اللغة العربية .. هوية ومواطنة

علي بن نيمان القرنـي

بسم الله الرحمن الرحيم

 

( اللغة العربية هوية ومواطنة )

 

لا يخفى على ذي لُبٍّ ما للغةِ العربية من أهميةٍ عظمى؛ في كونها لغة القرآن الكريم والسنة المطهرة، وكونها جزءًا من ديننا، بل لا يمكنُ أن يقومَ الإسلام إلا بها، ولا يصح أن يقرأَ المسلم القرآنَ إلا بالعربية، وقراءة القرآن ركنٌ من أركانِ الصلاة، التي هي ركن من أركانِ الإسلام. وعَرَفَ عظمة اللغة العربية مَنْ اطلع عليها وتعلمها وغاص في أسرارها من العرب في القديم والحديث، ولا عجب في أنْ يشهدوا بعظمتها لأنهم أهل اللغة، والاطلاع على أقوالهم يزيدنا علماً وثقةً بها، لكن الاطلاع على شهادات غير العرب في العربية له طَعْمٌ آخر، لأنّهم عرفوا قيمةَ لغتنا وهم ليسوا منّا، وهو ما يدفعنا إلى محاولة معرفة ما عرفوه منها، لنزداد اعتزازاً بها ونغرس الاعتزاز في نفوس أبنائنا وترى بعض العجم من غير المسلمين وهو يكيل المديح والإشادة بالعربية لما رآه فيها من مواطن العظمة. من أجل هذا الواقع نحتاج جميعاً إلى ما يزيدنا قناعةً واعتزازاً بها، وممّا يقنعنا بها قراءة تلك الأقوال سواءً قالها عربيٌ أم غير عربي. للتأكيد بأن واقع الأمة العربية المتأزم والمتخلف والمريض، انعكس على واقع اللغة بإهمالها من قبل أبناؤها وليس جمودها، كما تؤكد هذه الدراسة على كون اللغة الدينية لأي أمة من الأمم هي عماد هويتها الدينية.

 

تعريف معنى كلمتي "هوية" و " مواطنة " :

هُوِيَّةُ الْإِنْسَانِ : حَقِيقَتُهُ الْمُطْلَقَةُ وَصِفَاتُهُ الْجَوْهَرِيَّةُ وأما الْمُوَاطَنَة : فهي صِفَةُ الْمُوَاطِنِ

 

اللغة العربية والمد الإسلامي :

اللغة العربية، التي سارت مع المد الإسلامي الذي انطلق من شبه الجزيرة العربية، ابتلعت لغات كثير من الشعوب التي اختارت الإسلام لها دينًا، واللغة العربية لها لسانًا، فتكلمها بطلاقة غريبه، واستطاعت أن تسهم في إثراء التراث العربي في مجالات الحياة المختلفة، في الطب والصيدلة والرياضيات والكيمياء والفلك، ولم تكتف بكل هذا فأسهمت أيضًا في الأدب واللغة والنحو. وفي عصورها الزاهرة استطاعت اللغة العربية أن تستوعب تراث الأمم القديمة من فرس وإغريق وسريان وغيرهم، وأن تقدمه للبشرية سائغًا شرابه، لذيذٍا طعمه، فأثرت الفكر الإنساني والحضارة الإنسانية في مجالات العلوم المختلفة البحتة والتطبيقية.

 

اللغة العربية والاستيعاب :

أثبتت اللغة العربية من ناحية أخرى أنها قادرة على استيعاب كل ثقافات الأرض حتى غدت في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد لغة العلم والحضارة، وأصبح العلم يتكلم بالعربية لمدة تزيد على ثمانية قرون من عمر الزمان، كانت الأمة قوية فقويت معها لغتها. وأقبل علماء أوربا على تعلمها وترجمة تراثها العلمي إلى اللاتينية فيما يُعرف بعصر الاستعراب الأوروبي. ولم يكن مصادفة أن يبرز من بين الشعوب غير العربية، من يثري هذه اللغة شعرًا ونثرًا وتأليفًا في شتّى المعارف والفنون. بل إننا ليأخذنا العجب حين نرى أن أعظم علماء العربية هو سيبويه الفارسي، وحين نرى أعظم شيوخ الحديث البخاري ومسلم والترمذي والنسائي، وكلهم من أصول غير عربية ومن بلاد شديدة البعد عن شبه الجزيرة العربية. ولعل مما يلفت النظر أيضًا أن شعوب الأرض التي ارتضت الإسلام دينًا لها قد ارتضت اللغة العربية لسانًا لها، وأن الشعوب التي حافظت على لغاتها كتبت تلك اللغات بحروف عربية، سواء في ذلك اللغات الإفريقية كالسواحلية واللغات الأسيوية كالفارسية والأوردية.

 

شواهد في إنقاذ الهوية :

من المفيد أن نشير إلى أهمية اللغة في توحيد أهلها، والنهوض بهم هذه الشعوب التي هزمت عسكريًّا، وتمسكت بلغتها؛ فاليابانيون مثلًا بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية خضعوا لشروط الأمريكيين في تغيير الدستور وحل الجيش ونزع السلاح وغير ذلك، ولكنهم رفضوا التخلي عن لغتهم الدينية التي تمسكوا بها، واستعملوها في معاهدهم وجامعاتهم ودخلوا بها معتركات الحياة العلمية والصناعية المتطورة، وكذلك كان الكوريون الذين وقعوا تحت احتلال اليابانيين الذين فرضوا عليهم لغتهم، ومنعوا الكوريين من التعليم بلغة بلادهم، ولكنهم بعد تخلصهم من الاحتلال بعد هزيمة اليابانيين في الحرب العالمية الثانية وجدناهم اعتمدوا اللغة الكورية الفصيحة أساسًا للتنمية البشرية، وجعلوا في بلادهم لغة التعليم في مختلف مراحله، وتخصصاته المتنوعة، وكتبوا جميع اللافتات وأسماء المحلات بها فقط، وفي حال الاضطرار إلى كتابة أسماء أجنبية كما في لافتات السفارات والفنادق الكبرى جعلوها بالحروف الأجنبية الصغيرة تحت الحروف الكورية الكبيرة.

 

اللغة العربية والهوية :

 لا شك أن اللغة هي الفكر وهي الهوية وهي الماضي والحاضر والمستقبل. وتواجه اللغة العربية في الوقت الحاضر عدة آفات منها استعمال اللغة العامية، سواء في وسائل الإعلام، أو في لغة الباحثين والمذيعين والمحاضرين أو في الشعر النبطي، وهي آفة مستعصية لا يسهل القضاء عليها. وقد غلبت لغة العامة حتى على لغة المدرسين والأساتذة في المدارس والجامعات، بخلاف ما كان عليه الأمر قبل، فقد كان المعلمون في المدارس الابتدائية لا يلقون دروسهم إلا باللغة العربية السليمة. ومن المعاناة انتشارها أيضًا في شتىّ وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمنطوق بها وفي الإعلانات ولافتات المحال التجارية والمطاعم والمقاهي وغيرها، ومما يبعث على الأسى استعمال العامية في مناقشة الماجستير والدكتوراه في كليات الدراسات العليا في الجامعات الرسمية التي أنشئت حديثًا في بعض الدول العربية مثل المملكة الأردنية الهاشمية.

 

طُرق إنقاذ الهوية :

الآفة العظمى التي ينبغي التصدي لها في انقاذ الهوية العربية هي من خلال التوعية الاجتماعية، من طريق الإذاعة والتلفزة وإقامة ندوات تثقيفية وإلقاء محاضرات تحض على استعمال اللغة الفصيحة، وتكليف طائفة من الباحثين الاكِفاء إذاعة أحاديث في الإذاعة والتلفزة لتوعية المجتمع، وإعلامهم أن اللغة الفصيحة هي التي تجمع الأقطار العربية في وحدة لغوية تيسر التفاهم بين أبنائها، وإعلامهم أن الوحدة السياسية لا يتأتى تحقيقها إلا من طريق التوحيد اللغوي، وأن الانتماء إلى الأمة العربية يقتضي الاعتزاز بها والحرص على استعمالها في كل المجالات، وتذكير المجتمع في الوطن العربي بما كان للغتنا من شأن كبير في العصور المختلفة ولدى جميع الأمم التي انضوت تحت راية الدولة العربية الإسلامية.

 

اللغة العربية وتعزيز المواطنة :

إن للغة تأثيرا كبيرا في ترسيخ المواطنة، وتكريس الانتماء، والواحد من الناس يألف من يتكلم بلسانه، ويقترب منه أكثر من غيره، ومن تتبع أحوال المسافرين في محطات سفرهم ثبتت له تلك الحقيقة. والمغتربون للدراسة أو للعمل أو للعلاج تؤلفهم اللغة، وتجمعهم بلدانهم، فكل أهل بلد لهم رابطة توحدهم، ومستقرٌ يجمعهم، وأقوى دافع لهم في ذلك كون لهجاتهم واحدة. يقول الرافعي رحمه الله: ما ذلّت لغة شعبٍ إلاّ ذلّ، ولا انحطّت إلاّ كان أمره في ذهابٍ وإدبارٍ، ومن هذا يفرض الأجنبيّ المستعمر لغته فرضاً على الأمّة المستعمَرة، ويركبهم بها، ويُشعرهم عظمته فيها إن قيمة الولاء هي المحرك الحقيقي للمواطنة وهو نتيجة نهائية والتي تتبلور في شكل ما يسمى الوطنية ،فالولاء يدفعه إلى أداء واجباته ضمن إطار قيم المواطنة لا بد من النظرِ إلى اللغة العربية بحيث يكون الاعتزازُ بها اعتزازًا بالوطن، وتراثه الحضاري العظيم، فهي عنصرٌ أساسي من مقوماتِ الوطن والشخصية العربية، والنظر إليها على أنها وعاء للمعرفةِ والثقافة بكلِّ جوانبها، ولا تكون مجردَ مادةٍ مستقلة بذاتها للدراسة؛ لأنَّ الوطن الذي يهمل لغتَه وطن يحتقر نفسَه، ويفرضُ على نفسِه التبعية الثقافية. ،

 

اللغة العربية والانتماء :

إن الإنسان بطبيعته كائن منتمٍ، فلا يستطيع أن يشكل وجوده أو يعيش حياته بمعزل عن الآخرين. ولا يستطيع كذلك أن يبدع لغة خاصة تعزله عن سواه من البشر، الذين يشاركونه، أو بالأصح يشاركهم واقعهم الاجتماعي والسياسي والثقافي. وهذا الواقع المشترك الذي يفرض الهوية المشتركة، هو الواقع نفسه الذي يفرض الانتماء إلى هذه الهوية دينية كانت، أو لغوية، أو وطنية. والهوية لا تتأتى بين يوم وليلة؛ وإنما هي خلاصة تعايش طويل لقوم أو مجموعة أقوام تحدد، بمرور الزمن، مكانهم الجغرافي، وتحددت معالم لغتهم المشتركة وقواعدها، وتحددت معها طموحاتهم وأحلامهم، وصاروا بحكم ذلك التكوين منتمين بالضرورة إلى هذا المكان وهذه اللغة. وأي تصدع في جدار الانتماء لابد أن يصدر تصدعات واسعة في جدران الهوية والمكان واللغة.

 

حماية اللغة العربية من هجمات العولمة :

إن حماية اللغة العربية من هجمات العولمة هي واجب ديني وديني في آن واحد، فاللغة العربية هي السياج المتين الذي يحميها من آثار العولمة، ومناهضة العولمة تستدعي توعية المجتمع العربية وتعريفهم بأهدافها الخبيثة وجوانبها السلبية، ومن واجب الأمة العربية حماية لغتها وتراثها وبيان الجوانب المضيئة في حضارة أمتنا وتاريخنا.

المصدر: https://units.imamu.edu.sa/shis/malaz-inst/EduArticles/Pages/27-3-1440-m.aspx

أنواع أخرى: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك