الأولياء الصالحون في المغرب العربي: آلهة إغريقية تأخر بها الزمن
بكر حمادي
«ما تنكّرش» أي لا تنكر أو لا تكذِّب ، يستخدمها أبي ضد «قليلي النية» الذين لا يعتقدون بوجود الأولياء وكراماتهم، غاضبًا يحذرك من بطش الله وعقوبة الخروج عن ملته، يمقت من يقزِّم الأولياء ويسخر منهم أو يسب مقامهم وزمانهم، يجاهر في الاستغفار عن إثم الشتم الذي تقترفه قائلًا: «حاشا رجال البلاد، وحاشا رجال الزمان».
كل شيء مسموح به إلا رجالٌ آمنَ بهم وصَدَقوا هم ما عاهدوه عليه. «الأولياء الصالحون خطٌّ أحمر»، يقول أبي، وأرد عليه متهكمًا: «وقبَّتهم خضراء مطلية بالجبس».
كيف بوسع شخص ميت منذ قرون أن يكافح من أجلك أنت الحي المستمتع بلذة البقاء والاستمرارية؟ لو كنتُ مكانه لحسدتُك على وجودك أصلًا. لماذا اندثرتْ خوارقهم وكراماتهم في زمن الكاميرا والـHD؟ أم أن هذا التطور الراهن مجرد «رجس» من عمل الشيطان؟
لن نخوض كثيرًا في تعريف الولي، مع إشكالِه في الوعي المعرفي العربي وتباين دلالاته بين المتصوفة والسلفية والشيعة وغيرهم، وسنكتفي بالإشارة إلى من عرفه الناس في المغرب العربي «وليًّا»، وله ضريح وحكايات شعبية يرددها زائروه، ذاهبين إلى سؤال: لماذا حاز الأولياء الصالحون في شمال إفريقيا، والمغرب العربي بالذات، تبجيل الناس وتسليمهم ربما أكثر ممَّا ناله الأنبياء والعارفون؟
أغنية «عبد القادر» للشاب خالد والشاب فضيل ورشيد طه
المطَّلع على الأساطير الإغريقية يجد تشابهًا غريبًا بين تصنيف خوارق الآلهة وتصنيف كرامات الأولياء.
عبد القادر الجيلاني، أو الكيلاني، صاحب الطريقة الصوفية القادرية (470 – 561 من الهجرة)، اختلفوا حول مكان ولادته، لكن أهم الروايات تقول بوقوعها في جيلان شمالي إيران، أو في جيلان العراق، وهي قرية صغيرة قرب بغداد. الجيلاني معروف عند أهل المغرب ببوعلام الجيلاني أو سلطان الأولياء، الذي يقصده الناس ليتوسط لهم عند الله فتُشفى أسقامهم وتُقضى حوائجهم.
تغنَّى بعبد القادر كثير من المطربين، على غرار الشاب خالد في أغنية «يا جيلالي يا مولى بغداد»، وجمال لعروسي في رائعته Étoile Filante»، وقبلها بأربع سنوات كان الشاب خالد قد عاد وخلَّده مع باقي الأولياء الصالحين، مثل أبي مدين المغيث وسيد الهواري وسيدي عبد الرحمن، في ملحمة «عبد القادر يا بوعلام ضاق الحال عليَّا»، رفقة الثنائي الشاب فضيل ورشيد طه.
«يا أهل النوبة».. «مولاي عبد القادر».. «يا أولياء الله».
يكاد الله ينعدم في نداءات المتضرعين، ممَّا يبرز تمسُّك المؤمن بمعتقدات الولية تمسُّك الغريق بقشة، فالمطَّلع على الأساطير الإغريقية يجد تشابهًا غريبًا بين تصنيف خوارق الآلهة وتصنيف كرامات الأولياء.
زيوس، المتحكم في السماء والأرض والشجر، يلقَّب بملك الآلهة أو أبو الآلهة، يقابله عبد القادر الجيلاني سلطان الأولياء، صاحب الوسيلة والسر الرَّباني، قيل إنه التقى بومدين شعيب وتحداه في تحريك شجرة، فدعا عبد القادر ربه أن يحرك الشجرة فتحركت شبرًا ، أما بومدين شعيب فكان ذكيًّا وهمس في قلبه: باسم الله وباسم عبد القادر مولاي تحركي، فتحركت أمتارًا حتى ظنها الرائي تجري بجذورها.
لم يقتصر عالم الأولياء على الرجال، فكان للنساء حضور في تاريخ الأولياء الصالحين كذلك، مثل الولية الحاجة مُغنية، التي عُرفت بزهدها وقوتها وتحملها للسفر والصعاب، وتعلمت القتال، وقيل إن ابنها قاتَل مع الأمير عبد القادر، وحفيدها كان مجاهدًا مع القائد المغربي عبد الكريم الخطَّابي.
الحاجة مُغنية، التي زعموا أنها ابنة عبد القادر الجيلاني، تقابلها أثينا ابنة زيوس، حامية المدينة وإلهة الحرب والقوة.
التبرك بالحاجة السَّاسلية.. أرتميس في الجزائر
تمثال للإلهة الإغريقية أرتميس - الصورة: Marie-Lan Nguyen
أرتميس إلهة الإنجاب والعذرية والخصوبة وحامية الأطفال، وكانت تسمى سيدة البراري وأم الحيوانات، تقابلها الحاجة السَّاسلية من عرش ساسل، التي اشتهرت بضريحها المهجور قرب مدينة الوادي في الجزائر.
يُحكى أن الحاجة السَّاسلية خرجت وهي شابة في العشرين ولم يجدوا لها أثرًا بعد ذلك، ورجَّح الناس أنها اختُطفت من قِبل معشر الجن، وتزورها النسوة الآن من أجل تزويج بناتهن المتقدمات في السن، وكذلك الشفاء من الأمراض التناسلية، إذ تحك النساء أفخاذهن وفروجهن في تراب مقامها، وتتبركن بجدار قبتها الذي امتلأ بأسماء العشاقوبأشكال القلوب المختَرقة بالأسهُم.
بوسايدون وعبد المؤمن: مرويات شعبية وميثولوجيا إغريقية
بوسايدون إله البحر في الميثولوجيا الإغريقية، يقابله سيدي عبد المؤمن، الذي تحكي المرويات الشعبية الصوفية أن البحارة الرومان اختطفوه في سفينة خلال تعبُّده بقرب منارة بحرية على البحر المتوسط، لم تحدد الحكايات مكانها تحديدًا، وحينما ابتعدوا عن الشاطئ قرأ عبد المؤمن تعويذة فهاج موج البحر وفقدت السفينة سيطرتها ودخلت دوامة، فلم يكن بوسع البحارة إلا العودة أدراجهم وإرجاعه إلى المنارة قبل أن تغرقهم لعنته.
أفروديت ولالَّة ستِّي: الحب والجمال
مقام لالَّة ستِّي في مدينة تلمسان - الصورة: Enigmas
أولياء الله الصالحون ما هم إلا آلهة حديثة، أو لنقل إنهم الصيغة الإسلامية للحضارة الإغريقية.
اقترن الجمال بأفروديت في اليونان ولالَّة ستِّي في تلمسان غربي الجزائر. أفروديت إلهة الجمال والحب التي انبثقت من صَدَفة بحرية في جزيرة قبرص، تقابلها لالَّة ستِّي التي اشتهرت بحسنها وجمالها تتغنَّج بعرشها في الهضبة المرتفعة، يفد إليها الناس حبًّا وحنينًا لا طلبًا للحاجة والغوث.
مقام لالَّة ستِّي أصبح مع الوقت فضاءً سياحيًّا وبرجًا يطل على مدينة تلمسان بأكملها، وكان قبل الميلاد كما يزعم أهالي تلمسان مسرحًا شاهدًا على لقاء النبي موسى مع الخضر، حيث أقام بها الجدار المعروف.
سيدي العامري: إخماد الفتن على طريقة آريس
آريس، الذي لم يكن بارعًا في القتال لكنه خَبِر فنون الحرب، يقابله سيدي العامري الذي اشتهر بإخماد الفتن والحروب.
قيل إن المقبرة التي تحمل اسم سيدي العامري في تلمسان حاليًّا كانت ثكنة عسكرية للجنود الفرنسيين، الذين لم يفلحوا في إطلاق قذيفة منها باتجاه القرى الصغيرة المتناثرة في الجبل، وأخمد العامري مدافعهم وقذائفهم، فلم تشهد تلك القرى أي معارك طيلة الفترة الاستعمارية.
أبولو إله الحكمة والشفاء والفلسفة يقابله بومدين شعيب، أو بومدين المغيث كما هو معروف عند مريديه.
يزور بومدين شعيب يوميًّا عشرات من أهالي مدينة تلمسان الجزائرية وما جاورها، وغالبًا ما تكون زيارته يوم السبت، ويطرق الزوار الباب سبع مرات، ويدخلون حفاة الأقدام ليشعلوا الشموع ويترجون بومدين قائلين: «يا سيدي، جئنا ليك من بعيد فلا ترجعنا خائبين»، ولا زال العارف بأبي مدين صغيرًا كان أو كبيرًا يدندن بعفوية: «سيدي بومدين جيتك قاصد، أجيني في المنام نبرا»، أي: جئتك قاصدًا، ائتني في المنام أُشفَ من مرضي.
أولياء الله الصالحون ما هم إلا آلهة حديثة، أو لنقُل إنهم الصيغة الإسلامية للحضارة الإغريقية الموغلة في التأثير على الأراضي المغاربية، وهو ما يدفع المتعنتين إلى الغضب والثورة ضدها، لكنه المجال الذي يفتح شهية الباحثين إلى فهم ما هو أعمق في الطبيعة الإيمانية للشعوب المغاربية.
المصدر: https://manshoor.com/people/holy-sheikhs-and-greek-gods/