العالم ليس كافيا أو في سياسات التعالي: مدخل فلسفيّ
فتحي المسكيني
بناء الإشكال
في أواسط الألفية الأولى قبل الميلاد، أخذ اليونان طريقا وثنية نحو تحديد "ماهية" الموجود، واعتبار ذلك نمط "سياسة الحقيقة" المناسب لبلورة نوع من الحضور في "الكسموس" يكون لائقا بهم من حيث هم "حيوانات مدنية". وفي نفس الوقت تقريبا، أخذ الإبراهيميون طريقا توحيدية نحو تعيين نوع "الإله" الذي يجعل خلق "العالم" ممكنا، واعتبار ذلك نمط سياسة الحقيقة الأليق بتصوّرهم لأنفسهم، بوصفهم "مخلوقات" تشعر بأنّها مدعوّة لأن تنتمي إلى صف "العالَمين". - وما يهمنا هنا ليس طريق اليونانيين كما خاطبوا أنفسهم فلسفيّا، بل سياسات التعالي التي نصّبها الإبراهيميون وفرضوها آخر الأمر (في سردية "الحداثة" التي هي توحيدية متنكّرة، أعني معلمنة) على تاريخ العالم الحالي بوصفها السياق الإجباري لكلّ المنتمين إلى أفق الملة أكانوا عاشوا ما قبل الحداثة أو ما بعدها.
منذ فيلون الإسكندري(20 ق.م.-50 م) إلى ابن رشد، كما من ديكارت إلى هيدغر، - هناك مقام واحد للإشكال الفلسفي عند المنتمين إلى أفق الملة التوحيدية: كيف نستشكل حقل التعالي الإبراهيمي بواسطة أنطولوجيا التناهي اليونانية؟ وكان الحل غالبا هو تأسيس فلسفة من نوع "غير يوناني"؛ أي "فلسفة متعالية": فلسفة تأخذ في الاعتبار أنّ العالم ليس كافيا، نعني ليس مجرّد سكن للحيوانات المدنية، بل هو أكثر من ذلك، هو آلة لإنتاج المعنى بواسطة الشعور بالألوهة بوصفها نمطا من آداب الخروج عن حدود العالم من أجله خلقه بواسطة إرادة لا تنتمي إليه. وبعبارة واحدة: أن نأخذ "سفر التكوين" الإبراهيمي مأخذ الجدّ بوصفها وثيقة أنطولوجية "أخرى" مستقلة عن معنى الكينونة في العالم لم يكن يمكن لليونانيين وللوثنيين بعامة تصوّرها أو التفكير بها.
إنّ الإشكال الذي يهمّنا هنا هو "سياسي": لماذا تصرّ حضارة بأكملها، مثل حضارتنا العميقة منذ النبيّ إبراهيم إلى اليوم - لنقل منذ "سفر التكوين" إلى "قرآن" التوحيدي الأخير - على نبذ العالم كما يحدث، والالتصاق المحموم والمرعب بنوع محدّد من المعنى، هو ذلك الذي يوجد ما وراء أنفسنا، الذي يدوم بصرف النظر عن كينونتنا البشرية الفانية. علينا أن نخرج هذا الإشكال من نطاق السؤال الوثني عن "التناهي" الذي يحصر الفلسفة في انشغال مفهومي لا يهمّ اليوم بعد علمنته إلاّ "الفرد" الليبرالي الذي فقد خلفيّته الروحية التقليدية، وتحوّل إلى هشاشة أخلاقية منفجرة هي عبارة عن "أنا متصدّع" (دولوز) أو "كوجيطو مجروح" (ريكور) أو "جندر مضطرب" (بتلر)، وأن نسأل: كيف نفهم اليوم سياسات التعالي التوحيدية؟ كيف نؤرّخ لأنفسنا مرة أخرى بوصفنا من "العالَمين"؟
كيف نشأ معنى "التعالي" لدى الإبراهيميين؟ أو من هم "العالَمون"؟
إنّ ما يزعج ثقافتنا ليس السؤال الوثني عن "التناهي"، بل السؤال التوحيدي عن "التعالي". وحده شعور وثني بالكينونة في العالم يتفرّغ إلى هجاء التناهي، وتأثيث حياته بسرديات حزينة عن احتمالات العدم. أمّا التوحيدي الإبراهيمي، فهو لا يرى مشكلا يستحق وقوفه أمام باب الكينونة سوى السؤال عن حدود العالم من خارج: أي عن معنى "التعالي" الذي يحتاجه العالم كي لا ينهار على ساكنيه من "العالمين"؛ ذلك أنّه لا يمكن تطوير مفهوم "العالمين" - أي سكّان العالم أو العوالم - في نطاق ثقافة وثنية: الوثني اليوناني لا يسكن إلاّ مدينته. هو "حيوان مدني" (zoon politikon) بلا رجعة. لكنّ التوحيدي حيوان متمرّد على منزلته الوجودية. وبهذا المعنى، فقد طوّر مفهوم "العالمين" كردّ أخلاقي على مفهوم ""الحيوان المدني". وهكذا لا معنى لمفهوم "العالمين" إلاّ في أفق السؤال التوحيدي عن حدود "العالم" الخارجية التي يمكن أن يرسمها إلهٌ ما، أو نوع ما من إمكانية الألوهة، بل لم تكن النصوص الإبراهيمية (من سفر التكوين إلى القرآن) سوى محاولات فذّة لنقل البشر من مستوى مجرّد "الموجودات" إلى مستوى "المخلوقات" التي يحقّ لها أن تدّعي أنّها من "العالَمين"؛ أي من أسرة "العالم" الكبرى إلى جانب كل "الكائنات العاقلة الأخرى" التي يُفترَض وجودها في مكان ما من الكون، وهو منحى لا نزال نعثر على رواسب روحية واصطلاحية له تحت قلم فيلسوف حديث مثل كانط الذي تحدّث في تأسيس ميتافيزيقا الأخلاق عن "مملكة الغايات" التي يمكن أن تضمّ البشر مع "كل كائن عاقل بعامة".
لم يفعل الدين غير الاستيلاء الهووي على رغبة التعالي في أفئدة الناس وتحويلها إلى تهمة أخلاقية ضدّهم
يبدو أنّ الحضارة التوحيدية لم تكن ممكنة التصوّر من دون البدء بإقرار حاسم ومرعب، ألا وهو أنّنا "عالَمون"؛ أي "موجودات" لا معنى لها إلاّ متى نجحت في تنصيب حقل حرّ ولامتناه من "التعالي" في أفق وعيها بأنفسها لا يكون التعبير الديني التقليدي عنه في آخر التحليل إلاّ استعارة سياسية فحسب؛ ذلك أنّ "التعالي" ليس هاجسا دينيّا إلاّ عرضا: فإنّ التوجّه نحو شيء يتجاوزنا، (ما سمّاه هوسرل "القصدية")، ليس انفعالا حزينا تجاه نقص ما، أو خوفا غريزيا من هول ما، بل هو بنية روحية لنوع من الكائنات، تجد من نفسها رغبة في أن تمسك جملة "العالم" وترسّم حدوده بحريّة. لم يفعل الدين غير الاستيلاء الهووي على رغبة التعالي في أفئدة الناس وتحويلها إلى تهمة أخلاقية ضدّهم. والحال أنّ فضل الإبراهيميين الأكبر هو اكتشاف حقل التعالي بوصفه مجال الحرية الوحيد في أفق البشر بما هم بشر. التعالي هو ما ينقل البشر من مجرّد "موجودات" (وهو أقصى فضل وثني للفلسفة اليونانية) إلى مكانة "العالَمين"؛ أي الكائنات التي اختارت نفسها بوصفها كذلك، نعني بوصفها كائنات لا تكون في العالم فقط، بل تسكنه بالقدرة على رسم حدوده من خارج، ومن ثمّ لم تكتف بمواصلة الحيوان بطرق أخرى.
