هارون الرشيد وصناعة القانون الدولي الإسلامي*

هارون الرشيد وصناعة القانون الدولي الإسلامي*

(بنيامين يوكيش)** - مراجعة ونقد: بشير موسى نافع

إنّ النظرية التي يحملها هذا الكتاب ليست جديدة. بل الجديد هو الوسائل والأدوات المستخدَمة للوصول إلى تلك النتائج، والمنهج المتَّخَذ لعرض تلك الرؤية والإقناع بها. فالأطروحة القائلة إنّ الفقه الإسلاميَّ مأخوذٌ من مصادر غير إسلامية، كانت معروفةً في دوائر الدراسات الإسلامية لدى المستشرقين لأكثر من قرنٍ من الزمان. وفي كتاب جوزف شاخت: أصول الفقه الإسلامي (1951م) هناك عرضٌ متماسكٌ للنظرية بهذا الخصوص. وقد توالت الإسهاماتُ الإضافيةُ من جانب دارسي الإسلاميات من المستشرقين من مثل جون وانسبورو ونورمان كولدر وباتريشيا كرون. وعلى أثرهم سار بنيامين يوكيش، مقدّماً العَرْضَ الأشمَل لهذه الرؤية الغربية للإسلام المبكّر في سائر المجالات من التاريخ السياسي، وإلى الفقه، وعلم الكلام، والثقافة؛ في علائق تلك المجالات بالتأثيرات الأجنبية، متجاهلاً تماماً كل القوى الداخلية والتطورات المحلية. وهكذا فإنّ أطروحة يوكيش هي من الشمول والتفصيل الدقيق، بحيث تدعو للشكّ بالفعل. إذ هي تتخذ من ناحية سِمة (المؤامرة السرية)، ومع ذلك فإنّ يوكيش بعد ألفٍ ومائتي عام، يبدو على علمٍ دقيقٍ بها، كأنما شارك هو بنِفسه في صَوغها وإنفاذِها!

تقوم نظرية يوكيش على التوازي والتساوُق المستمرّ بين الإسلام المبكّر والبيزنطيين، بما يتضمنه ذلك من تَوازٍ وتساوُق بين التطورات السياسية والثقافية لدى الطرفين، أو بين المركز البيزنطي والخِلافة. وهو يذكر أحداثاً وتطوراتٍ قليلة بدت فيها بيزنطة متأثّرةً بعالَم الخلافة والإسلام الأول، لكنها استثناءات القاعدة التي تقول إنّ عالَم الإسلام كان هو المتلقّّي والمتأثّر في غالب الأحيان والظروف. ويرى يوكيش أنّ قضية الكيان الإسلامي الأولى هي تحوله من نظام قَبَلي غير مركزي، إلى نظامٍ دولتي وإمبراطوري مركزي في العصر الأموي الأول. وما كان معاوية بن أبي سفيان وحيداً في اعتباره مَلِكاً على النمط البيزنطي، بل إنّ كل الكتابات الإسلامية المبكّرة، بشأن السلطة، كانت متأثرةً بالكتابات اللاتينية واليونانية، وكذلك المفاهيم. وكما أنّ الدين أُدخل إلى النظام البيزنطي لتقوية مركز الإمبراطور؛ فكذلك حاول العباسيون الأوائل التوصل للحكم المطلق من طريق وضع الدين والدولة في سياقٍ واحد. وكما أنّ حملة (تحطيم الصُوَر) (الإيقونات) أَسَّسَتْ أيديولوجياً لذلك لدى البيزنطيين؛ فإنّ الحكم المطلق العبّاسي استخدم المعتزلة. ثم إنّ مركزة الفقه وقوننته من جانب العباسيين، كان خطوةً ضروريةً في التأكيد على سلطة الحاكم وسيطرته. ويرى يوكيش أن تحريم يزيد بن عبد الملك (101-105هـ) للصُوَر والتصوير في الإسلام، جاء بتأثيرٍ من إقدام ليو الثالث الإمبراطور البيزنطي على تحطيم الصُوَر في الكنائس الأرثوذكسية. وكما أنشأ ليو الثالث الأسرة الإيسورية الحاكمة عام 717م، كذلك عمد العباسيون لتأسيس سُلطتهم (في تنظيمٍ سري) في أواسط القرن الثامن الميلادي. ورغم أنّ ابن المقفَّع –الذي اقترح على المنصور قَوننةَ الفقه ومركزَتَه– قُتل عام 139هـ/758م، بيد أنّ فكرتَهْ لم تَمُتْ معه. والأُصولُ الفارسيةُ لابن المقفَّع وصِلاتُهُ بالموروث الساساني، لا يعنيان بالضرورة أنّ فكرته المركزية ذات أُصولٍ وعلاقاتٍ بالحكم المطلَق الساساني، كما يذهب لذلك العلماء المُحْدَثون في الدراسات الإسلامية. إذ وقتها كان قد مضى قرنٌ كاملٌ على اختفاء الساسانيين، بينما كانت الثيوقراطية البيزنطية قائمةً ومزدهرِة. وصحيحْ أنّ المنصور والمهدي فشِلا في تكوين نظام قانوني مركزي للدولة، لكنّ ذلك ما مَنَعَ الرشيدَ (170-193هـ/786-809م) من متابعة الهدفِ نفسِه.

أيام المنصور والمهدي والرشيد، صارت بغداد مركزاً لترجمة التراث الهيللينستي، ناهضةً بما يسميه يوكيش: الإنسانوية الإسلامية. وأيام الخلفاء الثلاثة، قام وزراؤهم البرامكة باحتضان التراجمة والترجمات، وتنظيم عملهم، ورَفْد تلك الصناعة الجديدة. وفي هذا السياق، قام تلميذا أبي حنيفة: أبو يوسف، والأكثر محمد بن الحسن الشيباني، باستعمال الصيغة أو النسخة اليونانية من مدوَّنة جستنيان، وموجزاتها وحواشيها، لكتابة أو صياغة (قانون) لدولة هارون الرشيد! ولا يملك يوكيش دليلاً على وجود نسخة مترجمة من الرسائل والمختصرات والحواشي بيد أبي يوسف والشيباني. وإنما يعتمد على التشابُهات بين بعض الحالات القانونية في المدوَّنة ولواحقها، و(مسائل) الشيباني الفقهية. ولأنَّ مدوَّنة جستنيان في القرن الثامن الميلادي، كانت مكتوبةً باللاتينية، لكنْ بحروفٍ يونانية، والمترجمون ما كانوا يعرفون غير اليونانية؛ فقد كان على يوكيش أن يفترض وجود المترجمين العارفين باللغتين اليونانية واللاتينية! ولكي يكونَ تصور يوكيش منطقياً –حسب ظنه– فقد كان عليه الذهاب إلى أنّ الفقر كان شاملاً وفي سائر المجالات؛ وما كان الجانب القانوني غير نقطةٍ واحدة. ففي حقبة (التدوين) الأُولى (حوالي منتصف القرن الثاني الهجري، ومنتصف الثامن الميلادي) كان كلُّ شيءٍ منقولاً عن اليونانية: الجغرافية، والنحو، والموسيقى، والفلك، والعلوم الطبيعية، وتفسير القرآن، والتاريخ (بما في ذلك منهج الكتابة بحسب الطبقات)، والأدب، والحديث، والبلاغة، وفقه اللغة، وعلم المعاجم! وكذلك الأمر في علم الكلام، والنظريات السياسية/الكلامية، التي ما كانت غير مرايا للنماذج البيزنطية. وشدة اقتناع يوكيش برؤيته هذه، يتخذ لها بوعيٍ وبدون وعي سِمات تآمُرية: فالشيباني من أصول يونانية، وفرقة الأزارقة من الخوارج آتية من بيزنطة، والحسن البصري من أصل يوناني، وكذلك جابر بن حيّان وابن كُلاَّب، والجهمية والقَدَرية والمرجئة والشيعة والمعتزلة والحنابلة؛ كلُّ هؤلاء كانوا انعكاسات للمجريات الدينية والثقافية ببيزنطة، أو امتدادات للتطورات هناك! والمعروف أنه في أواخر القرن الثامن الميلادي، أواخر القرن الثاني الهجري، بدأ (أهلُ الحديث) بالظهور، لكنّ ظهورَهم أيضاً ما كان مستقلاً، بل هم انعكاس لأنصار الإيقونات ببيزنطة! وبسبب قوتهم ضَمََّن محمد بن الحسن الشيباني أحاديثَ في مدوَّنته! ولكي يُخفي المحدِّثون وَضْعَهُم للحديث اخترعوا الأسانيد (التي تحدث شاخت عن أسباب ابتداعها)! وقد عارض كُلٌّ من مالك والشافعي قانون محمد بن الحسن الإمبراطوري. بيد أنّ معارضتَهم ما كانت خارج نطاق التأثير البيزنطي؛ إذ إنهم استمدوا قسماً كبيراً من (مسائل) الشيباني، والتي كانت بدورها مأخوذةً عن (مختارات) مدوَّنة جستنيان ومختصراتها وحواشيها. على أنّ اعتراضات مالك والشافعي، في نظر يوكيش، هي التي أدت إلى فشل الدولة العباسية في وضع النطاق القانوني تحت سيطرتها، وإبقاء التشريع في أيدي الفقهاء!

جاء كتاب يوكيش الضخم متفاوتاً في الفصول والوضوح والإقناع والتماسُك. وفي حين تبدو بعضُ الأفكار قابلةً للنقاش، هناك أفكارٌ ومقترحاتٌ أُخرى كثيرة لا يمكن التعامُلُ معها أو اعتبارُها. وفيما يلي ملاحظاتي الرئيسية على الأمر كلِّه:

1- يقول يوكيش إنّ علماء الدراسات الإسلامية والمقارنة، والذين نفوا التأثير البيزنطي على الفقه الإسلامي، استندوا في ذلك إلى أنّ (المختارات) الموجودة من المدوَّنة، وكذلك التعليقات والحواشي، الموجودة لدينا اليوم، والتي أصدرها كُلٌّ من Heimbach وScheltema، لا تشبه فقه الشيباني ولا مسائله. ويردُّ الدارس بأنّ الموجود مختلفٌ عمّا كان موجوداً بين يدي الشيباني ومُعاصريه. لكنْ إذا كان الأمر كذلك، فكيف استند هو إلى ما بين أيدينا اليوم لإثبات التأثير بل النقل. ولأننا لا نعرفُ ما كان موجوداً، ولا أنه تُرجم؛ فإنّ محاولة يوكيش للإثبات لا تقفُ أمام النقد، ولا يمكن الأَخْذُ بها.

2- ويتابع يوكيش أنّ دارسي الفقه الإسلامي نفوا التأثير البيزنطي عليه لعدم التشابُه أو ضاَلته. لكنهم نسوا مصدر تأثيرٍ آخَر هو الفقه اليهودي (!). لكنْ إذا كان الشيباني قد لجأ للقانون البيزنطي، باعتباره قانوناً لدولةٍ إمبراطوريةٍ، يريد الرجل تقليده من أجل الدوَلةَّ والمركزة؛ فلماذا يذهب للأخذ من الفقه اليهودي، وهو ليس فقه دولةٍ كما أنه غير مُفيدٍ في مشروعه! وإذا كان أبو يوسف والشيباني قد لجأ إلى (المختارات) من المدوَّنة البيزنطية، من أجل طبيعة الدولة المركزية، فلماذا يعقّدان مشروعهما باللجوء إلى فقهٍ آخَر لا يملكُ المنطقَ نفسه؟!

3- ولكي يجعل يوكيش نظريته معقولة، يورد عشرات المصطلحات التي يزعُمُ أنها مترجمةٌ عن اليونانية واللاتينية. والواقع أنّ بعض تلك المصطلحات تشير إلى أمورٍ موجودة في كل الثقافات، والتقاليد القانونية، والممارسات لدى الأُمَم مثل العقد والشرِكة. كما أنّ هناك مصطلحات رأى أنها مترجمة وهي لا يمكن أن تكونَ كذلك مثل (خَبرَ) وقد رأى أنه ترجمةٌ للغة أو لسان أو خطِاب speech. والطريف أنّ أهمَّ مصطلحين، يرى يوكيش أنهما واقعان في أصل كل التطورات وهما Iconophile وIconoclast (أي أنصار الإيقونات أو الصُوَر وأعداؤها) لا نَجِدُ لهما مُماثل أو مُقارب بالعربية، فكيف فهمهما المسلمون أو ترجموهما أو أخذوا بهما؟!

4- ويورد يوكيش أسماء قضاة القُضاة والقُضاة، في أقطار الدولة العباسية، مُشيراً إلى أنّ غالبيتهم العُظمى كانت من الأحناف. لكننا نعلم أنه في النصف الأول من القرن التاسع الميلادي، ما كان هناك فقهٌ شاملٌ أو نظامٌ للفقه الحنفي يمكن اتّباعُهُ والأَخْذُ به آنذاك. ثم إننا لا نعلمُ أنّ أولئك القُضاة – أحنافاً أم غير أحناف – كانوا يتبعون حَصْراً في أقضيتهم آراء أبي يوسف والشيباني، بل هناك إشاراتٌ على خلاف ذلك.

5- على الصفحة 345 يقول يوكيش إنه من المفتَرَض أنّ جناحاً معتدلاً من القَدََرية كان موجوداً إلى جانب الجناح الراديكالي منذ نهاية القرن السابع الميلادي. ومن هؤلاء المعتدلين أو الخُضر (كذا) ظهر (أهل السنة والجماعة) فيما بعد. وهكذا مسلكُ يوكيش في كل الكتاب: الانطلاق من فريضة ضعيفة ولا يمكن إثباتُها، للتوصل إلى نتائج ضخمة مثل وجود أهل السنة الذين صاروا الغالبية العُظمى للمسلمين عبر العصور. وصحيح أنّ النشأة الأولى لأهل السنة تحتاج للمزيد من الدراسات، لكنّ التعددية الواسطة التي كانت موجودةً في القرنين الثامن والتاسع هي التي أنتجتْ هذا الاتجاه المنفتح والمستوعب، وليس تلك الراديكاليات التي يتحدث الرجُل عنها.

6- وعلى الصفحة 469 من الكتاب يفترض يوكيش أنّ (خِداشاً) الذي لعب دوراً مهماً في الدعوة العباسية، كان هو (الحلقة الرابطة) بين العباسيين والبيزنطيين، باعتبار أنه كان من أصل مسيحي! وهذه فرضيةٌ بدون رأسٍ ولا قَدَمَين. فقد نفى م. شارون في مقالته بدائرة المعارف الإسلامية (الطبعة الثانية) رواية الأصل المسيحي لخداش ثم كيف يقوم هذا الاستنتاج الضخم على أساس مقدّمات ما جرى إثباتُها فضلاً عن التحقُّق منها من قبل!

7- ويعترف يوكيش بالطابع الخاصّ للفقه الإسلامي، لكنه لا يبذل أيَّ جَهدٍ لمتابعة هذه الخصائص والخصوصيات إلى نتائجها المنطقية. فهو على سبيل المثال، يعترف بأنّ (السُنّة) في الإسلام، لا مثيلَ لها في المسيحية (ولا في اليهودية بهذا الخصوص)، لكنه لا يُحاولُ أن يتتبع آثار دور السنة ووظائفها فيما يتعلق بالتمييز بين هذا التقليد التشريعي وذاك. وفي مثالٍ آخر، يذهب يوكيش إلى أنّ الجنس المعروف بالأدب في الثقافة العربية الإسلامية، أصولُهُ التأثيراتُ البيزنطية، بدون أن يسأل سؤالاً واحداً بشأن إمكانيات التأثير الفارسي – مع أنه يعرف أنّ مسلمين إيرانيين كثيرين ممن اعتنقوا الإسلام، ونشأوا عليه، أدَّوا دوراً كبيراً في الإدارة العباسية الأولى، والجيش العباسي، كما كان لهم دورٌ كبيرٌ أيضاً في طبقات العلماء التي ظهرت وازدهرت. وفي مثالٍ ثالثٍ يربط يوكيش بين الشيعة والمرجئة، مستنتجاً ذلك من أنّ الحسن بن محمد بن الحنفية كتب رسالةً في الإرجاء. ولا شكَّ أنّ الفئات الشيعية الأولى كانت متنوعةً ومختلفةً، وخاضعةً لشتّى التأثيرات الكلامية والسياسية الإسلامية، وربما غير الإسلامية. وقد أدّى ذلك إلى ظهور فِرَق شيعية كثيرة. وقد تكون هناك علاقةٌ بين بعض الفئات الشيعية المبكّرة والإرجاء، لكنّ العلائق والتأثيرات تبقى وجهاً واحداً من وجوه الانتماء الممكنة، ولا يصحُّ اعتبارُها بارزةً أو محدِّدةً بشكل خاص – لاسيما ونحن نعلم أنّ رسالة الحسن بن محمد بن الحنفية لقيت استنكاراً من جانب أنصار آل البيت، إلى حدّ القول إنّ والده محمد بن الحنفية اعتبره عدوَّ نفسه وأهل بيته!

8- وفي سياق إثبات توازي وتماثُل التطورات لدى المسلمين والبيزنطيين، يذكر يوكيش نموذجَ حملة تحطيم الصُوَر والإيقونات من جانب ليو الثالث (ص479). والمعروف أنّ خصومَ حملة ليو الثالث اتّهموهُ بالتأثُّر بالمسلمين في ذلك (ص489). بيد أنّ يوكيش يشير بعد عدة صفحات (ص489) إلى التأثير البيزنطي في النقاش العَقَدي الإسلامي. وفي كل الأحوال فإنّ السياق الذي يؤكّد عليه يوكيش هو أنه كان هناك طريقٌ واحدٌ يتمثل في تصدير الأفكار والعقائد والممارسات من بيزنطة إلى عالم الإسلام، وإقبال المسلمين على ابتلاع ذلك كلّه، والتصرف على أساسٍ منه في فترةٍ قصيرةٍ جداً. فهذا التطور ما كان مقصوراً على (الإصلاح) الذي قام به يزيد بن عبد الملك عام 743م، والذي كان تقليداً لما قام به ليو الثالث قبل بضعة أشهر في بيزنطة كما يؤكد يوكيش (ص479) لكننا نعلمُ أنه حتى في عالَم العولمة اليومَ، لا تنتقل الأفكارُ والممارساتُ بهذه السرعة، فكيف بهذا البناء الأيديولوجي/ اللاهوتي المعقَّد!

9- وعندما سقطت الإمبراطورة إيرين عن العرش عام 802م، آذَنَ ذلك بسقوط السياسة المرتبطة بتحريم الصُوَر، كما يقول يوكيش. ثم يذهب إلى أنه بعد وقتٍ قصيرٍ حدثت تطوراتٌ مُشابةٌ في بغداد العباسية! فإذا كان المقصودُ بذلك سقوط البرامكة؛ فإنّ تخلّيَ العباسيين عن الاعتزال ما تمَّ إلاّ في عهد الخليفة المتوكل بعد أربعين عاماً (847-861م). والواقع أنّ ربط البرامكة باتجاه متشددٍ (أرثوذكسي) معيَّنٍ لا أساس له. فيوكيش نفسُه لا يتردد في وصف الشيباني بأنه مع تحريم الصُوَر (ص540)، فكيف يكونُ مختلفاً لهذه الجهة عن البرامكة والمعتزلة؟!

10- ولشدة ارتباط يوكيش بأطروحاته الغربية، يبدو أحياناً كأنما تنزلقُ من بين يديه، ويقع في تناقُضات. فهو يقول إنّ المأمون كان مائلاً للمعتزلة، ولذلك فقد ظَّل ضدَّ الصُوَر والتصوير. لكنه كان مهتماً في الوقتِ نفسِه في أن تعود الأيقونات، ويعود أنصارها إلى السلطة في بيزنطة (ص500)! ولستُ أدري ما هي الحكمةُ من وراء ذلك، وما الذي أدرى يوكيش بهذه التفاصيل غير المنطقية؟! وهو يقول في موضعٍ آخر إنّ الحنابلة كانوا من أنصار التقليد وضد الاجتهاد. لكننا نعلم أنّ النقاش في هذه المسألة متأخَرٌ كثيراً في التاريخ الفقهي الإسلامي عن هذه الفترة. لكنْ حتى لو كان النقاش بشأن التقليد مبكِّراً إلى هذا الحدّ؛ فإنّ المعروف أنّ الحنابلة كانوا ضدّ الرأي ومع الحديث والآثار، والتي تترك مساحةً واسعةً للاجتهاد.

11- وعندما يصل يوكيش للحديث عن أصول الفقه (ص520) يذهب مباشرةً للقول إنّ الشيباني استخدم (المختارات) من مدوّنة جستنيان. ويتابع أنه لا شكَّ في أنّ أبا يوسف والشيباني –دون أي مسلمٍ آخر– استخدما المختارات، والشيباني أكثر من أبي يوسُف، بدليل أنه ترك كتاباً في أصول الفقه! وكلا الرجلين مرتبط بأبي حنيفة، وأبو يوسف أكثر ارتباطاً، ثم إنه عمل قاضياً للقُضاة، فما هو الدور الذي لعبه إذن في هذه المؤامرة الثُنائية؛ وبخاصةٍ أنّ المؤلِّف يذهب إلى أنَّ أبا يوسف ما تبنى تماماً الأصول الأربعة للأدلة (القرآن والسنة والإجماع والقياس) والتي ينسبها يوكيش –ويا للعجب– للتأثير البيزنطي؟! والطريف أنّ يوكيش ينسى أنه قال إنّ واصل بن عطاء (-748م) مؤسِّس الاعتزال هو أولُ من قال بالأدلة الأربعة. أفلا يكونُ هذا الأمر قد تمَّ في البصرة دون بغداد. وقبل الشيباني بحوالي المائة عام، وبدون تأثيرٍ بيزنطي؟ وبخاصةٍ أنّ البصرة ما عرفت (مصنعاً) للترجمة؟!

12- ويزعم يوكيش أنّ مالك بن أنس عارضَ (القانون الإمبراطوري)، وزوّد طلاّبه بمنهجٍ قانونيٍ آخر. أما الشافعي فقد تبنى فيما بعد أكثر ذلك القانون الذي أخذه عن الشيباني، ثم أدخل عليه تعديلاتٍ طفيفةً فيما بعد. وهذه المزاعم من جانب يوكيش ليس لها أية مؤيِّدات، وهو لم يحاولْ إثباتَها. فلماذا عارض إمامان كبيران مثل مالك والشافعي مقولة خلق القرآن، ثم وافقا على (القانون الإمبراطوري) كلّه؟ وقد توفّي مالك عام 796م، أي قبل تسع سنوات من وفاة الشيباني. فهل كان (القانون الإمبراطوري) قد صار واقعاً حتى يُضطر مالك لمعارضته؟ وإذا كان مالك والشافعي قد عارضا القانون الإمبراطوري، أَوَ لم يكن بوُسعهما اللجوءُ إلى تقليدٍ ومنهجٍ آخر؟ فقد ذهب شاخت إلى أنّ الفقه بدأت (أسلمتُهُ) قبل مالك بفترة، بظهور مجموعات من كُتُب السُنَن قبل الموطّأ، وكان بوُسع الذين يُعارضون توجُّه الدولة لتوحيد القوانين والسيطرة عليها، أن يلجأوا إلى تلك الاجتهادات المختلفة.

13- ويرى يوكيش أنه ليس من المنطقي أن يكون أبو حنيفة، هو الذي قد لجأ إلى استعارة القانون البيزنطي بالكوفة في هذا الوقت المبكّر (ص80)، لأنه كان سيُثيرُ شكوكاً حوله، وبخاصةٍ أنه لم يكن موظَّفَ دولة، وكان بوسعه اللجوء (للتقليد الحي) بحسب شاخت. والشيباني كان بالفعل موظفاً في الدولة، لكنْ لماذا يُقّبلُ على استعارة قانونٍ أجنبيٍ بالكامل، دونما مُراعاةٍ (للتقليد الحي) داخل الأمة، وبين العلماء؟! لقد كتب الشيباني فقهه ونشره في بغداد المزدهرة، وجرى الردُّ عليه ومناقشته من فقهاء كثيرين. بيد أنّ أحداً ما اتّهمه بسرقة قانونٍ أجنبيٍ يستحيل أن تَخْفَى أصولُهُ ومسائلُهُ الغربيةُ عن أعراف المسلمين وممارساتهم. وفي حين يؤكّد مالك بن أَنَس على سلطة (عمل أهل المدينة)، يظلُّ الشيباني طوالَ حياته، يؤكّد على شرعية فقهه بنسبته إلى أبي حنيفة. فهو لم يُرغم مالك بن أَنَس على إتّباع سلطة الدولة وقانونها الإمبراطوري، وما استمرَّ شرعية اجتهاده من القانون البيزنطي، ولا من الأمر الخليفي؛ بل ظلَّ وفياً لأستاذه الذي لم يكن معتزلياً بل من المرجئة، كما أنه ما كان صديقاً للعباسيين!

تحدث الأستاذ وائل حلاّق في كتابه الأخير عن أصول وتطورات الفقه الإسلامي، عن البيئات التي ظهر فيها الإسلام في الحجاز ومن حوله، ومنها بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين. والصِلات التي كانت قائمةً من خلال التجارة والتواصُل البري والبحري مع مصر والحبشة واليمن. وعندما فتح المسلمون تلك الأقاليم، ازدادت صِلاتُهُم بالتقاليد الدينية والثقافية التي كانت معروفةً لهم من قبل، وأفادوا كثيراً من تلك المعارف والأعراف. فالأَمْرُ -كما ذهب لذلك من قبل مارشال هودجسون في كتابه: مغامرة الإسلام- ما كان أَمْرَ انعزالٍ أو تفرد، بل تواصُلٌ وتأثُّرٌ وتأثير، كما هو معروفٌ في العلاقات بين الحضارات. بيد أنّ ذلك لا يعني أن يقتبس المسلمون كل شيءٍ من ثقافةٍ ودولةٍ مُجاورة، لا شيء إلاّ لأنّ بنيامين يوكيش ارتأى ذلك.

************************

(*Benjamin Jokisch: Islamic Imperial Law: Harum AI-Rashid s Codification Project (Berlin: Walter de Gruyter,2007),757 pp.

**) أكاديمي أمريكي.

المصدر: http://www.altasamoh.net/Article.asp?Id=508

الأكثر مشاركة في الفيس بوك