السرد والعنف الاستعماري
عبد الله إبراهيم
نظر كثيرون إلى العنف باعتباره نزوعا عدوانيا ينبغي لجمه بوسائل تبدأ بالتربية وتنتهي بالعقاب، ومع ذلك خلع عليه كثيرون سمة التقدير، حينما ربطوه بأفعال جماعية كالفتوحات الدينية، والغزوات العسكرية، والحملات التبشيرية؛ بحجة تحقيق أهداف كبيرة لا يدركها أولئك الذين وقع العنف عليهم، وظهر ذلك جليّا في الحركات الجهادية، والحروب الدينية، وإلى ذلك مُنح العنف شرعية منقطعة النظير في حركات الاستقلال، وسوّغ الأخذ به في مقاومة الاستعمار، قد افتتح "فرانز فانون" كتابه "معذّبو الأرض" بالتحريض على العنف في مقاومة الظاهرة الاستعمارية "إنّ محو الاستعمار حدث عنيف دائما"، فمهما قلّبت تلك الظاهرة على وجوهها كافة، فإنّما هي "إحلال نوع إنسانيّ محلّ نوع إنسانيّ آخر، إحلالا كليّا كاملا مطلقا، بلا مراحل انتقال" ولا وسيلة لتعديل هذ الخطأ إلا العنف الذي جعله فانون أداة لمقاومة الاستعمار، والتخلّص منه؛ وبذلك خلع عليه طابع القداسة حينما قرنه بالتحرير من عبء المستعمر. أصبح العنف رهانا على الحرية، وطريقا إليها، فمن دونه سوف ترزح الشعوب تحت نير مستعمريها، فليطلق عنف الحرية، فلا يُكافأ العنف الاستعماري إلا بعنف التحرير الذي يخلّف شعورا بالشفافية الإنسانية. العنف عند فانون قوة مطهّرة للذات "قوّة تعيد الاعتزاز واحترام الذات إلى الوطنيين الأصليين الذين استُعمروا".
ومع أن فانون دعا للأخذ بالعنف، لكنّه قيّده بقيدين: اجتماعي وتاريخي: أن يكون عنفا جماعيا وليس فرديا، وأن تتبنّاه الشعوب المستعمرة ضد المستعمرين، وبذلك لم يدعُ فانون لعنف فردي منفلت لا غاية له، إنما قرنه بشرط الحرية، وجعله وسيلة تبلغ بها الشعوب مرفأ الانعتاق، لا غاية للانتقام الأعمى من الخصوم. وهذا العنف، فضلا عن كونه أداة تتحرّر بها الشعوب من أصفادها، وذلك مكسب عظيم الأهمية في تاريخها، فله وظيفة جليلة الشأن، فهو "يصهر القبلية والإقليمية، ويشدّ أبناء المجتمع بعضهم إلى بعض، ملزما كلّ فرد بواجبه تجاه نفسه، ونحو الآخرين". عنف فانون مقترن بالتجربة الاستعمارية، وهو يزول بزوالها، ويؤدي هذا الضرب من العنف إلى نزع الشعور بالنقص الذي رسخته التجربة الاستعمارية في نفوس المستعمَرين تجاه المستعمِرين، فيكون عنفا طارئا، وليس عنفا خالدا في طبع الإنسان. إنه من نتاج العبودية الاستعمارية، وهو وسيلة للتطهّر آثامها المشينة، وينبغي أن يتلاشى ويضمحل بتحقيق الغاية المرجوّة منه، فقد فرضته ظروف خارجية على الشعوب المستعمرة، وسوف يزول بزوال تلك الظروف. هذا ترخيص ثوري يعطي للمظلوم حق الردّ بالعنف على الظالم، فحيثما يكون هنالك مستعمِر ومستعمَر فلا مهادنة بينهما، بل مكافأة العنف بالعنف، وهو أمر لاذت به معظم الشعوب المستعمَرة في العصر الحديث، حينما نزعت عنها السيطرة الاستعمارية.
العنف عند فانون قوة مطهّرة للذات قوّة تعيد الاعتزاز واحترام الذات إلى الوطنيين الأصليين الذين استُعمروا
وإذ لوثّت التجربة الاستعمارية العالم الحديث بالعنف احتلالا، واستغلالا، وعبودية، فقد منحت الحقّ للشعوب المستعمرة بممارسة العنف، وطبقا لمقترح فانون فقد تحققت غاية العنف باستعادة كثير من الشعوب لحرياتها، وحقوقها، وكرامتها، ولم يهمل السرد هذه العملية المركّبة من العنف والعنف المضاد، وإذ شاع القول حول آداب مقاومة الاستعمار في كثير من بلاد العالم، وما طواه من عنف هادف إلى التحرير، مما لا يستدعي الوقوف عليه في هذا السياق لشهرته وذيوعه، فيلزم الانصراف لمعالجة صلة السرد بالعنف الاستعماري، فقد بذرت أول رواية إنجليزية في العصر الحديث بذرة ذلك العنف، وصوّرت تبعاته. قصدت بها رواية "روبنسون كروزو" لدانييل ديفو التي صدرت في عام 1719م، وبها افتتح السرد الاستعماري طريقه إلى الآداب السردية الحديثة، وهو سرد يتعرّض للكيفية التي أخذت الإدارات الاستعمارية في علاقاتها مع الشعوب المستعمَرة، إما بإعادة تأهيلها بالقوة على وفق قيمها الغربية، أو بإرغامها على الامتثال لما تريده منها، أو بمحو وجودها باتباع سياسة الإبادة الجماعية التي مارستها في غير قارة من قارات العالم. وتتذرع تلك الإدارات بذرائع شتّى تبدأ بدعوات إصلاح العادات، وتعديل المعتقدات، وتنتهي بتملّك الأرض وما عليها من البشر والثروات، وقد أخذت بهذا الضرب من العنف معظم الإدارات الاستعمارية في العصر الحديث، غير أن كروزو لم يطبق هذا البرنامج بكامله لكونه فردا وليس إمبراطورية، فاجتزأ منه إجرائين خطيرين فوّض بهما لنفسه حق السيطرة الناس، والسيادة على المكان، أولهما التأهيل الأخلاقي، وثانيهما التملّك بالقوة، أي تأهيل المقيم الأصلي في أرضه على وفق النظام القيمي للدخيل الطارئ، وتعليمه لغته، وتلقينه معتقده، واستغلال جهده، وخلع اسم عليه، وتحويله إلى تابع بالعنف، ثم الانتقال، بعد ذلك، إلى تثبيت حق امتلاكه، وأرضه امتلاكا صرفا لا شائبة فيه.
صار من نافلة القول بأن رواية "روبنسون كروزو" هي النسخة الاستعمارية الأولى لتجربة العنف خارج المجال الغربي، ومع ذلك فقد واربت في كشف تفاصيل العنف الملازم للتجارب الحقيقية المناظرة لهذه التجربة المتخيلة، فاكتفت بوصف ثمرتها الناضجة التي يتعذّر قطفها من دون التمادي في العنف، فقد كان الوافد فردا، وليس حملة عسكرية تعبر البحار من أجل بسط سيطرتها على أرض الآخرين، وكان المقيم الأصلي شخصا واحدا، وليس شعوبا كاملة، واستغرق التأهيل وقتا طويلا، وهو يختلف عن عملية التغيير السريع، والاستئصال المتعجّل للقيم والمعتقدات، فكل ذلك من المكاسب المتأخرة للتجربة الاستعمارية التي اتخذت العنف وسيلة لإرغام الآخرين على قبول ما تريد. وانتهت الرواية بما تنتهي به الخطة الاستعمارية في بسط الهيمنة على الأوطان والشعوب. ولم يحدث أن قامت علاقة مع الآخرين غايتها السيطرة عليهم باللين واللطف، فقد اختطت تلك العلاقة عُرفا يقوم فيه الغالب على إرغام المغلوب بالقوة، وهي قوة تتضمن مزجا من القسوة والخشونة تؤدي، إما إلى الخضوع، وإما إلى الموت.
والخضوع هو نوع من الإذعان والرضوخ اللذين يشترطان حضورا للعنف الاستعماري الذي يكبح التمرد والعصيان، وهدفه إحداث تغيير في العلاقات، والولاءات، والانتماءات، تنتهي بإحلال التبعية للحواضر الاستعمارية، وهذه سمة عامة لازمت التجربة الاستعمارية عبر التاريخ، وأما الموت فهو اللجوء إلى القتل الذي تمثله الإبادات التي تعرّضت لها الجماعات الأصلية في غير مكان، وبتخريب هذه المقومات تتلاشى الجماعة الأصلية التي تباد إما على عجل بالموت، وإما ببطء عبر التهجير، والاعتقال، والعزل، وهذان الإجراءان يتخذان من العنف وسيلة لهما.
وشكّل المكان النائي مقوّما من مقومات السرد الاستعماري حيث تكتسب المغامرة طابعها الفريد في أرض نائية؛ ففي تلك البقاع القصيّة تدور الأحداث الأساسية، وفيها تستردّ الشخصيات الوافدة هيبتها بالعنف الذي تتدرّع به، وفيها تفقد الشخصيات الأصلية هيبتها بالخوف، فتتقلّب المصائر، وتتغير العلاقات، وقدم "كروزو" مثالا ممتازا على هذا الموضوع، فقد حاز على أرض الآخرين بالشدّة والعزم، وامتلكها بالقوة المسلّحة: "إنني ملكٌ على كلّ هذه البلاد بشكل غير قابل للإلغاء، وإنّني أتمتّع بحقّ الملكيّة، وإذا استطعت نقل ملكيّة هذا المكان، يمكن أن أحصل عليه بالوراثة بشكل كامل كأيّ مالك مزرعة في إنجلترا". وزاد على ذلك، بأن قال "كنت أمتلك كلّ ما أنا قادر على التمتّع به، ويمكن حين يحلو لي أن أدعو نفسيّ ملكا أو إمبراطورا على البلاد التي أمتلكها بكاملها". بحسب المصالح الاستعمارية لا فائدة من مكان مهجور، تشترط المِلكية تأهيلا للمكان بمن فيه وعليه، وجعله مستعمرة مفيدة يكافئ فيها المالك جهده، وهو ما انتهى إليه "كروزو" الذي أصبح مالكا بالمعنى الشامل للتملّك الاستعماري "صارت جزيرتي مأهولة، واعتقدت أنّني غنيّ بالتابعين، وغالبا ما تخيّلت أنّني ملكٌ على البلاد بأكملها، ولديّ حقّ لا يشكّ به بالسيادة، أمّا بالنسبة إلى رغبتي فهم خاضعون بشكل كامل كما هو واضح: كنت سيّدا مطلقا وسانًّا للقوانين؛ وكلّهم كانوا مدينين بحياتهم لي، ومستعدّين للتضحية بها لو اقتضى الأمر من أجلي".
وكما ذكرتُ في "موسوعة السرد العربي" فقد قام التمثيل السرديّ في هذه الرواية "بتهديم نسق ثقافيّ أصليّ بُني على مفهوم الاندماج بالطبيعة، وأحلّ مكانه نسقا آخر قام على مبدأ السيطرة عليها، وذلك أفضى إلى علاقة مقلوبة، فقد أصبح الملوَّن وهو المواطن الأصليّ تابعا، والأبيض الوافد متبوعا، فمديونيّة المعنى التي فرضتها القوّة جعلت الأوّل مدينا للثاني، وصوِّر الملوَّن بأنّه متوحّش وجاهل، بُعث من طيّات النسيان، وأُدرج في سياق الكينونة البشريّة حينما امتثل لقيم الرجل الأبيض. ثمّ انكشف المغزى المتواري خلف الأحداث والشخصيّات وروح المغامرة، فحينما أفلح الأبيض في العودة إلى مسقط رأسه، ترك أرضا معمورة، واصطحب معه عبدا مسمّى له تاريخ ولغة وعقيدة وقيم وسلوك صنعها جميعها الأبيض؛ فبظهور الرجل الأبيض في عالم الملوّنين اختلّ التوازن، ووقع تضادٌّ بين عالمين متباينين، تضادٌّ في القيم، والأخلاق، والثقافة. فلا حلّ إلا بإعادة إنتاج جديدة للعالم طبقا لمعايير القيم الغربيّة. وقد أظهر السرد كفاءة استثنائيّة لقيم "كروزو" المتحضّر وقصورا واضحا في قيم "المتوحّشين". وبدون ردم هذه الهوّة سوف تصل العلاقة بين الطرفين إلى طريق مسدود، ثمّ لا بدَّ من انتصار الخير على الشرّ، فرسالة الخير البيضاء ينبغي أن تُنقش في كلّ قلب ينقصه الشرط الإنسانيّ في عالم الشرّ الملوّن، لينتقل بها من مستوى الوحشيّة إلى مستوى المدنية، فينبغي تدجين "فرايدي" وتكييفه واستيعابه، ليس من أجل أن يستقلّ بها بنفسه ويكون حرّا، إنّما ليخدم سيّده، ويكون تابعا له، وهذا يسوّغ حالة الاسترقاق والعبوديّة".