كل سياسة الحقيقة التوحيدية تقوم على أنّ "الموجودات" ليست سوى "مخلوقات" هي تدين بكلّ صلاحيتها الأخلاقية لهذا القرار التأويلي: أنّ التعالي - حيث يمكن لمعنى الإله الشخصي أن تتبلور بوصفه كما سمّاه القرآن الإله "المتعالي" (الرعد، 9) - هو الخلفية الروحية الوحيدة التي تستطيع أن تمدّ كينونتنا في العالم بالحرية اللازمة من أجل احتمال الشعور بالفناء. وعلينا أن ننتبه للتوّ بأنّ أصل الإشكال هنا لا علاقة له رأسا بالكفر والإيمان؛ إنّ المشكل ليس دينيّا إلاّ عرضا. إنّ الكافر التوحيدي ليس متحرّرا أبدا هو الآخر من إشكالية التعالي. كان الهدف الغامض هو نقل "الموجود" من نطاق المعنى الوثني إلى مقام "المخلوق" بالمعنى التوحيدي. ويعني التعالي أنّ على "العالمين" أن يكفّوا عن اعتبار أنفسهم مجرّد "موجودات" ذات ماهية كما تصوّر اليونانيون، والانخراط في سردية تحوّلهم إلى "مخلوقات" ذات معنى، كما وثّق ذلك الإبراهيميون في كتبهم التأسيسية (حيث ترد لفظة "العالمين" في كتاب القرآن مثلا 61 مرة).
إنّ التعالي قرار اتّخذته الحضارات التي تعاقبت في حضن التقاليد التوحيدية (التي لا تزال سارية المفعول "بالنسبة إلينا" إلى اليوم)، وهو يقوم على ضرورة التسليم بأنّ ثمّة مجالا متعاليا للمعنى يتجاوز"نا" أو يتخطّى "حواسّنا" و"مداركنا" و"عقولنا" أو يوجد على مستوى من العلاقة بالعالم لا يمكن لجنس الموجودات التي هي "نحن" أن تحكم عليه أو تبتّ فيه. لا تعني "الملة" سوى سياسة الحقيقة المناسبة لتأمين العلاقة مع حقل التعالي الذي تأسّست عليه تلك الحضارات. كلّ أسماء أو نعوت أو صفات الذات الإلهية لدى الشعوب التوحيدية قاطبة هي غير ممكنة التصوّر من دون ربط الصلة بفكرة التعالي. إنّ حقل التعالي هو الذي جعلها ممكنة، أمّا الفروق بينها، والذي قامت عليها كل الجدالات الكلامية بين مفكّري أديان التوحيد، فهي مجرّد نزاعات استعارية حول وصف نوع واحد وتأسيسي من "التذوّت" هو ما أطلق عليه ابن سينا وكانط، وإن كان ذلك بدلالتين مختلفتين، اسم "الذات المتعالية".
ما يهمّنا فلسفيّا هو هذا السؤال: ما هي مصلحة "العقل" العليا التي جعلت كل تلك الحضارات تأخذ هذا القرار التأويلي المبكّر، نعني تنصيب فكرة التعالي في أفق كل الثقافات التوحيدية بوصفها الجهاز الروحي التأسيسي لتخريج صيغة مناسبة عن شكل الحياة بالنسبة إلى كلّ الشعوب التي دُعيت لاعتناق هذا المنوال؟
نحن ذكرنا العقل ليس لأنّ الفلسفة غير ممكنة دون أسئلة العقل، بل لأنّ فقهاء الملة لدينا هم أنفسهم قد أقرّوا صراحة بأنّ العقل لئن كان لا حكم له على مسائل "الآخرة"، فإنّ إقامة الدين لا يمكن تصوّرها من دون استعمال العقل. و"العقل" هو في موافقات الشاطبي أحد المصالح الشرعية الخمس في الفقه، إلى جانب كلّ من "الدين" و"النفس" و"المال" و"النسل". لنقل دونما مواربة: إنّ قرار التعالي هو أعمق قرار اتّخذه العقل في أفق الحضارات التوحيدية، وهو لا يزال ساري المفعول على الحضارة "الغربية" التي هي أقصى أطوار الثقافة التوحيدية. ولا معنى لأي نزاع تأويلي معها على هذا المستوى من سياسة الحقيقة؛ ونعني بذلك أنّ كل قيم الغطرسة والسيطرة التي تنطوي عليها الثقافة الكولونيالية الغربية من ديكارت إلى هوسرل ومن كانط إلى فوكو، - هي قيم توحيدية بامتياز، ولا يمكننا التبرّؤ منها بأيّ وجه من الوجوه، لأنّها جزء لا يتجزّأ من سردية التعالي الإبراهيمية. لا نستطيع سوى التحرّر منها من "الداخل" فقط، لأنّه لا خارج لها سوى تجارب الحياة الغريبة عنها وعنّا، وهي تكاد تكون اليوم مفقودة. إنّ التحرّر "الديكولونيالي" لا يمكن أن يتمّ إلاّ من الداخل.
لا يمكن تصوّر الإله التوحيدي من دون فكرة التعالي. وكلّ جدالات المتكلمين والفلاسفة حول أطروحة "حدوث العالم" ما هي سوى نتيجة تأويلية مباشرة للقول بالتعالي، وهو قول غريب عن الفلسفة اليونانية، على الرغم من أنّ اليونان قد عرفوا تجارب "الحياة التأمّلية" منذ القرن السادس ق.م.، نعني أنّ ثمّة فرقا مؤكّدا بين الشعور بالتعالي (على طريقة التوحيديين)، وبين الدعوة إلى حياة "التأمّل" أو "النظر"((theôrein) في الموجودات (على نمط اليونانيين). بل أكثر من ذلك: إنّ اليونان قد عرفوا تقاليد صوفية أو تألّهيّة تحت عنوان: "الأسرار" (mustếria)، فيتمّ الحديث عن أسرار هذا الإله أو ذاك، "أسرار إلوزيس" مثلا في أثينا القديمة، وهي شعائر شبه رسمية، والذي يتمّ تلقينه هذه الشعائر يسمّونه "mustês"؛ أي "السرّي" أو "الصامت"، ذاك الذي يعتنق الأسرار الإلهية ولا يتكلّم عنها أمام العوام، وهي "أسرار" أو شعائر سريّة استجلبها اليونان القدامى من مصر أو من الهند، وهي لا تهمّ "الشعب" بل أفرادا اختاروا اعتزال الناس، كي يمارسوا طقوسا لا تراها الأعين خوفا من التدنيس، لكنّ السريّ ليس متعاليا بالضرورة.
