أيّة وظيفة يؤدّيها الإعلام؟
عادةً في الثّقافة الجماهيريّة، يتمّ اعتبار الإعلام عاملاً من عوامل التغيير نحو واقعٍ أفضل ممَّا هو معاش في هذه اللحظة الرّاهنة؛ ولكن حتى نتحقق مِنْ هذه الفرضيّة المطروحة على طاولة النقاش، لا بدّ لنا أن نعود إلى تاريخ تطوّر نظريّات الاتصال في القرن العشرين التي ارتبطت بدورها ارتباطاً وثيقاً بتطوّر النظريّات الفلسفيّة.
يرتكز الموضوع المطروح على سؤال جوهريّ يتكوّن مِنْ أكثر مِنْ شق: هل الإعلام يؤدّي وظيفة؟ وما نوع هذه الوظيفة؟ ومَنْ تخدم؟...للإجابة عن هذه الأسئلة، سنقارب الموضوع مقاربةً تاريخيّة، لعلّنا نصل إلى أُطرٍ تمكّننا من فهم حيثيّات الموضوع، والتحقق من صحّة الفرضيّة أو من عدم صحّتها.
جاءت مدرسة الدراسات الثقافيّة في بريطانيا في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، كامتداد لأطروحات مدرسة فرانكفورت النقديّة
المقاربة التاريخيّة:[2]
في القرن التاسع عشر، كان الأوروبيّون هم أكبر المهتمّين في علوم الاتصال، وبرز عالِمان هما: الإيطاليّ سيبيو سيغل Scipio Sighele (1868 ـ 1913)، والطبيب الفرنسي المتخصّص بالأمراض النفسيّة[3] غوستاف لوبون Gustave Le Bon (1841 ـ 1931)، وقد تبنَّى كلّ منهما الرؤية القائلة بإمكانيّة التحكّم التوجيهي والتضليلي في المجتمع.[4]
علماً أنَّ هذه الحقبة يتمّ تصنيفها على أنَّها حقبة يمينيّة، لم تكن تؤمن بمحوريّة الشعوب وبنضالاتها، لذلك نرى أنَّ كتاب غوستاف لوبون "سيكولوجيّة الجماهير" كان يجسّد التيّار السائد والمسيطر وقتذاك، بما في ذلك من يقومون على وسائل الاتصال.
عام 1913م، تمَّ تأسيس أوّل معهد لبحوث الاتصال الجماهيرّي في الولايات المتحدة الأمريكيّة، وسُمّي "مدرسة شيكاغو"[5]، وهنا أصبح الاتصال علماً قائماً بذاته، وكان المعهد يقوم على يد علماء أوروبيين في غالبيتهم. إنَّ نظرة القائمين على مدرسة شيكاغو قائمة على رأي مفاده أنَّ بحوث الاتصال يجب أنّ تؤدّي الوظائف التالية:
1- اعتبار المدينة كمختبرٍ اجتماعيّ[6]، تعمل على صهر المهاجرين الذين جاؤوا من مختلف بقاع الأرض تحت مظلة الهويّة الأمريكيّة التي تُعَدُّ وقتذاك في طور التشكّل؛
2- تكريس نظريّة المنفعة، وسيطرة شركات متعدّدة الجنسيّة Multinational corporation، فبما أنَّ سكان الولايات المتحدة الأمريكيّة، من الناحيّة الاجتماعيّة، هم عبارة عن مهاجرين، فلا بدّ من إيجاد شيء يجمعهم، وهو ما تحقق في نظريّة المنفعة التي تخدم مصالح الشركات متعدّدة الجنسيّة؛
3- التأثير في الانتخابات، وهذا ما تحقق في انتخاب فرانكلين روزفلت.
من خلال استعراض الوظائف الثلاث الرئيسة لمدرسة شيكاغو، يتضح لنا أنَّ علم الاتصال يؤدّي وظائف عدّة، ولكنّها وظائف تخدم بالدرجة الأولى الشركات متعدّدة الجنسيّة من جهة، وخدمة رجال السياسة من جهة أخرى، وهنا ندخل إلى إشكاليّة كبرى وهي العلاقة بين رأس المال والسلطة، ولا نعتقد أنَّ هذا هو المقام المناسب لمناقشة هذه الإشكاليّة.
وفي سياق ذي صلة، يقول زبيغنيو بريجينسكي[7] Zbigniew Brzezinski (1928 ـ 2017): "بعد عصر المدفعيّة، وبعد عصر التجارة والمال، باتت تقنيات الاتصال وشبكاته تمثل الجيل الثالث من هيمنتنا على العالم".[8]
هنا لا بدّ من الإشارة إلى مفارقة مهمّة من مفارقات المدرسة الأمريكيّة، وهي أنَّ هناك تيّاراً كان يؤمن بأنّ المتلقي ليس بهذه السذاجة التي يُنظر إليها، ودعا إلى الاهتمام بالثقافة، ولكنَّ المسيطرين على هذه المدرسة عملوا على إقصاء هذا التيّار التنويريّ، لسبب وحيد: لأنَّهم لم يضعوا اعتباراً للشرط الأساسي للمدرسة، وهذا الشرط ينصّ على أنَّ الاتصال-الإعلام وظيفة تخدم أوّلاً رأس المال، وثانياً السلطة السياسيّة.
***
أسّس الماركسيّون الألمان في عشرينيّات القرن الماضي بقيادة الفيلسوف ماكس هوركهايمر "معهد البحث الاجتماعيّ" التابع لجامعة فرانكفورت، خلال حكم جمهوريّة فايمر، ويعتبر هذا المعهد أوّل مؤسّسة ألمانيّة بحثيَّة تعلن صراحةً توجّهها الماركسي، ولكن مع وصول هتلر إلى السلطة عمل على إقالة هوركهايمر ومعه مجموع الأعضاء المؤسّسين من أصول يهوديّة، ورغم النفي ظلّ المعهد موجوداً، إلّا أنَّه بُعيْد الحرب العالميّة الثانية عاد المعهد إلى العمل في المدينة، ولكنّه قدّم بعض التنازلات، وكان أبرزها التخلّي عن النفَس الثوريّ اليساريّ.
إنَّ مدرسة فرانكفورت "النقديّة" طرحت مسألة الصناعات الثقافيّة؛ أي هل يمكن تحويل الثقافة إلى صناعة؟ وبالتالي إخضاعها إلى سلطة شركات متعدّدة الجنسيّة (رأس المال)، وإذا قبلنا بذلك ـأي أنَّها صناعةـ فستخضع إلى التنميط، وإلى قانون اقتصاديّات الحجم، وقانون السوق، وإنْ خضعت لهذا المنطق، هل هي ثقافة بالمعنى التنويريّ؟
أدورنو وهوكهايمر قدَّما في منتصف الأربعينيّات دراسة نقديّة للإنتاج الصناعي للمواد الثقافيّة، باعتبارها ظاهرة تهدف إلى تحويل الإنتاج الثقافي إلى سلع، حالها حال الإنتاج الصناعيّ للسيّارات أو أيّة سلعة أخرى. بالإضافة إلى ذلك، شهدت تلك الحقبة الزمنيّة بروز الفيلسوف الألمانيّ هربرت ماركوز Herbert Marcuse (1898 ـ 1979)، صاحب كتاب الإنسان ذو البُعد الواحد، ومنظّر ديالكتيك العقل.
هنا دارَ نقاشٌ كبير بين علماء الاتصال من أمثال الفيلسوف الألماني تيودور أدورنو Theodor Adorno([9]) (1903 ـ 1969)، وبول لازارسفيلد Paul Lazarsfeld (1901 ـ 1976) المولود في فيينا ـ النمسا، حول وظيفة بحوث الاتصال، فنشب خلافٌ بينهما وأدّى إلى انفصالهما، وذلك بسبب أنَّ أدورنو لم يرضَ بتدخل (الزبون) في مضمون البحوث التي كان المركز يُصدرها، وأعتقد أنَّهم لا يُريدون التطرّق إلى أسئلة من قبيل "مَنْ؟ وكيف؟ ولماذا؟" الأمر الذي يُفقد البحوث مصداقيّتها، ولكنَّ لازارسفيلد كان أكثر براغماتيّة (نفعيّة)، وهذا التناقض يعكس الخلاف الجوهريّ بين مبادئ المدرسة الأمريكيّة الوظيفيّة، وبين مبادئ مدرسة فرانكفورت الألمانيّة النقديّة.
لا تتوافق مصلحة صاحب رأس المال مع مصلحة عامّة الشعب، لهذا لا يُعَدُّ الإعلام عاملاً من عوامل التغيير "الشعبيّ"
إنّ مدرسة فرانكفورت النقديّة أحدثت انقلاباً كبيراً، ليس فقط على المستوى الثقافيّ والنقديّ، بل حتى على مستوى بحوث الاتصال، وهذا التيّار جاء على النقيض ممّا أسّست له مدرسة شيكاغو الوظيفيّة، بل وحاربت الرؤية الرأسماليّة للثقافة والمجتمع... والإعلام أيضاً.
***
امتداداً لأطروحات مدرسة فرانكفورت النقديّة، وبالرؤيّة اليساريّة نفسها المناهضة للمدرسة الوظيفيّة الأمريكيّة التي تجسّد النظريّة الرأسماليّة، جاءت مدرسة الدراسات الثقافيّة Cultural Studies في بريطانيا في ستينيّات وسبعينيّات القرن الماضي، وقد اختصّت بالنقد الأدبيّ في بادئ الأمر.
إنَّ المدرسة البريطانيّة المتمثلة بمركز برمنغهام المعاصر للدراسات الثقافيّة CCCS، ركّزت على محوريّة المتلقي في العمليّة الاتصاليّة، وتُمَثِّل أعمال المفكر الجامايكي الأصل سيتورات هال Stuart Hall (1932 ـ 2014)، حول الدور الإيديولوجيّ لوسائل الإعلام، لحظة مِفصليّة في تَشكّل نظريّة قادرة على دحض مُسلّمات التحليل الوظيفيّ الأمريكيّ، واستحداث شكل مختلف من البحث النقديّ حول وسائل الإعلام.[10]
والتحوّل الكبير الذي حدث يرتكز على محوريّة المتلقي في العمليّة الاتصاليّة وفي عمليّة التغيير المنشود؛ فالمدرسة البريطانيّة دعت إلى التوجّه لدراسة المتلقي، والذهاب إلى المدارس والجامعات، وهذا يقف على النقيض تماماً ممّا ركّزت عليه المدرسة الوظيفيّة الأمريكيّة، التي ارتكز عملها على "المرسِل"؛ أي السلطة سواء أكانت اقتصاديّة أم سياسيّة. وهنا نستشهد بالمقولة المشهورة للمدرسة البريطانيّة: لا تسألوا ماذا تفعل الميديا في المتلقّي، اسألوا ماذا يفعل المتلقّي في الميديا، وهذه المقولة استندت إلى دراسات علميّة للأحياء العمّاليّة في بريطانيا.
هذا التيّار التنويريّ كان مصاحباً لبروز نظريّة موت المؤلف للفيلسوف الفرنسي رولان بارت Roland Barthesk (1915 ـ 1980)، وهي تعني بطريقة أو بأخرى موت المرسل.
***
آخر المفارقات المتعلقة بتاريخ تطوّر نظريّات الاتصال، هو التحوّل العالميّ الذي حدث في العقد الأخير من القرن العشرين، فبعد انهيار جدار برلين، وبالتالي الكتلة الشرقيّة والاتحاد السوفيتيّ، وانحسار الفكر اليساريّ، ترسّخ النظام العولميّ بقيادة الولايات المتحدة الأمريكيّة، وبالتالي الإعلام المعولم، الذي يخدم الشركات متعدّدة الجنسيّة، ويخدم السوق "الحرّة"، وبالتالي عدنا إلى المربّع الأوّل، حيث المدرسة الأمريكيّة الوظيفيّة، وبدأت عمليّة اتخاذ القرارات سواء الفرديّة أو الجماعيّة بناءً على "العقل النقديّ" تنحسر شيئاً فشيئاً في ظلّ تنامي المدّ العولميّ.
***
من خلال الاستعراض التاريخيّ لتطوّر نظريات الاتصال، نصل إلى النتائج التالي ذكرها:
ـ الإعلام يؤدّي وظيفة تُعَدُّ عاملاً من عوامل التغيير نحو واقع أفضل ممّا هو معاش في هذه اللحظة الراهنة، وذلك وفق أطاريح مدرسة فرانكفورت النقديّة، ووفق أطاريح المدرسة البريطانيّة، ولكنّنا رأينا كيف أنَّ هذا التيار النقديّ لم يرَ النور، ولم تتح له الفرصة لترجمة ما نُظر له في الدوائر السياسيّة على المدى الطويل.
- الإعلام يؤدّي عدّة وظائف، ولكنَّ هذه الوظائف تخدم رأس المال والسلطة السياسيّة، وفي التطبيق العمليّ للنظريّة الليبراليّة. التواطؤ يحدث على أرض الواقع بين أصحاب رأس المال وبين رجال السياسة، وليس كما نظّر له الفلاسفة الليبراليّون... وهنا نطرح السؤال التالي: هل مصلحة صاحب رأس المال أو مصلحة رجل السياسة تتوافق مع مصلحة عامّة الشعب، حتى يحدث التغيير المنشود عن طريق الإعلام؟ في رأيي لا تتوافق بل تتعارض تعارضاً جوهريّاً، لذلك لا يُعَدُّ الإعلام عاملاً من عوامل التغيير "الشعبيّ" وفق المدرسة الأمريكيّة المهيمنة حاليّاً.
انفوغرافيك توضيحي ـ إعداد بشير الكبيسي
[1]- نشر هذا المقال في مجلة ذوات الصادرة عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود، عدد 50
[2]ـ ملاحظة: لن أقف على تاريخ نظريّات الاتصال بالتفصيل، ولكنّي سأقف عند بعض المحطّات التي تهمّنا في معالجة هذا الموضوع.
[3]ـ ربّما سيستغرب القارئ من اختصاص العالم غوستاف لوبون، كونه متخصّصاً في الأمراض النفسيّة، وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّه في تلك الحقبة الزمنيّة، لم يتشكل الاتصال ـ الذي من وظائفه الإعلام ـ كعلمٍ قائمٍ بذاته، وإنّما دأب العلماء وقتذاك على ربط الاتصال بالعلوم الأخرى، وواحد منها هو علم النفس.
[4]ـ أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريّات الاتصال، ترجمة: د. ناصرالدين العياضي و د. الصادق رابح، المنظمة العربيّة للترجمة، 2004، ط3، ص34
[5]ـ المدرسة الأمريكيّة سُمّيت باسمين: الأوّل "التجريبيّة"، لأنّها اختارت المدينة فضاءً لممارساتها البحثيّة التجريبيّة، والاسم الثاني "الوظيفيّة"، وهذا يعني أنَّ الاتصال يؤدّي وظائف عدّة.
[6]- أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريّات الاتصال، ص39 وما بعدها.
[7]ـ مستشار الأمن القومي لدى الرئيس الأمريكيّ جيمي كارتر بين عامي 1977 و1981
[8]ـ انظر: الفضائيّات الإخباريّة العربيّة بين عولمتين، حياة الحويك، منتدى المعارف، 2013، بيروت.
[9]ـ انتقد أدورنو الذي يُعَدُّ من أكبر منظّري المدرسة الألمانيّة النقديّة، في دراسته للبرامج الموسيقيّة الإذاعيّة، وضع الموسيقى التي تمّ الحطّ من قدرها بحيث لم تعد إلا تزييناً للحياة اليوميّة، كما أنّه صاحب مصطلح "السعادة المغشوشة للفن التَّأييدي"؛ بمعنى الفن الموالي المندمج مع الأنساق القائمة.
[10]ـ أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريّات الاتصال، ص122