القرد يحكي قصته
عرفان يلماز
عزيزي الإنسان، اعلم أن جميع الحيوانات والنباتات، تخضع في خلقها لشروط فيزيائية وكيميائية كسائر معجزات الله التي تختفي وراء ستائر الأسباب. ولكن بعض الناس قاموا بحصر اهتمامهم في هذه الأسباب والشروط الظاهرة؛ تجاهلوا عمق العلم الكامن فيها، والقدرة التي تتجلى في حقيقتها، ثم انحدروا إلى مهالك الإنكار والإلحاد باسم “العلم” و”العلمية”.
ومن ثم يدهشني حماس البعض منكم على إيجاد قَرابة بيني وبينهم، ويحيرني -كذلك- لجوء هؤلاء إلى جملة من الأكاذيب والتحليلات المستحيلة التي تتجاوز العقل. كانت بعض أنواعنا تعيش في عصور ما قبل التاريخ ثم انقرضت، وكان فيها أنواع كبيرة وعملاقة بحجم الغوريلا والشامبانزي والأورانغوتان، كما كان فيها أنواع صغيرة كالليمور.. انقرضت بعضها بتقدير الله عز وجل، واستمر بعضها الآخر بإذنه وإرادته سبحانه. وعندما يعثر البعض منكم على مُسْتحاثات هذه الأنواع المنقرضة، يصيح بكل قوته: “ها هم أجدادُنا الذين انحدرنا منهم.. وها هو الشكل التي يجمعنا بالقرود في الماضي السحيق”.. وإنْ تصدى لهم أحد وقال: “هذه مستحاثاتٌ لأنواع منقرضة من القرود”، وصموه بالكذب والرجعية.. ليس هذا فحسب، بل ذهب بهم الحد إلى أن زرعوا في أخاديد الأسنان في فكي قرد من الأورانغوتان، أسنانَ الإنسان لكي يتمكّنوا من إثبات ادعاءاتهم، بل وسمّوا هذه المستحاثة البائسة المسكينة رجل “البيلداون” (Piltdown). ولكن ماذا كانت النتيجة؟ لقد ظهر الزيف وسقط الاستدلال. يعثر أحدهم على مستحاثة سنّ مفرد وحيد، ويقدمه على أنه من بقايا جد الإنسان القديم، ولا يكتفي بذلك بل يكوّن من هذا السنّ صورة لذلك الأصل ويرسمه، ثم يغرب في الخيال أكثر ويرسم صورة زوجة له يسميها “Hesperopithecus Haroldcooki”، ولكن تظهر البحوث اللاحقة على أن ذلك السن سن خنزير فقط.. وكم من المستحاثات الكثيرة غير المكتملة، وهياكل الأنواع المنقرضة التي تقارب الهياكل البشرية، يسعى وراءها في هَوَس عجيب مَن يبحث عن قرابة تربط بين القرد وبني الإنسان!
فماذا يقصد هؤلاء من وراء هذه البحوث، وهذا الإصرار العجيب على عقد المقارنة بيني وبينكم؟! ولنفترض أنهم أثبتوا ذلك، فما الذي سيجنونه من هذا الإثبات؟! لقد جعلكم الله خلفاء في أرضه، ورفعكم إلى مقام أشرف المخلوقات، فلماذا هذا الإصرار على الانحدار؟! نعم لابد من سبب دافع إلى ذلك.. وأعتقد أن السبب هو الهروب من مسؤولية التكليف بالعبودية لله عز وجل. إذ يظنون بأنهم إن أثبتوا انحدارهم من سلالة القرود، فإنهم سينجون من مسؤولية العبودية والعبادة لله سبحانه. يظنون بأنهم إن أسكتوا أصوات ضمائرهم سيصبحون مثلنا؛ لا يحملون همَّ الأخلاق، ولا يشعرون بأعباء الحياء، ولا يخشون جزاءً، ويعيشون حياتهم وفق أهوائهم في حرية مطلقة لا قيد لها.. ثم إنهم يعتقدون أن الطريق إلى تلك الحرية والتخلص من قيود الأخلاق والعبادة والدين، يبدأ من هنا؛ أي من إنكار الخالق وتبني الإلحاد، ولذلك يضعون نظرياتهم بخلاف الأبحاث البيولوجية وقوانينها، ويتشدقون بالعلم منقِّبين عن أقصر طريق مفض إلى الإلحاد.. ويسوّقون أنفسهم وكأنهم رجال متقدمون، ويلقون على الآخرين عباءة اللاعلمية والتخلف والرجعية!
وعلى الرغم من كل الأبحاث العلمية التي تبين استحالة وجود جزيئة بروتين واحدة -فضلاً عن كائن حي متكامل- عن طريق الصدفة، فإن كل طرق الإلحاد والادعاءات الباطلة حول التقدم العلمي، تنطلق من أزلية الطبيعة وأنها خلقت نفسها بنفسها عن طريق الصدفة! نعم، إنهم يعتمدون الحقائق التي تبينها الآليات البيولوجية، كالتكيف والاصطفاء والطفرات في مجال الأبحاث البيئية والجينية الوراثية، ويؤوّلونها تأويلاً بعيدًا يتجاوز طاقتها وأهدافها البحثية. وإن سأل سائل: ألا يمكن أن يكون الله سبحانه قد أخرج الإنسان فعلاً من القرد بما يتوافق مع نظرية التطور؟ هذا السؤال يمكن أن يوقع صاحبه في أفكار خاطئة دون شعور منه يؤدي به إلى الإلحاد وإنكار الخالق سبحانه؛ لأن الآليات البيولوجية التي تشكل أساس “نظرية التطور”، تقوم على قاعدة الصدفة وعلى الطبيعة البعيدة عن الشعور والعقل والإدراك. وإذا ما نجحت هذه النظرية في إثبات إمكانية وجود خلية بروتينية واحدة عن طريق ردود الأفعال الكيميائية التصادفية، انتقلت إلى إثبات أن جميع الكائنات الحية تطورت عن بعضها بالتكيف التصادفي؛ أي باصطفاء طبيعي عشوائي قاسٍ لا يرحم، انقرضت أنوع من المخلوقات كانت تعيش على الأرض، ونشأت بالطفرة الوراثية المستقلة -التي لا تحتاج لتقدير أو تحكم إلهي- أجيالٌ أشد ملائمة للحياة! إذن، لا مكان في هذه النظرية لخالق مبدع حكيم، بل هناك طبيعة قاسية عمياء لا ترحم، مستقلة بنفسها، وتعمل بأدوات التكيف والاصطفاء والطفرات التصادفية، وردود الأفعال! نعم، يتخذ هؤلاء أسلوبًا خفيًّا مموّهًا بالعلمية والمنهج العلمي في سبيل الإلحاد، بدلاً من الإنكار الصريح لوجود الله سبحانه.
لكن الله سبحانه وتعالى غني عن الاختبار والتجريب الذي يحتاجه الإنسان العاجز، بل هو سبحانه الغني المطلق.. وهو سبحانه بعلمه المديد وقدرته الواسعة، منزه عن أن يخلق خلقًا لا يعرفه، أو أن يخلق خلقًا لا يعجبه فيسعى إلى التطوير في خلقه بالتجريب والاختبار، بل إنه عز وجل الخالق كل شيء بقدر. إننا إذا قمنا بدراسة حول ملايين الكائنات، فهل يمكن أن نرى خللاً أو قصورًا في أيّ واحدة منها؟ إذا نظرنا بتمعن، فهل يمكن أن ندعي ظهور عضو بالصدفة؟ إن الذين لا يدركون حكمة الطفرات الضارة التي تبدو وكأنها برزت صدفة في الجينات، يدّعون أن هذه الطفرات تراكمت مع مرور الزمن أو ظهرت فجأة، وأوجدت بالصدفة الأعضاء الكاملة لتحوّل نوعًا من الأحياء إلى نوع آخر!
فلا يغرنكم الأسلوب “العلمي” الذي يلجأ إليه أصحاب نظرية التطور الفاسدة في تعليل الوجود، لأنها نظرية غير قابلة للتجربة والتكرار في المختبرات، لذلك ستظل دائمًا خارج مجال البحث العلمي.
ولو توقفت عند مشيتي ومشيتكم فقط؛ لاستغرق بيان الفروق التشريحية بيننا في الظهر والفخذين ساعات طويلة، فكيف الأمر لو بحثنا في توزع الشعر وأشكال اليدين والقدمين والفم والأنف والجبهة والأذنين؟! إنه ليضحكني كثيرًا مَن يدعي بأن بعض أنواعنا كان لها ذيل، ثم ضمرت منها الذيول، وتضخم دماغها حتى تمكنت من التفكير ومن استخدام الآلات وأصبحت إنسانًا! لقد وهب ربي لكلِّ حيوان ما يلزمه من هذا الدماغ المعقد.. خلق مليارات الخلايا العصبية وجمعها في ترتيب خاص على شكل مراكز، وهذه المراكز تقوم بما تحتاجه من سمع وبصر وشم وإحساس. ثم إنه سبحانه ميزكم بمشاعر ذات أبعاد روحية معنوية، وزودكم بدماغ وفقًا لهذه الأبعاد، وجعل فيه مراكز للذاكرة، والتعلم والنطق والكلام. إنه -باختصار- جعل دماغكم متميزًا عن دماغنا بما لا يقبل المقارنة والتشابه والقياس. ورغم ذلك يصرّ بعضكم على تطوّر دماغي وتحوّله إلى دماغ إنسان.. يا له من جهل أعمى.
ويتوقف بعضكم عند نهاية “عجب الذنب” والأمعاء العوراء، ويدّعون بأنهما من البقايا غير الضرورية التي انتقلت مني إليكم! وأرى أن هذه الادعاءات التي طرحت قبل خمسين سنة، أكل الدهر عليها وشرب. وإذا أصغيتم للباحثين في علم التشريح، فستدركون أهمية عجب الذنب والوظيفة التي يؤديها في عملية التبرز، وأهميتها الحياتية -كذلك- في الولادة لدى نسائكم. كما أن الأمعاء العوراء بمثابة معمل مهم لإنتاج اللمفاويّات الضرورية في جهاز المناعة في نظام الهضم، وله دور مهم في التهابات الأمعاء لا يلقي الكثيرون لها بالاً.
نعم، إنه يترتب عليكم بدلاً من أن تبحثوا عن الأعضاء التي لا عمل لها في أجسامكم، أن تبحثوا في أسرار التناغم والانسجام والتكامل العظيم بين الأعضاء التي خلقها الله لكم وزيّنكم بها، وأن تبحثوا عن حكمة وجودها.. إنْ فعلتم ذلك تحققت -عندئذ- على أيديكم اكتشافات كثيرة مفيدة للإنسانية، ترفعكم بين الناس وتقرّبكم إلى الله العلي القدير صاحب الأكوان.
حتى نكون بشرًا
كنت أنوي أن أحدثكم عن الحِكم التي تتجلى في خلقي، وأتكلّم عن تجليات أسمائه الحسنى البديعة فيه، غير أن عاطفتي أسَرتْني، وأوغلتُ في الحديث عن شبهات التشابه بيني وبينكم، واستطردت في بيان حقيقتها على غير إرادة مني.. فأنا لم أعدْ أتحمل إصرار بعضكم على مثل هذه النظرية الباطلة، وتشويش أذهان الناس بالخرافات، وتجاهلهم عن خصائصكم الإنسانية التي ترفعكم على سائر المخلوقات.. يا أسفًا على ما تفعلون.. أرجوكم نقِّبوا عن الحقائق، واعلموا قدر نبيكم صلى الله عليه وسلم الذي أُرسل إليكم، وتبحروا في القرآن فهرست الوجود والكائنات وتفكروا في آياته.. فإن كان ثَمَّة طريق للهداية، فإنها في تلك الآيات الجليلة.
إياكم ثم إياكم أن تعقدوا قرابة بيني وبينكم، فتكونوا من الخاسرين.. والندامة بعد فوات الأوان لا تنفع. فأنا أشبع بطني بكمية من الموز، وأتسلى بالتدلي والقفز من شجرة إلى أخرى، وأجد متعتي بقضاء وقتي ضمن أسرتي وعائلتي والحمد لله.. لكنكم لن تستطيعوا إسكات ضمائركم الملحة على إظهار الحقيقة، ولا إخماد أرواحكم المتعطشة إلى العبودية، ولا الاطمئنان في قلوبكم، ولا الراحة في تفكركم.. إلا بالإيمان بالله ربكم، وبغير هذا الإيمان لن تعيشوا إلا التعاسة والشقاء. لأن ندامة الماضي وهموم الحاضر ومخاوف المستقبل ستلازمكم في كل حين ولحظة، ولن تمنحكم الراحة أبدًا.. لن ينفعكم التشبّه بالحيوانات والخروج عن إنسانيتكم.. ففي ذلك جحود لله وإنكار لنعمه وآلائه. حذار ثم حذار من هذا الجهل المظلم.. كونوا كما أنتم، ولا تتخلوا عن إنسانيتكم أبدًا.