علينا أن نعتبر أنّ التعالي لا يتعلق بأيّ تقاليد سريّة. إنّه أفق للإنسان بما هو إنسان. ما كانت تطمح إليه حضارات التوحيديين هو رسم حقل التعالي بوصفه شرط إمكان ظهور الألوهة في أفق البشر. لا يمكن تصوّر إله واحد إلاّ متى نجحت حضارة ما في إعادة تعريف العالم بوصفه كلّية مغلقة يمكن تنصيب نقطة وجودية أو أخلاقية خارجها. إنّ الصلة بين نعت الكلية والتعالي خطيرة جدّا: لا يمكن تصوّر إلهٍ لا يستطيع الوقوف خارج العالم كي يخلقه. ثمّة فائدة طوبولوجية حاسمة في فكرة التعالي: اختراع نقطة "خارجة" عنه تجعل تقويمه الأخلاقي موقفا ممكنا في أفق البشر. لكنّ النقطة التوحيدية خارج العالم لم تكن وثنية بما فيه الكفاية كي تتحوّل إلى نظر في الموجودات: إنّ أرخميدس التوحيدي لم يكن ممكنا. كان الاختيار بين نقطة "خارج" العالم ونقطة "داخل" العقل البشري الذي نجح في اعتزال الموجودات من أجل تعليل طبيعتها، لكنّ التوحيديين اختاروا الله بطلا للحقيقة وليس عقل البشر.
وهذا يعني أنّ الجدال الكلاسيكي حول حدوث العالم أو قدمه لم يكن جدالا لاهوتيا أو ميتافيزيقا إلاّ عرضا؛ نعني تحت وطأة سياق أو خطاب لا يملك أسئلته العميقة.
إنّ أصل الإشكال في كل مرة وكل عصر هو سياسة الحقيقة وليس شيئا آخر؛ والسؤال هو: ما هي سياسة الحقيقة التي جعلت اتّخاذ قرار التعالي أمرا لا مردّ له؟ - إنّه تصوّر معيّن للسلطة هو التصوّر الرعويّ؛ وذلك يعني هو تصوّر معيّن لتوزيع حقل السلطة بناءً على توزيع معيّن لحقل التعالي.
الفلسفة العربية: المفارق بلا آخرة
يبدو لنا أنّ متفلسفة الملة إلى حدود الفارابي قد بلغوا جهدهم في تبيئة المصطلح "الأنطولوجي" اليوناني مع حرص شديد على عدم إدخال أيّ عنصر "إبراهيمي" عليه؛ لكنّ الأمر قد تغيّر بدءًا من ابن سينا، وخاصة من خلال هذا المصطلح الغامض "الحكمة المتعالية". لقد ظلّ الكلام عن "الموجود الأول" إلى حدود الفارابي قابلا للصياغة الميتافيزيقية على نحو ينقذ "ماهية" الإله التوحيدي بواسطة المفاهيم اليونانية. ومن ثمّ معاملة "الملة"، وكأنّها صيغة عامية أو تخييلية من الفلسفة. ربما نجح الفارابي في تملّك كلّ المكتسبات الإشكالية للمتكلمين وإعادة صياغتها بواسطة جهاز مفاهيمي وإشكالي أكثر تماسكا وأكثر كلّية. لكنّ الفارابي ظلّ واقفا خارج أفق الملة، وهو يعاملها بوصفها مذهبا يحتاج إلى فلسفة مناسبة تتجاوزه من حيث سياسة الحقيقة. مع ابن سينا أصبح الأمر معكوسا: إنّ الحاجة إلى الفلسفة لا تتعلق بمساعدة الملة على التعبير المفهومي عن ماهيتها، بل تتعلق بالحاجة إلى تملّك الفلسفة بطريقة جديدة وغير يونانية، وذلك من خلال جهاز مفاهيمي لم يعرفه اليونان، أشار إليه ابن سينا بشكل غامض من خلال مصطلح "الحكمة المتعالية". ويبدو هذا المصطلح بمثابة تدشين لشيء غير مسبوق في تاريخ الفلسفة لن يصبح جليّا بالمعنى "الحديث" الذي يفكّر به ليفناس إلاّ مع ديكارت وأطروحته عن "فكرة اللامتناهي"، ثمّ خاصة مع ما سيسمّيه كانط مرة أخرى "الفلسفة المتعالية" سنة 1781.
هذا الوضع التأويلي يطرح صعوبتين مختلفتين علينا مواجهتهما: أولاهما، كيف يجدر بنا أن نفهم كلام ابن سينا مثلا أو الشيرازي عن "الحكمة المتعالية"؟ وثانيتهما، كيف نفسّر الإلحاح الفلسفي الحديث منذ كانط إلى هوسرل وما بعدهما على تملّك معنى "التعالي" في نطاق إشكالية لأنطولوجية تدّعي أنّها خارج أفق الملة التوحيدية؟
علينا أن نفرّق أوّلا بين "المفارق" (أي المنفصل عن المادة أو المجرّد أو البريء منها)، وهو معنى يوناني ولا علاقة له بالثقافة التوحيدية، مثل مثله معنى "الأجناس العالية" (transcendantaux)؛ أي الصفات التي تم إطلاقها على أيّ موجود، فيما أبعد من المقولات؛ وبين "المتعالي" الذي هو معنى استحدثه فلاسفة الملة (بداية من ابن سينا) من أجل اختراع مقام غير يوناني للذهاب قدماً في تملّك معنى للألوهية لم يعرفها المشّائيون: معنى أنّ الله ليس سببا، بل أكثر من ذلك. - إنّ ما يقف بين ابن سينا وأرسطو هو صورة "النبي" الإبراهيمي، فهو البطل السردي المجهول لدى اليونان، الذي استطاع في تاريخ طويل من تجارب الوحي (الغريب عن العقل الوثني اليوناني) أن يفتح مجالا مبتكرا وغير مسبوق في الحضارات الوثنية القديمة، هو بالتحديد مجال التعالي، حيث يمكن للإله الخالق أن يصبح قابلا للتصوّر. لا يعني مصطلح "الحكمة المتعالية" (الذي نحته ابن سينا في النمط العاشر من كتاب "الإشارات والتنبيهات") سوى تهيئة سياق فلسفي لم يعرفه المتفلسفة من قبل يمكن داخله أن يصبح "الاتصال" بما يسميه "عالم القدس" أمرا متاحا على صعيد البشر. مثلا: لم يكن الفارابي (كما في الفصل 13 من الآراء) يتصوّر إلاّ الموجودات "المفارقة"؛ ولم يكن يفكّر في الموجود الأوّل إلاّ في هذا المعجم، حيث يمكن بناء معقوليّة الفيض عن الأوّل دون أن يلحق به أيّ نوع من النقص بسبب علاقته مع "غيره" من الموجودات التي تفيض عنه.
ولكن ما هو الفرق السياسي بين القول بالمفارق والقول بالمتعالي؟
- ربما نحن نعثر هنا على الخيط الرفيع الذي يفصل كل "نظر" يوناني عن كلّ "وحي" توحيدي: إنّه ما يفصل السؤال الوثني عن معنى "الكينونة" عن البحث الإبراهيمي عن معنى "الله". أجل، من المزعج أنّ فيلسوفا مثل هيدغر قد حاول بكل جهده، في الفقرة الأولى من الكينونة والزمان، جرّ سؤال أرسطو عن "الكينونة" إلى الفهم المسيحي أو الوسيط لمعنى الإله "المتعالي"؛ قال: "إنّ "كلّية" الكينونة "تتخطّى" كلّ كلّية من جهة الجنس. فإنّ "الكينونة" طبقا لتخصيص الأنطولوجيا الوسيطة شيء "متعال"." وعلى الحقيقة نحن نرى هنا انزلاقا من الكينونة إلى التعالي لا يبرّره سوى إرادة الخطاب التي تحرّك هيدغر: إرادة مسيحية معلمنة، وهي إرادة لها سياقها، وهو ليست فلسفية بالمعنى اليوناني إلاّ عرضا. لا يمكن فهم معنى الله بوصفه كينونة. كما أنّه لا يمكن فهم الكينونة في أفق ثقافة قائمة على فكرة التعالي. وهذا الاعتبار يطرح مشكلا كبيرا على الفلسفة المعاصرة ذهب فيه جان لوك ماريون أشواطا بعيدة.
إنّ الكينونة مشكل وثني - لا يكون حسب اليونانيين سوى ما هو "أوسيا" (οὐσία، ousia)؛ أي "ما هو" كائن: حسب أفلاطون، "ما يكونه كل شيء على نحو يخصه"، ما يجد كل شيء من نفسه أنّه هو. وعبارة "أوسيا" مشتقة من فعل الكينونة اليوناني "εἶναι, eina". ولذلك، تمّت ترجمة هذا المصطلح بعبارة "الماهية" أو "الجوهر": ما يكونه الشيء في كل مرة، القائم بنفسه أبدا، إلخ...الطبيعة الثابتة التي لا تتغير في شيء ما، وربما معنى أنّه "إنّية". لم يكن قصد اليونانيين أكثر من الإمساك بطبيعة الموجودات؛ أي بتلك النواة الأنطولوجية التي تهب موجودا ما صورته أو شكل ذاته بلا رجعة. وحسب أرسطو خاصية "الجوهر" أنّه "مفارق" أو على حدة (khôriston)، وأنّه "بذاته" (kath"auto). وحسب هيدغر لا يعني ذلك أكثر من فهم معنى "الموجود" بوصفه "أوسيا" أي "حضورا" دائما لماهية ما. والحاضر الأوّل هو نموذج الكينونة، لأنّها يمكن أن تكون "سببا أوّل" لوجودها.
كان اليونان يبحثون عن حقيقة من نوع غير إبراهيمي تماما: العثور على طبيعة الموجود، حتى يمكن تعليل وجوده. ومع ذلك، فإنّ ترجمة النصوص التوحيدية إلى اللغة اليونانية قد نقل "أوسيا" من معناها الأنطولوجي الوثني إلى معنى لاهوتي يهودي-مسيحي، هو الذي ورّط هيدغر في قراءة "غربية" (مسيحية معلمنة) للسؤال اليوناني عن معنى الكينونة كان أخطر جزء منها هو جرّ معنى "الحضور" في "أوسيا" من "ماهية الموجود" إلى "معنى التعالي". وأصل المقالة المسيحية حول "أوسيا" تعود إلى سنة 325، عندما أقدم مجمع نيقية الأول على نحت عبارة "homoousia" وهو ما ترجمه ترتوليان إلى اللاتينية بعبارة "consubstantialis"؛ أي وحدة أو تطابق جوهر الأقانيم الثلاثة (الابن والأب والروح القدس). - إنّ ما يذوب هنا هو مفهوم التعالي التوحيدي، ويتم تعويضه (بسبب الترجمة اليونانية) بمعنى "الماهية". إنّ اللغة اليونانية قد فعلت فعلها الساحق في المفردات الروحية للمسيحية نقلتها من التعالي التوحيدي إلى المحايثة الوثنية. وهذا الالتباس العميق بين محتوى روحي مسيحي (تجربة الله التوحيدية) ولغة يونانية (أنطولوجية الموجود الوثنية) قد ظلّ يضرب بجذوره في كل الفلسفات الغربية من ديكارت إلى اليوم. والخيط الهادي فيه هو: كيف نمتحن تجارب التعالي التي اخترعها الإبراهيميون (من خلال سردية الإله الخالق) ولكن بواسطة جهاز مفاهيمي يوناني (لا يمكن تخليصه من طبيعته الوثنية)؟ وأفضل مثال على هذا الالتباس هو السجال الذي صاغه باسكال حول الفرق بين إله الفلاسفة وإله الإبراهيميين، وبالعربية نقول بين السؤال عن ماهية الإله؟ (اليوناني) والسؤال من هو الله؟ (الإبراهيمي)؟
التعالي "على غير الكينونة" (autrement qu"être)
كيف يجدر بنا أن نفهم حرص الفلسفة منذ كانط إلى هيدغر وليفناس على العمل المرير على إعادة اختراع إشكالية التعالي ومحاولة تملّكها من الداخل بوسائل فلسفية؟
لا يعني ذلك أنّ التعالي مشكل فلسفي منذ أوّل أمره، بل هو يظلّ إشكالا غريبا عن الفلسفة بقدر ما تجهد نفسها للإمساك بماهيته وتملّكها بواسطة المفاهيم اليونانية، وليس بأيّة سردية "شرقية" أخرى. وعلينا أن نسأل: كيف تسرّب معنى "التعالي" الشرقي إلى داخل الفلسفة؟ وهل التعالي الأفقي ممكن؟ نعني: إلى أيّ حدّ نجح المحدثون في إرساء تعالٍ بلا آخرة؟
يجدر بنا هنا أن نستدعي محاولة إمانويل ليفناس منذ كتابه الكلية واللامتناهي(1961)[1]، التي سعى فيها إلى استحداث معنى ما للتعالي في نصوص الفلاسفة أنفسهم، مفترضا أنّه معنى قد اندرس تحت وطأة التقليد "الأنطولوجي" الذي غلب على تاريخ الميتافيزيقا. - إنّ التعالي مقام لا يمكن التفكير فيه حسب ليفناس إلاّ بوصفه ضربا من "اللامتناهي"[2]، وهو يعني بذلك أن "يظل الكائن العارف منفصلا عن الكائن المعروف"، حيث إنّ "المسافة بين أنا والله، الجذرية والضرورية، إنّما تحدث في صلب الكينونة نفسها. ومن ثمّ، فإنّ التعالي الفلسفي يختلف عن تعالي الأديان - في معنى التعالي الذي هو بعدُ (أو أيضا) مشاركة، غطس في الكينونة الذي يذهب نحوها، والتي يقبض عليها، كما من أجل أن يسلّط العنف عليها، في شباكه غير المرئيّة، الكينونة التي تتعالى"[3].
إنّ القصد هو أنّ على الفلسفة أن تفكّر في هذا النوع من التعالي الذي يحافظ على علاقة الانفصال بين "الهو هو" و"الآخر" (بين أنا والله، الآخر الكبير) ولكن من خلال علاقة ارتباط خالية من أيّ عنف. ولا يمكن تحقيق ذلك حسب ليفناس، إلاّ من خلال فكرة "اللامتناهي": ليس بوصفه مجرّد سلب للمتناهي، بل بوصفه ما يجعل التفكير في معنى التناهي ممكنا؛ نعني من خلال علاقة موجبة معه، قال: "إنّ اللامتناهي هو خاصيّة كائن متعالٍ من حيث هو متعال، إنّ اللامتناهي هو الآخر بإطلاق. المتعالي هو المفكّر فيه (ideatum) الوحيد الذي لا يمكن أن يوجد عنه إلاّ فكرة فينا؛ إنّ بعيد بشكل لامتناه عن فكرته - نعني هو خارجي - لأنّه لامتناه."[4] إنّ الخطير هنا هو أنّ التعالي الفلسفي ليس مرادفا للمسافة الفاصلة بيننا وبين اللامتناهي. "إنّ المسافة حيث يوجد الموضوع لا تقصي - بل في الواقع تقتضي - تملّك الموضوع".[5] نحن نملك مما يتعالى على وجودنا في شكل أنا، لأنّ اللامتناهي هو فكرة فينا. وهذا هو فضل ديكارت الأكبر: أن جعل حقل اللقاء مع الآخر؛ أي معنى الإتيقا، ممكنا. ليست الإتيقا حسب ليفناس سوى حضور الآخر الذي يضع عفويّة وجودي موضع سؤال[6].
لكنّ ليفناس لم يبلغ إلى أوجه بحثه في معنى التعالي الفلسفي إلاّ في كتابه على غير الكينونة أو ما وراء الماهية(1974).[7]
قال في الفصل الأوّل (وهو في أصله مقالة نُشرت قبل ذلك في مجلة الميتافيزيقا والأخلاق سنة 1970): "إذا كان التعالي له معنى، فلن يمكنه أن يدلّ سوى على أنّه، بالنسبة إلى حدث الكينونة - بالنسبة إلى esse -، بالنسبة إلى الماهية (essence)، يمرّ إلى آخر الكينونة. ولكن آخر الكينونة ماذا يعني؟...أن يمرّ إلى آخر الكينونة، على غير الكينونة. ليس الكينونة على نحو مغاير (être autrement)، بل على غير الكينونة (autrement qu"être)."[8]
إن جميع الآلهة في صفّنا، نحن البشر، لكنّ المطلوب هو تحريرها من المؤوّلين السيّئين
ينبّه ليفناس إلى أنّ "المرور" لا يعني أنّه "لا يكون" أو أنّه "يموت"، وأنّه علينا أن نفهم "الماهية" (essence) على أنّه مختلفة عن "ما هو" أو الكائن، بل هي سيرورة حدوث الكينونة.[9] نحن بالطبع نفكّر بعد هيدغر، الذي منع بلا رجعة سلوك الفلاسفة التقليدي في فهم معنى "الكينونة" بشكل "لا-زماني"؛ أي بوصفها "موجودا" (ens, ὄν) على عادة اليونانيين. لكنّ الأطروحة الحاسمة التي يدافع عنها ليفناس، إنّما هي: "أنّ عبارة آخر الكينونة - عبارة على غير الكينونة - هي تزعم التعبير عن اختلاف يقع ما وراء الاختلاف الذي يفصل الكينونة عن العدم: أي على وجه التدقيق اختلاف الما وراء (l"au-delà)، اختلاف التعالي."[10]
لا يعني هذا الادعاء فلسفيّا بالنسبة إلينا، إلاّ أنّ ليفناس يقصد قصدا إلى رسم فاصل جديد بين تقليد الفلسفة الغربية التي اتخذت شكل "القول في الموجود" أو "الأنطولوجيا"(التفكير في الكائن بوصفه هو هو وليس شيئا آخر)، وبين قول حرّ وغير أنطولوجي، بل "إتيقي" ينطلق من أنّ المشكل ليس الكينونة أو عدم الكينونة (كما ظنّ الفلاسفة إلى حدّ هيدغر)، بل الكينونة وما هو ""آخر بالنسبة الكينونة"، "ما يستمرّ في الماهية"(interessement)[11] "ما وراء الكينونة"، وذلك "على غير الكينونة"، لأنّه لا يسعى إلى التماهي مع الموجود، مع الهو هو، بل يريد أن يستمرّ في الكينونة، ولكن على خلاف الكينونة؛ أي بما هو "آخر".
وإنّ أخطر قرار فلسفي هنا هو الدعوة إلى الكفّ عن مواصلة القناعة الأنطولوجية الغربية القائمة على مسلّمة أنّ الموجود هو "ماهية"، ومن ثمّ الكف عن تصوّر الله بوصفه كينونة، وعن تصوّر الذاتيّة بوصفها مجرد كينونة؛ أي بوصفها ماهية نفسها، أو الهو هو المطابق لنفسه[12]. وحسب ليفناس لا يمكن أن يتسنّى ذلك إلاّ متى أخذنا مشكلة "التعالي" مأخذ الجدّ؛ ذلك أنّ "مشكل تعالي ومشكل الله ومشكل الذاتية غير القابلة للاختزال في الماهية - غير القابلة للاختزال في المحايثة الماهوية - هي أمور متساوقة"[13].
وعلى الرغم من نقده الحاسم للتقليد الأنطولوجي، فإنّ ليفناس لم يجد أفضل من أفلاطون متناً لتأصيل مقالته عن معنى التعالي؛ فقد وجد ضالته في عبارة ذكرها أفلاطون في المقالة السادسة من كتابه "في السياسة"(Perì politeías)، وفي سياق وثني خاص بالنقاش حول مثال "الخير"، ونعني عبارة "épékeina tès ousias" (509 ب)، وهي تعني "ما وراء الماهية" أو "ما وراء الموجود"، التي قرأها ليفناس (كما في تصدير الطبعة الألمانية من كتابه الكلية والتناهي سنة 1987) في معنى "الحكمة التي يعلّمنا إيّاها وجه الإنسان الآخر ! ألم يقع الإعلان عنها بعبارة الخير ما وراء الماهية أو ما وراء الـــمُثل في المقالة السادسة من جمهورية أفلاطون؟ الخير، الذي بإزائه تظهر الكينونة نفسها. خير، منه تأخذ الكينونة ضياء تجلّيها وقوّتها الأنطولوجية." [14]
والمعنى الدقيق هو أنّ الخير ليس له ماهية مثل بقية الموجودات، بل هو ما يجمع الماهيات دون أن يكون ماهية من بينها. وقد ضرب مثالا على ذلك، وجه التناسب بين الشمس والخير: كلّ منهما يجعل الشيء موجودا ومرئيّا أو قابلا للمعرفة. هذا البحث الفلسفي عن معنى يقع "ما وراء" صور الموجودات أو ما وراء "المقولات" التي تصف الموجودات قد واصله الفلاسفة بعبارات شتى، إلاّ أنّه لم ينتج في نهاية العصور الوسطى سوى دعوى الأجناس العالية أو "المتعاليات" (transcendantia) التي لئن صيغت بما هي كذلك لأوّل مرة من طرف رولاند دي كريمون في مؤلّفه "الكامل في اللاهوت" حوالي 1230، فهي كانت مطروحة في صيغ مختلفة نذكر منها خاصة، أنّ ابن سينا يُحسب له تاريخيّا أنّه قد أضاف إلى قائمتها، إلى جانب مفاهيم عديدة مثل "الموجود" و"الواحد" و"الحق" و"الخير"، ..، مفهومي "الشيء" و"شيء ما".
أمّا ليفناس، فقد فهم هذه العبارة الطريفة بأنّها يمكن أن تُترجم في معجم التعالي على هذا النحو: "ما وراء الماهية"؛ أي "على غير الكينونة"؛ أي على نحو آخر غير "الأنطولوجيا" اليونانية، وهو يفعل ذلك من أجل هدف فلسفي حاسم: جعل سؤال "الإتيقا" ممكنا. وليس من الصدفة أنّ ليفناس قد أقام صلة عميقة عنده بين عبارة أفلاطون "ما وراء الماهية"، وبين أطروحة ديكارت عن "فكرة اللامتناهي". إنّ الرهان في الحالتين هو إدخال معنى "التعالي" بوصفه هو شرط إمكان ذلك التفكير الذي يمكنه أن يحوّل "الإتيقا" إلى فلسفة أولى.
طبعا، لا ريب أنّ ديكارت يفهم معنى "التعالي" ويفكّر به. ولولا ذلك لما أمكنه صياغة مذهبه في "الخلق المتواصل" (création continuée)؛ نعني أنّ الله "اللامتناهي" لم يخلق العالم - أو الطبيعة - وتركه سدى، وهو "آلية" مهملة، بل هو يمسكه إلى الوجود في ضرب من الخلق المستمرّ في كل آن، وهو مذهب تحوّل لاحقا إلى ركن في المسيحية. ومن ثمّ، فإنّ ما فعله ليفناس هو قراءة عبارة أفلاطون، وكأنّها قيلت في أفق الثقافة التوحيدية، حيث هي لا تختلف في شيء عن أطروحة ديكارت عن اللامتناهي. ولكن ما هو المغزى العميق من هذه الحاجة المزدوجة حسب ليفناس لتملّك معنى التعالي لدى قراءتنا لأفلاطون (في تراث غير توحيدي) أو لديكارت (في تراث مسيحي)؟
يفترض ليفناس أنّ التعالي وحده يمكنه تأسيس "المعنى" الفلسفي للإتيقا؛ أي للعلاقة مع الآخر بوصفه "الوجه" الوحيد الذي يقابلنا من داخل أفق أنفسنا. "المعنى" يسبق "الدلالات" الأنطولوجية للموجودات. ولذلك، يبدو لنا أنّ اليونان لم يعرفوا مشكل المعنى، بل فقط الدلالة المقولية عن الموجود. وحدهم التوحيديون؛ أي من طرحوا السؤال عن حقل التعالي، يمكنهم تصوّر شيء مثل "المعنى" وعزله عن "دلالة" الموجود. وهذا المعنى هو بالتحديد معنى "المتعالي".
ولكن هل كان ليفناس (الإبراهيمي) يحتاج فعلا إلى أفلاطون (الوثني) حتى يجعل تعالي "الوجه" البشري ممكنا؟ أم هي آية لديه على أنّ "الإتيقا" نفسها اختراع يوناني، وأنّ التوحيديين رغم اكتشافهم لإشكالية "التعالي"، يظلّون غير قادرين على إنجاز تأسيس "فلسفي" له - أي تأسيس "كوني" - إلاّ بالاستعانة بالعقل الوثني؟ في هذا السياق، تبدو الحداثة الغربية "متصدّعة" حسب تعبير هابرماس، لأنّها تريد "حقل المحايثة" الذي اخترعته الفلسفة اليونانية (تكنولوجيا العالم التي بلغت أوجها اليوم مع العصر الرقمي) لكنّها لا تستطيع أن تعيش من دون تجارب "التعالي" التوحيدية (سرديات "تسخير عالم الحوادث" حسب عبارة ابن خلدون باسم سيطرة روحية على "حدود" العالم انطلاقا من نقطة أرخميدية توجد خارجه).
التعالي من الداخل
في سنة 1963 وضمن محاضرة حول "التأليه-والإلحاد" (Theismus-Atheismus)، ألقى هوركهايمر في أفق فلسفته المتأخّرة عبارة مثيرة تقول: "أن نحاول أن ننقذ معنى لا مشروطا من دون إله، هو ضرب من الغرور"[15]، وهي عبارة أثارت هابرماس الذي عاد إليها مناظِرا في مقالة مخصوصة تحمل تقريبا نفس العنوان نُشرت ضمن مجموع عنوانه نصوص وسياقات[16]، ومن الحظّ السعيد أنّه قد تُرجم إلى العربية[17]. لقد أتى هوركهايمر إلى هذه الشذرة الملتبسة بعد أعمال حثيثة موجّهة نحو نقد العقل الأداتي الذي بلغ في الحضارة الغربية حدّا من الضخامة، حيث إنّ "مقولة الفرد التي ارتبطت بها، رغم كل التوتر فكرة الاستقلال لم تستطع أن تصمد أمام الصناعة الضخمة"[18]. ومن ثمّة، فإنّ "الأمل الثوري لم تعد له رسوخيّة في العالم"[19]. - هنا بالتحديد التفت هوركهايمر إلى الدين باعتباره "المؤسسة الوحيدة...التي باستطاعتها وحدها أن تمنح الحياة معنى ترنسندنتاليّا للحفاظ المحض على الحياة"[20]. إنّ المشكل هو أنّ الجوهر "الأخلاقي" في الدين قد بدا أمرا يمكن إنقاذه بواسطة التنوير؛ أي بعلمنته. لكنّ هوركهايمر لا يتردد في التنبيه إلى أنّ "الدين لا يمكن للمرء أن يعلمنه إلاّ إذا أراد أن يتخلى عنه"[21]. إنّ الأمر يتعلق بحاجة ميتافيزيقية لا يجدر بالفيلسوف أن يتخلى عنها لكنّ إقحام اللاهوت في اللعبة ليس هو الحل المناسب لها، إذ إنّ ذلك سوف يحوّل الفلسفة حسب هابرماس إلى "لاهوت مستتر"[22]. وما يعيبه هابرماس على هوركهايمر هو بالتحديد يأسه من قدرة "الممارسة التواصلية للحياة اليومية"، أي يأسه من قدرة "الخطاب"[23] على إنقاذ المعنى، ومن ثمّ يأتي لجوؤه إلى شوبنهاور المتشائم المثالي الذي يعوّل على فن يتأمّل العالم من أجل تأسيس الأخلاق الذي عجز عنها اللاهوت: أي "استعادة الدين ضمن التخلي عن الإله"[24]. وبذلك، يكشف هابرماس عن السياق الذي يجدر بنا أن نفهم فيه عبارة هوركهايمر أنّه "من الغرور أن ننقذ معنى لا مشروطا من دون إله"، - هذا السياق هو نقد شوبنهاور بوصفه "المحاولة الفلسفية الأخيرة العظمى لإنقاذ جوهر المسيحية".[25]
أمّا ما يقترحه هابرماس، فهو فقط أن نتخلّى عن قناعة هوركهايمر بأنّ "الحقيقة لا يمكن أن توجد دونما مطلق"؛ وفي مقابل ذلك أن نعمل على بناء "عقل تواصلي من شأنه أن يسمح بإنقاذ معنى اللامشروط دونما ميتافيزيقا".[26]
ما يشير إليه هابرماس هنا هو فشل الفلسفة التي أخذت شكل "نظرية نقدية" تريد أن تحلّ محل لاهوت سلبي أو مستحيل، في أن ترسم حقلا للحقيقة يمكن أن يتمّ فيه إنقاذ معنى المطلق دونما حاجة إلى فكرة الإله. وذلك يعني فشل الفلسفة لدى هركهايمر في اختراع مجال "التعالي" الذي يمكن للعقل أن يواصل داخله إنقاذ "المعنى" في أفق البشر دون أن يضطرّ إلى أن يحلّ محل اللاهوت.
وما يقترحه هابرماس هو ما يسمّيه "التعالي من الداخل" (Transzendenz von innen) أو "التعالي داخل الدنيا" (Transzendenz ins Diesseits).[27] - من الواضح أنّ عبارة "من الداخل" أو "داخل الدنيا" هما في صلة مؤكّدة من عبارة هوركهايمر "من دون إله" (ohne Gott). لكنّ المؤكّد أيضا هو أنّ هابرماس يريد أن يتحدّى ذلك "الغرور" أو "العبث" (eitel) الذي أشار إليه هوركهايمر. دور الفلسفة إذن هو بوجه ما أن تدفع بغرور ما إلى النهاية، أن تأخذ قدرتها على العبث مأخذ الجدّ، أن تحوّله إلى سلاح للعقل. إلاّ أنّها لن تستطيع تحمّل هذا العبء إلاّ متى كفّت عن "السكوت" عمّا يتجاوز أفق العقل وكأنّها محمّي من التفكير. ولذلك، يشير هابرماس إلى أنّه طوال فترة طويلة هو قد نأى بنفسه عن اللاهوت بواسطة "الصمت" عنه؛ لكنّ الصمت ربما يكون نوعا من "الإخبار الخاطئ" عندما يعمد اللاهوتيون إلى جدّ الفلاسفة إلى حلبتهم. قال: "من تتمّ مخاطبته ويظلّ صامتا هو يحجب نفسه وراء هالة من الدلالة غير المحدودة ويفرض علينا الصمت. وهيدغر واحد من كثيرين"[28]. إنّ قدرة الفلسفة القصوى هي أن تكتب صمتها. كلّ مفهوم هو قطعة من صمت لم يعد محتملا، فتحوّل إلى خطة من أجل "توسيع" مساحة العقل حسب تعبير رشيق صاغه كانط الذي يلقي بظلاله هنا في كل حديث عن التعالي.
والسؤال هو: هل نكتفي بضرب من "الإلحاد المنهجي" (der methodische Atheismus) كما فعل هيغل، لم يعد فيه للفهم الشخصي للفيلسوف عن جوهر الدين أيّة أهمّية، أم علينا أن نخوض ما يسمّيه هابرماس "الفكر ما بعد الميتافيزيقي" (nachmetaphysisches Denken)، الذي لم يعد له أي استعداد داخلي للانخراط في نظرية جديدة عن المطلق أو اللامشروط أو الكينونة؛ أي عن وجود الله؟[29] يتصوّر هابرماس أنّ هذه هي الطريق الذي يجب أن تأخذها الحداثة: أوّلا لأنّ الفلسفة نقدت نفسها، ولم تعد تثق في الأقوال الشمولية حول نموذج الحياة[30]؛ وثانيا لأنّ "السؤال عن الهوية الخاصة - من نحن ومن نريد أن نكون - هو يتطلّب "مفهوما قويّا عن الخير". ومن ثمّ ينبغي على كل طرف أن يجلب معه تمثّلاته عن الحياة الخيّرة التي يفضّلها إلى نطاق الحجاج الأخلاقي، من أجل أن يستكشف مع الأطراف الأخرى ماذا بإمكان الجميع أن يريد."[31] وهكذا، فإنّ المجال الوحيد للتعالي المناسب، بعد انهيار الصور الدينية للعالم ولنمط الحياة معا، هو مجال الحجاج الأخلاقي بين المواطنين أكانوا مؤمنين أم محايدين دينيّا، حول أفضل شكل من الحياة الخيّرة التي يمكنهم أن يريدهم جميعا وبشكل جماعي.
ثمّة فشل أخلاقي مزدوج للحداثة يجب الشفاء منه: النزعة الوضعية وفلسفة الوعي، من حيث هما صيغتان من العقل الأداتي الذي يقوم على ظاهرة التشيّؤ، ومن ثمّ فإنّ الحل هو تطوير "مفهوم غير تأسيسي عن العقل التواصلي"[32]؛ أي بلورة أفعال لغوية تقوم على الحجاج الأخلاقي الذي يمكّن الذوات المتكلمة والفاعلة من أن تتواصل دون إكراه بحثا عن تفاهم غير تأسيسي؛ أي لا يتأسس على أيّ ادّعاء مطلق. بيد أنّ هذا لا يجب أن يتمّ بعيدا أو بمعزل عن الدين والمؤمنين من أيّ نوع. إنّ مسرح الحجاج هو "الخطاب الديني" (der religiöse Diskurs)[33] نفسه بوصفه لا يتمتّع بأيّ استثناء، لأنّه مجرّد "خطاب" قابل للتقاسم الحجاجي بين المتخاطبين المتساوين في حظوظ التفاهم. وحتى لا يبقى الحجاج بين الطرفين مجرد نزاع بين من يؤسس المعنى على وجود المطلق الديني ومن ينقده من خارج بشكل علماني، يقترح هابرماس أن يتحقق "التعالي من الداخل" بواسطة الحجاج الحرّ بين الأطراف المتساوين، ولم يجد أفضل من استعارة فلسفية لتخريج هذا الحل سوى عملية "الترجمة". ويكون المطلوب هو كيف ندّعي حقيقة لم تعد تعوّل على أيّ مطلق، بل هي تستدعي فقط تجارب لها موقعها في الخطاب الديني وتترجمها في لغة ثقافة يترجمها مجتمع معيّن في شكل حياته.[34] ولكن لا معنى لهذه الترجمة إذا كانت "تأويلا لا يسمح للتجارب الدينية بأن تسوغ بوصفها دينيّة".[35]
ما يعوّل عليه هابرماس هو ضرب من "أخلاق الخطاب" (eine Diskursethik) التي ينجح مجتمع ما في إرسائها بوصفها طريقة التفاهم المناسبة بين "مواطنين" (ذوات قانونية وأشخاص أخلاقية) لم يعد الفرق اللاهوتي بين "المؤمنين" و"غير المؤمنين" يعنيهم في أيّ شيء. هنا يصبح العيش في المجتمع المهيكل لغويّا بمثابة ساحة واسعة لضرب من "الفعل التواصلي"، حيث يتوجّه كل محاور حسب ادّعاءات صلاحية معيّنة يؤكّد هابرماس أنّنا "لا يمكن أن نرفعها في الواقع إلاّ في سياق لغاتنا الخاصة وأشكال حياتها (unserer Sprachen und unserer Lebensformen)"[36].
وبهذا المعنى تحديدا، يطرح هابرماس فكرته الطريفة عن التعالي، قائلا:
"نحن معرَّضون لحركة تعالٍ من الداخل، هي لا توجد تحت تصرّفنا أكثر ممّا يجعلنا حضور الكلمة المنطوقة أسيادا على بنية اللغة (أو اللوغوس)... وبذلك نحن على وعي بحدود هذا التعالي من الداخل الموجَّه نحو الحياة الدنيا؛ لكنّه لا يستطيع أن يجعلنا متيقنين من الحركة المضادة المتأتية من تعالٍ موازن من جهة الحياة الأخرى".[37]
خاتمة
يبدو أنّ ما يتبقّى هو البحث عن نوع من التعالي المركّب، أو المتعدد الأبعاد، المفتوح على إمكانيات أو آفاق معنى عدّة لسرد حدود العالم بطرق أخرى، حيث، كما قال هيدغر، يكون العالم نفسه متعاليا؛ أي مفتوحا للقاء الكيان الذي نكونه في كل مرة. إنّ المهمّة هي: كيف نحرّر "كن" التوحيدية من تأويلها الاستبدادي القائم على تسخير عالم الحوادث في جملته (وهو تأويل سيطر على التاريخ التوحيدي أكان في شكل دول دينية أو في شكل دول علمانية) ومن ثمّ نفتحها على حرية العوالم التي دشّنها الإنسان الأخير دون أيّة قدرة على السيطرة الأخلاقية على نتائجها؟ إنّ جميع الآلهة في صفّنا، نحن البشر، لكنّ المطلوب هو تحريرها من المؤوّلين السيّئين، وإعادتهم إلى "الأرض"، هذه المساحة الصغيرة الهشّة القابلة تماما للعطب، الملقاة في وجه "الكون" الذي وصفه برغسون في آخر منبعي الأخلاق والدين، بأنّه "مكنة لصنع الآلهة".
كيف نعيد "كن" المتعالية إلى البشر بوصفها آخر هدايا الآلهة بعد انسحابهم من وجه العالم؟ لا يبدو أنّ لهذه الهدية من اسم آخر سوى حرية العوالم، نعني حرية اختيار العالم، حرية الارتقاء إلى مكانة "العالَمين"، أولئك الذين يحذوهم شعور صحّي وعارم بإمكانية توسيع حدود العالم، والانطلاق في سفر نحو تعالٍ من نوع آخر، دونما حاجة إلى أيّ ضرب من سرديات "الإنسان الأرقى" الذي لا يصبو حسب نتشه، متى قرأناه مليّا ولم نعامله كمجرم حرب، إلاّ إلى الاستيلاء على مكان الإله الأخلاقي الذي أصبح شاغرا. نتشه الذي لم يتردد في أن تكون فاتحة كتابه الفجر آية مقتطفة من كتاب ريغفيدا (Rigveda)/ "المعرفة التي تحمد الآلهة"/ الأناشيد المقدّسة للهند القديمة، تقول: "وكم من فجر جديد لم يشرق بعدُ، كم من فجر جديد لا يزال ممكنا"...
انتهى
[1]- E. Levinas, Totalité et infini. Essai sur l"extériorité. Paris, biblio essais /Le Livre de Poche, 2010
[2]- Ibid. p. 30 sq.
[3]- Ibid. p. 40
[4]- Ibid. p. 41
[5]- Ibid.
[6]- Ibid. p. 33
[7]- E. Levinas, Autrement qu'être ou au-delà de l'essence. Paris, biblio essais /Le Livre de Poche, 1990
[8]- Ibid. p. 13
[9]- Ibid. note 1
[10]- Ibid. p. 14
[11]- Ibid. p. 15
[12]- Ibid. p. 33 sqq.
[13]- Ibid. p. 33
[14]- E. Levinas, Totalité et infini. Essai sur l'extériorité. Op. cit. P. IV
[15]- Max Horkheimer, Theismus-Atheismus, in: Gesammelte Schriften Band 7, Frankfurt/Main, 1985, 184
[16]- J. Habermas, „Zu Max Horkheimers Satz: »Einen unbedingten Sinn zu retten ohne Gott, ist eitel«, in: Texte und Kontexte. Suhrkamp, , Frankfurt/Main, 1991, 110-126
[17]- يورغن هابرماس، الدين والعقلانية. نصوص وسياقات. ترجمة حسن صقر، دار الحوار، 2016، ص153-175
[18]- نفسه، ص 137
[19]- نفسه، ص 135
[20]- نفسه، ص 146
[21]- نفسه، ص 154
[22]- نفسه، ص159
[23]- نفسه، ص 148
[24]- نفسه، ص 160
[25]- نفسه، ص 162
[26]- نفسه، ص 166
[27]- J. Habermas, « Exkurs: Transzendenz von innen, Transzendenz ins Diesseits », in: Texte und Kontexte. Suhrkamp, , Frankfurt/Main, 1991, 127-156
[28]- Ibid. p. 127
[29]- Ibid. p. 129
[30]- Ibid. p. 131
[31]- Ibid.
[32]- Ibid. p. 132
[33]- Ibid. p. 134
[34]- Ibid. p. 137
[35]- Ibid. p. 138
[36]- Ibid. p. 142
[37]- Ibid.