أن يكون أمّاً بحيث تنجب كوناً طفلاً؟ هل من الممكن لأحد العلماء المجانين أن ينشئ عالمه في المعمل؟ ناقش هذا الأمر مؤسّس نظريّة التّضخم “آلان غوث” مؤكّداً على أنّ كميّة كبيرة من الطّاقة ” هائلة في الواقع ” يتمّ تركيزها، فإنّ نتوء للزمكان ربّما يظهر بالفعل، للوهلة الأولى يبدو أنّ الأمر يبدو بمثابة إنذار بأنّ انفجاراً جديداً سيحدث، لكنّ الواقع هو أنّ ما سيحدث هو أنّ النّتوء سيتشكّل في منطقتنا الخاصّة بالزمكان، تحديداً ثقب أسود، وحتّى لو كان هناك تضخماً متفجراً من النّتوء المكاني. نحن نرى فقط ثقباً أسوداً ينكمش بشكل مستقرّ، أي يضمحل تدريجياً بالكامل، وفي هذه اللّحظة فإنّ كوننا يصبح غير متصل بالكون الطفل الّذي سيتحوّل إلى كون جديد.[ix] تعدّد الأكوان يخضع لمفهوم مختلف إلى حدّ مّا عن نظريّة الانفجار الكبير، إنّه يتحدث عن انفصال حيز من الزمكان عن الزمكان الأمّ، الأصلي واستقلاله بذاته، هذا الاستقلال قد يتولّد عنه فقاعة أخرى تنفصل لتستقلّ بذاتها وهكذا… . وكأننا نتحدّث عن الكون الأمّ، الكون الطفل.

********

[i] أرنست بيتر فيشر: سحر الكون تاريخ محتلف للعلوم الطبيعيّة، ترجمة : إلياس حاجوج، دار نينوى للدراسات والنشر، دمشق، ط1، 2018، ص 208.

[ii] بول ديفيز: الاقتراب من الله، بحث في أصل الكون وكيف بدأ، ترجمة: منير شريف، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1 2010, ص 103.

[iii] بول ديفيز: الاقتراب من الله، بحث في أصل الكون وكيف بدأ، مرجع سابق، ص 111.

[iv] بول ديفيز: القوى الأربع الأساسيّة في الكون، ترجمة: هاشم أحمد محمد، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، ط 1،  2002، ص 242.

[v] ستيفن هوكنغ: التّصميم العظيم، إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى، ترجمة: أيمن أحمد عياد، دار التنوير، بيروت، ط2 2015، ص 62.

[vi] ستيفن هوكنغ: التّصميم العظيم، إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى، مرجع سابق، ص 57 – 58.

[vii] بول ديفيز: الاقتراب من الله، بحث في أصل الكون وكيف بدأ، مرجع سابق، ص191.

[viii] ستيفن هوكنغ: التّصميم العظيم، إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى، مرجع سابق، ص 16.

[ix] بول ديفيز: الاقتراب من الله، بحث في أصل الكون وكيف بدأ، مرجع سابق، ص 91.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/02/10/%d8%aa%d8%b3%d8%a7%d8%a4%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%ac1/

(2)

بانطلاقنا من فرضيّة العوالم أو الأكوان المتعدّدة، سيكون كوننا الّذي نعيش فيه ليس سوى نسخة من النّسخ الاحتماليّة اللاّمتناهيّة للعوالم الّتي في معظمها لا توجد مواصفات تؤهّلها لاحتواء حياة، وعندها يصبح سؤال: لماذا هذا العالم؟ لا معنى له، لأنّ كلّ العوالم الأخرى الممكنة هي بالفعل موجودة. لقد جاءت نظريّة أفريت في تعدّد الأكوان كحل نظري رياضي للألغاز النّاتجة عن النظريّة الكموميّة لاسيّما مبدأ عدم التّعيين عند هايزنبرغ وما بات يسمى بالتّراكب الكمومي للجسيمات الّذي ينهار بمجرّد رصدنا له بانهيار دالته الموجيّة، فالجسيم يكون وفقاً لذلك في كلّ الحالات الممكنة حتّى يتمّ رصده، فاقترح أفريت أن ما يحدث عند الرّصد ليس انهياراً للاحتمالات أو التراكبات الكموميّة، بل إنّ كلّ تلك الاحتمالات تحدث بالفعل، ولكن في أكوان أخرى موازيّة متفرعة عن كوننا وهي موازيّة لعدد احتمالات ظهور الحالة المرصودة.[1] وبالتّالي وضع تصوّراً نظرياً لحلّ المفارقة الشّهيرة لقطة شرودنغر، فوفق أفريت العالم ينقسم إلى كونين: يكون في أحدهما القد ميّت، وفي الآخر حيّ. اقتراح خصب رغم أنّه يؤدي لتساؤلات كبيرة منها أن عدم قدرتنا على الاتّصال بتلك الأكوان ألا يعني عدم وجودها أصلاً؟ ومتى تكوّنت هذه الأكوان بالضّبط وكيف يمكنها أن تتكوّن بهذه السّرعة؟ وأي منها الكون الأصلي، والكون التّابع؟….  ما دفع للكثير من العلماء رفض هذه النظريّة قبل أن تعيد إحيائها من جديد نظريّة الأوتار الفائقة الّتي أثارت بدورها تساؤلات فلسفيّة لا تقلّ إشكاليّة عن نظريّة الأكوان المتعدّدة. وقد تمخض عن النسبيّة الخاصّة واحدة من أصعب المشكلات الفلسفيّة الّتي طرحها العلم عن الوضع الأنطولوجي للكون، مفادها هل الكون ثلاثي أم رباعي الأبعاد؟ في الواقع إنّ التضمينات لكون رباعي الأبعاد تكون عميقة جدّاً بالنسبة إلى عدد من القضايا الجوهريّة مثل الصّيرورة الزمانيّة، انسياب الزّمن، الإرادة الحرّة، وحتّى الوعي. ففي كون زمكاني رباعي الأبعاد (يسمّى عادة بالكون الكتلي) تُعطى التّواريخ الزمنيّة الكاملة لجميع الأجسام الفيزيائيّة ككيانات مكتملة رباعيّة الأبعاد (أنابيب كونيّة للجسم) لأنّ جميع لحظات الزّمن لا تبدأ في التحقق واحدة تلو الأخرى لتصبح اللّحظة “الآن” ولكنّها تشكّل البعد الرّابع للكون، وبالتّالي تُعطى جميعها دفعة واحدة، حيث يقول الفلكي الانكليزي الشّهير إدينغتون:” في مخطّط محدّد تماماً يُنظر إلى الماضي والمستقبل على أنّهما قابعان في خريطة وضعت لهما، يتاح الكثير لاستكشاف الحاضر بقدر الأجزاء البعيدة في الفضاء، الأحداث لا تقع، إنّها ببساطة تكون هناك، ونحن نمر عليها”. وبالتّالي إذا ما فُهمت الصّيرورة الزمانيّة وانسياب الزّمن بالطّريقة التّقليديّة، كربطها بأجسام ثلاثيّة الأبعاد وكون ثلاثي الأبعاد يصمد خلال الزّمن، فلن يكون هناك صيرورة، ولا انسياب زمن، ولا إرادة حرّة، بل العالم سيتحوّل إلى جملة من الأحداث الزمكانيّة رباعيّة الأبعاد. إنّ تضمينات النسبيّة هذه هي الّتي طرحت ما قد يكون أكبر تحد فكري واجهه الجنس البشريّ في أي وقت مضى.[2] فهي نظريّة انطلقت من أساس مخالف لكلّ ما تعوّد عليه الحسّ العامّ خلال مسيره التّكيفي التّطوري على كوكب الأرض، فقد تكيّفت أدمغتنا على تصوّر محدّد نسبي أرضي قائم على هندسة إقليديّة في أبعاد ثلاثة، لكنّ هندسة النسبيّة لاإقليديّة وكون مينكوفسكي فيها هو رباعي الأبعاد ما يتمخض عنه من نتائج منها: أوّلاً: يكون تعريف التّزامن بالضّرورة اصطلاحياً، وهو ما يفسّر المعنى العميق للحركة المُفرغة، ذلك أنّه لتحديد ما إذا كان الحدثان متزامنين نحتاج إلى معرفة سرعة الضّوء في اتّجاه واحد بينهما، ولكن لتحديد سرعة الضّوء في اتجّاه واحد بينهما ينبغي أن يكون الحدثين متزامنين!. وثانياً: لا توجد صيرورة موضوعيّة ولا انسياب زمني موضوعي. وثالثاً: لا توجد إرادة حرّة بمفهومها العام: ذلك أنّ مفهوم انسياب الزّمن يحمل معنيين مختلفين تماماً في الكونين ثلاثي الأبعاد ورباعي الأبعاد. في كون ثلاثي الأبعاد، يكون لدينا انسياب الزّمن الموضوعيّ العادي والعالمي، حيث تنقسم الأحداث بموضوعيّة إلى ماضي وحاضر (الآن) ومستقبل، لكن في كون مينكوفسكي رباعي الأبعد، فإنّ جميع الأحداث متساوية الوجود وبالتّالي لا تكون منقسمة موضوعياً إلى ماضي وحاضر ومستقبل.فلا وجود لآنيّة عالميّة في الزمكان، الوجود لا ينساب هنا موضوعياً وبالتّالي لا وجود لآنيّة محليّة. فإذا كان الزّمن الموضوعي في عالم ثلاثي الأبعاد تكون فيه لحظة حاضرة متميّزة، يكون الأمر في الزمكان رباعي الأبعاد مختلف، إذ تكون جميع أحداث الأنبوب الكوني لجسيم متساوية الوجود، وبالتّالي لا وجود لحدث متميّز يدّعى “الآن” للجسيم. [3] الحدث الكوني إذا يكون متمحور زمكانيا بشكل كامل في الكون الزمكاني وبالتّالي لا انسياب لزمن موضوعي ينتقل من حالة لأخرى، إنّ كون مينكوفسكي يجعل من الإرادة الحرّة مسألة مستحيلة لأنّ كلّ شيء موجود بشكل كلي دون خيارات تحدّد الانسياق الزّماني والصّيرورة، أمّا وعيي في عالم الثّلاثي الأبعاد فهو لا يدرك إلاّ لحظة الآن دون أن يستطيع إدراك ووعي الكيان الكامل لوجودي في الاستطالة الكونيّة في الزمكان رباعي الأبعاد. وهنا مكمن المفارقة الرّائعة. ورابعاً: هناك حاجة لمفهوم الوعي، على أنّه كيان يجعلنا على درايّة بأنفسنا وبالكون فقط عند لحظة “الآن” من زمننا الحقيقي. للتّوفيق بين النّتيجة الرئيسيّة النّاتجة عن النسبيّة الخاصّة الّتي تقضي بأنّ الواقع الخارجي هو كون رباعي الأبعاد أبدي الوجود، وبين الحقيقة المأخوذة من خبرتنا بأنّ إدراكنا لأنفسنا وللكون يكون فقط عند اللّحظة الحاضرة. وإحدى الطّرق لتجنب مواجهة هكذا تحدّي هي أن نتّفق مع الرّأي القائل بأنّنا يجب أن نقبل بالنظريّة النسبيّة، ولكن ينبغي ألاّ نصدر آراء ميتافيزيقيّة بشأن طبيعة الزمكان. لكنّ مثل هذا الرأي يتجاهل تماماً حقيقة أنّ تحليل التّأكيد التّجريبي لنتائج النسبيّة الخاصّة يبين بوضوح أنّ التّحدي موجود.[4]والواقع أنّ تصوّر النسبيّة عن كون لا يبالي بالإرادة الحرّة هو أمر إشكالي بقدر ما هو معقول. بل لعلّ إشكاليته تكمن في مدى معقوليته، فكيف مثلاً يمكن للمرء القول بأنّ للكائن إرادة حرّة؟ وإذا صادف المرء كائناً فضائياً، كيف يمكنه القول فيما إذا كان مجرّد إنسان آلي أم أن لديه عقلاً خاصاً به؟ إنّ سلوك الإنسان الآلي سيكون حتمياً تماماً، بخلاف الكائن ذي الإرادة الحرّة، هكذا يمكن من حيث المبدأ أن يكتشف الإنسان الآلي أنّه الكائن الّذي يمكن التّنبؤ بكلّ أفعاله، ولكن هذا صعب للغاية، فنحن لا نستطيع حتّى أن نحلّ بالضّبط معادلات ثلاثة جسيمات أو أكثر تتفاعل فيما بينها، ولأنّ كائناً فضائياً في حجم الإنسان سيحتوي على حوالي ألف تريليون تريليون جسيم، فحتّى لو كان هذا الكائن إنساناً آلياً، فسيكون من المستحيل حلّ المعادلات والتّنبؤ بما سيفعله، ولهذا سيكون علينا أن نقول أن أي كائن معقّد لديه إرادة حرّة، وذلك ببساطة لعدم قدرتنا على إجراء العمليات الحسابيّة الّتي تمكننا من التّنبؤ بأفعال هذا الكائن.[5]

وفي كتابه حول النسبيّة الخاصّة والعامّة الّذي صدر سنة 1916، وضع أينشتاين فكرته الجريئة (الكون متناه لكنه غير محدود) ليقلب بذلك تصوّراتنا عن الهندسة الإقليديّة المستوية اللاّمتناهيّة إلى هندسة منحنيّة، وبتلك الفكرة أراد أن يكون العالم أكثر معقوليّة، فهو كون متناه (مثل سطح كرة) لكنّه لا يعرف حدوداً (مثل سطح كرة أيضاً) ولنا أن نعرف تأثير هكذا فكرة في حلّ ما كان يعتبره البشر لغزا مقلقا. فهم يخافون من الاصطدام بمكان ما بحدود معينه لا يمكن تخطيها، مكان يحبسوا فيه أمام عالم علوي مقدّس لا يمكن بلوغه، كما يخشون أيضاً من فراغ ممتدّ لانهائي لا معنى له، لقد طرد أينشتاين هذين الخوفين (لا حدود للكون المتناهي).[6] وهكذا تصوّر عن زمكان متناهي لكنّه غير محدود “كتصوّر دائرة باعتبارها خطّ منحني يصل بعضه البعض ليشكل فراغاً محدوداً لكن دون أن يكون له حدود أو حافة” يكون السّؤال “أين نحن” بلا معنى طالما لم يكن هناك حد خارجي للزمكان؟ فالفضاء ذاته ليس له معالم، وحتّى في المناطق الأكثر بعداً تكون الّسمة العامّة للكون تشبه المنطقة المجريّة المجاور، وعلى هذا المقياس لا يكون لمفهوم ” الأين ” معنى واضح، لأنّنا نستطيع تحديد موقعنا بالنسبة إلى بعض الأشياء المجاورة، كالشّمس أو مركز المجرّة، لكنّه خلال الكون ككلّ لا يوجد مكان مفضل يمكن تحديد مواقع الأشياء من خلاله، والموقف هنا يكون أشبه بالوقوف على رقعة دائريّة مخططة بالمربعات، يمكنك أن تعطي معنى لمدى بعدك عن أقرب ركن لك في المربع، غير أنّ وضعك العامّ على الرّقعة يعدّ تصوّراً بلا معنى.[7] وحقيقة أنّ الزّمن ليس ثابتاً أو كونياً، لكنّه مرن وقابل للانحناء، تهدم العديد من المعتقدات البديهيّة، فإذا استطاع زمني أن يسبق زمنك بسبب حركاتنا المختلفة أو أوضاع الجاذبيّة، فلا يعود هناك ثمّة معنى للتّحدث عن “الآن”، فالسّؤال عمّا يكون عليه الزمن على نجم نيوتروني هو بلا معنى، فالزّمن نسبي تماماً، فمن وجهة نظر مرجعيتنا، يجري الزّمن بمعدّل منتظم، فمهما تحركّنا أو تغيّرت معايشتنا للجاذبيّة سوف يبدو الزّمن طبيعياً بالنّسبة لنا، بيد أنّ التّأثيرات الغريبة تظهر عندما نقارن الأزمنة بين نظامين مختلفين، عندها سنجد أنّ كلّ إطار إسناد له مقياسه الزّمني الخاصّ به، الزّمن ليس مطلق إذاً بل يختلف بين مرجعيّة وأخرى.[8]

يقول عالم الفلك الأميركي روبرت كيرشنر في كتابه ” من كون منظم إلى كون غريب الأطوار :يا له من كون باذخ غريب الأطوار، بغية أخذ كلّ الأدلّة بالاعتبار يلزمنا كون ذو مادّة معتادة ويلزمنا فوق ذلك مادّة مظلمة بثلاث طرق مختلفة على الأقلّ، ويلزمنا قدراً من الطّاقة السّالبة المظلمة الّتي دفع ضغتها السّلبي الطّور المبكر من تضخم الكون إلى الأمام، ويلزمنا طاقة مظلمة أطول عمراً بكثير مسؤولة عن التّوسع الكوني المرصود حالياً، ولعلّه من الحماقة من حيث المبدأ الاعتقاد بهذا الخليط الباروكي من قبل العقل السّليم، بيد أنّ القياسات ودلالتها الواضحة ترغمنا على ذلك. والحقائق مجتمعة ترغمنا على الاعتقاد أنّ الطّاقة المظلمة هي السّائدة في الكون. طاقة لا نعرف عنها شيء تحوّلت من فكرة جنونيّة إلى عنصر أساسي في النّظرة الحاليّة للكون “. وبالّتالي تحوّلت افتراض أينشتاين الّذي ندم عليه إلى قاعدة أساسيّة ليس لتوسّع الكون وحسب، ولكن لتمدّده المتسارع باطّراد، لكن يبقى السّؤال الإشكالي ما طبيعة هذه الطّاقة المظلمة (طاقة الفراغ)؟. في الواقع كلّما ازدادت معلومات الفيزيائيين عن الكون، كلّما قل فهمهم وصعبت مهمّتهم في جمع وتركيب كلّ التّفاصيل في بناء واحد متماسك.[9]

ومع ذلك، هناك بعض الفيزيائيين غير مقتنعين في وجود ما يسمّى بجاذبيّة المادّة الكونيّة (والطّاقة الكونيّة) المظلمة الّتي تشكّل نحو 85 بالمائة من كتلة الكون الّتي لم نعرف شيئاً عنها حتّى الآن، وهو موقف مشابه لموقف بعض الفيزيائيين من فكرة وجود الكوارك كأساس تكوين بنيّة المادة، ذلك أنّ فكرة إرجاع الواقع المادي كلّه إلى جسيم الكوارك، وهو بالأصل غير قابل للملاحظة (لا يمكن عزله) كان أمراً صعباً على العديد من الفيزيائيين، إلاّ أنّه وعلى مدار السّنين، كلّما أدّى نموذج الكوارك لتنبؤات صحيحة أكثر وأكثر خفتت تلك المعارضة. وبنفس المنحى، نجد لو أردنا الانتصار لهؤلاء القلّة بموقفهم من وجود المادة المظلمة فيتوجّب علينا ببساطة أن نعدّل قوانين نيوتن. وقد يأتي ذلك اليوم كما حدث سنة 1916 عندما أجرى أينشتاين إعادة تشكيل الجاذبيّة لتناسب الأجسام ذات الكتلة الهائلة. وكان أينشتاين قد أظهر لنا أنّ الزّمن ليس سوى وهم، ويوضّح بعده تيبول دامور أنّه يجب أن نتخلّى أيضاً عن الوهم – الأكثر رسوخاً – لواقع وحيد، فالكون عبارة عن تراكب أحداث تاريخيّة مختلفة من تشكّل كلّ المادّة، إنّه تعدّد أكوان. إنّ الافتراض العادي في علم الكون هو أنّ الكون له تاريخ محدّد، ويستطيع المرء أن يستخدم قوانين الفيزياء لحساب طريقة تطوّر هذا التّاريخ بمرور الوقت، وهو ما يسمّى بالمقاربة الكونيّة “من أسفل لأعلى”، لكن يجب أن نأخذ في اعتبارنا الطّبيعة الكموميّة للكون كما تعبّر عنها محصلة فاينمان في أنّ الكون يحمل كمومياً كلّ التّواريخ الممكنة، ولهذا فإنّ مقدار احتمال أنّ الكون هو حالة خاصّة الآن، يتمّ الوصول إليه بإضافة الإسهامات من كلّ التّواريخ الّتي تفي بشروط اللاّحديّة، وتنتهي إلى الحالة محلّ البحث. بمعنى آخر، لا يجب على المرء في علم الكون أن يتتبّع تاريخ الكون من أسفل لأعلى، لأنّ هذا يفترض أنّ للكون تاريخاً واحداً له نقطة بداية محدّدة، بل يجب أن يتتبّع التّواريخ من أعلى لأسفل أي بالعودة من الزّمن الحاضر إلى الوراء، ستكون بعض التّواريخ محتملة أكثر من الأخرى، وسيسيطر على المحصّلة بشكل طبيعي تاريخ واحد، هو الّذي يبدأ بخلق الكون، ويبلغ أوجه في الحالة قيد البحث، لكن سيكون هناك تواريخ مختلفة لحالات الكون المحتملة المختلفة في الوقت الحاضر، وهذا يقودنا إلى رؤية مختلفة تماماً لعلم الكون، والعلاقة بين السّبب والنّتيجة، فالتّواريخ الّتي تسهم في محصّلة فاينمان ليس لها وجود مستقل، لكنّها تعتمد على ما يتمّ قياسه، ونحن نخلق التّاريخ من خلال ملاحظتنا، بدلاً من أن يكون التّاريخ هو الّذي يخلقنا.[10]

وبالمقابل، فإنّ البحث عمّا يسمّى ” نظريّة كلّ شيء ” في الكون تستدعي ضمنا أن يتحوّل الكون إلى مجموعة من البراهين العقليّة المنطقيّة الاستنتاجيّة الّتي يمكن من خلالها تفسير كلّ شيء، وهو الأمر الّذي دعا إليه أفلاطون وديكارت. لكن فكرة المنطقيّة الرياضيّة قد تستدعي مشكلاتها. فمن المعروف أنّه لا بدّ من تأسيس الرّياضيات على مجموعة من البديهيات ولو أنّه من الممكن استنباط نظريات الرّياضة بدون نظام البديهيات، فإنّ البديهيات نفسها لا يمكنها ذلك إذ لا بدّ أن نقوّمها ونحكم عليها من خارج النّظام، والمرء في ذلك يستطيع تخيل نظماً عديدة ومختلفة للبديهيات الّتي تقود بدورها إلى طرق منطقيّة مختلفة. وهذا يقودنا إلى مشكلة نظريّة ” جودل ” الّتي وفقاً لها يصبح ممكناً بصفة عامّة أن نبرهن على تماسك البديهيات من خلال نظام البديهيات نفسه، وإذا كان ممكناً إظهار التّماسك فإنّ نظام البديهيات لن يكون مكتملاً، بمعنى أنّه من الممكن وجود عبارات رياضيّة حقيقيّة لا يمكن إثبات صحتها من خلال هذا النّظام. إنّ نظريّة لكلّ شيء يتوجّب عليها ليس فقط شرح كيفيّة مجيء كوننا للوجود، ولكن لماذا هو نموذج للأكوان الّتي يمكن أن توجد؟ ولماذا هناك مجموعة واحدة من القوانين الفيزيقيّة. وهذا هدف يبدو في الواقع خادع ووهمي ينعكس في مدى تمثيل نماذج الرياضيات لكوننا. وبما أنّ المخلوقات تنتمي لهذا العالم الفيزيقي أي متضمّنة فيه، فإنّنا لن نكون قادرين على الحكم على اختيارات البديهيات في هذا النّموذج، ولا قوانين الفيزيقا المتعلّقة والمتواصلة مع البديهيات.[11]ومع ذلك فإنّ كلمة فوضى، أو شواش، الّتي طغت على الحديث العلمي لا سيّما من وسائل الإعلام، بتأثير مباشر من الفيزياء، لا تصف في الواقع أيّة بلبلة أو اختلاط أو شكيّة لا أدريّة، وإنّما تشير إلى أّن وقائع الأشياء تفيد بأنّ المنطلقات المتماثلة تقريباً لا تؤدّي إلى نتائج متشابهة بشكل حتمي،  وقد اقترح الفيلسوف كارل بوبر فكرة عدم النّظر إلى الكون على أنّه يمثل ساعة متقنة الدّقة، بل على أنّه مكون زمكاني أشبه بالغيمة، وكلّ شيء فيه يسير فيزيائياً بشكل صحيح بالتّأكيد، ولكن النّتيجة يمكن أن تخرج بطريقة مختلفة للغاية، دون أن تطغى الاعتباطيّة على الأمر، إنّه أشبح بالتّنبؤ بحالة الطّقس (كلّ شيء يسير وفق قوانين الطّبيعة، ولكن لا يمكن التّنبؤ بدقّة بما سيحدث).

خاتمة

كتب ماكس بلانك قائلاً:”إنّ الفيزياء الحديثة تبهرنا بطريقة تثبت حقيقة الرّأي الوارد في العقائد القديمة الّذي يقول إنّ هناك حقائق خارجة عن نطاق حواسنا، وهناك مشاكل تشكل فيها هذه الحقائق دوراُ أكبر بالنّسبة لنا وستكون أغنى من كنز معرفي قد يصادفنا في عالم التّجربة”.[12]

*******

المراجع والحواشي:

[1] نيل تايسون: عن هذا الكون الفسيح، مرجع سابق، ص 112.

[2] فيسلين بتكوف: النسبية وطبيعة الزمكان، ترجمة: محمد أحمد فؤاد باشا، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1 2018، ص 209.

[3] فيسلين بتكوف: النسبية وطبيعة الزمكان- مرجع سابق، ص 281.

[4] فيسلين بتكوف: النسبية وطبيعة الزمكان، المرجع نفسه، ص 35.

[5] ستيفن هوكنغ: التّصميم العظيم ، إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى، مرجع سابق، ص 210.

[6] ارنست بيتر فيشر: سحر الكون، تاريخ مختلف للعلوم الطبيعية، مرجع سابق، ص 38.

[7] بول ديفيز: القوى الأربع الأساسية في الكون، مرجع سابق، ص26.

[8] بول ديفيز: القوى الأربع الأساسية في الكون، المرجع نفسه، ص 53.

[9] ارنست بيتر فيشر: سحر الكون، تاريخ مختلف للعلوم الطبيعية ، مرجع سابق، ص 125.

[10] ستيفن هوكنغ: التّصميم العظيم، إجابات جديدة على أسئلة الكون الكبرى، مرجع سابق، ص 167.

[11] بول ديفيز: الاقتراب من الله، بحث في أصل الكون وكيف بدأ، مرجع سابق، ص 190 – 191.

[12] نيل تايسون: عن هذا الكون الفسيح، ترجمة: قيس قاسم العجرش، دار سطور، بغداد، ط1 2017، ص 31.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/02/18/%d8%aa%d8%b3%d8%a7%d8%a4%d9%84%d8%a7%d8%aa-%d9%81%d9%84%d8%b3%d9%81%d9%8a%d9%91%d8%a9-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%83%d9%88%d9%86%d9%8a%d8%a7%d8%aa-%d8%ac2/

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك