الإثنية والقبلية ومستقبل الشعوب (البدائية)

الإثنية والقبلية ومستقبل الشعوب (البدائية)

برهان غليون*

1- مفهوم الإثنية
أصبح موضوع الإثنية والنزاعات القبلية والطائفية في العقود الأخيرة محور نقاش رئيس في ميدان البحث الاجتماعي والسياسي، ليس في البلاد العربية فحسب، وإنما في العالم أجمع. ومع ذلك لا يزال من الصعب الاتفاق على تعريف واضح لمفهوم الإثنية، وعلى تحديد دقيق لما ينطوي عليه مشمولها.
ربما يرجع الظهور الأول لهذا المصطلح في الدراسات الأوروبية لعام 1787م. وقد استخدم للإشارة إلى الشعوب أو الجماعات التي لم تكن مسيحية، وكان يعني -بشكل رئيس- الوثنية. واستمراراً لهذا الاستخدام -الذي يشير إلى كل من هو مختلف ومتميز سلباً عن الجماعة المسيحية- سوف يتطور مضمون الإثنية(1). فمنذ عام 1880م بدأت الدراسات الإتنوغرافية الغربية تستخدمه للإشارة إلى الشعوب التي كانت تنظر إليها كشعوب بدائية. وواضح أن هناك ارتباطاً عميقاً بين الوثنية والبدائية؛ إذ كان من غير الممكن تصور أن يكون الشعب متحضراً إذا بقي على اعتقاداته الوثنية ولم يتشرب قيم المسيحية واليهودية. وبوصفه كذلك كان الشعب الذي يعامل كإثنية يفتقر في نظر الإثنولوجيين للحضارة والمدنية، بل وللثقافة المتطورة، ولا يمكن أن يكون بمستوى الشعوب الأوروبية، ولا أن تطبق عليه المعايير والمقاييس والمفاهيم ذاتها التي تطبق في دراسة هذه الأخيرة. وقد ترسخ هذا الاستخدام لمصطلح الإثنية كوسيلة للتمييز بين الشعوب البدائية غير الأوروبية وغير المسيحية والشعوب المتحضرة الأوروبية مع دخول العصر الاستعماري، حيث حصل الربط بشكل أعمق بين الإثنية والعرقية أو العنصرية. فلم تعد الإثنية تستخدم للتعبير عن نمط حياة شعوب تخضع لقواعد وثقافات بدائية أو ما قبل حضارية، وإنما تستخدم -أكثر من ذلك- للتمييز بين شعوب ذات موروثات بيولوجية تؤهلها للارتقاء إلى مستوى الحضارة والحياة الروحية والمدنية والسياسية العقلية، وشعوب تبقى - بسبب ميراثها البيولوجي والفيزيولوجي في مستوى منحط أو أدنى بكثير من الأولى. وهو ما يبرر شرعية سيطرة الشعوب الأوروبية، ويجعل من إشرافها على شؤون تلك الشعوب وتوجيهها مهمة إنسانية ودينية معا. وقد استخدمت منذ بداية حقبة نزعة الاستعمار كمفهوم أساسي لتحليل طبيعة المجتمعات التي حازت على استقلالها، وبالمناسبة نفسها لتبرير نمط الحكم والنظم السياسية التي قامت فيها، وتبرير أسلوب التعامل الأوروبي معها بوصفها خليطاً من الأقوام والطوائف والقبائل والأجناس التي لا يربط بعضها ببعض رابط قومي، ولا يمكن أن تنطبق عليها معايير النظام السياسي الوطني أو الديمقراطي. فهي دول تجمعات إثنية لا دول أمم ناجزة يمكن أن ننتظر منها أن تعمل حسب مبادئ الحرية والمساواة بين الأفراد وتمثل قواعد قانونية. وهو ما مكَّن الدول الاستعمارية السابقة من التدخل في شؤونها عن طريق التلاعب بتعدديتها القومية أو الثقافية أو الدينية، ومنع هذه المجتمعات بالتالي من تنمية روح وطنية ومواطنية حقيقية.
وفي عصرنا الراهن الذي شهد انهياراً للتجارب الوطنية، أو لتجارب بناء دول أمم مستقرة وقائمة على تمثل قيم الحرية والقانون، استعاد الباحثون والمحللون بقوة مصطلح الإثنية لغايات مختلفة ومتعددة. بل يمكن القول: إنه لم يحصل في أي وقتٍ إجماعٌ حول استخدام هذا المفهوم لتحليل ما يحصل في المجتمعات غير الأوروبية وغير الغربية بين جميع الأطراف الدولية والمحلية، العلمية والسياسية، كما هو حاصل اليوم حول مصطلح الإثنية. فهو يؤكد في نظر الباحثين الغربيين خصوصية التجربة الغربية ويبرر للسياسيين سياساتهم التقليدية التي تعاملت مع الشعوب المتحررة من الاستعمار على أسس أقوامية وإثنية، ويضفي شرعية جديدة على عودة السياسات الاستعمارية باسم التدخل الإنساني لوقف النزاعات الإثنية أو لحماية السلام الدولي من مخاطر هذه النزاعات والعنف الذي ينطلق وينتشر في العالم منها. وهو يقدم للتيارات القومية -التي استلمت مقاليد السلطة في البلاد المتحررة حديثاً باسم القومية وبناء الدولة الوطنية- تفسيراً مقبولاً يعفيها من مسؤولية الإخفاق ويغطي على عيوب سياساتها العامة اللاوطنية. فالسبب الرئيس لفشلها في تعزيز الاستقلال وبناء الدولة القانونية يرجع في هذه الحال إلى الواقع الإثني الذي يميز مجتمعاتها، أو الإرث الإثني السلبي الذي يمنعها من التفاهم والتحرك نحو بناء إرادة وطنية واحدة. كما يمثل مفهوم الإثنية أيضاً خشبة خلاص لجميع تلك النظم الاستبدادية التي تسعى -من خلال التركيز على البنية الإثنية والانقسامية لمجتمعاتها واستعدادها لتوليد الفتن والنزاعات بين الإثنيات- إلى تبرير احتكارها السلطة وممارسة سياسات الإقصاء السياسي والاجتماعي، وفرض نظام حديدي يحرم المجتمعات والشعوب من أي فرصة للمشاركة في القرار بل حتى في توجيه أي انتقاد لسياسات الحكم الجائر. فبذريعة الرد على الانقسام الإثني للشعوب، تفرض النخب الحاكمة حكم القوة، حتى لو اضطرت لتأمين ذلك إلى تغذية النزعات، بل النزاعات القبلية أو الطائفية. وباسم الدفاع عن هيبة الدولة والحفاظ على الوحدة الوطنية من الانشطار تمنع أي معارضة وتدين أي نشاط سياسي مناهض لها بوصفه إثارة للنعرات الطائفية أو القبلية.
وكما هو واضح، الإثنية مصطلح من أصل لاتيني، لا تمت بصلة إلى الحقل الثقافي العربي. وقد دخلت إلى أدبياتنا السياسية والفكرية بعد الحرب العالمية الثانية، واحتفظت بصيغتها دون تبديل، كما لو أن العرب لم ينجحوا في إيجاد مرادف لها في اللغة العربية. وقد كانوا على حق في ذلك، فهي وإن أشارت في عموميتها إلى تكوينات أو هويات جماعية متميزة إلا أنها لا تكاد تستقر على حال في تعيين طبيعة هذه الهويات أو أصل تميزها ونزاعها. فهي كالحرباء يتغير لون جلدها بحسب ظروف المكان والزمان. فقد تستخدم في سياقات معينة للتعبير عن الجماعات الأقلية في علاقتها مع أكثرية قومية في بلد معين، وتشير بذلك إلى الاختلاف في الأصل القومي كالتمايز بين العرب والأكراد والبربر والأرمن والشركس. لكنها تستخدم أيضاً للتعبير عن التمايز الديني أو الطائفي، فالمسيحيون يشكلون إثنية في بلد أغلبيته بوذية أو إسلامية، وهو ما ينطبق أيضاً بالقدر نفسه على أي أقلية دينية حتى عندما تشترك بلغة وثقافة واحدة مع الأكثرية. هكذا يبدو المشرق العربي مثلاً بالنسبة للباحثين الغربيين والأمريكيين بشكل خاص: فسيفساء من الأقوام والطوائف والعشائر أو القبائل المتنافرة والمتنابذة التي لا يجمعها جامع. وقد تستخدم للتعبير عن التمايز بين القبائل التي تنتمي إلى ثقافة واحدة وتتحدث لغة واحدة ويجمعها دين واحد أيضاً، بل مذهب واحد كما هو الحال في بلدان كثيرة عربية. وقد تختلط هذه المعايير جميعاً هنا وهناك. لكن الأمر أكثر تعقيداً من ذلك. فالمجموعة العربية قد تكون إثنية وتعامل كذلك في بلد يشكل العرب فيه أقلية، كما في بعض بلدان أفريقيا حيث يسود منطق الإثنيات على المجتمع والنظام السياسي ما بعد الاستعماري، لكنها ليست كذلك في بلد هي فيه أكثرية، تحتضن بالضرورة تمايزات دينية وجهوية. وهو ما ينطبق أيضا على الجماعة الدينية التي لا ينظر إليها كإثنية إلا عندما تكون أقلية في مجتمع أكثريته من ديانة أخرى. وهذا ما دفعني إلى تفضيل استخدام مصطلح الأقليات في الكتاب الذي كرسته لمعالجة هذه المسألة(2). وفي مرحلة ثانية مصطلح الطائفية بعد إعادته إلى معناه الأصلي الذي لا يقتصر على وصف الأقليات الدينية وإنما أي جماعة تميز نفسها بصورة واضحة ومستمرة نسبياً داخل الجماعة الكلية. فنحن بالعربية نستخدم عبارة طائفة من الناس لوصف أي جماعة متميزة، كما استخدمت الأدبيات العربية الكلاسيكية كلمة الطوائف للتعبير عن الأحزاب أو أصحاب المهن المختلفة(3).
وفي نظري، ينبغي التمييز بين الإثنية كواقع مادي يعكس التنوع المختلف الأشكال داخل المجتمعات، والإثنية كمفهوم إيديولوجي سياسي يستخدم للتعبير عن العلاقات التي تربط بين هذه الجماعات، وما يمكن أن يسودها من تفاهم أو توتر ونزاع. فهناك بالتأكيد داخل أي مجتمع جماعات متميزة، حيث لا توجد مجتمعات صافية لا تمايز بين جماعاتها، تنحدر كما يعتقد البعض من جدٍ واحد. فكلها ثمرة تصاهر بين جماعات متعددة الأصول والمشارب وأحياناً الثقافات واللغات. والمجتمعات الأكثر تنوعاً ليست اليوم -كما يعتقد الكثير منا- المجتمعات التقليدية أو الشرقية أو الأفريقية، وإنما أكثر المجتمعات تقدماً وعلى رأسها الولايات المتحدة وكندا وأستراليا التي تكونت مجتمعاتها من خليط من السكان المهاجرين المنتمين إلى مختلف الأصول الثقافية والسكانية، وهي لا تزال تستقبل المزيد منهم. وليس من قبيل الصدفة أن الإتنوغرافية والإتنولوجية قد ولدت في الولايات المتحدة على يد مدرسة شيكاغو لدراسة علاقات التعايش والنزاع بين جماعات السكان المختلفة في المدن الأمريكية. فهذا واقع لا يمكن لأحد إنكاره ولا مصلحة لأحد في ذلك. وهو سمة عامة لجميع المجتمعات من دون استثناء.
لكن التمييز بين الإثنية كواقع وخطاب الإثنية مهم جداً لمعرفة حقيقة المسألة الإثنية. فليس هناك نقاش في وجود التنوع بين الجماعات داخل المجتمعات. فهذا أمر واقع، إنما المهم هو كيف ننظر إلى هذا الواقع ونفسره ونرد عليه. وهذا هو موضوع الخطاب الإثني أو الإتنولوجي وفي الإثنية، وهو خطاب متعدد الأنماط أيضاً، علمي وإيديولوجي وسياسي. فتحديد من ينظر في مسألة الإثنية لأي هدف ينظر، وكيف يفهم وجود التنوع المجتمعي، وماذا يستنتج من ذلك، يشكل جوهر البحث في المسألة الإتنولوجية وموضوع النقاش الرئيس فيها.
ولعل المقارنة بين خطاب الإتنوغرافية الأمريكية في القرن التاسع عشر والإتنوغرافية الاستعمارية في القرن نفسه يبرز ذلك على أفضل وجه. فقد كان هدف الأنتربولوجيين الأمريكيين فهم الاختلافات في الثقافات الخاصة بالجماعات المهاجرة المختلفة من أجل المساعدة على تحقيق التعايش والانصهار فيما بينها. وهكذا ولدت أنتربولوجية ثقافية على درجة كبيرة من الرصانة والصرامة العلمية، وقادت إلى مفهوم للثقافة يبتعد كثيراً عن مفاهيم العرق والعنصرية. وفي المقابل، كان هدف الإتنوغرافيين الغربيين الذين درسوا الاختلافات داخل مجتمعات أفريقيا وآسيا والعالم العربي البحث عما ينفي وجود الأمة أو إمكانية وجود رابطة قومية تبرر مطالب الاستقلال والسيادة والمعاملة المساواتية.
وأفضل وسيلة لذلك هي التأكيد على الاختلافات الإثنية كما كان ذلك واضحا في كتابات الإتنولوجيين وسياسات فرنسا في المغرب والمشرق على حد سواء. وحتى عندما كان الأفراد ينتمون إلى الثقافة والدين والتاريخ والقوم الواحد، وُجد بين الباحثين من يخترع لبعضهم أصولاً تميزهم كليا في الأصل الإثني؛ حتى يبين لا عقلانية التفاهم فيما بينهم، وبالتالي حاجتهم -من أجل البقاء تحت سقف دولة واحدة- إلى وسيط خارجي وثقافة خارجية ولغة خارجية وسيطة أيضاً. ولم يتردد البعض في اختراع أساطير إتنولوجية لتعزيز هذا التباعد والتفريق بين الجماعات، تماما كما اخترع القوميون في كل مكان أساطير لا تمت إلى الواقع بصلة حول الأصل الواحد والانتماء الواحد للأفراد المنتمين لأمة سياسية واحدة.
وبدل الحديث عن إثنيات متنافسة ومتنازعة يبغي الحديث بالأحرى عن عملية أثننة الشعوب أو المجتمعات بهدف تحويلها إلى مجتمعات مفتقرة للاتساق والوحدة، وخلق التواريخ المتناقضة لها ووضعها في مراتب متميزة تعظم من قدر البعض وتقلل من قدر البعض الآخر. وبذلك زرعوا الفتنة داخل هذه المجتمعات وأطلقوا في حضنها ديناميكية النزاع والتنافس على السلطة والسيطرة، وفيما وراء ذلك النزاع على الاعتراف والهوية. والأثننة عملية معاكسة تماماً للقومنة، أي لكتابة تاريخ قومي للشعوب يقوم على التقليل من أهمية الاختلافات والفوارق التي تباعد بين أعضائها وأطرافها، سواء أكان ذلك على المستوى الثقافي أو المستوى الاجتماعي الطبقي.
وعلى العموم، هناك مقاربتان للإثنية، الأولى تنظر إليها كماهية مرتبطة بخصائص جسدية أو عقلية ثقافية ثابتة تميز كل جماعة بشرية. أما المقاربة الثانية فهي مقاربة علائقية. المقاربة الأولى تفترض أن وجود الاختلاف نفسه هو مصدر نزاعات لا مهرب منها، وأنه هو الأصل في الاختلافات الثقافية والسياسية والاجتماعية. بل إن فكرة ربط القدرات والمهارات وأنماط التفكير نفسها بالإرث البيولوجي وحجم الجمجمة هي التي سيطرت على علم الإنسان في القرن التاسع عشر، وأدت إلى انبثاق النظريات العنصرية والعرقية. وأصل العنصرية الربط بين سمات جسدية معينة للجماعة البشرية وبين قدراتها أو كفاءاتها العقلية. وعلى هذا الأساس سادت النظرة التي تربط بين الإنسان الأبيض وبين الثقافة والحضارة الروحية والعقلية. من هذا المنطلق لا تدرس الاختلافات المادية والثقافية بين الجماعات لذاتها أو لتحسين فهم الباحثين لنمط ثقافتها وآليات عملها، وإنما لبناء علاقة واحدتها بالأخرى، أي لبناء علاقات الهرمية والتراتبية وبالتالي السيطرة الثقافية والاجتماعية والسياسية لواحدة على الأخرى. وفي الواقع لتبرير هذه السيطرة. هكذا يهدف الحط من ثقافات الجماعات أو من قدرها إلى تبرير السيطرة عليها وإضفاء سمة إنسانية على هذه السيطرة نفسها. وهو ما يفسر كيف انتقل أصحاب النظريات العرقية في القرن التاسع عشر من التأكيد على التمايزات العنصرية إلى نظريات وممارسات تحسين الجنس البشري عن طريق الانتقاء الطبيعي أو المنظم، وإبادة أو السماح بإبادة الأجناس البشرية المنحطة.
فالإتنولوجيون الذين وسموا الشعوب غير الأوروبية بالبنية الإثنية ونظروا إليها كحشد متنافر من الأقليات غير المتفاهمة ولا المتعايشة، بالرغم من أنها موجودة في المكان نفسه منذ نشأتها، لم يكتشفوا حقيقة علمية، وإنما رفضوا النظر إلى هذه الشعوب كإطار لنشوء أمة حديثة أو وطنية دستورية متساوية مع الوطنيات الأخرى، ولديها الحقوق ذاتها والشرعية ذاتها في النظام الدولي. لقد سعوا إلى حرمانها من أن تفكر بنفسها كأمة أو كمشروع أمة. وفي سعيها إلى تأكيد هويتها تتبنى الجماعات هذا الوصف وتتمسك بإثنيتها، فإما أنها تتصور نفسها قومية إثنية تنكر التنوع أو كتنوع بين إثنيات تشكل أحد خصائصها التي تميزها عن المجتمعات الأوروبية. فنحن العرب نعتقد أن القبلية جزء لا يتجزأ من هويتنا وبنيتنا الثقافية العميقة(4).
فخطاب الإثننة يعكس بذاته الوضعية الدنيا للجماعات التي يسعى إلى وصفها. وهو يميزها عن غيرها، أي عن الجماعة القومية أو التي تضفي على نفسها سمة القومية، أي ذات التنظيم السياسي والمدني الذي ينظر إلى الأفراد كمواطنين مستقلين وأحرار، بوصفها جماعات عصبية طبيعية وبالتالي مغلقة، تنفي الفردية وتهمشها، بتمسكها بتقاليدها وقراباتها القديمة نفسها وتظل بعيدة عن مجرى التحضر الإنساني العام. ويبدو هذا واضحاً في عصرنا الراهن في الأسلوب الذي يطرح فيه في الدول الصناعية موضوع الجاليات المهاجرة التي ترتبط المكانة الثانوية التي تعطى لها بالتقدير السلبي لقدرتها على الانخراط في قيم الحداثة (الغربية). والأتنولوجية نفسها لم تظهر كعلم إلا انطلاقاً من الاعتقاد بأن السمة الوطنية التي تميز الشعوب الغربية وتجعل منها أمماً سياسية لا تنطبق على المجتمعات الأفريقية أو اللاتينية الأمريكية أو العربية التي ينظر إليها كجماعات لم تصل بعد إلى مستوى الرابطة الوطنية.
ولا تعني المقاربة العلائقية أن التمايز غير موجود أو أنه شكلي، فالتعددية الثقافية والدينية والمورفولوجية كما ذكرت موجودة لا يمكن إنكارها، إنما تعني أن التمايز الثقافي أو القومي بين الجماعات لا يشكل مصدر توتر أو نزاع بحد ذاته، ولا يولد بالضرورة ولاءات جزئية مناقضة للولاءات السياسية الكلية. فلا يولد الشعور الإثني -ومن باب أولى النزاع بين الجماعات المختلفة الثقافات داخل المجتمع الواحد- إلا في ظرف معين وسياق معين، أي استناداً إلى طبيعة العلاقة التي تقوم بين الأفراد والجماعات. فطبيعة العلاقة التي تربط بين الجماعات هي التي تدفع إلى تنمية الشعور الإثني، أو بالأحرى الانكفاء على الجماعة الخاصة والاعتزاز بها ورفعها فوق الجماعات الأخرى وتقديم الولاء لها والطاعة لزعمائها، ومن ثم إلى النزاع في ظرف ما، كما يمكن أن تدفع إلى التلاقي والتفاهم والتقارب بين الجماعات.
هكذا تتغير النظرة إلى الأفراد حسب السياق الذي يوجدون فيه. فالعربي في بلد عربي يشكل العرب فيه أكثرية لا يرى كإثنية ولكن كمواطن في جماعة وطنية أو أمة، لكنه يصبح هو نفسه عضواً في إثنية أو جماعة قومية عندما يشكل أقلية في بلد أجنبي أكثريته غير عربية. وفي فترة السلام والاستقرار والازدهار ينظر المسلمون والمسيحيون لأنفسهم كأفراد في جماعة قومية واحدة عربية. لكن في ظرف يسوده التوتر والنزاع أو تدهور الثقة الوطنية، ينزع الأفراد إلى رؤية أنفسهم كأعضاء في جماعة مذهبية، والنظر إلى غيرهم أيضاً كأعضاء في جماعة دينية أخرى. وبمعنى آخر لا تنفصل الإثنية عن العلاقات الاجتماعية وما يَسِمُها من حالات التعاون أو التضامن أو التنازع والانقسام.
فبعكس ما يميل إليه الرأي الشائع من الاعتقاد، وما تزخر به الأدبيات الإتنولوجية المعاصرة، ليس التعدد الثقافي أو اللغوي هو الذي يخلق النزاعات بين الإثنيات، ولكن النزاع هو الذي يخلق الإثنية، أي يحول الاختلاف الثقافي إلى عصبية تضامنية ذات قيمة تداولية كبرى في الصراع على السلطة. وليس التمايز الإثني هو الذي يدفع إلى النزاع بين الجماعات، وإنما النزاع الاجتماعي على الموارد بأشكالها المختلفة، المادية والسياسية والمعنوية، هو الذي يدفع الأفراد إلى تكوين القرابات، ويولد الشعور بالولاء الإثني، بل يخلق هذا الولاء والانتماء من العدم. بمعنى آخر نصبح أعضاء إثنية، أو نشعر أننا ننتمي إلى إثنية، أو أن هؤلاء أو أولئك ينتمون إلى إثنية أخرى، بقدر ما يصبح الإعلان عن هذا الانتماء والتماهي مع المشابهين لنا مفيداً أو ضرورياً لتحقيق أهداف أخرى غير ثقافية وغير إثنية، وهي غالبا ما تكون أهدافا سياسية. من هنا لا تنفصل التحشيدات الإثنية عن الصراعات الاجتماعية والسياسية.
فالصراع الإثني يحصل في إطار دولة ومن أجل تعزيز فرص النُخب المختلفة للوصول إلى السلطة أو السيطرة عليها. ولهذا نادراً ما يستخدم مفهوم الإثنية، بل لا تطرح مسألة الإثنية على الباحثين، خارج سياق النزاعات التي تتفجر داخل مجتمعات وطنية. ويكاد الباحثون أو السياسيون لا يكتشفون وجود مشكلة إثنية في المجتمعات التي لا تعيش مثل هذه النزاعات، أي قبل أن تنفجر النزاعات، كما لو أن الحاجة إلى مفهوم الإثنية لا تظهر إلا في حالة وجود النزاعات، وذلك إما كمفتاح لفهمها، أو من أجل الكشف عن قصور البناء الوطني في هذا البلد أو ذاك. فالإثنية تظهر هنا كفرضية تفسر انفجار المجتمعات أو تفجر النزاعات فيها، على افتراض أن وجود تنوع إثني يتضمن بذاته بذور النزاع، ويجعل هذا النزاع عندما يتفجر مفهوماً ومعقولاً. وفي نظري لا تساعد هذه المقاربة على فهم معنى الإثنية، ولا من باب أولى معرفة الأسباب التي تدفع الإثنيات -إذا وجدت- إلى التفاهم فيما بينها لتكوين وحدة سياسية في فترة ما، ثم إلى النزاع والاقتتال الذي يصل إلى حد التطهير العرقي في فترة ثانية.
ففي سياق الحركات الوطنية العاملة من أجل التحرير وتكوين دول مستقلة نشأت ديناميكية تقارب فعلي بين الجماعات المختلفة في جميع مناطق العالم أدت إلى الاستقلال وتكوين الدول الوطنية. وقد دفع الانتماء لدولة حديثة -قامت على أساس الوعد بالحرية والعدالة والمساواة بين الأفراد، والتقدم على طريق الاندماج في حضارة العصر الصناعية والمادية- الأغلبية الساحقة من الأفراد إلى الانخراط في عملية انصهار وتقارب وتداخل عميقة فيما بينهم، ولم يمنعهم تنوع أصولهم الإثنية واللغوية والثقافية والدينية من تكوين أمة أو ما يشبه الأمة السياسية، لا في الغرب ولا في الشرق. وذابت المشاعر الطائفية والعشائرية التقليدية أو تراجع تأثيرها كما زالت العصبيات الجهوية بين المناطق والأحياء داخل الجماعة الواحدة. وهذه هي القاعد في كل مكان وعلى مدى التاريخ بأكمله. وبالمقابل أدى إخفاق الرهان الوطني في العديد من البلدان إلى خمود ديناميكية التقارب والانصهار، وبروز ديناميكية معاكسة تماما لها هي العودة، بموازاة استفحال التناقضات والنزاعات، إلى التأكيد على الهويات الجزئية واكتشاف الانتماءات الإثنية، بل توليدها داخل الجماعة القومية والثقافية الواحدة. مما يعني أنه كما أن الهوية القومية ليست هوية ثابتة ونهائية لا رجعة عنها فكذلك شأن الهويات الطائفية أو القبلية. فجميعها سيرورات تاريخية تبنى بإرادة بشرية وترتبط بظروف نشأة وتراجع وانحسار. ولا شك في أن خطاب الإثنية الاستعماري وما بعد الاستعماري المتمثل من قبل الشعوب النامية نفسها، كان عاملاً مهماً أيضاً في هذه السيرورة، وقاد إلى تشكيك الشعوب المستقلة حديثا بقدرتها على بناء أمة سياسية، في الوقت الذي كانت ظروف الإمبريالية تكاد تقطع الطريق ماديا على مثل هذا البناء.
2- الإثنية والحداثة السياسية والديمقراطية
وفي منطقتنا المشرقية بشكل خاص، من يتابع ما يكتب من تحليلات حول الأزمة السياسية العامة التي تحيق بالمجتمعات العربية لا يكاد يجد مصطلحا أكثر استخداماً من مصطلح الطائفية والعشائرية. وبينما ينظر البعض للطائفية والعشائرية بوصفهما عاملين أساسيين في تكوين الهوية السياسية للمجتمعات العربية، يرى فيهما البعض الآخر ثمرة تلاعب القوى الأجنبية وتجسيداً لإرادتها السرية والعلنية في تقسيم البلدان العربية وتفكيك الدول إلى دويلات غير قابلة للحياة. وقد جعلت أغلب الحركات الوطنية التي نشأت في بداية القرن العشرين من الكفاح ضد الطائفية والعشائرية شعاراً رئيسياً من شعاراتها ونظرت بعداء شديد لأي شكل من أشكال التعبيرات الطائفية.
وفي وقتنا الراهن كثيراً ما يركز المحللون على الانقسام الطائفي لتفسير الأزمة الطاحنة التي تواجهها معظم الدول والمجتمعات العربية في مساعيها لإقامة نظم ديمقراطية أو حتى لتجنب مخاطر الحرب الأهلية. ولا يزال الكفاح ضد الطائفية يشكل محور الأفكار التحررية التي تنادي بها الحركات القومية واليسارية التي ترى في استمرار وجودها عائقاً رئيسياً أمام تطور الولاءات الوطنية. ويقدم الوضع القائم في لبنان والعراق واليمن والنزاعات العنيفة التي شهدتها هذه المجتمعات ومجتمعات عربية عديدة أخرى في نظرهم نماذج حية للدور السلبي الذي تلعبه الطائفية في قطع الطريق على نشوء الدولة القومية وفي التمكين للاحتلال وسحب البساط من تحت أقدام الحركة الوطنية وفشل التحولات الديمقراطية.
لقد تحولت الطائفية في اللغة السياسية التقدمية العربية من ظاهرة تاريخية اجتماعية متحولة إلى لعنة أبدية وعاهة مجتمعية لا يعرف أحد كيف يمكن احتواء تأثيراتها السلبية ولا التخلص منها. وأصبح الخوف من تفجراتها المحتملة عقبة أمام تطور المناقشة السياسية نفسها. فهي فتنة نائمة لا سيطرة لنا عليها، والحديث عنها بأي شكل جاد لا يمكن أن يكون إلا إيقاظاً ملعوناً لها وإطلاقاً لبراكينها الكامنة. ولا يعادل الكره الذي تراكمه الثقافة السياسية العربية ضدها -بكل تياراتها اليسارية واليمينية، الاستبدادية والديمقراطية- سوى الخوف من التأمل الموضوعي فيها وفي أسباب بقائها وانتشارها. ولذلك قر السلوك العربي على نوع من الانفصام في السلوك السياسي إزاءها. وهكذا نجد الفرد الذي لا يكف عن إدانة الطائفية والتبرؤ من شرورها لا يتردد في أغلب الأحيان من الانصياع لقانونها والاندفاع في أحيان أخرى -بإرادته وأحيانا من دون إرادة- وراء رهانات وتلاعبات وحسابات طائفية لا حدود لها.
يخلق الحديث المتكرر عن الطائفية وعياً شقياً لدى المجتمعات العربية التي تشعر بأنها ضحية آلية عمياء جبارة تفرض عليها الانقسام بين عصبيات متنافرة وتغلق أمامها أبواب التحولات السياسية الديمقراطية والوطنية. وبقدر ما يفقد هذا الشعور الثقة المتبادلة بين أبناء الطوائف المختلفة التي تتبارى في اتهام بعضها بعضا بإخفاء النوايا والرهانات الطائفية يزرع الشك واليأس عند المجتمع بأكمله بإمكانية التعايش داخل الوطن الواحد، بل بإمكانية بناء مثل هذا الوطن الذي يفترض التضامن والتكافل والتعاون بين جميع أفراده بقدر ما يجمعهم تحت سقف واحد ويفرض عليهم مصيرا مشتركا.
والواقع أن التركيز على الطائفية والبنيات العشائرية في البلدان العربية لا يعكس إدراكا لمخاطر حقيقية وحتمية بقدر ما يعبر عن الكسل والبؤس الذين اتسم بهما الفكر القومي والوطني المحلي الذي اتجه في سعيه لإقامة دولة وطنية حديثة وإضفاء المشروعية السياسية عليها إلى التركيز على مسألة الهوية والتجانس والاندماج بدل بناء مفهوم المواطنية والتأكيد على واجب الدولة الحديثة في تأمين شروط الممارسة القانونية لها، وبالتالي تأمين حرية أبنائها ومساواتهم. فقد سعت الدولة المحلية إلى التعويض عن غياب برنامج بناء المواطنية في مشروعها، أي عن غياب مشروع الدولة الوطنية الحديثة بالفعل عنها، بتضخيم الحديث عن الهوية والانتماءات الثقافية والتاريخية الأحادية. وكانت النتيجة توليد نزعة وطنية انصهارية صماء تتطابق مع مفهوم العصبية الطبيعية أكثر مما تعبر عن نشوء فكرة وطنية وشخصية سياسية حقيقية. وهكذا أصبح التعدد الطائفي -الذي ينبغي أن ينظر إليه على أنه ثروة وطنية بدل أن يعاش كعاهة مجتمعية- يبدو وكأنه نقمة إلهية أو طبيعية. وأصبح الوضع الاعتيادي الذي عرفته المجتمعات منذ قرون وبنت من حوله نظمها الأخلاقية الرئيسة - بما تعبر عنه من قيم التعايش والتسامح التاريخية التي ميزت المجتمعات العربية والإسلامية - وضعا نشازا أو تعبيرا عما ينبغي تسميته الخطيئة الأصلية، يميز المجتمعات العربية ويفصلها عن المجتمعات الأخرى الطبيعية ويحط من قدرها وقيمتها الجوهرية.
والواقع أن تعدد الطوائف واستمرار البنيات العشائرية ليس هو السبب في تخلف بنية الدولة الوطنية العربية، ولا هو المسؤول عن تعثر مشاريع الاندماج الوطني وتقدم مشاريع التحويل الديمقراطية. ولا يشكل كلاهما أي لعنة أبدية أو تاريخية. فجميع المجتمعات مكونة من جماعات متعددة ويمكن تخفيضها جميعا إلى مجموعة لا نهائية من الأقليات الثقافية والدينية والعرقية والمهنية والجنسانية والحضرية والريفية وغيرها. والمجتمعات الصناعية المتقدمة أكثر تعددية اليوم طائفيا وعرقيا من المجتمعات العربية. وما تتميز به مجتمعات الصين والهند وغيرها من المجتمعات الآسيوية عموما يفوق بما لا يقاس ما تعرفه المجتمعات العربية التي تبدو في هذا المنظور مجتمعات شديدة التجانس والأحادية الثقافية. وهذا التعدد الواسع في المجتمعات الأسيوية يعبر-بعكس ما هو شائع- عن درجة الازدهار الحضاري الذي عرفته هذه المجتمعات في الماضي. فهذا الازدهار الحضاري وما يرتبط به من نمو قيم التسامح والتعايش وما يتيحه من إمكانيات التفاعل والتبادل والتواصل بين الثقافات وما يفرزه من حريات فردية وجمعية هو الذي يدفع إلى نشوء التعددية بقدر ما يسمح بنشوء الهويات المتمايزة المرتبطة أي بالتغاير داخل المجتمع الواحد بين مجموعات الرأي والثقافة، وكذلك بقدر ما يؤلف قوة جذب جبارة للجماعات البعيدة وبشكل خاص للجماعات المضطهدة والمقهورة في المناطق (المتوحشة). ولا حاجة للذهاب بعيدا لمعاينة هذه الديناميكية التاريخية الحضارية. فالعالم العربي هو اليوم أكبر منطقة طاردة للجماعات الأقلية المتميزة أو المغايرة سواء أكانت جماعات دينية أم جماعات عرقية أم جماعات رأي وثقافة سياسية ومعارضة. وجميع هؤلاء يقصدون الدول الصناعية الكبرى المتقدمة حيث يسود التسامح والحريات الدينية والفكرية ويعززون من طابعها التعددي في الوقت الذي تنحو فيه المجتمعات العربية -مثلها مثل المجتمعات المتأخرة الأخرى- إلى التجانس وكبت التنوع والخوف من التعدد حتى داخل الطائفة أو الجماعة العرقية الواحدة. وليس هذا من علامات التقدم الحضاري ولا التشكل الوطني ولا التسامي الديني بأي حال. إن استقبال المهاجرين والجماعات المغايرة يعكس ثقة المجتمعات بنفسها، أي بثقافتها ومستقبلها وقدراتها على الدمج والاستمرار بينما يعبر طرد الأقليات بصورة واعية أو غير واعية عن استبداد القلق والشك وغياب الثقة بالنفس عند المجتمعات. كما أن لوجود أغلبية ثقافية أو دينية متجانسة دورا كبيرا في خلق شعور بالاستقرار والاستمرارية والثبات عبر التاريخ لدى تشكل الأقليات المنفتحة باستمرار على الخارج والعابرة عادة للبلدان ناقلاً استثنائيا المكتسبات التقنية والعلمية والفكرية وبالتالي حاملا رئيسيا لديناميكية التفاعل والتواصل بين الثقافات والحضارات.
باختصار، إن التعددية بكل وجوهها وأشكالها ليست خطأ تاريخيا ولا بنية نشازا ولكنها الأمر الطبيعي والشائع أيضا في أي مجتمع متمدن لا يمكن أن يخفض منطق انتظامه إلى مستوى منطق الأسرة أو العشيرة أو الطائفة الواحدة. وقد كانت الطوائف موجودة دائما في المجتمعات العربية وستظل موجودة في المستقبل. وهي موجودة أيضا في بلدان عديدة تعيش في ظل نظم ديمقراطية. وهي لا تشكل -كما تبين ذلك تجربة الهند التي تعج باللغات والأقليات الدينية والعرقية على حد سواء- عائقا أمام قيام نظام ديمقراطي. فهي تستطيع أن تتعايش معه وتجد التسويات الضرورية للحفاظ على ما تمثله من عصبيات محلية وما تمثله الدولة الديمقراطية من علاقات سياسية وطنية.
لا تتحول التعددية الطائفية إلى مشكلة تهدد الديمقراطية كما تهدد الحياة الوطنية حتى في الدول الاستبدادية إلا عندما يتغلب الانتماء للطائفة أو العشيرة على الانتماء للجماعة الوطنية أو يمحوه أو يتنازع معه أو عندما تصبح الإطار الوحيد للتضامن بين الأفراد. ولا يحصل ذلك إلا نتيجة نقص وعطب في النظام السياسي العام. والنخب السائدة هي التي تشحن التمايز الطائفي والقبلي بمفاعيل ومدلولات سياسية وتستخدمه في النزاع على السلطة. ومن دون ذلك لا تنتج الاختلافات الثقافية والأقوامية نزاعات خاصة مختلفة عن النزاعات الاجتماعية العادية أو الطبيعية. فلا تشكل هذه الاختلافات ولا تنتج مشاعر أو انتماءات طائفية متضاربة من تلقاء نفسها، وليست هي التي تفسر ظهورها. إن المشكلة تبدأ عندما يوضع الانتماء الخاص الطائفي وغير الطائفي محل الانتماء الوطني العام أو يتقدم عليه. ولا يتقدم هذا الولاء والانتماء كما ذكرت إلا عندما يشحن بقيم ومفاعيل أيديولوجية لتحقيق مآرب سياسية، وهو لا يحصل في الواقع إلا في إطار الصراع على السلطة وعلى تحقيق موقع أفضل أو مكانة أكبر في الدولة. مما يعكس غياب نظام سياسي قائم على التضامن الوطني والمواطني ويتعامل مع المواطنين كأفراد متساوين يفتح لهم الفرص نفسها ويدافع عنهم بالقوانين والقوة نفسها. وبالتالي غياب إطار وطني حقيقي يجمع بين الأفراد ويوحد بينهم سياسيا وقانونيا. ومتى غابت السياسة وغاب القانون ارتدت الجماعات إلى نظمها التقليدية التي كانت قائمة على التضامنات الأهلية: الطائفية أو العشائرية.
من هنا تعبر عودة الولاءات الطائفية والعشائرية عن انهيار إطار التضامن الوطني الذي يجمع الأفراد على صعيد أعلى وأشمل هو صعيد الدولة، الذي يعبر هو نفسه عن ضعف الدولة نفسها وقصورها في تكوين رابطة وطنية فعلية. وفي الغالب يكون انهيار الدولة ونظامها الوطني الحديث هو نفسه ثمرة طائفية النخبة الحاكمة أو عشائريتها أو استسهالها الرهان -في سبيل التمديد لحكمها أو الحكم من دون الخضوع لمساءلة شعبية- على شحن العصبيات القريبة منها أو التي تستطيع شحنها لتحقيق فائض قوة وسيطرة يعفيها من الاضطرار إلى تعريض نفسها للمحاسبة أو لقانون تداول السلطة. في هذه الحالة، ما يفسر عودة العصبيات الطائفية أو العشائرية ليس وجودها الطبيعي وإنما تحويل الإطار الوطني العمومي -الذي أصبح إطارا شاملا في الدولة الحديثة يمس مصير جميع الجماعات وبقوة- إلى حامل لعصبية خاصة من الطبيعة ذاتها تلغي المساواة أمام الدولة والقانون، أي إلا عند مصادرة عصبية طائفية أو مذهبية أو عشائرية للدولة وللسلطة العمومية لأهدافها الخاصة. وهكذا تكف الدولة عن أن تلعب دور الحاضنة العامة لجميع الأفراد بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو الطائفية لتتحول إلى مسخ مفترس يهدد جميع الأفراد والطوائف الأخرى بسبب تصالب روح العصبية الخاصة مع الدولة وما تؤمنه لها من وسائل عنف مادي ومعنوي استثنائية. وفي هذه الحالة يكفي أن نعيد إلى الدولة طابعها الوطني أي العمومي حتى يتراجع الانتماء الطائفي إلى الدرجة الثانية ولا يصبح هناك تناقض عدائي بين الرابطة الوطنية والرابطة الطائفية أو الإثنية(5).
والمقصود أن التركيز الدائم والمستمر في تحليل الأزمة الوطنية على التعددية الطائفية والقومية وتحميلها مسؤولية فشل النخب العربية الحديثة الثقافية والسياسية في بناء أطر وطنية حقيقية يهدفان إلى التغطية على حقيقة الدولة ومؤسساتها القائمة وافتقارها للسياسة الوطنية. وهذا ما يهدف إليه أيضا التذرع بالخوف من انهيار الوحدة الوطنية وانفجار الحرب الطائفية للحيلولة دون القيام بالتحويلات الديمقراطية. فلا يهدف كل ذلك إلا إلى تأبيد الوضع القائم وتبرير الهرب من مواجهة المسؤوليات التاريخية وما ينطوي عليه من رفض النخبة السياسية المراجعة النظرية والعملية للأفكار والسياسات والاستراتيجيات التي أودت بمشروعات بناء الدول الوطنية والقومية العربية.
بالعكس من ذلك، يتطلب بعث الروح الوطنية ومساعدة الأفراد الملتجئين خوفا أو بسبب غياب البديل إلى التماهيات الطائفية تركيزَ المثقفين والسياسيين على معالجة الدمار المادي والمعنوي الذي تعاني منه الدولة حتى يمكن إصلاحها وإطلاق حركة وطنية حقيقية بإزاء انبعاث الدولة وبمواكبته. ولا يعني هذا الإصلاح سوى شيئا واحدا: تحويلها من أداة لخدمة المصالح الخصوصية إلى إطار قانوني وتنظيمي وأخلاقي لتحقيق فكرة المساواة والتضامن بين أبناء البلد الواحد بصرف النظر عن انتماءاتهم، أي لبناء جماعة وطنية. إن استرجاع فكرة الدولة وموقعها في الحياة الوطنية هو السبيل الوحيد للخروج من الطائفية وضمان الوحدة الوطنية. أما إلغاء الحياة السياسية الوطنية بحجة كبت النزوعات الطائفية فهو الطريق الملوكي لشحن المجتمع طائفيا والعمل على تفجيره.
3- نقد المقاربة الإثنية
تقوم النظريات الإثنية على فرضية خاطئة تقول: إن النزاعات التي تشهدها المجتمعات غير الأوروبية أو بالأحرى غير الصناعية هي انعكاس لتركيبتها الإثنية، أو لغياب البنية القومية السياسية والمدنية عنها، لا لأسباب اجتماعية واقتصادية وسياسية وفكرية كما هو الحال في المجتمعات المتطورة، حيث يوجد الرأي العام الواعي والفرد الحر والاختيار العقلاني في كل المجالات. وتطلق صفة الإثنية على أي جماعة تتميز عن الأكثرية، بالثقافة أو اللغة أو الدين أو المذهب أو حتى التقاليد المناطقية. والحال أن هذه الإثنيات لا تكتشف من قبل الباحثين والسياسيين ولا تظهر للوجود إلا في ظروف تصاعد النزاعات وبالارتباط بها، وربما ليس لها وجود أو أهمية من دونها أو خارج سياقها. وهذا ما يدفعني إلى القول: إن هذه النظريات لا تساعد على فهم هذه النزاعات بمقدار ما تغطي عليها وتحرف نظر الباحثين عن اتجاه البحث المطلوب للكشف عن أسباب نشوء الانغلاق على النفس بين الجماعات وخلق العصبيات الخاصة وتطوير الهويات القاتلة هنا وهناك. فهم يفترضون وجودها كمعطى طبيعي تاريخي، ولا يفكرون أنها هي نفسها من منتجات الأوضاع والظروف المجتمعية، السياسية والثقافية والاجتماعية. فالإثنية، أي اللجوء إلى التضامنات الجزئية والعصبيات الأتوماتيكية وإبداعها في وجه الجماعات الأخرى أو الدولة تصبح في نظرهم حقيقة ثابتة وجامدة تعْبر التاريخ وتطبع سلوك الأفراد عبره، قبل الدولة وبعدها وخلالها، ولا شيء يغير من بنيات المجتمعات التاريخية هذه أو يعدل فيها.
وفي نظري العكس هو الصحيح. فالنزاع الاجتماعي هو الذي يخلق العصبيات، ويدفع إلى تكوين التجمعات والتنظيمات الجمعية، سواء أكانت من النمط الحديث كالأحزاب والجمعيات المدنية، أو من النمط التقليدي مثل القبلية والطائفية والمذهبية. والسؤال الذي يستحق الطرح هو في أي ظرف ولأية أسباب يكون إحياء التنظيمات التقليدية أو العصبيات القديمة أو إعادة توظيفها في معارك وتعبئتها بمعان جديدة هو السائد، ولماذا تبقى التنظيمات ذات الطبيعة الحديثة أقلوية أو ضعيفة ومهمشة؟ والجواب ليس لأن المجتمع نفسه يعيش على بنية قبلية أو لا يستطيع أن يتجاوز العصبية القبلية أو الطائفية، وإنما لأن نوعية الحداثة أو النمط السائد هنا منها، وبشكل خاص لأن الدولة الحديثة تفتقر إلى الموارد التي يمكن من خلالها بناء مثل هذه التنظيمات الحديثة، الشفافة سياسيا والمطابقة اجتماعيا. فكيف من الممكن تصور نشوء أحزاب سياسية قوية، ليبرالية أو يسارية، في إطار حداثة تنكر على الفرد استقلاله وحريته وتتبعه بالأجهزة الأمنية وتطبق عليه بقبضة الديكتاتورية؟! وكيف لنظم حديثة قائمة على التعسف والاعتباطية والعشوائية واحتقار القانون أن تنمي الاستعدادات الضرورية للسلوك العقلاني والمدني عن أفراد ليس لهم خيار آخر سوى الالتحاق بالسلطة وعبادة أصنامها أو الخروج من الحياة العمومية؟!!
باختصار الإثنية ليست تعبيرا طبيعيا عن بنيات مجتمعية ثابتة تدين بعض المجتمعات بالبقاء في السياسة العصبية، أي فيما قبل السياسة، وإنما هي تعبير عن إخفاق السياسة الوطنية الحديثة وتعويض عنها. إنها استخدام لأدوات قديمة في التعبئة الاجتماعية يبررها غياب الأدوات الحديثة أو حرمان الرأي العام منها. فهي لا تجسد استمرار الماضي في الحاضر وإنما حاجة الحاضر السياسي -ناقص التكوين- إلى الماضي وبعثه من رماده والنفخ فيه. فكما خَلَقَ النزاعُ المجتمعي من العدم البنياتِ القبليةَ والطائفيةَ في الماضي، يعيد الآن بناءها وتجديد معانيها في سياق انكشاف الحداثة الرثة التي عرفتها هذه المجتمعات، والتي تفتقر لمبادئ الحرية والحق والعدالة والمساواة والسلطة العقلانية والروح المادية. وما تعرفه مجتمعاتنا لا يقتصر على إعادة شحن العصبيات، التي أصبحت تقليدية، بمعان جديدة، وبث الحياة والحركة فيها، وإنما يتجاوز ذلك إلى توليد عصبيات واتجاهات لتكوين عصبيات جديدة. والعصبيات الطائفية والعشائرية التي تستعيدها المجتمعات اليوم لتسد الفراغ الكبير الذي تركته حداثة سياسية منحطة ليست طبيعة ولا مرسومة في أي إرث بيولوجي للمجتمعات، ولكنها لم تكن هي نفسها إلا اختراعا استجاب في حينه لنزاعات سياسية واجتماعية. وما يحصل اليوم من انبعاث للمذهبية والطائفية والعشائرية لا يختلف عما حصل عند نشوء المذاهب المتعددة المتنازعة داخل الدين الواحد، من شيعية وسنية ودرزية وعلوية وإسماعيلية وغيرها، وشكَّل الطوائف التي نسميها اليوم قديمة أو تقليدية. وليس هناك ما يمنع أن تتحول التيارات والمذاهب الجديدة مع الزمن -وتحت وطأة القهر والاضطهاد الذين تمارسهما سلطات لا تختلف كثيرا في البنية السياسية والفكرية عن سلطات الماضي- إلى عصبيات مغلقة ومنكمشة تعيش وتعيد إنتاج نفسها من خلال عدائها للعصبيات والمذاهب الأخرى. وتكاد حركة الإخوان المسلمين -التي بدأت في صيغة حزب سياسي يستلهم الأفكار الإسلامية ويحشد في أوساط الطبقة الوسطى المتدينة- تتحول إلى طائفة تنمي عند الأفراد نمطا من التفكير وردود الأفعال والحساسيات الخاصة التي تميزها حتى عن الحركات الإسلامية الأخرى. وهو ما يمكن قوله أيضا بالنسبة للعديد من التنظيمات الدينية وغير الدينية.
وهذا يعني أنه خارج إطار النزاع المجتمعي، ليس للتمايزات الطبيعية الناجمة عن الاختلاف في الأصل أو الثقافة أو المنطقة، أي مدلولات سياسية تجعل منها وسيلة لتكوين عصبية مشتركة، وبالأحرى المشاركة في النزاع على السلطة والدخول في معارك طائفية أو قبلية. فالسني لا يصبح ابن طائفة لمجرد ولادته على مذاهب فقهية سنية، وإنما لا بد من ظروف (سياسية) خاصة تدفع إلى التصاق الفرد بأمثاله من أصحاب المذهب الواحد أو القرابة المشتركة، وتسهل عليه التخلي عن حريته والتضحية باختياراته الفردية والتسليم لزعامة طائفية لا يتحكم بها ولا سلطة له عليها. إن أصحاب المذاهب الواحدة يتحولون إلى طوائف في عملية صعبة وطويلة ومعقدة ليس فيها أي عنصر تلقائي طبيعي، ولا علاقة لها بميراث الطائفية والقبلية. وقد كان لا بد من حربين أهليتين مريرتين، وسياسة عدوانية إسرائيلية استثنائية، وتقصير سياسي لا حدود له من قبل الدولة المركزية، حتى يتحول الشيعة في لبنان، الذين ظلوا لعقود طويلة خزان الحركات التقدمية اليسارية والقومية، إلى طائفة بالمعنى الحقيقي للكلمة، أي إلى عصبية خاصة. وغايتها الرفع من قدر الجماعة بصرف النظر عن أي حسابات دينية أو وطنية، ويقوم تضامنها على قاعدة انصر أخاك ظالما أو مظلوما.
فالتماثل في المذهب والأصل ليس سببا كافيا وحتميا لبناء عصبية، أي استجابات تلقائية لا عقلانية ولا مفكر فيها، لصالح التضامن الطائفي أو القبلي. إن الاختلاف إذا لم يستخدم لأغراض سياسية ولم يتم شحنه بقيم خارجة عنه وغريبة عنه، كالصراع على الموارد الاجتماعية، لا يشكل مصدر نزاع، وإنما هو بالعكس تماما من ذلك شرط وجود التبادل والتواصل والإثراء المتبادل بين الأفراد والمجتمعات. ومن دونه ليس هناك إلا مجتمعات صماء لا تبادل فيها ولا تواصل ولا تجديد ولا إبداع وإنما عدم محض.
ومن هنا ليس الاختلاف هو الذي ينبغي الإشارة إليه عند البحث في أسباب النزاعات التي تثور داخل المجتمعات والدول، أو في تفسير الإخفاق في بناء الدولة والمجتمع الوطني الحديث، وإنما النظام السياسي المسؤول عن إدارة الشأن العام وتسيير المجتمع، ومن ضمنه هذا الاختلاف نفسه، وتوظيفه، إيجابيا أو سلبيا، وبالتالي النخب الاجتماعية التي يقوم عليها هذا النظام، وثقافتها ووعيها. فالنظم بما تعنيه من إرساء قواعد ثابتة للتعامل بين البشر والقوى والمصالح هي التي تقرر في ما إذا كان الاختلاف موجها للتبادل المثري والتواصل والإغناء المتبادل أم إلى تغذية منطق الحرب والغزو والغنيمة. والنزاعات الطائفية والقبلية تعكس ظهور منطق الغنيمة والغزو والحرب في المجتمع وتغلبه على منطق التبادل والتواصل والإثراء المتبادل الذي يستدعي ترسيخه في الوقت الحاضر بناء النظم على أسس الحق والعدالة والمساواة والقانون. ومصير هذه النظم نفسها ليس مستقلا أيضا عن الموقع الذي تحتله في النظام الجيوسياسي والحضاري الذي تتحكم به الدول والمجتمعات الكبرى، وحتى وقت قريب المجتمعات الغربية، وتحدد فيه فرص تكون دول أمم حديثة أو تفككها وانهيارها.
**************
الحواشي
*) أستاذ الدراسات العربية المعاصرة بجامعة السوربون، باريس.
1- Catherine Coquery-Vidrovitch, "du bon usage de l’ethnicité", le Monde Diplomatique, juillet 1994.

مقال كاترين كوكري فيدروفيتش، (عن الاستخدام المفيد لمصطلح الإثنية)، الموند دبلوماتيك تموز 1994م.

2- انظر: كتابي: المسألة الطائفية ومشكلة الأقليات، ط! دار الطليعة بيروت 1978م.

3- كتابنا: نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة، المركز الثقافي العربي، بيروت 1991م. وفي هذا الكتاب حاولنا أن نبين كيف أن الطائفية تصنع وليست هويةً موروثة، فهي تعبير عن علاقة اجتماعية. وكما هو واضح في العنوان تعبر تفجر النزعات الطائفية عن تراجع طبيعة النظام السياسي الاجتماعي القائم وانحطاط الدولة القومية، لا عن هوية مستقرة ودائمة وجوهرية للمجتمعات العربية.

4- أهم اسم في هذه المدرسة، أرنست غيلنر الذي درس المغرب وطور مفهوم المجتمع الانقسامي و. انظر: أولياء الأطلس والمجتمع الإسلامي. Saints of the Atlas (1969) et Muslim society (1981)

5- لمزيد من التحليل لهذه الإشكالية انظر: كتابنا نظام الطائفية، من الدولة إلى القبيلة، المركز الثقافي العربي، 1998م.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=510

الحوار الداخلي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك