الولادة الجديدة

محمد سعيد الزموري

 

لا نجد في تعليم المسيح ورسالته اهتماما بالطقوس والشعائر كما هو الأمر في المدرستين اليهودية والإسلامية؛ ولقد كان ينتقد مرارا الفريسيين على ريائهم ونفاقهم، وفساد قلوبهم، رغم تشدّدهم في التمسّك الشكلي والحرفي بالشريعة، كما وردت مفصّلة في أسفار التوراة من العهد القديم للكتاب المقدّس، ويكفي أن نشير بهذا الصدد إلى الإصحاح 23 من الإنجيل برواية متى، والذي دوّن فيه التوبيخ الذي وجّهه المسيح للفريسيين، ونودّ أن نقتبس من هذا الإصحاح آية واحدة يقول فيها: "لكن ويل لكم أيها الكتبة والفريسييون المراؤون، لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس، فلا تدخلون أنتم ولا تدعون الداخلين يدخلون."[1]

لقد كان المسيح يعلم أنّ الإنسان قد يواظب على الطقوس وأداء الفرائض دون أن يغيّر ذلك طبيعته السيئة أو يصلحها، ولأجل ذلك ركّز في تعليمه على أمرين:

- التبشير بملكوت السماء.

- ضرورة الولادة الجديدة كشرط للولوج إليه.

وسنجعل من هذين الأمرين مدار بحثنا، وسننطلق في مقاربته من منظور اللاهوت المسيحي. وغرضنا هو أن نبيّن، بقدر ما نستطيع، أنّ السيد المسيح لم يكن داعية، ولو بصفة النبيّ، بقدر ما كان معلّما ميتافيزيقيا يرشد إلى طريق الخلاص بالمعنى الميتافيزيقي، وليس بالمعنى الفقهي الضيّق المتداول في المجال أو السياق الكنسي بمختلف مذاهبه ومدارسه. فهذا المعنى الضيق ربط مفهوم الخلاص بشخص يسوع، باعتباره مخلّصا شخصيا من خلال موته الفدائي، كما يصفه اللاهوت الكنسي، لكننا نعتقد أنّ التدبّر في متن العهد الجديد من الكتاب المقدّس تسمح لنا بربط مفهوم الخلاص المسيحي بمضمون التعليم الذي قدّمه المسيح، ونشير بهذا الصدد إلى خاصّية تميّز بها المسيح في تعليمه، وهي الجمع بين النظرية والتطبيق، إذا جاز التعبير. وكلّ الأعمال الخارقة التي أتى بها، لم يدّع احتكارها لنفسه لتأكيد أو إثبات نبوّته، بل أكدّ لتلاميذه أنّهم يستطيعون القيام بمثلها بل وبأعظم منها لو أنّهم يؤمنون به؛ أي لو أنهم يفهمون تعليمه، كمثل مُدرِّس للرياضيات يشرح قاعدة في الجبر أو الهندسة، ويوضّح تطبيقها من خلال مسألة أو أكثر قبل أن يختبر فهم التلاميذ وقدرتهم على حلّ مسائل جديدة. وهكذا لم يعلّم المسيح أمراً دون تقديم تطبيق عمليّ له، ولم يقم بعمل دون أن يشرح قاعدته لتلاميذه، رغم أنّهم في الغالب كانوا بطيئي الفهم. ولقد بلغ الذروة في هذا الباب حين قال: "من كان حيا وآمن بي فلن يموت أبدا"[2]. ولم يكن هذا الكلام مجرّد ادعاء من طرف المسيح، بل مهّد للتطبيق الشخصي لذلك بقوله في سياق آخر: "اهدموا هذا الهيكل-أي جسده-وفي ثلاثة أيام أقيمه".[3]

ولقد قام من الموت بعد ثلاثة أيام من موته، ولذا كان موت المسيح لازما للبرهنة العملية على صدق التعليم وصحّته. إنّ نمط الوعي الذي كان لدى المسيح هو الذي منحه كل تلك القدرات، وكذلك كان غرضه التعليمي هو أن ينفتح وعي الإنسان على هذا الأمر الذي ينبغي أن يشكّل المحور الوجودي الأصيل للإنسان، والذي بدونه تصير تجربته الوجودية هباء. وسنجد امتدادات لهذا المنظور في سياق الفلسفة الشرقية. فلنبدأ أوّلا بالنظر في هذه المسألة من خلال صياغتها ضمن اللاهوت المسيحي المدرسي، انطلاقا من القديس توما الأكويني.

فكرة الولادة الجديدة

نجد في إنجيل يوحنا/الإصحاح3/محادثة جرت بين المسيح وأحد الفريسيّين زاره ليلا، ليستفسره في أمر، فأجابه المسيح: "إن كان أحد لا يولد من فوق، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله، المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح".[4]

إن معرفة الغاية القصوى للإنسان تقتضي أن نعتبر أنّ وجوده الطبيعي ليس سوى بداية أولية لكينونته

هذه هي الإشارة الوحيدة الصريحة، من طرف المسيح إلى ما سيعرف لاحقا في اللاهوت المسيحي، التقليدي والمعاصر، بالولادة الثانية، أو الولادة الجديدة. ويكاد يُجمع كلّ من كتب في لاهوت العهد الجديد، على أنّ حياة الإيمان المسيحي تبدأ بهذه العملية الاستثنائية التي يستشعر من خلالها الشخص اشتياقا تلقائيا للأمور الروحية، ولطافة تسري في كيانه العميق، دون أن يكون لإرادته دخل فيما يجري. يقول واين جرودم: "يمكننا أن نعرف الولادة الجديدة على الشكل التالي: -الولادة الجديدة هي عمل الله السري الذي يمنحنا به حياة روحية جديدة، وهذا يدعى أيضا بالولادة من فوق أو الولادة الثانية."[5]. يوضّح واين جرودم هذا الدور الإلهي في الولادة الجديدة باستشهاد من العهد القديم، ورد في سفر حزقيال: "وأعطيكم قلبا جديدا وأجعل روحا جديدة في داخلكم وأجعلكم تسلكون في فرائضي، وتحفظون أحكامي وتعملون بها.". فالولادة الثانية أو الجديدة هي من عمل الروح الإلهي، المتعارف عليه في اللاهوت الكتابي بالروح القدس، وإليه أشار المسيح في كلامه لنيقوديموس. ويصف جرودم تجاوب الإنسان الطوعي مع هذا العمل الإلهي بنعمة لا تقاوم، وهي عبارة استعارها من كالفن؛ فكما أنّ حياة الإنسان في الجسد هي هبة إلهية، فإنّ الحياة الجديدة التي يختبرها الإنسان بفضل الولادة الثانية هي نعمة إلهية، فتسمّى لأجل ذلك بحياة النعمة، ويصفها توما الأكويني، بشكل أدق، بنعمة التقديس، باعتبارها عملية مستمرة يستعيد الإنسان بفضلها، تدريجيا، هويته الأنطولوجية الأصلية التي حجبت عن وعيه وخبرته الوجودية بسبب تراكم الحجب الكثيفة الناتجة عن حياة النشأة الطبيعية. وإعلان الكتاب المقدّس عن مضمون تلك الهوية يتلخص في ما ورد في بداية سفر التكوين من الكتاب المقدس: "إن الله خلق الإنسان على صورته وشبهه".[6] قد يبدو هذا الأمر غير مألوف عند النظر إليه من داخل المرجعية الإسلامية، وقد نحتاج الى أن نضع بين قوسين، وأن نعلق، بالمعنى الفينومينولوجي، أحكامنا وتصوراتنا المسبقة بخصوص الكتاب المقدس، والتي هي، في المتداول، قدحية، عامية، وسلبية، وتمثل بسبب ذلك عوائق معرفية وأدلوجة تمنع من الاقتراب إلى النص للتعرف عليه كما هو، ثم إنّ اعتبارا لإنسان مخلوق على صورة الله ليس غريبا عن منظومتنا المعرفية إلى هذا الحد، وإن لم يرد بهذه الصيغة في نص القرآن، فهو متداول بشكل طبيعي في متن الفلسفة الإسلامية، ونكتفي بشاهد واحد، وهو صريح وواضح في التعبير عن هذه الفكرة، يقول نصير الذين الطوسي، في شرحه على الإشارات والتنبيهات لابن سينا: "اعلم أنّ مبحث النفس في الكتب الحكمية قلب المباحث وقطبها، ولا علم أشرف من معرفتها، لأنّ معرفتها مرقاة معرفة الرب، لأنها مثال فاطرها ذاتا وصفة وفعلا، ولا طريق للوصول لمعرفة ذات الرب تعالى وصفاته وأفعالها لا من هذا السبيل، فويل لمن أهمل نفسه ولم يقرأ كتاب إنّيّته[7]".

كتب هذا الكلام قرونا قبل أوغسطينوس وتوما الأكويني؛ ومن بين دلالاته التي لها صلة بسياقنا، سياق الولادة الجديدة المتمثّل في أنّ الإنسان بإمكانه، بل لعله من واجبه وحقه، وجوديا، أن يستعيد الوعي بنسبه الشرعي النبيل، السماوي، بدل أن يظل مستلبا من حيث لا يدري، لهويّة مزيّفة، فيستريح من تعبه الوجودي في البحث باتجاهات شتّى ودون جدوى. فلئن كانت النفس مثال خالقها ذاتا وصفة وفعلا، فهذا يعني أنّ ماهيتها ووجودها، وما يلحقهما من لوازم، كل ذلك مستمدّ من مبدأ أنطولوجي متين، هو لانهائي وفوق المادة، هو الأصل المطلق والمعين الذي لا ينضب، والإنسان الحقيقي، أو الإنسان في عين ذاته، هو صورة ذلك الأصل ومثاله وانعكاسه. هذه الألفاظ: المثال، الصورة.... لا تُحمل في هذا السياق على المجاز، بل لها دلالة الحقيقة الأنطولوجية لكينونة الإنسان. فكما أنّ شعاع الشمس هو انعكاس بمعنى الامتداد المباشر والعيني لها، فكذلك الإنسان في عين ذاته له صلة القرابة بخالقه.

إنّ امتلاء وعي الإنسان بهذه الحقيقة وتشبّعه بها هما محور العمل الوجودي انطلاقا من لحظة الولادة الجديدة، ورويدا رويدا، تشحن كينونته باطمئنان راسخ، وامتداد لا حد لهما، لأنّ الكينونة الحقة بطبيعتها امتداد للحقيقة الإلهية في كل أبعادها اللانهائية، ولهذه الحقيقة أشار المسيح حين قال: "لأنّ ملكوت الله فيكم".[8] وتلك الطبيعة ليست من صنع إرادة الإنسان، كما أنّها ليست مما يمكن تحصيله أو بناؤه تدريجيا عبر اجتهاده الشخصي، لأنّها، ببساطة هبة إلهية تامة مودعة في أعماقه، كما سنرى ذلك مع توما الأكويني وفي الفلسفة الشرقية بصفة عامة. بناء على ذلك، يمكن أن نضع وجود الإنسان ضمن منظور قد يبدو مجرد افتراض صوفي، مع أنّه ليس كذلك ضرورة، ويكفي شاهدا ما يعرفه العالم من صحوة روحية، والتي يجب تمييزها عن الحركات الدينية. نفترض أنّ الغاية الأصيلة للإنسان في اختباره الأرضي هي اكتشاف ذاته الحقّة واستثمار إمكاناتها الوجودية لتأهيله من أجل الانتقال الى أبعاد أعلى في الوجود والكينونة. فلننظر الآن كيف تبلور هذا المنظور لاهوتيا، لدى توما الأكويني.

1- توما الأكويني: من الخطيئة إلى القداسة.

* مبدأ وجود الإنسان وغايته القصوى.

** المبدأ الإلهي لكينونة الإنسان: يعتبر توما الأكويني أنّ كلّ موجود، عظم شأنه أو صغر، يتجلى فيه مقدار من اللاهوت، غير أن ذلك المقدار لا يكون إلا بمثابة الأثر، فلكل الموجودات شيء من الطبيعة الإلهية، وكل موجود ذي النصيب الأوفر من تلك الطبيعة يكون أسعد، وحتى لو لم يكن لموجود ما نصيب من تلك الطبيعة إلا الوجود، فالوجود من أشعة اللاهوت. وإحدى السمات الأنطولوجية الراسخة للاهوت، هي الحضور الكلّيّ الذي لا يتناهى في تجلياته من خلال التنوع اللامتناهي لأعيان الماهيات. ومن سائر الموجودات، انطوى الإنسان على جميع مقوّمات صورة اللاهوت، باستثناء وجوب الوجود بالذات؛ فهو كائن روحي، أبدي، حر، لا ينمو، ولا يبلى. وكنفس عاقلة، يعقل ذاته كانعكاس للتعقل اللانهائي لله لذاته.

فلقد خلق الله الإنسان على صورته ومثاله، الخير الأسمى. والغاية القصوى للإنسان هي أن يستعيد هذا المقام الذي له فيه صلة أبدية مع مبدئه. فالكينونة الحقة للإنسان تحمل ختما لاهوتيا، وتدبر هذه الحقيقة وتجليتها في وعي الإنسان، تبعث فيه رغبة في الانسلاخ عن كل ما هو عتيق ومزيّف، وشرف الإنسان هو عنايته بصورته الشريفة وسعيه للتماهي بها. وهذا التصور لدى توما الأكويني نجد فيه صدى لكلام بولس في رسالته إلى أهل أفسس، والواردة في العهد الجديد من الكتاب المقدس، حيث يقول: "أن تخلعوا من جهة التصرف السابق الإنسان العتيق الفاسد بحسب شهوات الغرور، وتتجددوا بروح ذهنكم، وتلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق".[9]

*** حالة الخطيئة: إنّ الإنسان الأصلي شريك المجد الإلهي، غير أنّ هذه الحقيقة بعيدة وخفيّة عن وعي الإنسان الجسدي. يقول توما الأكويني، بصيغة الابتهال: "إلهي، أنا حزين. لأنني إذ سلكت، وكأن نفسي ليس لها أي شأن إلهي لم أقدر نبلها ودنستها. من يعيد ولادتي بالجمال الأول للصورة الإلهية؟ من يمنحني الوسيلة لاستعادة بريقها وإشراقها؟ أريد أن أتملّى في كمالات الله، وأنا نسختها، لأنّ التأمل بعناية واستمرار في جماله المستور ينقش في النفس صورة كاملة بلا عيب لذلك الجمال."[10] يرد هنا السؤال التالي: إن كان الإنسان مخلوقا على صورة الله التامة، فكيف انفصل عنها وصار في حاجة لاستعادتها بالولادة الجديدة؟

يجيب القديس توما الأكويني بأنّ لله كل الكمالات الوجودية الحاصلة حصولا فعليا تاما منذ الأزل وللأبد، ليس شيء منها بالقوة، فهو ملك الوجود. أمّا الإنسان، فسبب الخطيئة الأصلية، إذ يصير موجودا بعد عدمه، فإنّه يأتي إلى الوجود، بدءا، بكينونة سيئة، فاسدة وتعيسة، ولا يكاد يكون له من كمالاته إلاّ كمال الوجود بعد العدم، ولتحصيل كمال شأنه سيحتاج إلى أمور أخرى. فالحياة الطبيعية للإنسان العاقل، المركب من نفس وبدن، وإن كانت أرقى من الحياة الطبيعية لباقي الموجودات، فهي ليست سوى البداية، من منظور المقاصد الإلهية الكبرى بخصوصه، فكل ما يتمكن من إنجازه في دائرة الحياة الطبيعية، ومهما علا شأنه، يظل دون ما ذخر له من مظاهر المجد وعلوّ الشأن في مقاصد الله له. ج-الغاية القصوى للإنسان

إنّ معرفة الغاية القصوى للإنسان تقتضي أن نعتبر أنّ وجوده الطبيعي ليس سوى بداية أولية لكينونته، والتي لن تصير تامة كاملة إلا بعد تحرير الإنسان من الكيان الفاسد بسبب الخطيئة، ومن عناء وشقاء الحياة الناتجة عن ذلك.

إذن وحسب هذا التصوّر، سيكون من الضلال الوجودي أن يظلّ وعي الإنسان، وبالتالي كل تجربته الوجودية، سجين الوجود الطبيعي، إذ ما دام يتحرّك في حدود هذه الدائرة، المتمثّلة في اجتماع النفس والبدن بقواهما المختلفة، فهو لن يكون سوى في بداية الخط الوجودي المتجه نحو الكمال التام لشأنه. وينبغي أيضا أن نأخذ الفعل الإنساني بما له من خصوصيّة: أي ارتباطه بالعقل والإرادة. ولذلك، فهو فعل قصدي، له غاية، وفي سياق الإنجاز الفعلي تأتي الغاية كتتويج نهائي، ولكنّها تمثل في البداية المبدأ المحرّك للفعل. فالأفعال الإنسانية كلها مشبعة في طبيعتها ووجهتها بالغاية أو القصدية. لكن من غير المعقول، حسب توما الأكويني، أن تتوالى الغايات دون أن تتناهى عند غاية قصوى، كما أنه من المستحيل أن تتسلسل المحرّكات دون أن تنتهي عند محرك أول، إذ لن تكون آنذاك حركة، وكذلك دون غاية قصوى، كمبدأ قصدي، وتتويج نهائي للفعل الإنساني، لن يكون ثمة فعل إنساني حقيقي. ينبغي إذن الإقرار بأنّ للحياة الإنسانية غاية قصوى. وقد شاء الله، حسب توما الأكويني، أن يكون الخير الأسمى هو الغاية القصوى لكل الموجودات، والخير الأسمى لكل موجود هو ما تتم به طبيعته، فلا يطلب بعد ذلك شيئا. وبهذا الاعتبار يتضح أنّ الإنسان لا يمكن أن يتطلّع نحو أمرين كما لو كانا، بنفس الدرجة، الكمال التام لشأنه. غير أنّ الناس مختلفون حول ما يتحقق بهم كمال شأن الإنسان (اللذات، الثروة، السمعة، ...) وبسبب الخطيئة ينحرف الإنسان عن غايته القصوى الحقة، فهو مجبول بالطبيعة على السعي نحو الكمال والاكتمال، ولكنّه بسبب الخطيئة ينحرف عنها أو يخطئ الإصابة، فالخطيئة بالتعريف هي عدم إصابة الهدف، كما أنها بطبيعتها أو ماهيتها نقيض الطبيعة العاقلة للإنسان، وكما أنّ النفس هي أشرف من البدن، فإنّ العقل هو أكثر شرفا، ليس من البدن فقط، بل من كل وظائف النفس المرتبطة بالبدن. والسعادة القصوى للإنسان هي في كمال النفس، وليس البدن، وذاك الكمال الحق إنّما هو أن يستعيد مجد صورته الإلهية، وأن يستعيد الوعي بصلته الأبدية مع مبدئه المطلق، فالله هو الغاية القصوى للإنسان ولكل الموجودات. غير أنّ الخطيئة أذهلته عن كل ذلك، فأصبح الإنسان في حالة البعد عن ذاته وعن مبدئه وصار في حاجة إلى قوة خلاص فائقة للنشأة الطبيعية، ويسمّي توما الأكويني هذه القوة بالنعمة، وهي: "خير حقيقي وواقعي، وليست أمرا وهميا، ... وكل ما قلناه بخصوص غاية الإنسان الفائقة للطبيعة، وبخصوص الخطية، الضعف الأعظم، والجهالة البعيدة الغور وكل مظاهر النقص...تثبت ضرورة النعمة".[11]

مفهوم الولادة الجديدة من اصطلاحات اللاهوت المسيحي لتسمية أمر يشكّل ظاهرة إنسانية كونية

فالخطيئة رسخّت لدى الإنسان الإرادة الشخصية، وجعلته شديد الميل إلى اللذات البدنية وغرور العالم، أو الحياة الدنيا حسب اصطلاح القرآن، فصار من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، أن يخلص من كل ذلك بإمكانياته الخاصة دون العناية الإلهية التي تأخذ بكينونته خارج "وادي البكاء" هذا، إلى الحياة اللاهوتية. وهذا التدخل الإلهي هو ما يقصده توما الأكويني بالنعمة. واللحظة التي يتزامن فيها التدخّل الإلهي واستعداد الإنسان هي لحظة الولادة الجديدة. يقول القديس: "يستطيع الإنسان أن يحقق أمرا ما في البعد الطبيعي لحياته دون أن يحتاج إلى النعمة، لكنّه لا يملك من أمره شيئا فيما يختصّ بالخلاص، دون النعمة."[12]

فالإنسان في حالة الخطيئة، يشبه المريض الذي يستطيع، رغم مرضه، أن يقوم ببعض أمره، ولكنّه يحتاج لمساعدة الطبيب لأجل شفائه حتى يستعيد قدرته التامة في حالة تمام الصحة.

تتّضح ضرورة النعمة من وجهين: لشفاء الإنسان من الخطيئة، ولتمكينه من مواصلة سيره الروحي نحو الخير الأسمى الفائق للطبيعة. ولا ينبغي أن نرى في هذا التصور جبرية روحية ماورائية تحدّ أو تلغي الاختيار الحر للإنسان، وقد ردّ أوغسطينوس هذا الاعتراض، باعتباره ينطوي على تصوّر خاطئ لإرادة الاختيار، فمنذ خطيئة آدم صار الإنسان أكثر ميلا للشر منه للخير، رغم إرادته، لذلك أصبح في حاجة للنعمة ليستعيد اتزانه وليتطلع نحو الخير. هذه النعمة تعمل بالروح القدس على إصلاح صورة الله المنقوشة في كينونة الإنسان منذ بدء خليقته. وعمل هذه النعمة خفي، بمعنى أنه لا يرى من خارج، ولكنه مع ذلك ليس سحريا. فالقديس توما الأكويني يصوغه في قالب أرسطي، إذ يعتبر أنّ الله هو مبدأ الحركة الأنطولوجية الساري في كل الموجودات، يحمل كلا منها على حدة نحو الغاية القصوى، يخرج ما أودعه فيها من إمكانات من القوة الى الفعل، كل بحسب طبيعته. وكل العلل الأربع الأرسطية قائمة بالله: المحرّكة، المادية، الصورية، الغائية: "إنّ المحرّك الأول هو الله ذاته، الذي إليه منتهى كل الموجودات، الذي يحركها كلها للعودة أو الرجوع اليه، لكن هذا الاندفاع المشترك بين كل المخلوقات، يبثه الله في الإنسان على نمط خاص، إذ إنه يحوّل وجهته نحوه تعالى كما نحو الغاية التي يتشوق إليها، والتي يرى فيها خيره الخاص."[13]

فالنعمة الإلهية تحرّك الإنسان من الداخل في اتجاهين متباعدين متقابلين:

- التخلّي عن الهيئة الإذعانيّة لحالة النشأة الطبيعية؛ أي الخطيئة، المضادة لما عليه مقتضى فطرته؛ أي صورة الله.

- إقبال الكينونة على كل ما يقدّسها بفضل صلتها الوجودية الخفية بمبدئها الأبدي، الله. فالقداسة ليست شيئا غريبا عن الطبيعة الحقة للإنسان، إن كانت تلك الطبيعة من تجليات اللاهوت. وهي، بالإضافة لذلك، من عوامل الغبطة للحياة الإلهية. إنّ إضفاء طابع القداسة على الذات المكنونة للإنسان من طرف توما الأكويني، وجدنا نظيرا له لدى شيخ الإشراق، شهاب الذين السهروردي، حيث يقول: "إنّ النفوس الناطقة من جواهر الملكوت، وإنما يشغلها عن عالمها هذه القوى البدنية، فإذا قويت النفس بالفضائل الروحانية، وضعف سلطان القوى البدنية...تتخلص أحيانا الى عالم النور، وتتصل بأبيها المقدّس."[14].

تشكل هذه المضامين العالية الأفق الميتافيزيقي لمفهوم الولادة الجديدة، ولعلها تبدو بعيدة كل البعد عن متناول الإنسان الطبيعي الجسدي، بل تبدو أمرا في غاية التجريد، ولأجل ذلك ارتبط مفهوم الولادة الجديدة، في سياق اللاهوت المسيحي، بمفهوم النعمة. فهذا التصور يفترض للإنسان كينونة فائقة للطبيعة، وغاية قصوى فائقة للطبيعة، وفي نفس الوقت، يكشف للإنسان عجزه وقلّة حيلته بسبب غلبة النشأة الطبيعية عليه؛ أي حالة السقوط والخطيئة كما يسميها لاهوت الكتاب المقدس، ولذلك فإنّ خلاصه مرتبط كذلك بعمل فائق للطبيعة، وهو الولادة الجديدة بالنعمة. كيف تتم هذه العملية؟ أجاب المسيح في الإنجيل كما رواه يوحنا: "الريح تهبّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا الى أين تذهب. هكذا كل من ولد من الروح."[15]

حين تتلامس هذه العملية مع أغوار الإنسان، تنشرح كينونته للمتعالي الكامن فيها والممتد بالخارج عنها؛ أي البعد المعنوي أو الروحي للوجود، وإن بدت هذه العملية غامضة أو عسيرة الفهم، فلأنّ الوعي الطبيعي يدرك الوجود منفصلا عن مبدئه، ويدرك الخليقة منفصلة عن خالقها، ولذلك نعتقد أنّ مفهوم التوحيد، في كل الديانات التوحيدية، ليس مجرّد دوغما شكلية، بل هو مفهوم أنطولوجي عميق ينبغي أن نأخذ دلالته كأمر واقعيّ وليس مجرّد مقولة ذهنية، وقد صاغه توما الأكويني كما يلي: "الله، الكائن الذي لا يتناهى في كماله، هو مبدأ كل كينونة وكل كمال."[16]

كما نجد صياغة فلسفية لمفهوم التوحيد في متن الفلسفة الإسلامية، قد تساعدنا على تخليصه من دلالته الفقهية السطحية، أو لنقل اسم التوحيد من الدلالة المشهورة إلى الدلالة على المعنى المطلوب كما يقول قدماؤنا، وذلك لتحقيق غرضنا في هذا السياق. يقول الفارابي: "أنفذ الى الأحدية، تدهش الى الأبدية، وإذا سألته عنها فهي قريبة."[17]

إنّ النفاذ الى الأحدية قد يكون بمعنى استعادة الوعي بقرب الخالق من خليقته، وقربها منه، الفعلي والحقيقي، إذ ينبغي إدراك وتمييز هذا القرب اللاهوتي كحقيقة أنطولوجية ملازمة لأعيان الموجودات والماهيات، وليس محض تصوّر ذهني مجرّد ومفارق، غير أنّ ذهول الإنسان عن تلك الحقيقة بسبب استغراقه في الذات وشؤون النشأة الطبيعية، يحجب تلك الحقيقة عن وعيه، لكنه لا يلغيها، مثلما نذهل عن قانون الجاذبية، دون أن يكون ذلك سببا لتعطيل عمله، وإلاّ امتنع عنّا المشي على الأرض. يقول ابن سينا أيضا: "لما كان علم الحق الأول بنظام الخير في الوجود علما لا نقص فيه...حصل الكل في غاية الإتقان، لا يمكن أن يكون الخير فيه إلا على ما هو عليه...وكل شيء من الكل على جوهره الذي ينبغي له...وما عرض له أن يزول عن كماله بالقسر، فإنّ فيه قوّة تردّه إلى الكمال...وهذا ما يسمّيه الأوائل: عناية؛ أي سابق علم الله تعالى بأنّه كيف يجوز أن يكون الوجود كله، وكل جزء منه، في ذاته وفعله وانفعاله."[18] ما علاقة كلّ هذا بمسألة الولادة الجديدة؟ أوردنا هذه الاستشهادات لأجل أن نستعين بها في إضفاء طابع المعقولية على تلك العملية، وذلك من خلال فهم المبدأ الفاعل فيها، تلك العملية التي يصفها اللاهوت المسيحي بكونها عمل الله السرّيّ في حياة الإنسان، ولذلك المبدأ أشار أوغسطينوس بقوله: "حين نعود عن ضلالنا التعيس، فذلك فقط بمعرفة الحقيقة، ولمعرفتها، فهو الذي يرشدنا، لأنه المبدأ والصوت الذي يحدثنا."[19]

وإنّ فعالية هذا المبدأ التي لا تقاوم، هي التي جعلت من أوغسطينوس، قدّيسا، فبعد أن كان مستغرقا في حياة المتعة قبل اهتدائه، كما قال هو نفسه، صار القديس أوغسطينوس، كشأن قرينه، القديس توما الأكويني. فالقداسة من أهم آثار المبدأ الفاعل في عملية الولادة الجديدة، ولذلك يسمّى هذا العمل بنعمة التقديس، كما أشرنا إلى ذلك في البداية. ويسمّى هذا المبدأ الفاعل أو هذه القوة الخفية، في سياق اللاهوت المسيحي، بالروح القدس، والإذعان الطوعي لعمل هذا الروح ينزع من الشخص شوائب النشأة الطبيعية التي تحجبه عن كينونته الحقة وعن مبدأ الوجود، ليصير شريك الطبيعة الإلهية، أي قديسا، أو مسيحيا. فالمسيح ليس شخصا فردا بعينه، بل هو أنموذج الإنسان المثالي، أو الإنسان الكامل. لنتأمل في الاستشهادات التالية:

ـ "إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة، الأشياء العتيقة قد مضت، هو ذا الكلّ قد صار جديدا."[20]

ـ "الإنسان الأول من الأرض ترابي الإنسان الثاني...من السماء...وكما لبسنا صورة الترابي، سنلبس أيضا السماوي."[21]

ـ "خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد بالمعرفة حسب صورة خالقه."[22]

ـ "فأنتم ولدتم ولادة جديدة، لا من زرع قابل للفساد، بل غير قابل للفساد، بكلمة الله الحي الباقي."[23]

هذه بعض الشواهد من العهد الجديد من الكتاب المقدّس، على ما يتحقق في أوج عملية الولادة الجديدة. غير أنّ هذه الشواهد الكتابية ليست من أجل حصر مسألة الولادة الجديدة ولوازمها، كأمر مخصوص ضمن لاهوت الكتاب المقدس، ومقتضيات الإيمان المسيحي، كما هو متداول في التأويلات الفقهية الأورثوذوكسية لدى الكنائس. فالولادة الجديدة، تمثل ظاهرة روحية نفسية ذات طابع إنساني كوني، ويمكن القول إنّها تكتسي صفة القانون الوجودي، الكامن، لكينونة الإنسان، يحتاج فقط لتفعيله، وقد يتم هذا التفعيل، بقوة خارجية فائقة للطبيعة، وبهذه الصيغة ورد في اجتهادات اللاهوت المسيحي كما رأينا. ولكن قد يتم تفعيله بمبادرة شخصية وبالاعتماد على وسائل مقننة، وهذه هي الصيغة التي نجدها مثلا في مدارس الفلسفة الشرقية. ويشكّل هذا الأمر المحور الرئيسي لتلك الفلسفة. فإن كانت الدهشة ومحبة الحكمة تشكّلان منبع التجربة الفلسفية الغربية عند نشأتها لدى اليونان، فإنّ أنساق الحكمة الشرقية تبلورت من خلال البحث عن الحقيقة كعلاج وجودي وخلاص ميتافيزيقي للإنسان، فالتصورات الميتافيزيقية للحكمة الشرقية ليست محض مقولات عقلية مجرّدة يمكن صياغتها في نسق لتأسيس أنطولوجيا نظرية، إنّها ليست ميتافيزيقا على النمط الأرسطي، بل هي حقائق تكتسي قيمتها وفعاليتها من خلال اختبارها الوجودي الذي يسعى الإنسان من خلاله إلى تحقيق كينونته الحقة واستعادة صلته بالمطلق. فالمعرفة، في ذاتها، مهما كانت، ليست لها قيمة إن لم يكن لها شأن بخلاص الإنسان، يقول ميرسيا إلياد: "إنّ المعرفة الوحيدة التي تحظى بالتقدير، وتشكّل موضوع طلب الحصول عليها، هي الميتافيزيقا؛ أي معرفة الحقائق العليا، لأنّنا بفضلها فقط نحصل على الخلاص، فبهذه المعرفة يتحرّر الإنسان من أوهام عالم الظواهر، فيستيقظ.".[24]

والحاصل أنّ مفهوم الولادة الجديدة من اصطلاحات اللاهوت المسيحي لتسمية أمر يشكّل ظاهرة إنسانية كونية، يتم تداولها في مدارس أخرى بأسماء، وتحت عناوين مغايرة، لكنها تتقاطع جميعها عند نفس الأفق الماورائي للإنسان الجديد.


 

 

[1] إنجيل متى/23-13.

[2] /إنجيل يوحنا/11-26

[3] يوحنا2----18/28

[4] يوحنا3- 3/3

[5] ج2/ص229 اللاهوت النظامي.

[6] تكوين: 1-26

[7] شرح الإشارات والتنبيهات/ج1 الخواجة نصير الدين الطوسي –الهامش رقم1 ص372مؤسسة بوستان كتاب1428.

[8] لوقا 17-21

[9] إصحاح4: 22- 23

[10] Petite somme théologique tome 2 page253

[11] Théologie affective tome3 page396

[12] Petite somme théologique, tome2, page: 425

[13] Petite somme théologique, t: 2, page: 498

[14] إشراق هياكل النور ص 144

[15] إنجيل يوحنا. إصحاح 3-8

[16] Petite somme théologique, tome2, page: 503

[17] فصوص الحكمة ص58

[18] المبدأ والمعاد ص110

[19] Confessions, p: 333

[20] كورينثوس الثانية5/17

[21] كورنثوس الأولى15/47-49

[22] كولوسي3/9

[23] بطرس الأولى1/23

[24] Mercia Eliade, Technique du yoga p.31

المصدر: https://www.mominoun.com/articles/%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%84%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9-6780

الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك