من يُواسي المعذّبين: الدّيانات أم الفلسفات؟

سعيد ناشيد

 

ورد مصطلح العزاء في “الكتاب المقدّس” للديانة المسيحيّة مرّات كثيرة، وهو يحمل نفس الدّلالة في كلّ المرّات، ويحيل إلى الخلاص الّذي يمنحه الله للإنسان سواء بنحو فردي أو جماعي، وذلك في سياق وضع بشري محفوف بمختلف أنواع المحن والآلام الّتي يصعب تبريرها.

على سبيل المثال:

تقدّم المسيحيّة حدث ولادة المسيح باعتباره “عزاء لبني إسرائيل” بعد أن انقلبت عليهم الدّنيا في آخر (العهد القديم)، وصاروا في الشّتات أسرى وحزانى ويتامى وثكالى، كما أنّها تُقدّم مشهد صلب المسيح باعتباره عزاء للبشريّة جمعاء طالما يجسد نموذج الألم المطلق، ذلك الألم الّذي لا يمكن أن يكون إلاّ من النّوع الإلهي، ولا يمكن أن يتحمّله غير “ابن الله”، وبالتّالي يمثّل أيقونة عزاء لسائر المتألمين على وجه البسيطة. إنّنا لنعلم بحكم الخبرة أن لا أحد بوسعه أن يعزينا في آلامنا إلاّ من تحمل آلاما أكبر من آلامنا،  لذلك ليس هناك من هو أقدر على تعزية المعذّبين في الأرض غير “ابن الله المعلّق على الصّليب”، أيقونة المتألّمين.

فضلا عن ذلك كلّه، تعتقد المسيحيّة أنّ دور الإله الّذي هو “الأب”، وهو “أبانا الّذي في السّماء”، أن يعزينا نحن أبناءه “المذنبين”، ويكفكف دموعنا، ويهدئ من روعنا، ويمنحنا رحمة العزاء وعزاء الرّحمة، وذلك في سياق وجود ليس سوى عقاب متوارث عن الخطيئة الأصليّة منذ (سفر التّكوين) إلى غاية (سفر الرّؤيا).

بوسعنا أن نختصر معادلة العزاء المسيحيّ في العبارة التّالية:

ليست الحياة سوى دار عذاب طالما أنّها دار عقاب جرّاء الخطيئة الأصليّة، وهي لا تستحق سوى ذرف دموع الأسى والنّدم، لكن، رغم ذلك كلّه، فـ”لا تحزن” أيّها الإنسان الشّقي طالما هناك بشرى عظيمة في أفق مساء “اليوم الأخير” !

من وجهة نظر الفلسفة المعاصرة، والّتي استوعبت خلاصة التّطور الجاري في الطّبيعيات والإنسانيات والجماليات والرّوحانيات، فإنّ عبارة “لا تحزن لأنّ هناك أمل عظيم في الأفق”، عبارة متناقضة من حيث مضمونها، ولها نتائج عكسيّة، وذلك للسّبب التّالي: لا شيء يفاقم آلام الأحزان أكثر من الآمال العظام، طالما أنّها تحوّل حياة الإنسان إلى قاعة انتظار لن تكون في آخر المطاف سوى دوّامة من التّوتر الدّائم. يكفي أن يعاود المرء التّأمل في لحظات انتظاره حتّى يستخلص المعادلة بنفسه.

لكن، رغم استعمال الخطاب الدّيني المسيحي لكلمة العزاء، والّتي تتكرّر في عديد من الأدعية والصّلوات، إلّا أنّ مفهوم العزاء من حيث مبناه ومعناه ليس بمفهوم ديني، كما لم ينجح في التّحول إلى مفهوم ديني، لماذا؟ بكلّ بساطة لأنّ غاية العزاء دفع الأحزان عن الإنسان، غير أنّ اللّجوء إلى ربط الإنسان بوعد مستقبلي عظيم لن يزيده إلّا حزنا وشقاء؛ ذلك أنّ انتظار الخلاص، انتظار الفرج، انتظار البشرى، من حيث هو انتظار، فإنّه يوقع النّفس في فخ التّوتر والاضطراب، أمّا عندما يستغرق الانتظار العمر كلّه فمعناه أنّ الحياة لن تكون سوى قطعة من الجحيم، وهذا أبعد ما يكون عن العيش الحكيم.

في المقابل، يمثّل العزاء مفهوما فلسفيا تشكّل بادئ الأمر في عصر الفلسفة الرومانيّة، قبل أن يتعرّض للنّسيان خلال قرون طويلة، ضمن ما يمكننا أن نصطلح عليه باسم نسيان العيش، وهو النّسيان الّذي رسّخته التّقاليد الدّينيّة تحت طائلة “وعد الآخرة”، ثمّ واصلته الماركسيّة تحت طائلة “وعد الشّيوعيّة”، ثمّ كرّسته الحياة الرأسماليّة المعاصرة التّي جعلت الإنسان أحرص ما يكون على توفير شروط العيش، وبذلك النّحو يهمل العيش تحت طائلة “وعد العيش”.

لدينا شاهد إثبات إجمالي على أنّ مفهوم العزاء مفهوم فلسفي بالأساس، يندرج ضمن حكمة العيش، نذكره على النّحو التّالي:

قبل أن يكون فيلسوفا فقد كان بوثيئوس رجل دولة روماني، ورجل دين مسيحي، لكنّه حين طلب العزاء وهو داخل زنزانة الإعدام، لم يطلبه من المسيحيّة أو من رجال الدّين رغم أنّه كان واحدا منهم، لم يطلبه من السّياسة أو من رجال الدّولة رغم أنّه كان واحدا منهم، بل طلبه من الفلسفة تحديداً، فحاور بعقله المفجوع وجسده الموجوع تاريخ الفلسفة برمّته من أوائل عصر الفلسفة اليونانيّة إلى أواخر عصر الفلسفة الرومانيّة، وأثناء ذلك الحوار الملحمي أنتج كتابه الشّهير (عزاء الفلسفة)، وهو العنوان الّذي يحدّد الوظيفة الأساسيّة للفلسفة في العزاء.

لذلك السّبب، ولأنّ الأمر لا يتعلّق بمفهوم ديني، لم ترد كلمة العزاء في النّص القرآنيّ الإسلاميّ والّذي يُعدّ من بين النّصوص الدّينيّة الأساسيّة للعصر الوسيط، العصر الّذي أعقب العصر الرّوماني مباشرة. أمّا عن بعض الأحاديث الدينيّة الواردة بصيغة تقول “من عزى مصابا فله مثل أجره”، أو في رواية أخرى تقول “ما من مؤمن يعزّي أخاه بمصيبة إلّا كساه الله عزّ وجلّ من حلل الكرامة يوم القيامة”، فإن سندها موصوف من طرف معظم علماء الدّين أنفسهم بأنّه ضعيف. وأيّا يكن، لا يمثّل العزاء في الثّقافة الإسلاميّة تصوّرا دينيا محوريا، ولا هو حاضر ضمن الجهاز المفاهيميّ للخطاب الدّينيّ، مقابل ذلك، تُرك الرّثاء للشّعر، وتُرك الحداد للعادات، وأمّا العزاء فانحسر أمره في نطاق الآداب العامّة.

قبل حلول عصر الدّيانات الموافق للعصر الوسيط، كانت كلمة العزاء قد وردت في نصوص الفلسفة الرّومانيّة بنحو يجعله مفهوما محوريا، واستطاع مفهوم العزاء مع ممثلي الأبيقوريّة الرومانيّة أن يتحرّر من الرؤية السّحريّة للعالم، إلى درجة أنّنا لا نجانب الصّواب حين نعتبر ملحمة لوكريتيوس (في طبيعة الأشياء) نصّا معاصرا لنا بالمعنى الرّوحي. وبالجملة، اتّسم مفهوم العزاء في تاريخ الفلسفة بثلاث خاصيات أساسيّة:

أوّلا، تتجلّى الخاصيّة الأولى للعزاء الفلسفي في أنّه حاول، ولو في حدود متفاوتة نسبيا، استبعاد الرّهان على وجود خلاص نهائي يضمن نجاة الكائن الإنسانيّ في هذا العالم أو إحدى العوالم الممكنة، وبالتّالي فكلّ ما على الإنسان فعله هو أن يتحمّل شرطه التّراجيدي بنوع من المروءة والشّهامة، بعيداً كلّ البعد عن النّهايات السّعيدة لقصص الأطفال، والّتي كلّ ما تفعله أنّها تُضعف قدرة الانسان على الحياة.

ثانيا، تتجلّى الخاصيّة الثّانية للعزاء الفلسفيّ في أنّه يمثّل جهدا ذاتيا يتطلّب التّعامل مع كلّ تجارب الحياة، سواء في الظّروف العاديّة أو العصيبة، باعتبارها فرصا سانحة لكي يتمرن المرء على تقوية قدرته على التّحكم في أفكاره، وانفعالاته، ورغباته، وبنحو يحفظ صحّته، نموه، وقدرته على اتّخاذ القرارات السّليمة سواء في نطاق الحياة الخاصّة، أو في إطار الحياة العامّة.

ثالثا، تتجلّى الخاصيّة الثّالثة للعزاء الفلسفي في أنّه يمثّل خطابا برهانيا يعتمد على الحجّة والإقناع، بواسطة آليات الاستدلال الحسّي والبرهان النّظريّ، وباستعمال المحاورة الّتي يتّخذ فيها التّفكير شكل عقل يحاور عقلا لكي ينموان معاً، بعيدا كلّ البعد عن أي ادّعاء بوجود وصفة سحريّة تعفي الإنسان من استعمال عقله، كما يزعم الكهّان بمختلف أصنافهم.

لا شكّ أنّ العالم مكان للقسوة الّتي يصعب تحملها ولا يمكن تبريرها، وأنّ قوانين الطّبيعة نفسها تبدو كأنّها مسكونة بروح قاسية، كيف لا وقانون البقاء في البراري لا يريد أن يرحم الظّباء الصّغيرة من أنياب السّباع، ولا أن يرحم فراخ الحمام من مخالب الكواسر؟ كيف لا وقانون الأعاصير في الطّبيعة لا يريد أن يرحم الأعشاش الّتي تحضن فراخ العصافير، ولا أن يرحم بيوت المساكين في القرى النّائية؟ كيف لا والوضع البشري لا يريد أن يرحم الأطفال الّذين يسلخهم مرض السّرطان في المستشفيات، ولا أن يرحم الأجنة من التّشوّهات الخلقيّة القاتلة، فيعيش بعضهم لبضع ساعات من الصّراخ الجحيمي، ولا ترحمه الموت إلاّ بعد حصّة عذاب قد تفوق آلام المسيح؟

فأي عزاء يبقى لـ”ابن الله” بعد كلّ هذه الأهوال؟!

لكن، في المقابل، هل للفلسفة ما تفعله؟

هناك واقع لا يمكننا أن نرفعه أو ننكره دون أن نضحّي بصحتنا الجسديّة والعقليّة والرّوحيّة: إنّنا لا نملك غير هذا العالم بشقائه وآلامه وشروره، وفي لحظات السّقوط لن تنفعنا غير أيادينا.

انطلاقا من هذه الخيبة الجذريّة يمكننا أن نعاود البدء من أجل بناء نزعة إنسانيّة جذريّة كذلك.

لا يمكننا أن نغيّر الكثير كما يقول فوكو، وأحيانا لا يمكننا أن نفعل أي شيء كما يقول إميل سيوران، كما ليس مسموحا لنا أن نستمرّ في البحث عن قوى شرّ مفترضة لكي نحمّلها مسؤوليّة كلّ هذه الشّرور الّتي تصيبنا، ثمّ لا يزيدنا ذلك البحث سوى سخط وتذمر وشقاء، لكن هناك شيء أساسي يجب أن نعمل لأجله.

ما هو؟

أن نتحمّل القسوة دون أن نصاب بعدوى القسوة.

غير أنّ التّحمل ـ للتّوضيح ـ ليس موقفا سلبيا، بل خلاف ذلك، أن نتحمّل معناه أن نتفادى استنزاف طاقتنا أو ما بقي منها في ضربات في الفراغ، أن نتحمّل معناه أن نحافظ على قدرتنا على النّمو والسّمو، وبما يضمن إمكانيّة العمل على تحسين الموقف.

معنى ذلك، لكي أتحدّث بضمير المتكّلم وأرفع لبسا آخر، أومن بأن تغيير العالم ممكن، لكن شريطة أن نكفّ عن التّفكير في تغيير العالم، وليس في الأمر من مفارقة؛ لأنّ العالم لا يتطوّر إلاّ من خلال تطوّر رؤيتنا إلى العالم. بمعنى يجب التّركيز على تغيير الكينونة، وهذا هو المطلوب. وبالنّسبة للذين يعنيهم الأمر فبوسعهم استلهام الحكمة القرآنيّة التّي تقول، “حتّى يغيروا ما بأنفسهم” (الرعد 11).

الرّهان واضح، غير أنّ المعادلة صعبة: كيف نتحمّل القسوة دون أن نصبح قساة؟

تخبرنا التّجارب التّاريخيّة أنّ كثيرا من الضّحايا صاروا جلاّدين بدورهم، وكثيرا من المقهورين صاروا قاهرين من جهتهم، وكثيرا من مقاومي القسوة صاروا أشدّ قسوة ممن قسوا عليهم في السّابق، وعلى حدّ تعبير نيتشه، فقد يصبح مصارع الوحش هو الوحش.

تقتضي الرّحمة أن نرفض كلّ التّبريرات الممكنة ـ وغير الممكنة ـ للشّقاء الإنسانيّ. لا شيء يبرر شقاء الإنسان طالما الشّقاء شرّ في ذاته. بهذا النّحو تغدو الرّحمة، والّتي هي القيمة الأخلاقيّة الأساسيّة لحكماء العيش، دافعا للعمل على التّخفيف من الشّرط الدّراماتيكي للوجود الإنسانيّ، وذلك بالتّضامن من أجل جعل الحياة محتملة في كلّ أحوالها وأهوالها، طالما لا نملكها إلاّ مؤقّتا، ولا نملك غيرها.

لهذا السّبب نفهم لِمَ هاجم رجال الدّين في العصر الوسيط الفلسفة العمليّة، والّتي يعبّر عنها التّصوف الفلسفي داخل الحضارة الإسلاميّة؛ فقد كانت غايتهم من وراء ذلك الهجوم ترسيخ ما يسمّيه سبينوزا بالانفعالات الحزينة، والّتي نجملها فيما نصطلح عليه بالمنكرات السّبعة: الخوف، والغضب، والكراهيّة، والأمل، والحنين، والذّنب، والانتقام.

كما لا يخفى كذلك أنّ تلك المنكرات السّبعة تمثّل أعمدة سلطة رجال الدّين على الشّعوب كافّة، في كلّ مكان وزمان.

غير أنّ لحظة احتضار المرء، بكلّ ما تحمله من رهبة وقسوة، تُمثّل لحظة كاشفة في الحساب الأخير لفساد لاهوت المنكرات السّبعة، والّذي يملأ قلوب الأحياء بشتّى ألوان الرّعب والجزع منذ سنوات الطّفولة، ويحرمهم بالتّالي من الحقّ في الأمن الرّوحي، سواء في سائر مراحل الحياة أو حين تحين ساعة الرّحيل، علما بأنّ الأمن الرّوحي هو أعزّ ما يطلبه المؤمن من الإيمان، وآخر ما يطلبه كذلك.

ليس المقام للمزايدة، لذلك نتواضع عن طيب خاطر أمام حقيقة أنّ كثيرا من الخارجين عن الدّين يعانون من رعب العدم، رعب التّلاشي واللاّشيء، لا سيّما عندما يرتبط “رعب العدم” بما يسمّى بـ”رهاب اللاّمتناهي”  apéirophobie. أمّا عن “رهاب اللاّمتناهي” فقد عانى منه باسكال قبل أن يحاول تضميده بفرضيّة “الإيمان رهاناً”، ولربّما عانى منه نيتشه بدوره قبل أن يحاول تضميده بفرضيّة “العود الأبدي”، أو هذا ما أحسبه، غير أنّ الخوف من الموت لدى المتدينين وفق معايير الخطاب الدّيني المفعم بالمنكرات السّبعة، يظلّ خوفا حسيّا من الشّقاء المرتبط بتجارب عذاب القبر، وضيق الصّدر، وامتحان الحشر، وأهوال تستغرق زمنا طويلا، وقد لا تنتهي بالنّسبة لمن ينتظرهم “سوء العذاب”. أمّا رعب الخارجين عن الدّين فهو من النّوع الميتافيزيقيّ غير الحسّي، طالما يرتبط بمفاهيم الوجود والعدم والزّمان والذّات واللاّمتناهي، وهي مفاهيم وتصوّرات ذهنيّة مجرّدة. هنا بالذّات تكمن المساحة الأساسيّة لاشتغال الفلسفة في عصر موسوم باعتباره عصر ما بعد الأديان.

الحياة مصادفات وخلاصات، وقد منحتني فرصة مرافقة بعض المحتضرين المتدينين في لحظات النّهاية، وكانت بعض التّجارب قاسيّة، غير أنّي مارست دوري الأخلاقي في الرّعاية والتّأمل لغاية استخلاص الخلاصات والعبر.

كنت أصغي برهافة حسّ إلى هواجس خافتة ومخيفة لرهبة النّهاية، هواجس متلعثمة ومجملها متعلّق بسؤال المآل بعد انقطاع النّفس الأخير: كيف ستكون الرّحلة من القبر إلى الحشر؟ كيف سيكون الطّريق من ساعة الموت إلى قيام السّاعة؟ كيف سيكون الطريق في تفاصيله، شبرا بشبر، ودقيقة بدقيقة، ولحظة بلحظة؟ هنا يشعر المحتضر بأنّه متروك لجزع وجودي ينهش قلبه الّذي يعيش نبضاته الأخيرة، فيجد نفسه محروما من آخر ما يرجوه المؤمن من الإيمان: أن يموت بطمأنينة وسلام.

لذلك، ليس مستغربا أن تبدو المقابر في مجتمعاتنا الإسلاميّة جلّها مهملة مقفرة طالما يتعلّق الأمر برد فعل لاشعوري جرّاء المخاوف السّحريّة من عوالم الموتى.

لذلك أيضا، كثيرا ما تكون الصّورة على النّحو التّالي:

قبيل ساعة الرّحيل قد يشعر المحتضر بالخذلان، وبأنّ كلّ الأشياء قد أدارت له ظهرها عنوة، من شمس الظّهيرة، إلى شاطئ البحر، وقهوة الصّباح، وشارع المدينة، وحتّى “يد الله” نفسها لا تبدو قريبة كما يبتغي، لكنّه يكتم الأسى أو يكظمه خشيّة الرّقابة الّتي تتواطأ فيها الذّات مع الغير، وقد لا يمتلك ذلك الحسّ الدّراماتيكي الّذي امتلكه السّيد المسيح يوم كان معلّقا على الصّليب يصرخ في وجه الله، “إلهي إلهي لِمَ تركتني؟”. ومن يدري؟ لربّما أطلق “ابن الله” تلك الصّرخة المدويّة نيابة عن كلّ المحتضرين الّذين قد يشعرون في ساعة الرّحيل بنوع من الخذلان الإلهيّ، لا سيّما وأنّ الشّرط البشري غالبا ما لا يضمن للنّاس احتضارا سلسا وناعما، وهذا باعتراف رجال الدّين أنفسهم، والّذين يصفون مراحل الموت بأوصاف تزيد الموقف رعبا وفق ما يبتغون، غير أنّ باطلهم يحمل شيئا من الحقّ الّذي لا يمكن إنكاره كلّه.

وإنّه لأنين مكتوم لا يدركه المتحلقون حول المحتضرين حين يشغلهم الحزن والأسى، ويلهيهم روتين التّقاليد، فلا يدركون حجم المعاناة الّتي تبدأ مع مرحلة ما قبل الاحتضار  pre-agonic، ولا تنتهي إلّا بانقطاع النّفس الأخير. وإنّه لشقاء كان بالإمكان تفاديه، أو كان بالإمكان تقليصه على أقلّ تقدير.

معنى ذلك أنّ هناك فشل ثقافي ذريع ومريع، لن يكون الاستمرار في السّكوت عنه سوى فظاظة في القلب، جبن في العقل، وتواطؤ غريزي مع ميل “القطيع” إلى التّمسك بالتّصورات السّائدة كيفما كان نوعها، غير أنّ خوف النّاس من تغيير أفكارهم لا يبرّر فشلنا في إقناعهم حين نكون نحن مقتنعين، لا سيّما وأنّ دافعنا في ذلك لن يكون شيئا آخر غير الرّحمة.

إعادة النّظر في علاقتنا بالحياة انطلاقا من لحظة النّهاية، مهمّة بالغة الصّعوبة والتّعقيد، بل قد يبدو إصلاح الحياة كما لو أنّه لا يجب أن ينطلق إلاّ من نقطة الولادة بدل نقطة الوفاة.

فعلا، لا يبدأ إصلاح الحياة إلّا من فترة الطّفولة كما ترى فلسفات التّربية، غير أنّ الشّروع في إصلاح الحياة يستدعي معرفة شاملة بالحياة برمّتها، وتبدأ معرفة الحياة من المعرفة الدّقيقة بمشاعر لحظة النّهاية كما ترى فلسفات العيش، ذلك أنّها تمثّل كشف الحساب الإجماليّ، وكما يرى ديكارت بحسّه العقلانيّ، فإنّ الرّضا عن الذّات هو الجزاء الأخير للإنسان الفاضل (انفعالات النّفس).

يكتب كثير من الرّوائيين المشهد الأخير من رواياتهم أوّلا، أو على الأقلّ يتصوّرون المشهد الأخير أوّلا، والّذي يُعتبر الشّق الأكثر صعوبة في العمل الرّوائيّ، وذلك قبل العودة إلى كتابة سائر الفصول تباعاً بدءا من الفصل الأوّل.

على المنوال نفسه، علينا أن نتجشّم عناء التّعاطي مع الشّق الأكثر صعوبة في الحياة، الفصل الأخير، المشهد الأخير، لأنّ من شأن ذلك أن يجعل مهام الحياة الأخرى الباقية أقلّ صعوبة، وبالطّبع لن يكون التّقييم النّهائي مطلوبا قبل أن يمرّ زمن قد يطول في بعض الأحيان.

أثناء ذلك، لا ننتظر أيّ شيء، ولا نقف موقف الانتظار، بل نواصل السّباحة في نهر الحياة الجاري والجارف، نسبح بالعرض والعمق والارتفاع أيضا، طالما الطّول تكفله المياه الّتي تجرفها المياه، تكفله الصّيرورة والقدر.

المصدر: https://www.alawan.org/2020/01/10/%d9%85%d9%86-%d9%8a%d9%8f%d9%88%d8%a7%d8%b3%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b9%d8%b0%d9%91%d8%a8%d9%8a%d9%86-%d8%a7%d9%84%d8%af%d9%91%d9%8a%d8%a7%d9%86%d8%a7%d8%aa-%d8%a3%d9%85-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%84/

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك