تسامح الإسلام مع غير المسلمين

(1)

تسامح الإسلام مع غير المسلمين : 

حصر و استقراء النصوص و الآثار المتعلقة بتعامل المسلمين مع غيرهم

قال أبو الفوارس (1):

ملكنا  فكان العفو منـا  سجية

                                   فلما  ملكتم  سـال بالدم أبطح

و حللتم  قتـل  الأسارى  وطالما

                                  غدونا على الأسرى نمن و نصفح

و حسبكم  هـذا  التفاوت  بيننا 

                                  و كل  إنـاء  بالذي  فيه  ينضح

المقدمة

إن الحمد لله, نحمده و نستعينه و نستغفره, و نعوذ بالله من شرور أنفسنا, و سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, و من يضلل الله فلا هادي له, و أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ و أشهد أن محمداً عبده و رسوله. 

أما بعد: فإن إقامة البراهين الدالة على سماحة الإسلام مع غيره من غير المسلمين كثيرة جداً من كتاب الله و سنة رسوله صلى الله عليه و سلم و السيرة النبوية و الوقائع التاريخية, و قد شهد بذلك القاصي و الداني, و شهد بذلك حتى غير المسلمين.

فهذا أحد المستشرقين و هو برناد لويس يقول عن تسامح المسلمين: “و في نظرة المسلمين إلى المسيحية تسامح و تساهل أكثر بكثير مما في نظرة أوربا المسيحية المعاصرة التي تنظر إلى الإسلام على أنه باطل و شر. و هذه النظرة المتسامحة من المسلمين تنعكس في المعاملة الحسنة و التسامح الكبير الذي يلقاه أتباع الديانة المسيحية في المجتمعات الإسلامية بالرغم من موقف المسيحيين كديانة منافسة(2).

و يقول توماس أرنولد: “إن تسامح العرب كان وراء دخول الكثير في الإسلام”(3).

و يقول فيكتور سحاب:  لا شك أن المسيحيين المخضرمين الذين عاصروا الفتح الإسلامي هم أكثر من لمس الأمر بوضوح، إذ انتقلوا فجأة من سلطان دولة كانت تضطهدهم اضطهاداً وصفه بعض المؤرخين العصريين في أوروبا بأنه لا يشبه حتى أعمال البهائم، إلى سلطان دولة حافظت لهم على أديارهم و بيعهم، كما خيرتهم بين اعتناق الإسلام، و البقاء على دينهم بشرط الدخول في ذمة المسلمين، أي بشرط الإنضمام إلى دولة الإسلام و رفض القتال مع أعدائها، و كان ( ألكيروس)- الكنيسة المصرية – متخفياً في الصحاري هرباً من المذابح البيزنطية؛ فلما جاء الفتح الإسلامي عادت الكنيسة المصرية إلى حرّيّتها الكاملة علناً، و لقد كان في الإسلام متسع للنصارى لم يكن متاحاً لهم شيء منه في دولة بيزنطية, و تمتعت المذاهب المسيحية العربية على اختلافها بعد ظهور الإسلام بالحرية التي كانت تقاتل من أجلها تحت حكم بيزنطة، و وقت كانت جميع الدول لا ترضى بدين آخر داخل تخومها(4). 

 

و في هذا البحث الاستقرائي من سنة المصطفى صلى الله عليه و سلم، نعرض أوجه كثيرة من تسامح الإسلام مع شتى الديانات بمختلف أصنافها و تنوعها، و نعرض صوراً من هذا التسامح بمواقف مشرّفة من حياة نبينا عليه الصلاة و السلام، الذي قال الله في حقه: (وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[القلم:4]، و هو قدوة و أسوة المسلمين جميعاً, نسأل الله أن نكون قد وفقنا في جمع مادة هذا البحث, و أن يرزقنا الإخلاص في القول و العمل.

منهج البحث

 هذا الموضوع من الأهمية بمكان, و خصوصا في مثل هذا الزمان الذي كثر فيه الطاعنون في دين الإسلام, و محاولة تشويه حقيقته المشرفة، و إقامة البراهين الدالة على سماحة الإسلام مع غيره من غير المسلمين كثيرة جداً, و هذه النصوص و المواقف و النماذج العملية كثيرة و مبثوثة في بطون الكتب و المراجع, و تحتاج إلى بحث و استقراء و تأمل في الأحاديث و النصوص, فرب كلمة في حديث طويل دلت على المراد، كما في قصة مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما طعن قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً، الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام(5). وعلى ذلك:

1- قمت باستقراء الكتب الستة: البخاري ومسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وكذلك الموطأ والدارمي ودلائل النبوة لأبي نعيم وللبيهقي، وكذلك “مستدرك” الحاكم.

2- بعد ذلك قمت باستقراء الكتب التي عنت بالزوائد على الكتب الستة كـ”المطالب العالية” لابن حجر، و”مجمع الزوائد” للهيثمي ،و”إتحاف الخيرة” للبوصيري، والزوائد على صحيح ابن حبان المسمى “موارد الظمآن”.

3- كذلك قمت بالبحث والنظر في كتاب “المصنف” لابن أبي شيبة، و”المصنف” لعبد الرزاق الصنعاني، وكتاب “المعجم” لابن المقريء، و”البداية والنهاية” لابن كثير, وموسوعة الحافظ ابن حجر الحديثية، وكتب شيخنا الألباني رحمه الله، وغيرها، كذلك استفدت من الكمبيوتر في بحثي بواسطة أقراص الموسوعات الحديثية.

4- قمت بتخريج الأحاديث وعزوها إلى مصادرها وتوثيقها وبيان درجتها من الصحة أو الضعف في الأغلب، وقد اعتمدت توثيق شيخنا الألباني رحمه الله في ذلك في الأغلب. 

5- أبقيت الأحاديث المرسلة وبلاغات ابن إسحق المتعلقة بالسيرة النبوية، وقمت بحذف الأحاديث التي في رواتها متروك أو كذاب أو شديدة الضعف في الأغلب.

6- بلغ مجموع الأحاديث والآثار التي قمت بجمعها أكثر من (370) بين حديث مرفوع أو أثر لصحابي أو قول لتابعي.

7- إذا كان الحديث في “الصحيحين” أو في أحدهما اكتفيت بالعزو  إليها , فإن لم يوجد في واحد منهما , ووجد في السنن الأربعة اكتفيت بالعزو إليها, فإن لم يوجد في الكتب الستة عزوت الحديث حسب مصدره.

8- قمت بترجمة لأهم الأعلام الواردين في البحث.

9- قمت بذكر بعض فوائد الأحاديث والآثار.

 وقد رتبت البحث على النحو الآتي:

الباب الأول:

 تمهيد 

– بيان أن  الإسلام  حث على خلق الرحمة مع غير المسلمين. 

– بيان أن الإسلام دين هداية.   

– التسامح في الاعتقاد والعبادة. 

– الوصية بأهل الذمة والإحسان إلى أهل العهد.

– حرمة دماء أهل الذمة والعهد والمستأمنين. 

– حرمة أموالهم وأعراضهم.

– حرمة أذيتهم وظلمهم.

– الوفاء بالعهود والمواثيق.

– جواز الصدقة على أهل الذمة والعهد والأمان إذا كانوا فقراء.

– الحكم بين أهل الذمة.

– قبول شهادة غير المسلمين.

– قبول شفاعتهم في بعض الأحوال.

– حكم السلام على غير المسلم ومصافحته.

– الاستئذان على المشركين.

– جواز إكرامهم. 

– حل ذبائح أهل الكتاب. 

– معاملتهم في البيع والشراء والتجارة والإجارة وغيرها من المعاملات. 

– أخذ العلوم عنهم وتعلم لغتهم. 

– جواز استطباب غير المسلم. 

– حق الجوار لغير المسلم.

– عيادة غير المسلمين.

– الدعاء لهم بالهداية ونحو ذلك.

– مخالطة غير المسلمين من أهل الكتاب وغيرهم.

– التهادي معهم  وقبول هداياهم. 

– صلة  الرحم للمشرك القريب.

– موافقة أهل الكتاب. 

– تعزية الذمي ودفنه. 

– الإرث والوصية. 

– الزواج من أهل الكتاب.

– الرواية والحديث عنهم.

– الإحسان إليهم. 

– قبول دعوتهم. 

– المن عليهم بالعتق. 

– العفو عنهم. 

– العدل.

– مظاهر التسامح في الجهاد.

– مظاهر التسامح في الجزية.

10- الباب الثاني: قمت بعد ذلك بذكر القواعد والضوابط الفقهية والآداب السلوكية المستنبطة من الأحاديث والآثار المذكورة في الباب الأول لسماحة الإسلام مع نماذج تطبيقية على حسب مارتبناه في الباب الأول.

11- قمت بعمل فهرس للأحاديث النبوية المرفوعة والأثار الموقوفة عن الصحابة والتابعين , وفهرس عام .

الباب الأول

تمهيد: 

 

الإسلام دين اليسر ورفع الحرج والمشقة؛ فلا عسر فيه ولا أغلال ولا آصار, وهذه ميزة للإسلام لا يشاركه فيها دين آخر, وقد كانت الأمم السابقة تكلف بتكاليف عسيرة, وفرض عليها فرائض شديدة, وذلك لكثرة عنادهم وشكوكهم، قال تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ)[الأعراف:175]، وقال تعالى: (فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا)[النساء:160]، وقال تعالى: (رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [البقرة:286].

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((دعوني ما تركتكم إنما هلك من كان قبلكم يسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم))(6). 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إنما بعثت بحنيفية سمحة))(7).

ومن هذا المنطلق فقد شمل الإسلام بيسره ورفقه الناس حتى غير المسلمين؛ فتسامح معهم في كثير من القضايا والأحكام, ومنحهم كثيراً من الحقوق(8). وقد تجلى هذا التسامح  في رحمة الإسلام الواسعة. فمن أسماء الله تعالى الحسنى الرحمن الرحيم, ومن صفاته الرأفة والرحمة، قال تعالى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ)[الأعراف:156].

قال الألوسي(9) رحمه الله في تفسير هذه الآية: ” أي شأنها أنها واسعة تبلغ كل شيء، ما من مسلم ولا كافر، ولا مطيع ولا عاص، إلا وهو متقلب في الدنيا بنعمتي”(10).

وبين الله أنه أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للخلق كما قال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ)[الأنبياء:107].

فرحمة المسلمين لا تختص بهم فقط، بل هي شاملة لهم ولغيرهم من المخلوقات في الدنيا. فقد أمر صلى الله عليه وسلم أمته برحمة كل من أوجده الله تعالى على هذه الأرض، من إنسان وحيوان.

فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء))(11). 

و(من) الموصولة في قوله: (ارحموا من في الأرض)، شاملة للإنسان مسلما أو كافراً، وللحيوان كذلك، وعلى هذا حمله العلماء.

قال الحافظ ابن حجر(12) رحمه الله: “قال ابن بطال(13): فيه الحض على استعمال الرحمة لجميع الخلق، فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك منها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام والسقي والتخفيف في الحمل وترك التعدي بالضرب…”(14).

ونفى الله تعالى رحمته عمن لم يرحم الناس، كما في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه، قَال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يرحم الله من لا يرحم الناس))(15).

 

وهو نفي عام يدخل فيه كل الناس، والنفي هنا للوعيد والتحذير والتنفير من الغلظة والشدة والعدوان على الناس، ولا يلزم منه حرمان من فقد الرحمة الواجبة من رحمة الله له في الدنيا، بمنحه الرزق والصحة والقوة المادية والذرية وغيرها، سواء كان من المسلمين أو غيرهم، ابتلاء له وامتحانا، لأن رحمة الله في الدنيا تعم جميع خلقه.

ومن الأدلة على شمول رحمة الخلق أن الله جعل من يقوم على اليتامى، بالإنفاق والكفالة الشاملة التي يحتاجون إليها، شركاء لرسوله صلى الله عليه وسلم في الجنة، كما في حديث سهل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال: ((أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا وأشار بالسبابة والوسطى وفرج بينهما شيئاً))(16).

وبين في حديث أبي هريرة أنه يستوي في هذه المنزلة من كفل يتيماً من أقاربه أو من غيرهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كافل اليتيم – له أو لغيره- أنا وهو كهاتين في الجنة وأشار مالك بالسبابة والوسطى))(17).

وهو يشمل كذلك يتامى المسلمين وغيرهم، كما تدل عليه صيغة العموم، لأن “أل” في اليتيم للجنس.

وقد تعدت رحمة الإسلام حتى إلى الحيوان والطير، ومن أمثلة ذلك:

حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله  صلى الله عليه وسلم قال: ((بينا رجل يمشي، فاشتد عليه العطش، فنزل بئرا فشرب منها، ثم خرج فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا مثل الذي بلغ بي، فملأ خفه ثم أمسكه بفيه ثم رقِيَ، فسقى الكلب، فشكر الله له فغفر له. قالوا: يا رسول الله! وإن لنا في البهائم أجراً؟ قال: في كل كبد رطبة أجر))(18).

وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه أخبر  أن الله غفر لامرأة بغي لسقيها كلباً اشتد عطشه. كما في حديث أبي هريرة: ((أن امرأة بغياً رأت كلباً في يوم حار يطيف ببئر، قد أدلع لسانه من العطش فنزعت له بموقها فغفر لها))(19).

وعن عبد الرحمن بن عبد الله عن أبيه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته؛ فرأينا حمّرة(20) معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تفرش (أي ترفرف)، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها)), ورأى قرية نمل قد حرقناها فقال: ((من حرق هذه ؟)). قلنا: نحن. قال: ((إنه لاينبغي أن يعذب بالنار إلا رب النار))(21).

وعن ابن عمر رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((دخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلم تطعمها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض))(22).

فإذا كانت هذه الرأفة والرحمة والتسامح مع الحيوان والطير؛ فلا شك أن بني آدم أولى بهذه الرحمة والرأفة بمختلف ألوانهم وأجناسهم.

حث الإسلام  على خلق الرحمة مع غير المسلمين

وهنا سرد  للأحاديث التي فيها الحث على خلق الرحمة.

1- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قيل: يا رسول الله ادع على المشركين! قال: ((إني لم أبعث لعاناً, وإنما بعثت رحمة))(23).

2- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً, وأن ينحي عنهم الجبال فيزدرعوا. قال الله عز وجل: إن شئت آتيناهم ما سألوا؛ فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم, وإن شئت نستأني بهم لعلنا ننتج منهم. فقال:  لا، بل أستأني بهم . فأنزل الله هذه الآية: (وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً)[الإسراء:59](24).

3- وفي رواية صحيحة  عند البيهقي في “دلائل النبوة” (2/272): وإن شئت أن أفتح لهم باب التوبة والرحمة؟ فقال رسول الله: ((لا بل تفتح لهم باب التوبة والرحمة)).

4- عن عروة أن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم حدثته: أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم أشد من يوم أحد؟ قال: ((لقد لقيت من قومك ما لقيت وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال؛ فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب؛ فرفعت رأسي؛ فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت؛ فإذا فيها جبريل فناداني فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك, وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم! فناداني ملك الجبال فسلم علي ثم قال: يا محمد فقال ذلك فيما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً))(25).

فوائد الأحاديث:

فيها بيان عظم الإسلام وسماحته، فقد رفض النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء على المشركين ورجا من الله أن يهديهم, وأن يستأني بهم, وأن يفتح لهم باب التوبة.

 5- عن مسروق قال: قال عبد الله رضي الله عنه: إنما كان هذا لأن قريشاً لما استعصوا على النبي صلى الله عليه وسلم دعا عليهم بسنين كسني يوسف ؛ فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد؛ فأنزل الله تعالى: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ) [الدخان:10-11]. قال: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: يا رسول الله استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. قال: لمضر؟ إنك لجريء. فاستسقى فسقوا. فنزلت: (إِنَّكُمْ عَائِدُونَ?[الدخان:15]. فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية؛ فأنزل الله عز وجل: (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ)[الدخان:16]. قال يعني يوم بدر(26).

فوائد الحديث:

في الحديث دليل على سماحة الإسلام ورأفته؛ فمع ما صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم وبأصحابه؛ فهو يدعو لهم بالرزق والمعافاه.

6- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خيلاً قبل نجد؛ فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال فربطوه بسارية من سواري المسجد؛ فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((ما عندك يا ثمامة))؟. فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم, وإن تنعم تنعم على شاكر, وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت. فترك حتى كان الغد فقال: ((ما عندك يا ثمامة))؟. فقال: ما قلت لك إن تنعم تنعم على شاكر. فتركه حتى كان بعد الغد.فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك.  فقال: ((أطلقوا ثمامة)). فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، يا محمد والله ما كان على الأرض وجه أبغض إلي من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلي, والله ما كان من دين أبغض إلي من دينك فأصبح دينك أحب دين إلي، والله ما كان من بلد أبغض إلي من بلدك فأصبح بلدك أحب البلاد إلي, وإن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة؛ فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر؛ فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت قال: لا، ولكن أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم (27).

7- زاد ابن هشام في “السيرة” بلاغاً (6/51): ثم خرج إلى اليمامة فمنعهم أن يحملوا إلى مكة شيئاً؛ فكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تأمر بصلة الرحم وإنك قطعت أرحامنا؛ فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه أن يخلي بينهم وبين الحمل(28).

قال ابن حجر: وفي قصة ثمامة من الفوائد: ربط الكافر في المسجد والمن على الآسير الكافر, وتعظيم أمر العفو عن المسيء؛ لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حباً في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل، وأن الإحسان يزيل البغض ويثبت الحب، وفيه الملاطفة بمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير، اهـ. قلت: ومن فوائده أيضاً أنه دل على جواز تصدير الطعام إلى المشركين, وإن كانوا أهل حرب.

8- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده لا يضع الله رحمته إلا على رحيم)). قالوا: يا رسول الله كلنا يرحم قال: ((ليس برحمة أحدكم صاحبه يرحم الناس كافة))(29).

فوائد الحديث:

أن النبي صلى الله عليه وسلم ندب إلى رحمة الناس كافة فيدخل فيهم المسلم والكافر والصغير والكبير والذكر والأنثى.

الإسلام دين هداية

 حرص الإسلام على هداية الناس لإخراجهم من الضلالة إلى الهدى, وإنقاذهم من النار. ولذلك قال الله مرغباً أهل الكتاب بالإسلام: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ * وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة:65-66].

فقد جاء الإسلام ليهدي الضالين ليتمكنوا بحججه وبيناته من التفريق بين الحق والباطل، كما قال تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ…)[البقرة:185]. وقال تعالى: (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم)[الإسراء:9].

وهو امتداد للهدى الذي منحه الله تعالى للبشرية من يوم خلق أصلها آدم عليه السلام، وجعله معيارا يفرق به بين المهتدين والضالين، كما قال تعالى: (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)[البقرة:39].

ومن الأحاديث التي تدل على حرص الإسلام على هداية الناس جميعاً وترغيبهم فيه:

9- عن أبي هريرة رضي الله عنه: قدم طفيل بن عمرو الدوسي وأصحابه على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إن دوساً عصت وأبت فادع الله عليها. فقيل: هلكت دوس. قال : اللهم اهد دوساً وأت بهم(30).

فوائد الحديث: جواز الدعاء للمشركين بالهداية , وقد فهم من ذلك الإمام البخاري وعليه فقد بوب باب الدعاء للمشركين بالهدى ليتألفهم .

وقال الكرماني (31): هم طلبوا الدعاء عليهم ورسول الله دعا لهم, وذلك من كمال خلقه العظيم, ورحمته على العالمين(32).

وبوب البخاري في “صحيحه”: باب دعوة اليهود والنصارى وعلى مايقاتلون عليه وما كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى كسرى وقيصر والدعوة قبل القتال.

وبوب كذلك باب دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام والنبوة وأن لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وقوله تعالى: (مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ..) إلى آخر الآية/آل عمران (79).

10- ثم ذكر عن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنه أخبره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر يدعوه إلى الإسلام وبعث بكتابه إليه مع دحية الكلبي ,وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدفعه إلى عظيم بصرى ليدفعه إلى قيصر, وكان قيصر لما كشف الله عنه جنود فارس مشى من حمص إلى إيلياء شكراً لما أبلاه الله؛ فلما جاء قيصر كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين قرأه: التمسوا لي ها هنا أحدا من قومه لأسألهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم … الحديث(33).

وقد أخرج البخاري الحديث مطولاً:

11- عن عبد الله بن عباس: أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش, وكانوا تجاراً بالشأم في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ماد فيها أبا سفيان وكفار قريش، فأتوه وهم بإيلياء فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: أيكم أقرب نسباً بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسباً. فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه؛ فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم إني سائل عن هذا الرجل؛ فإن كذبني فكذبوه فوالله لولا الحياء من أن يأثروا علي كذباً لكذبت عنه. ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله؟ قلت لا. قال: فهل كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا. قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم. قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال : فهل يغدر؟ قلت: لا ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه الكلمة. قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيء واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة.

فقال للترجمان: قل له: سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب؛ فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا. قلت: فلو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل, وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون, وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؛ فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف؛ فإن كان ما تقول حقاً فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم حتى أخلص إليـه لتجشمت لقاءه, ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيـه: 

((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين؛ فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين و(يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ)[آل عمران:64].

قال أبو سفيان: فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب وارتفعت الأصوات وأخرجنا فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أنه يخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام.

وكان ابن الناطور صاحب إيلياء، وهرقل أسقفاً على نصارى الشأم، يحدث أن هرقل حين قدم إيلياء أصبح يوماً خبيث النفس، فقال بعض بطارقته: قد استنكرنا هيئتك.

المصدر: http://www.natharatmouchrika.net/index.php/search/item/2285-1-2

(2)

قال ابن الناطور: و كان هرقل حزاء ينظر في النجوم فقال لهم حين سألوه: إني رأيت الليلة حين نظرت في النجوم ملك الختان قد ظهر فمن يختتن من هذه الأمة؟ قالوا: ليس يختتن إلا اليهود فلا يهمنك شأنهم و اكتب إلى مداين ملكك فيقتلوا من فيهم من اليهود، فبينما هم على أمرهم أتى هرقل برجل أرسل به ملك غسان يخبر عن خبر رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما استخبره هرقل قال: أذهبوا فانظروا أمختتن هو أم لا؟ فنظروا إليه فحدثوه أنه مختتن، و سأله عن العرب فقال: هم يختتنون. فقال هرقل: هذا ملك هذه الأمة قد ظهر. ثم كتب هرقل إلى صاحب له برومية و كان نظيره في العلم و سار هرقل إلى حمص فلم يروم حمص حتى أتاه كتاب من صاحبه يوافق رأي هرقل على خروج النبي صلى الله عليه و سلم و أنه نبي فأذن هرقل لعظماء الروم في دسكرة له بحمص ثم أمر بأبوابها فغلقت ثم اطلع فقال: يا معشر الروم هل لكم في الفلاح و الرشد و أن يثبت ملككم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد غلقت؛ فلما رأى هرقل نفرتهم و أيس من الإيمان قال: ردوهم علي. و قال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت فسجدوا له و رضوا عنه. فكان ذلك آخر شأن هرقل(34).

قال النووي(35): في هذا الكتاب جمل من القواعد و أنواع من الفوائد منها: دعاء الكفار إلى الإسلام قبل قتالهم, و هذا الدعاء واجب و القتال قبله حرام إن لم تكن بلغتهم دعوة الإسلام, و إن كانت بلغتهم فالدعاء مستحب هذا مذهبنا, و فيه خلاف للسلف. 

و منها: التوقي في المكاتبة و استعمال الورع فيها فلا يفرط و لا يفرط, و لهذا قال النبي صلى الله عليه و سلم إلى هرقل عظيم الروم؛ فلم يقل ملك الروم لأنه لا ملك له و لا لغيره إلا بحكم دين الإسلام, و لا سلطان لأحد إلا لمن ولاه رسول الله صلى الله عليه و سلم أو ولاه من أذن له رسول الله صلى الله عليه و سلم بشرط, و إنما ينفذ من تصرفات الكفار ما تنفذه الضرورة و لم يقل إلى هرقل فقط بل أتى بنوع من الملاطفة فقال عظيم الروم، أي الذي يعظمونه و يقدمونه و قد أمر الله تعالى بإلانة القول لمن يدعى إلى الإسلام فقال تعالى: (ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ)[النحل:125]. و قال تعالى: (فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:44]، و غير ذلك(36).

قلت: و فيه جواز مخاطبة أهل الشرك بلفظ فيه تعظيم و تبجيل لترغيبه بالإسلام كما قال النبي صلى الله عليه و سلم عظيم الروم, و فيه إرسال السفراء و الدعاة لنشر دين الإسلام.

و فيه أيضا شهادة غير المسلمين بفضائل هذا الدين و محاسنه كما قال أبو سفيان و كان يومئذ مشركاً لما ذكر ما جاء به النبي صلى الله عليه و سلم: اعبدوا الله وحده و لا تشركوا به شيء و اتركوا ما يقول آباؤكم, و يأمرنا بالصلاة و الصدق و العفاف و الصلة.

12- عن أنس رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى كسرى و إلى قيصر و إلى النجاشي و إلى كل جبار يدعوهم إلى الله تعالى, و ليس بالنجاشي الذي صلى عليه النبي صلى الله عليه و سلم (37).

قال النووي: و في هذا الحديث جواز مكاتبة الكفار و دعاؤهم إلى الإسلام(38).

13- و أخرج البخاري و مسلم في “صحيحيهما” عن قتادة قال: سمعت أنسا رضي الله عنه يقول: لما أراد النبي صلى الله عليه و سلم أن يكتب إلى الروم قيل له: إنهم لا يقرؤون كتاباً إلا أن يكون مختوماً؛ فاتخذ خاتماً من فضة؛ فكأني أنظر إلى بياضه في يده و نقش فيه محمد رسول الله(39).

فوائد الحديث: فيه الأخذ بما تعارف عليه غير المسلمين في كتاباتهم و مراسيمهم.

14- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينا نحن في المسجد خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: ((انطلقوا إلى يهود)). فخرجنا معه حتى جئنا بيت المدراس، فقام النبي صلى الله عليه و سلم فناداهم فقال: ((يا معشر يهود أسلموا تسلموا)). فقالوا: بلغت يا أبا القاسم. قال: فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((ذلك أريد أسلموا تسلموا)). فقالوا: قد بلغت يا أبا القاسم. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((ذلك أريد))(40).

15- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه و سلم حين أنزل الله عز و جل: (وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ). قال: يا معشر قريش – أو كلمة نحوها – اشتروا أنفسكم لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا بني مناف لا أغني عنكم من الله شيئاً. يا عباس بن عبد المطلب لا أغني عنك من الله شيئاً, و يا صفية عمة رسول الله لا أغني عنك من الله شيئاً, و يا فاطمة بنت محمد سليني ما شئت من مالي لا أغني عنك من الله شيئاً(41).

16- عن محمد بن إسحاق قال: حدثني من سمع عبد الله بن الحارث بن نوفل و استكتمني اسمه عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب قال: لما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه و سلم: (وَ أَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقْرَبِينَ * وَ اخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: عرفت أني إن بادأت بها قومي رأيت منهم ما أكره؛ فصمت فجاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد إن لم تفعل ما أمرك به ربك عذبك بالنار. قال: فدعاني فقال: يا علي إن الله قد أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين؛ فاصنع لنا يا علي شاة على صاع من طعام, و أعد لنا عسل و لبن، ثم اجمع لي بني عبد المطلب ففعلت؛ فاجتمعوا له يومئذ و هم أربعون رجلاً يزيدون رجلاً أو ينقصون؛ فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب الكافر الخبيث فقدمت إليهم تلك الجفنة؛ فأخذ رسول الله صلى الله عليه و سلم منها حذية فشقها بأسنانه ثم رمى بها في نواحيها, و قال:  كلوا بسم الله فأكل القوم حتى نهلوا عنه ما نرى إلا آثار أصابعهم، و الله إن كان الرجل ليأكل مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: اسقهم يا علي. فجئت بذلك القعب فشربوا منه حتى نهلوا منه جميعاً, و أيم الله إن كان الرجل ليشرب مثله؛ فلما أراد رسول الله صلى الله عليه و سلم أن يكلمهم بدره أبو لهب لعنه الله فقال: لهدّما – كلمة تعجب – سحركم صاحبكم فتفرقوا, و لم يكلمهم رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يا علي عد لنا بمثل الذي كنت صنعت بالأمس من الطعام و الشراب؛ فإن هذا الرجل قد بدرني إلى ما سمعت قبل أن أكلم القوم. ففعلت ثم جمعتهم له فصنع رسول الله صلى الله عليه و سلم كما صنع بالأمس فأكلوا حتى نهلوا عنه ثم سقيتهم من ذلك القعب حتى نهلوا, و أيم الله إن كان الرجل ليأكل مثلها و ليشرب مثلها، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يا بني عبد المطلب إني و الله ما أعلم شاباً من العرب جاء قومه بأفضل من ما جئتكم به إني قد جئتكم بأمر الدنيا و الآخرة(42).

فوائد الحديثين:

حرص النبي صلى الله عليه و سلم على دعوة قومه, و فيه أيضاً تلطف النبي صلى الله عليه و سلم في دعوة قومه و الإحسان إليهم.

17- عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ((اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب)). قال: و كان أحبهما إليه عمر(43).

فوائد الحديث: فيه جواز الدعاء للمشركين بالهداية.

18- عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: نظر رسول الله صلى الله عليه و سلم قبل اليمن فقال: اللهم أقبل بقلوبهم ثم نظر قبل الشام فقال: اللهم أقبل بقلوبهم، ثم نظر قبل العراق فقال: اللهم أقبل بقلوبهم, و بارك لنا في صاعنا و مدنا(44).

19- عن جابر رضي الله عنه قال: قالوا: يا رسول الله أحرقتنا نبال ثقيف فادع الله عليهم! قال: ((اللهم اهد ثقيفا))(45).

فوائد الحديث: فيه دليل على سماحة الإسلام فقد رفض النبي صلى الله عليه و سلم الدعاء على المشركين, و فيه أيضاً جواز الدعاء للمشركين بالهداية.

20- عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه و سلم يوم خيبر: ((لأعطين الراية غداً رجلاً يفتح على يديه يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله)). فبات الناس ليلتهم أيهم يعطى؛ فغدوا كلهم يرجونه فقال: ((أين علي))؟. فقيل: يشتكي عينيه فبصق في عينيه و دعا له فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه فقال: أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟ فقال: ((انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام, و أخبرهم بما يجب عليهم فوالله لأن يهدي الله رجلاً بك خير لك من أن يكون لك حمر النعم))(46).

قال ابن حجر في بيان فوائد الحديث: يؤخذ منه أن تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله(47).

21- عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم كتب إلى بكر بن وائل: ((من محمد رسول الله إلى بكر بن وائل أن أسلموا تسلموا)) قال: فما قرأه إلا رجل منهم من بني ضبيعة فهم يسمون بني الكاتب(48).

22- عن أبي بردة أنه سمع أباه عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين الرجل تكون له الأمة فيعلمها فيحسن تعليمها و يؤدبها فيحسن أدبها ثم يعتقها فيتزوجها فله أجران, و مؤمن أهل الكتاب الذي كان مؤمناً ثم آمن بالنبي صلى الله عليه و سلم فله أجران, و العبد الذي يؤدي حق الله و ينصح لسيده))(49).

 

فوائد الحديث: فيه دليل على حرص الإسلام على هداية الناس و إنقاذهم من الضلالة إلى النور، و ترغيب أهل الكتاب في الإسلام ببيان مضاعفة الأجر في إسلامهم.

23- و عن ابن عباس رضي الله عنه أن الوليد بن المغيرة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فقرأ عليه القرآن؛ فكأنه رق له فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه. فقال: يا عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً. قال:لم؟ قال: ليعطوكه فإنك أتيت محمداً لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني أكثرها مالاً. قال: فقل فيه قولاً يبلغ قومك أنك منكر له. قال: و ماذا أقول؛ فوالله ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني و لا أعلم برجزه و لا بقصيده مني و لا بأشعار الجن, و الله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا, و الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة، و إن عليه لطلاوة، و إنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، و إنه ليعلو و لا يعلى، و إنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه قال: قف عني حتى أفكر فيه؛ فلما فكر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر يأثره عن غيره؛ فنزلت: (ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَ جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا * وَ بَنِينَ شُهُودًا) الآيات(50).

قال ابن كثير: و قد رواه حماد بن زيد عن أيوب عن عكرمة مرسلاً، و فيه أنه قرأ عليه: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإِحْسَانِ وَ إِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَ يَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَ الْمُنكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90](51).

فوائد الحديث:

فيه التلطف في دعوة الآخرين و بيان محاسن دين الإسلام، فقد قرأ النبي صلى الله عليه و سلم قوله تعالى: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الإِحْسَانِ). و فيه أيضا شهادة المشرك على محاسن الإسلام كما شهد بذلك الوليد بن المغيرة.

24- و عن الضحاك بن النعمان بن سعد أن مسروق بن وائل قدم على رسول الله صلى الله عليه و سلم المدينة بالعقيق؛ فأسلم و حسن إسلامه, و قال: يا رسول الله إني أحب أن تبعث إلى قومي تدعوهم إلى الإسلام, و أن تكتب لي كتاباً إلى قومي عسى الله أن يهديهم. فقال لمعاوية: اكتب له فكتب له: بسم الله الرحمن الرحيم .. إلى الأقيال من حضرموت بإقام الصلاة و إيتاء الزكاة و الصدقة(52).

فوائد الحديث: حرص الإسلام على هداية غير المسلمين و إنقاذهم من الضلالة إلى الهدى.

25- عن سعيد بن المسيب عن أبيه أنه أخبره: أنه لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه و سلم فوجد عنده أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أمية بن المغيرة، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأبي طالب: ((يا عم، قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله)). فقال أبو جهل و عبد الله بن أمية: يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؛ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه و سلم يعرضها عليه و يعودان بتلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم: هو على ملة عبد المطلب, و أبى أن يقول لا إله إلا الله. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((أما و الله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك)). فأنزل الله تعالى فيه: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ ..) الآية(53).

26- عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((يا معاذ لأن يهدي الله على يديك رجلاً من أهل الشرك خير لك من أن يكون لك حمر النعم))(54).

27- و عن عقبة بن عامر الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((من أسلم على يديه رجل وجبت له الجنة))(55).

28- عن عبد الرحمن بن عائذ رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه و سلم إذا بعث بعثاً قال: ((تألفوا الناس و تأنوا بهم و لا تغيروا عليهم حتى تدعوهم فما على الأرض من أهل بيت مدر و لا وبر إلا تأتوني بهم مسلمين أحب إلى من أن تقتلوا رجالهم و تأتوني بنسائهم))(56).

فوائد الحديث: فيه بيان حرص الإسلام على تأليف قلوب غير المسلمين, و أن الله أرسل محمداً صلى الله عليه و سلم لهداية الناس, و أن القتل ليس مقصودا لذاته.

 29- قال البيهقي في “الدلائل” (2/308): باب ما جاء في كتاب النبي صلى الله عليه و سلم الى النجاشي، ثم روى عن الحاكم عن الأصم عن أحمد بن عبد الجبار عن يونس عن ابن إسحاق قال: هذا كتاب من رسول الله صلى  الله عليه و سلم إلى النجاشي الأصحم عظيم الحبشة: سلام على من اتبع الهدى و آمن بالله و رسوله و شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يتخذ صاحبة و لا ولداً, و أن محمداً عبده و رسوله و أدعوك بدعاية الله؛ فإني أنا رسوله فأسلم تسلم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَ لاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَ لاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64]، فإن أبيت فعليك إثم النصارى من قومك.

هذا حديث مرسل.

30- عن الزهري عن عبد الله بن عبد القاريء أن رسول الله صلى الله عليه و سلم بعث حاطب بن أبي بلتعه إلى المقوقس صاحب الإسكندرية؛ فمضى بكتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إليه فقبل الكتاب و أكرم حاطباً و أحسن نزله و سرحه إلى النبي صلى الله عليه و سلم, و أهدى له مع حاطب كسوة و بغلة بسرجها و جاريتين إحدهما أم ابراهيم و أما الأخرى فوهبها رسول الله صلى الله عليه و سلم لمحمد بن قيس العبدي(57).

31- ثم روي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه ثنا يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب عن أبيه عن جده حاطب بن أبي بلتعة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى المقوقس ملك الإسكندرية قال: فجئته بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزلني في منزله وأقمت عنده، ثم بعث إلي وقد جمع بطارقته وقال: إني سائلك عن كلام فأحب أن تفهم عني. قال: قلت: هلم. قال: أخبرني عن صاحبك أليس هو نبي؟ قلت: بل هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فما له حيث كان هكذا لم يدع على قومه حيث أخرجوه من بلده إلى غيرها؟ قال: فقلت: عيسى ابن مريم أليس تشهد أنه رسول الله؟ قال: بلى. قلت: فما له حيث أخذوه قومه فأرادوا أن يصلبوه ألا يكون دعا عليهم بأن يهلكهم الله حيث رفعه الله الى السماء الدنيا؟ فقال لي: أنت حكيم قد جاء من عند حكيم. هذه هدايا أبعث بها معك الى محمد وأرسل معك ببذرقة يبذرقونك إلى مأمنك. قال: فأهدى الى رسول الله صلى الله عليه و سلم ثلاث جوار منهم أم إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه و سلم, و واحدة وهبها رسول الله صلى الله عليه و سلم لحسان بن ثابت الأنصاري, و أرسل إليه بطرف من طرفهم(58).

فوائد الحديث: فيه دعوة الغير إلى الإسلام و التلطف في الدعوة, و قبول هدية المشرك.

32- قال ابن إسحاق: و حدثني أبي إسحاق بن يسار قال: و كان ركانة بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف أشد قريشاً؛ فخلا يوماً برسول الله صلى الله عليه و سلم في بعض شعاب مكة فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((يا ركانة ألا تتقي الله و تقبل ما أدعوك إليه؟)). قال: إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك. فقال له رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((أفرأيت إن صرعتك أتعلم أن ما أقول حق؟)). قال: نعم. قال: ((فقم حتى أصارعك)). قال: فقام ركانة إليه فصارعه؛ فلما بطش به رسول الله صلى الله عليه و سلم أضجعه لا يملك من نفسه شيئاً ثم قال: عد يا محمد. فعاد فصرعه فقال: يا محمد و الله إن هذا للعجب أتصرعني! قال: ((و أعجب من ذلك إن شئت أريكه إن اتقيت الله و اتبعت أمري)). قال: و ما هو؟ قال: ((أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني)). قال: فادعها. فدعاها فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال لها: ((ارجعي إلى مكانك)). فرجعت إلى مكانها قال: فذهب ركانة الى قومه فقال: يا بني عبد مناف ساحروا صاحبكم أهل الأرض فو الله ما رأيت أسحر منه قط ثم أخبرهم بالذي رأى, و الذي صنع(59).

33- و قد روى أبو داود و الترمذي من حديث أبي الحسن العسقلاني عن أبي جعفر بن محمد ابن ركانة عن أبيه: أن ركانة صارع النبي صلى الله عليه و سلم فصرعه  النبي صلى الله عليه و سلم ثم قال الترمذي: غريب و لا نعرف أبا الحسن و لا ابن ركانة(60).

34- قال ابن إسحاق: و حدثني عبيد الله بن المغيرة بن معيقيب و عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن أسعد بن زرارة خرج بمصعب بن عمير يريد به دار بني عبد الأشهل و دار بني ظفر, و كان سعد بن معاذ ابن خالة أسعد بن زرارة، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر على بئر يقال له بئر مرق فجلسا في الحائط, و اجتمع إليهما رجال ممن أسلم و سعد بن معاذ و أسيد بن الحضير يومئذ سيدا قومهما من بني عبد الأشهل و كلاهما مشرك على دين قومه؛ فلما سمعا به قال سعد لأسيد: لا أبا لك! انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دارينا ليسفها ضعفاءنا فازجرهما و انههما أن يأتيا دارينا؛ فإنه لولا أسعد بن زرارة مني حيث قد علمت كفيتك ذلك هو ابن خالتي و لا أجد عليه مقدماً. قال: فأخذ أسيد بن حضير حربته ثم أقبل إليهما ؛ فلما رآه أسعد بن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه و قد جاءك فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكلمه. قال: فوقف عليهما متشتماً فقال: ما جاء بكما إلينا تسفهان ضعفاءنا اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. و قال موسى بن عقبة: فقال له غلام: أتيتنا في دارنا بهذا الرعيد الغريب الطريد ليتسفه ضعفاءنا بالباطل و يدعوهم إليه.

قال ابن إسحاق: فقال له مصعب: أو تجلس فتسمع فإن رضيت أمراً قبلته, و إن كرهته كف عنك ما تكره. قال: أنصفت. قال: ثم ركز حربته و جلس إليهما فكلمه مصعب بالإسلام, و قرأ عليه القرآن فقالا فيما يذكر عنهما: و الله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه و تسهله. ثم قال: ما أحسن هذا و أجمله كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا له: تغتسل فتطهر و تطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي. فقام فاغتسل و طهر ثوبيه و تشهد شهادة الحق ثم قام فركع ركعتين ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه و سأرسله إليكما الآن؛ سعد بن معاذ، ثم أخذ حربته و انصرف إلى سعد و قومه و هم جلوس في ناديهم؛ فلما نظر إليه سعد بن معاذ مقبلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسيد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف على النادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فو الله ما رأيت بهما بأساً, و قد نهيتهما فقالا: نفعل ما أحببت و قد حدثت أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه, و ذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقروك. قال: فقام سعد بن معاذ مغضباً مبادراً مخوفاً للذي ذكر له من بني حارثة و أخذ الحربة في يده ثم قال: و الله ما أراك أغنيت شيئاً ثم خرج إليهما سعد؛ فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتماً ثم قال لأسعد بن زرارة: و الله يا أبا أمامة و الله لولا ما بيني و بينك من القرابة ما رمت هذا مني أتغشانا في دارنا بما نكره. قال: و قد قال أسعد لمصعب: جاءك و الله سيد من ورائه قومه إن يتبعك لا يتخلف عنك منهم اثنان. قال: فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع فإن رضيت أمراً رغبت فيه قبلته, و إن كرهته عزلنا عنك ما تكره. قال سعد: أنصفت ثم ركز الحربة و جلس فعرض عليه الإسلام و قرأ عليه القرآن. و ذكر موسى بن عقبة أنه قرأ عليه أول الزخرف قال: فعرفنا و الله في وجهه الإسلام قبل أن يتكلم في إشراقه و تسهله ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم و دخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر و تطهر ثوبيك ثم تشهد شهادة الحق ثم تصلي ركعتين. قال: فقام فاغتسل و طهر ثوبيه و شهد شهادة الحق ثم ركع ركعتين ثم أخذ حربته فأقبل عائداً إلى نادي قومه و معه أسيد بن الحضير فلما رآه قومه مقبلاً قالوا :نحلف بالله لقد رجع إليكم سعد بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم؛ فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا و أفضلنا رأيا و أيمننا نقيبة؟ قال: فإن كلام رجالكم و نسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله و رسوله قال: فوالله ما أمسى في دار بني عبد الأشهل رجل و لا امرأة إلا مسلماً أو مسلمة, و رجع سعد و مصعب إلى منزل أسعد بن زرارة فأقاما عنده يدعوان الناس إلى الإسلام حتى لم تبق دار من دور الانصار إلا و فيها رجال و نساء مسلمون(61).

فوائد الحديث: أن اللين في دعوة الآخرين سبب عظيم لهداية الناس, و فيه أيضاً حسن المعاملة مع المشرك و التلطف به.

35- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ((الناس معادن في الخير و الشر خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا))(62).

فوائد الحديث: ترغيب أهل الشرف من غير المسلمين بالإسلام.

قال النووي رحمه الله: و معناه أن أصحاب المروءات و مكارم الأخلاق في الجاهلية إذا أسلموا و فقهوا فهم خيار الناس(63).

و قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام)، وجه التشبيه أن المعدن لما كان إذا استخرج ظهر ما اختفى منه و لا تتغير صفته؛ فكذلك صفة الشرف لا تتغير في ذاتها بل من كان شريفاً في الجاهلية فهو بالنسبة إلى أهل الجاهلية رأس؛ فإن أسلم استمر شرفه و كان أشرف ممن أسلم من المشروفين في الجاهلية(64).

36- عن سعيد بن أبي بردة عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه و سلم بعثه و معاذا إلى اليمن فقال: ((يسرا و لا تعسرا و بشرا و لا تنفرا و تطاوعا و لا تختلفا))(65).

فوائد الحديث: التيسير و اللين و اللطف في الدعوة إلى الله.

37- عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: لما كنا بالشام أتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه بماء فتوضأ منه. فقال: من أين جئت بهذا الماء ما رأيت ماء عذباً و لا ماء سماء أطيب منه؟ قال: قلت: جئت به من بيت هذه العجوز النصرانية؛ فلما توضأ أتاها فقال: أيتها العجوز أسلمي تسلمي، بعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم بالحق. قال: فكشفت رأسها فإذا مثل الثغامة فقالت: عجوز كبيرة, و إنما أموت الآن. فقال عمر رضي الله عنه: اللهم اشهد(66).

38- عن عدي بن حاتم قال:  بعث النبي صلى الله عليه و سلم فكرهته أشد ما كرهت شيئاً قط؛ فانطلقت حتى أنزل أقصى أهل العرب مما يلي الروم؛ فكرهت مكاني أشد مما كرهت مكاني الأول فقلت: لآتين هذا الرجل؛ فإن كان كاذباً لا يضرني, و إن كان صادقاً لا يخفى علي فقدمت المدينة؛ فاستشرفني الناس و قالوا: جاء عدي بن حاتم. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((يا عدي بن حاتم أسلم تسلم)). قلت: إني من أهل دين. قال: ((أنا أعلم بدينك منك)). قال: قلت: أنت أعلم بديني مني؟ قال: ((نعم، أنا أعلم بدينك منك)). قلت: أنت أعلم بديني مني! قال: ((نعم)). قال: ((ألست ركوسياً؟)). قلت: بلى. قال: ((أو لست ترأس قومك؟)). قلت: بلى. قال: ((أو لست تأخذ المرباع؟)). قلت: بلى. قال: ((ذلك لا يحل لك في دينك)). قال: فتواضعت من نفسي. قال: ((يا عدي بن حاتم أسلم تسلم؛ فإني ما أظن أو أحسب أنه يمنعك من أن تسلم إلا خصاصة من ترى حولي, و إنك ترى الناس علينا إلبا واحداً ويداً واحدة؛ فهل أتيت الحيرة؟)) قلت: لا. و قد علمت مكانها. قال: ((يوشك الظعينة أن ترحل من الحيرة حتى تطوف بالبيت بغير جوار, و لتفتحن عليكم كنوز كسرى بن هرمز، قالها ثلاثا، يوشك أن يهم الرجل من يقبل صدقته))؛ فلقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة تطوف بالبيت بغير جوار, و لقد كنت في أول خيل أغارت على المدائن، و لتجيء الثالثة إنه لقول رسول الله صلى الله عليه و سلم قاله لي(67).

الركوسية: هم قوم لهم دين بين النصارى و الصابئين.

و المرباع : ربع الغنيمة كان رئيس القوم يأخذه لنفسه في الجاهلية.

فوائد الحديث: و فيه دليل على سماحة الإسلام في دعوة الغير إلى الإسلام باللين و اللطف.

39- عن قتادة عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأسقف نجران: ((يا أبا الحارث أسلم)). فقال: إني مسلم قال: ((يا أبا الحارث أسلم)). قال: قد أسلمت قبلك. قال نبي الله صلى الله عليه و سلم: ((كذبت منعك من الإسلام ثلاثة: ادعاؤك لله ولداً و أكلك الخنزير و شربك الخمر))(68).

40- عن يونس بن بكير عن سلمة بن عبد يسوع عن أبيه عن جده قال يونس: و كان نصرانياً فأسلم، أن رسول الله صلى الله عليه و سلم كتب إلى نجران قبل أن ينزل عليه طس ..: ((باسم إله ابراهيم و إسحاق و يعقوب من محمد النبي رسول الله إلى أسقف نجران ..، فإني أحمد إليكم إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب أما بعد: فإني أدعوكم إلى عبادة الله من عبادة العباد و أدعوكم إلى ولاية الله من ولاية العباد؛ فإن أبيتم فالجزية، فإن أبيتم آذنتكم بحرب و السلام)). فلما أتى الأسقف الكتاب فقرأه قطع به و ذعر به ذعراً شديداً, و بعث إلى رجل من أهل نجران يقال له شرحبيل بن وداعة, و كان من همدان و لم يكن أحد يدعى إذا نزلت معضلة قبله لا الأيهم و لا السيد و لا العاقب، فدفع الأسقف كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى شرحبيل فقرأه. فقال الأسقف: يا أبا مريم ما رأيك؟ فقال شرحبيل: قد علمت ما وعد الله إبراهيم في ذرية إسماعيل من النبوة فما تؤمن أن يكون هو ذاك الرجل ليس لي في النبوة رأي, و لو كان أمر من أمور الدنيا لأشرت عليك فيه برأى و جهدت لك. فقال له الأسقف: تنح فاجلس فتنحى شرحبيل فجلس ناحيته، فبعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له عبد الله بن شرحبيل و هو من ذي أصبح من حمير فأقرأه الكتاب, و سأله عن الرأي فقال له مثل قول شرحبيل. فقال له الأسقف: تنح فاجلس. فتنحى فجلس ناحيته. و بعث الأسقف إلى رجل من أهل نجران يقال له جبار بن فيض من بني الحارث بن كعب أحد بني الحماس فأقرأه الكتاب و سأله عن الرأي فيه فقال له مثل قول شرحبيل و عبد الله فأمره الأسقف فتنحى فجلس ناحيته؛ فلما اجتمع الرأي منهم على تلك المقالة جميعاً أمر الأسقف بالناقوس فضرب به, و رفعت النيران المسموح في الصوامع, و كذلك كانوا يفعلوا إذا فزعوا بالنهار و إذا كان فزعهم ليلاً ضربوا بالناقوس و رفعت النيران في الصوامع؛ فاجتمع حين ضرب بالناقوس و رفعت المسوح أهل الوادي أعلاه و أسفله و طول الوادي مسيرة يوم للراكب السريع و فيه ثلاث و سبعون قرية و عشرون و مائة ألف مقاتل فقرأ عليهم كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم و سألهم عن الرأي فيه؛ فاجتمع رأي أهل الرأي منهم على أن يبعثوا شرحبيل بن وداعة الهمداني و عبد الله بن شرحبيل الأصبحي و جبار بن فيض الحارثي، فيأتوهم بخبر رسول الله صلى الله عليه و سلم. قال: فانطلق الوفد حتى إذا كانوا بالمدينة وضعوا ثياب السفر عنهم و لبسوا حللاً لهم يجرونها من حبرة و خواتيم الذهب ثم انطلقوا حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه و سلم فسلموا؛ فلم يرد عليهم السلام, و تصدوا لكلامه نهاراً طويلاً؛ فلم يكلمهم و عليهم تلك الحلل و الخواتيم الذهب؛ فانطلقوا يتبعون عثمان بن عفان و عبد الرحمن بن عوف و كانوا يعرفونهما فوجدوهما في ناس من المهاجرين و الأنصار في مجلس فقالوا: يا عثمان و يا عبد الرحمن إن نبيكم كتب إلينا بكتاب فأقبلنا مجيبين له فأتيناه فسلمنا عليه فلم يرد سلامنا و تصدينا لكلامه نهاراً طويلاً فأعيانا أن يكلمنا فما الرأي منكما، أترون أن نرجع. فقالا لعلي بن أبي طالب و هو في القوم: ما ترى يا أبا الحسن في هؤلاء القوم؟ فقال علي لعثمان و لعبد الرحمن: أرى أن يضعوا حللهم هذه و خواتيمهم و يلبسوا ثياب سفرهم ثم يعودوا إليه ففعلوا فسلموا فرد سلامهم، ثم قال: و الذي بعثني بالحق لقد أتوني المرة الأولى و إن إبليس لمعهم ثم ساءلهم و سائلوه؛ فلم تزل به و بهم المسألة حتى قالوا ما تقول في عيسى؛ فإنا نرجع إلى قومنا و نحن نصارى ليسرنا إن كنت نبياً أن نسمع ما تقول فيه فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ما عندي فيه شيء يومي هذا فأقيموا حتى أخبركم بما يقول الله في عيسى، فأصبح الغد و قد أنزل الله عز و جل هذه الآية: (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ * الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ * فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَ أَبْنَاءكُمْ وَ نِسَاءنَا وَ نِسَاءكُمْ وَ أَنفُسَنَا و أَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ)[آل عمران:59-61]، فأبوا أن يقروا بذلك فلما أصبح رسول الله صلى الله عليه و سلم الغد بعد ما أخبرهم الخبر أقبل مشتملاً على الحسن و الحسين في خميل له و فاطمة تمشي عند ظهره للملاعنة, و له يومئذ عدة نسوة فقال شرحبيل لصاحبيه: قد علمتما أن الوادي إذا اجتمع أعلاه و أسفلهلم يردوا و لم يصدروا إلا عن رأيي، و إني و الله أرى أمراً ثقيلا, و الله لئن كان هذا الرجل ملكاً متقوياً فكنا أول العرب طعن في عيبته و رد عليه أمره لا يذهب لنا من صدره ولا من صدور أصحابه حتى يصيبونا بحائجة وإنا أدنى العرب منهم جواراً, ولئن كان هذا الرجل نبياً مرسلاً فلاعناه لا يبقى على وجه الارض منا شعر ولا ظفر إلا هلك. فقال له صاحباه: فما الرأي يا أبا مريم؟ فقال: رأيي أن أحكمه فإني أرى رجلاً لا يحكم شططاً أبداً. فقالا له: أنت وذاك. قال: فتلقى شرحبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني قد رأيت خيراً من ملاعنتك. فقال: ((وما هو؟)). فقال: حكمك اليوم إلى الليل وليلتك إلى الصباح، فما حكمك فينا فهو جائز. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعل وراءك أحد يثرب عليك؟ فقال شرحبيل: سل صاحبي فقالا: ما يرد الوادي ولا يصدر إلا عن رأي شرحبيل. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يلاعنهم حتى إذا كان الغد أتوه, فكتب لهم هذا الكتاب: ((بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما كتب محمد النبي الأمي رسول الله لنجران أن كان عليهم حكمه في كل ثمرة وكل صفراء وبيضاء ورقيق فأفضل عليهم وترك ذلك كله على ألفي حلة في كل رجب ألف حلة وفي كل صفر الف حلة وذكر تمام الشروط))(69).

فوائد الحديث: دعوة غير المسلمين للدخول في الإسلام دليل على سماحته, لإنقاذهم من النار, وجواز دخول المشرك المسجد.

41- وعن أسماء بنت أبي بكر قالت: لما كان يوم الفتح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي قحافة: ((أسلم تسلم))(70).

42- وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل: ((أسلم تسلم)). قال: إني أجدني كارهاً. قال: ((أسلم وإن كنت كارها))(71).

43- وعن المسور بن مخرمة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه فقال: ((إن الله بعثني رحمة للناس كافة؛ فأدوا عني رحمكم الله ولا تختلفوا كما اختلف الحواريون على عيسى عليه السلام؛ فإنه دعاهم إلى مثل ما أدعوكم إليه فأما من قرب مكانه فإنه أجاب وسلم, وأما من بعد مكانه فكرهها فشكا عيسى بن مريم ذلك إلى الله عز وجل فأصبحوا وكل رجل منهم يتكلم بكلام القوم الذين وجه إليهم فقال لهم عيسى: هذا أمر قد عزم الله لكم عليه فافعلوا)). فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: نحن يا رسول الله نؤدي إليك فابعثنا حيث شئت. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة إلى كسرى, وبعث سليط بن عمرو إلى هوذة بن علي صاحب اليمامة, وبعث العلاء بن الحضرمي إلى المنذر بن ساوى صاحب هجر, وبعث عمرو بن العاص إلى جيفر وعباد ابني جلندا ملكي عمان, وبعث دحية الكلبي إلى قيصر, وبعث شجاع بن وهب الأسدي إلى المنذر بن الحارث بن أبي شمر الغساني, وبعث عمرو بن أمية الضمري إلى النجاشي؛ فرجعوا جميعا قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم غير العلاء بن الحضرمي؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وهو بالبحرين(72).

فوائد الحديث: فيه دعوة غير المسلمين لإنقاذهم من الضلالة إلى الهدى.

التسامح في الاعتقاد والعبادة

44- جاء في كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران: ((ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأرضهم وملتهم وغايبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير لا يغير أسقف من أسقفته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته))(73).

45- ولما حان وقت صلاة وفد نصارى نجران قاموا يصلون في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأراد الناس منعهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوهم. فاستقبلوا المشرق فصلوا صلاتهم(74).

 وفي هذا يقول ابن القيم(75): جواز دخول أهل الكتاب مساجد المسلمين. وفيها: تمكين أهل الكتاب من صلاتهم بحضرة المسلمين وفى مساجدهم أيضاً إذا كان ذلك عارضاً, ولا يمكنون من اعتياد ذلك(76).

46- وفي عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أهل إيلياء – بيت المقدس -: هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان؛ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم وسقيمها وبريئها وسائر ملتها أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا من شيء من أموالهم ولا يكرهون على دينهم(77).

قال ابن القيم: وشهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها؛ فإن الأئمة تلقوها بالقبول وذكروها في كتبهم واحتجوا بها, ولم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم وفي كتبهم وقد أنفذها بعده الخلفاء وعملوا بموجبها.

47- ولما فتح خالد بن الوليد رضي الله عنه الشام صالح الروم جاء في هذا الصلح: على أن لا يهدم لهم بيعة ولا كنيسة, وعلى أن يضربوا نواقيسهم في أي ساعة شاءوا من ليل أو نهار إلا في أوقات الصلوات, وعلى أن يخرجوا الصلبان في أيام عيدهم(78).

 

48- عن مجمع بن عتاب بن شمير عن أبيه قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، إن لي أباً شيخاً كبيراً وإخوة فأذهب إليهم لعلهم أن يسلموا فآتيك بهم؟ قال: ((إن هم أسلموا فهو خير لهم وإن أقاموا فالإسلام واسع أو عريض))(79).

فوائد الحديث: عدم إكراه غير المسلمين للدخول في الإسلام.

الوصية بأهل الذمة والإحسان إلى أهل العهد

لم يخل قط المجتمع الإسلامي من غير المسلمين وخصوصا أهل الكتاب, وقد خص الإسلام أهل الكتاب بخصائص, ومن أعظمها الوصاة بهم وعدم التعرض لهم بالأذى أو الظلم.

وإليك النصوص التي فيها حث على الوصاة بأهل الكتاب وعدم التعرض لهم:  

49- عن أبي جمرة قال سمعت جويرية بن قدامة التميمي قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه:  قلنا أوصنا يا أمير المؤمنين. قال: أوصيكم بذمة الله فإنه ذمة نبيكم ورزق عيالكم(80).

50- عن عمرو بن ميمون الأودي قال: رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه – لما طعن – قال: يا عبد الله بن عمر اذهب إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فقل يقرأ عمر بن الخطاب عليك السلام ثم سلها أن أدفن مع صاحبي؟ قالت: كنت أريده لنفسي فلأوثرنه اليوم على نفسي؛ فلما أقبل قال له ما لديك؟ قال: أذنت لك يا أمير المؤمنين قال: ما كان شيء أهم إليّ من ذلك المضجع؛ فإذا قبضت فاحملوني ثم سلموا ثم قل يستأذن عمر بن الخطاب فإن أذنت لي فادفنوني وإلا فردوني إلى مقابر المسلمين. أوصي الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين خيراً أن يعرف لهم حقهم, وأن يحفظ لهم حرمتهم، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوؤوا الدار والإيمان أن يقبل من محسنهم ويعفى عن مسيئهم, وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم أن يوفي لهم بعهدهم وأن يقاتل من وراءهم وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم(81).

فوائد الحديث: الحض على الوفاء بالعهد والإحسان إلى أهل الذمة(82).

51- وفي الحديث أن عمر بن الخطاب قال: يا ابن عباس انظر من قتلني فجال ساعة ثم جاء فقال: غلام المغيرة. قال: الصنع؟ قال: نعم. قال: قاتله الله لقد أمرت به معروفاً الحمد لله الذي لم يجعل ميتتي بيد رجل يدعي الإسلام(83).

فوائد الحديث: وفيه الإحسان إلى أهل العهد والذمة، فهذا عمر قد أحسن إلى أبي لؤلؤة المجوسي وهو مجوسي من غير أهل الكتاب, وأمر مولاه المغيرة أن يرفق به.

وصية النبي صلى الله عليه وسلم بالقبط

52- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنكم ستفتحون مصر وهي أرض يسمى فيها القيراط؛ فإذا فتحتموها فأحسنوا إلى أهلها؛ فإن لهم ذمة ورحماً أو قال ذمة وصهراً؛ فإذا رأيت رجلين يختصمان فيها في موضع لبنة فاخرج منها. قال: فرأيت عبد الرحمن بن شرحبيل بن حسنة وأخاه ربيعة يختصمان في موضع لبنة فخرجت منها))(84).

قال النووي: 

أما الذمة فهي الحرمة والحق وهي هنا بمعنى الذمام, وأما الرحم فلكون هاجر أم إسماعيل منهم، وأما الصهر فلكون مارية أم ابراهيم منهم(85).

53- عن عامر بن عبد الله اليحصبي : أن رجلاً جاءه بمخلاة فيها حشيش أو تبن أخذها من بعض أهل الذمة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجل: ((ما هذا؟)) قال: أخذته وليس بشيء. قال: ((أخفرت ذمتي أخفرت ذمتي أخفرت ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم)). قال: فذهب الرجل فأعطاها صاحبها ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألم تحتج إلى ما أخذت منه؟)) قال: بلى. قال: ((فهو إلى الذي له أحوج))(86).

54- عن علي رضي الله عنه قال: كان آخر كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الصلاة الصلاة اتقوا الله فيما ملكت أيمانكم))(87).

55- عن المعرور بن سويد قال: مررنا بأبي ذر بالربذة وعليه برد وعلى غلامه مثله. فقلنا: يا أبا ذر لو جمعت بينهما كانت حلة! فقال: إنه كان بيني وبين الرجل من إخوتي كلام وكانت أمه أعجمية فعيرته بأمه؛ فشكاني إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فلقيت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية)). قلت: يا رسول الله من سب الرجال سبوا أباه وأمه. قال: ((يا أبا ذر إنك امرؤ فيك جاهلية هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديهم؛ فأطعموهم مما تأكلون, وألبسوهم مما تلبسون ولا تكلفوهم ما يغلبهم؛ فإن كلفتموهم فأعينوهم))(88).

56- عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من لاءمكم من مملوكيكم فأطعموه مما تأكلون واكسوه مما تلبسون, ومن لم يلائمكم منهم فبيعوه ولا تعذبوا خلق الله))(89).

57- عن العباس بن جليد الحجري قال: سمعت عبد الله بن عمر يقول: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يارسول الله كم نعفو عن الخادم؟ فصمت. ثم أعاد عليه الكلام فصمت؛ فلما كان في الثالثة قال: ((اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرة))(90).

58- عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الله الله فيما ملكت أيمانكم أشبعوا بطونهم واكسوا ظهورهم وألينوا لهم القول))(91).

59- وعن يزيد بن جارية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع: ((أرقاءكم أرقاءكم أرقاءكم أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون؛ فإن جاؤوا بذنب لا تريدون أن تغفروه فبيعوا عباد الله ولا تعذبوهم))(92).

60- وعن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إخوانكم فأصلحوا إليهم واستعينوهم على ما غلبوا وأعينوهم على ما عليهم))(93).

61- وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في العبيد: ((إن أحسنوا فاقبلوا, وإن أساؤوا فاعفوا, وإن غلبوكم فبيعوا))(94).

فوائد الأحاديث: فيه حث النبي صلى الله عليه وسلم على الإحسان إلى المماليك وهم في الأغلب من غير المسلمين وحرمة أذيتهم, وفيها الحث على كفايتهم وسد حاجاتهم.

حرمة دماء أهل الذمة والعهد والمستأمنين

62- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل معاهدا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً))(95).

63- عن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل معاهداً في غير كنهه حرم الله عليه الجنة))(96).

وفي رواية عن أبي بكرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل نفساً معاهدة بغير حلها حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها))(97).

64- عن أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا من قتل نفساً معاهدة له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً))(98).

65- عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال: خطبنا علي رضي الله عنه فقال: ما عندنا كتاب نقرؤه إلا كتاب الله وما في هذه الصحيفة. فقال: فيها الجراحات وأسنان الإبل, والمدينة حرم ما بين عير إلى كذا فمن أحدث فيها حدثاً أو آوى فيها محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل, ومن تولى غير مواليه فعليه مثل ذلك وذمة المسلمين واحدة؛ فمن أخفر مسلماً فعليه مثل ذلك(99).

قال ابن حجر: (قوله ذمة المسلمين واحدة): أي امانهم صحيح؛ فإذا أمن الكافر واحد منهم حرم على غيره التعرض له, وللأمان شروط معروفة. وقوله (يسعى بها): أي يتولاها ويذهب ويجيء؛ والمعنى أن ذمة المسلمين سواء صدرت من واحد أو أكثر شريف أو وضيع؛ فإذا أمن أحد من المسلمين كافرا وأعطاه ذمة لم يكن لأحد نقضه فيستوي في ذلك الرجل والمرأة والحر والعبد لأن المسلمين كنفس واحدة(100).

66- عن عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل قتيلا من أهل الذمةلم يجد ريح الجنة, وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً))(101).

67- عن القاسم بن مخيمرة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من قتل رجلاً من أهل الذمة لم يجد ريح الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً))(102).

68- عن قرة بن دعموص قال: ألفينا النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقلنا: يا رسول الله ما تعهد إلينا؟ قـال: ((أعهد إليكم أن تقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة وتحجوا البيت الحرام و تصوموا رمضان؛ فإن فيه ليلة خير من ألف شهر, و تحرموا دم المسلم وماله و المعاهد إلا بحقه وتعتصموا بالله والطاعة))(103).

69- عن رجل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سيكون قوم لهم عهد؛ فمن قتل رجلاً منهم لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين عاماً))(104).

70- وعن جندب قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من يخفر ذمتي كنت خصمه ومن خاصمته خصمته))(105).

71- وعن أبي أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى ولا صفر ولا هام ولا يتم شهران, ومن أخفر بذمة لم يرح رائحة الجنة))(106).

72- عن أبي سعد عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم ودى العامريين بدية المسلم, وكان لهما عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم (107).

المصدر: http://www.natharatmouchrika.net/index.php/search/item/2286-2-3

(3)

73- عن أبي الجنوب الأسدي قال: أتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه برجل من المسلمين قتل رجلاً من أهل الذمة. قال: فقامت عليه البينة فأمر بقتله فجاء أخوه فقال: إني قد عفوت عنه. قال: فلعلهم هددوك أو فرقوك أو فزعوك؟ قال: لا و لكن قتله لا يرد عليّ أخي و عوضوني فرضيت. قال: أنت أعلم من كان له ذمتنا فدمه كدمنا و ديته كديتنا(108).

74- عن عبد الرحمن بن البيلماني أن النبي صلى الله عليه و سلم قتل مسلماً بمعاهد و قال: ((أنا أولى من وفى بذمته))(109).

75- عن ابن شهاب: أن أبا بكر و عمر رضي الله عنهما كانا يجعلان دية اليهودي و النصراني إذا كانا معاهدين دية الحر المسلم(110).

76- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((دية المعاهد نصف دية الحر))(111).

و اختلف أهل العلم في دية اليهودي و النصراني؛ فذهب بعض أهل العلم في دية اليهودي و النصراني إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه و سلم. و قال عمر بن عبد العزيز: دية اليهودي و النصراني نصف دية المسلم, و بهذا يقول أحمد بن حنبل.

و روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: دية اليهودي و النصراني أربعة آلاف درهم و دية المجوسي ثمانمائة درهم, و بهذا يقول مالك بن أنس و الشافعي و إسحق, و قال بعض أهل العلم: دية اليهودي و النصراني مثل دية المسلم, و هو قول سفيان الثوري و أهل الكوفة.

77- عن سفيان بن حسين عن الزهري: أن ابن شاس الجذامي قتل رجلاً من أنباط الشام فرفع إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ فأمر بقتله فكلمه الزبير و ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ فنهوه عن قتله. قال: فجعل ديته ألف دينار.

78- و به عن الزهري عن سعيد بن المسيب قال: دية كل معاهد في عهده ألف دينار(112).

79- عن رباح بن عبيد الله قال أخبرني حميد الطويل: أنه سمع أنسا يحدث أن رجلاً يهودياً قُتل غيلة؛ فقضى فيه عمر بن الخطاب باثني عشر ألف درهم(113).

80- أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى برجل من أصحابه, و قد جرح رجلاً من أهل الذمة؛ فأراد أن يقيده. فقال المسلمون: ما ينبغي هذا. فقال عمر رضي الله عنه: إذا نضعّف عليه العقل فأضعفه(114).

و الشاهد من الأحاديث أن لدم المعاهد و الذمي اعتباراً في ديننا، فمن قتل ذمياً أو مستأمناً خطأ أو عمدا فعليه الدية مع بيان حرمة التعرض لدمائهم.

81- عن جابر قال: كنا لا نقتل تجار المشركين على عهد رسول الله صلى الله عليه و سلم (115).

حرمة أموالهم و أعراضهم

82- عن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما قال: كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم ثلاثين و مائة فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((هل مع أحد منكم طعام)). فإذا مع رجل صاع من طعام أو نحوه فعجن، ثم جاء رجل مشرك مشعان طويل بغنم يسوقها. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((بيعاً أم عطية أو قال أم هبة؟)). قال: لا بل بيع فاشترى منه شاة فصنعت, و أمر النبي صلى الله عليه و سلم بسواد البطن أن يشوى, و أيم الله ما في الثلاثين و المائة إلا قد حز النبي صلى الله عليه و سلم له حزة من سواد بطنها إن كان شاهداً أعطاها إياه و إن كان غائباً خبأ له؛ فجعل منها قصعتين فأكلوا أجمعون و شبعنا ففضلت القصعتان فحملناه على البعير أو كما قال(116).

قوله: رجل مشعان، أي منتفش الشعر و في الأصل مشعان أي طويل جداً فوق الطويل.

فوائد الحديث: أن الإسلام لم يحل مال الكافر إلا بطيب نفس منه كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم في هذا الحديث فاشترى منه.

83- عن العرباض بن سارية السلمي قال: نزلنا مع النبي صلى الله عليه و سلم خيبر و معه من معه من أصحابه، و كان صاحب خيبر رجلاً مارداً (المارد العاتي) منكرا؛ فأقبل إلى النبي صلى الله عليه و سلم فقال: يا محمد ألكم أن تذبحوا حمرنا و تأكلوا ثمرنا و تضربوا نساءنا؟ فغضب يعني النبي صلى الله عليه و سلم و قال: ((يا ابن عوف اركب فرسك ثم ناد ألا إن الجنة لاتحل إلا لمؤمن, و أن اجتمعوا للصلاة)). قال:  فاجتمعوا ثم صلى بهم النبي صلى الله عليه و سلم ثم قام فقال: ((أيحسب أحدكم متكئاً على أريكته قد يظن أن الله لم يحرم شيئاً إلا ما في هذا القرآن ألا و إني و الله قد وعظت و أمرت و نهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر, و إن الله تعالى لم يحل لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن, و لاضرب نسائهم, و لا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم))(117).

فوائد الحديث: حرمة التعرض لأموال أهل الذمة و العهد و أعراضهم.

84- عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم عن آبائهم دنية (دنية بكسر الدال و سكون النون و فتح الياء معناه لاصقو النسب متصلو النسب)، عن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: ((ألا من ظلم معاهدا أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس ؛فأنا حجيجه (أي أنا الذي أخاصمه و أحاجه) يوم القيامة))(118).

فوائد الحديث: حرمة ظلم أهل الذمة و العهد.

85- عن المقدام بن معد يكرب عن رسول الله صلى الله عليه و سلم أنه قال: ((ألا إني أوتيت الكتاب و مثله معه لايوشك رجل شبعان على أريكته (السرير) يقول عليكم بهذا القرآن؛ فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه, و ما وجدتم فيه من حرام فحرموه ألا لا يحل لكم الحمار الأهلي و لا كل ذي ناب من السبع, و لا لقطة معاهد إلا أن يستغني عنها صاحبها))(119).

فوائد الحديث: إذا كان الله حرم لقطة المعاهد فمن باب أولى دمه و عرضه و ماله.

86- عن ابن أبي رواد: أن جيشاً مروا بزرع رجل من أهل الذمة فأرسلوا فيه دوابهم و حبس رجل منهم دابته, و جعل يتبع بها المرعى و يمنعها من الزرع؛ فجاء الذمي صاحب الزرع إلى الذي حبس دابته فقال: كفانيك الله – أو قال كفاني الله بك – فلولا أنت كفيت هؤلاء, و لكن إنما يدفع عن هؤلاء بك(120).

فوائد الحديث: أن التعرض لأهل الذمة و العهد سبب لعقاب الله و سخطه.

87- عن رجل من جهينة قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((لعلكم تقاتلون قوماً فتظهرون عليهم؛ فيتقونكم بأموالهم دون أنفسهم و أبنائهم فيصالحونكم على صلح فلا تصيبوا منهم فوق ذلك؛ فإنه لا يصلح لكم)). قال: فصحبت الجهني إلى أرض الروم؛ فما رأيت رجلاً أتقى للأرض أن يصيب منها شيئاً منه(121).

88- عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه و سلم خيبر فأتت اليهود فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها, و حرام عليكم حمر الأهلية و خيلها و بغالها و كل ذي ناب من السباع و كل ذي مخلب من الطير))(122).

89- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه و سلم يقول: ((من قذف مملوكه و هو بريء مما قال جلد يوم القيامة إلا أن يكون كما قال))(123).

عن الزهري قال: إذا قذف اليهودي و النصراني عزر قاذفه(124).

90- عن عكرمة قال: لو أوتيت برجل قذف يهودياً أو نصرانياً و أنا و الا لضربته(125).

91- عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((من ضرب مملوكه ظلماً أقيد منه يوم القيامة))(126).

فوائد الأحاديث: حرمة التعرض للمماليك و هم في الأغلب من غير المسلمين بأذى أو ظلم أو انتقاص حق.

حرمة أذيتهم و ظلمهم

92-عن عروة بن الزبير: أن هشام بن حكيم رأى ناساً من أهل الذمة قياماً في الشمس فقال: ما هؤلاء؟ فقالوا: من أهل الجزية، فدخل على عمير بن سعد, و كان على طائفة الشام فقال هشام: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ((من عذب الناس في الدنيا عذبه الله تبارك و تعالى)). فقال عمير: خلوا عنهم(127).

فوائد الحديث: أنكر الصحابي ظلم أهل الكتاب أو تحميلهم فوق طاقتهم, و فيه أيضاً فضل السلف و سرعة استجابتهم للنصيحة.

93- عن أبي بشر قال: سمعت سعيد بن جبير عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((من سمع يهودياً أو نصرانياً دخل النار))(128).

94- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((اتقوا دعوة المظلوم و إن كان كافراً فإنه ليس دونها حجاب))(129).

فوائد الحديث: أن ظلم الكافر لا يجوز و أن المسلم عليه أن يحذر من ظلمهم لأن الله يستجيب للمظلوم, و إن كان كافراً و مشركاً.

95- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: بينما يهودي يعرض سلعته أعطي بها شيئاً كرهه فقال: لا و الذي اصطفى موسى على البشر، فسمعه رجل من الأنصار؛ فقام فلطم وجهه و قال: تقول و الذي اصطفى موسى على البشر و النبي صلى الله عليه و سلم بين أظهرنا؟ فذهب إليه فقال: أبا القاسم إن لي ذمة و عهداً؛ فما بال فلان لطم وجهي فقال: ((لم لطمت وجهه)). فذكره، فغضب النبي صلى الله عليه و سلم حتى رئي في وجهه ثم قال: ((لا تفضلوا بين أنبياء الله؛ فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السماوات و من في الأرض إلا من شاء الله ثم ينفخ فيه أخرى؛ فأكون أول من بعث؛ فإذا موسى آخذ بالعرش؛ فلا أدري أحوسب بصعقته يوم الطور أم بعث قبلي, و لا أقول إن أحداً أفضل من يونس بن متى))(130).

فوائد الحديث: فيه بيان عدل الإسلام و أن اليهودي رفع مظلمته إلى النبي صلى الله عليه و سلم, و أنه قام عندهم أن أهل العهد و الذمة لا يجوز التعرض لهم، و لذلك قال للنبي صلى الله عليه و سلم إن لي عهداً و ذمة.

الوفاء بالعهود و المواثيق

96- عن عبد الرحمن بن عوف عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((شهدت حلف المطيبين مع عمومتي  و أنا غلام فما أحب أن لي حمر النعم و أني أنكثه))(131).

قال ابن حجر: و كان جمع من قريش اجتمعوا فتعاقدوا على أن ينصروا المظلوم و ينصفوا بين الناس و نحو ذلك من خلال الخير و استمر ذلك بعد المبعث, و يستفاد من حديث عبد الرحمن بن عوف أنهم استمروا على ذلك في الإسلام, و إلى ذلك الإشارة في حديث جبير بن مطعم(132).

قلت: فهذا العهد في الجاهلية حرص النبي صلى الله عليه و سلم على الوفاء به؛ فلا شك أن العهود في الإسلام أولى بالحرص على الوفاء بها.

97- و حديث جبير بن مطعم هو ما رواه مسلم (2530) عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((لا حلف في الإسلام و أيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة)).

98- عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((أوفوا الحلفاء عهودهم التي عقدت أيمانكم))(133).

99- حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: ما منعنى أن أشهد بدراً إلا أني خرجت أنا و أبي حسيل، قال: فأخذنا كفار قريش قالوا: إنكم تريدون محمداً؟ فقلنا: ما نريده ما نريد إلا المدينة؛ فأخذوا منا عهد الله و ميثاقه لننصرفن إلى المدينة, و لا نقاتل معه؛ فأتينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فأخبرناه الخبر. فقال: ((انصرفا نفي بعهدهم و نستعين الله عليهم))(134).

فوائد الحديث: و فيه أن النبي صلى الله عليه و سلم أمر بوفاء العهد للمشركين مع أنهم من أهل الحرب.

100- عن المسور بن مخرمة و مروان يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا: خرج رسول الله صلى الله عليه و سلم زمن الحديبية حتى كانوا ببعض الطريق قال النبي صلى الله عليه و سلم: ((إن خالد بن الوليد بالغميم في خيل لقريش طليعة فخذوا ذات اليمين)). فوالله ما شعر بهم خالد حتى إذا هم بقترة الجيش، فانطلق يركض نذيراً لقريش و سار النبي صلى الله عليه و سلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته. فقال الناس: حل حل فألحت فقالوا: خلأت القصواء خلأت القصواء، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((ما خلأت القصواء و ما ذاك لها بخلق و لكن حبسها حابس الفيل)). ثم قال: ((و الذي نفسي بيده لا يسألونني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)). ثم زجرها فوثبت، قال: فعدل عنهم حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً؛ فلم يلبثه الناس حتى نزحوه وشكي إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم العطش فانتزع سهماً من كنانته ثم أمرهم أن يجعلوه فيه، فوالله مازال يجيش لهم بالري حتى صدروا عنه؛ فبينما هم كذلك إذ جاء بديل بن ورقاء الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة, و كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه و سلم من أهل تهامة، فقال: إني تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي نزلوا أعداد مياه الحديبية و معهم العوذ المطافيل و هم مقاتلوك و صادوك عن البيت. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إنا لم نجئ لقتال أحد، و لكنا جئنا معتمرين و إن قريشاً قد نهكتهم الحرب و أضرت بهم؛ فإن شاؤوا ماددتهم مدة و يخلوا بيني و بين الناس؛ فإن أظهر فإن شاؤوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا, و إلا فقد جموا، و إن هم أبوا فو الذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي و لينفذن الله أمره)). فقال بديل: سأبلغهم ما تقول. قال: فانطلق حتى أتى قريشاً قال: إنا قد جئناكم من هذا الرجل و سمعناه يقول قولاً فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا فقال سفهاؤهم: لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء, و قال ذوو الرأي منهم: هات! ما سمعته يقول قال: سمعته يقول كذا و كذا فحدثهم بما قال النبي صلى الله عليه و سلم ، فقام عروة بن مسعود فقال: أي قوم أو لست بالوالد؟ قالوا: بلى. قال: أو لستم بالولد؟ قالوا: بلى. قال: فهل تتهمونني؟ قالوا: لا قال: ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي و ولدي و من أطاعني؟ قالوا: بلى. قال: فإن هذا قد عرض لكم خطة رشد اقبلوها و دعوني آتيه. قالوا: ائته. فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم . فقال النبي صلى الله عليه و سلم نحواً من قوله لبديل. فقال عروة عند ذلك: أي محمد أرأيت إن استأصلت أمر قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أهله قبلك, و إن تكن الأخرى؛ فإني و الله لأرى وجوهاً، و إني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا و يدعوك. فقال له أبو بكر: امصص ببظر اللات أنحن نفر عنه و ندعه؟ فقال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر. قال: أما و الذي نفسي بيده لولا يد كانت لك عندي لم أجزك بها لأجبتك. قال: و جعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم، فكلما تكلم أخذ بلحيته, و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبي صلى الله عليه و سلم و معه السيف و عليه المغفر؛ فكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه و سلم ، ضرب يده بنعل السيف و قال له: أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه و سلم فرفع عروة رأسه فقال: من هذا ؟ قالوا: المغيرة بن شعبة. فقال: أي غدر ألست أسعى في غدرتك, و كان المغيرة صحب قوماً فـي الجاهلية فقتلهم و أخذ أموالهم ثم جاء فأسلم. فقال النبي : صلى الله عليه و سلم ((أما الإسلام فأقبل و أما المال فلست منه في شيء)). ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه و سلم بعينه، قال: فو الله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه و سلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه و جلده، و إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه, و إذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده, و ما يحدون إليه النظر تعظيماً له. فرجع عروة إلى أصحابه فقال: أي قوم و الله لقد وفدت على الملوك و وفدت على قيصر و كسرى و النجاشي و الله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد صلى الله عليه و سلم محمداً، و الله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه و جلده، و إذا أمرهم ابتدروا أمره, و إذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه, و إذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدون إليه النظر تعظيما له, و إنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها. فقال رجل من بني كنانة: دعوني آتيه فقالوا ائته؛ فلما أشرف على النبي صلى الله عليه و سلم و أصحابه قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((هذا فلان و هو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له)). فبعثت له و استقبله الناس يلبون؛ فلما رأى ذلك قال: سبحان الله! ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت؛ فلما رجع إلى أصحابه قال: رأيت البدن قد قلدت و أشعرت فما أرى أن يصدوا عن البيت. فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص فقال: دعوني آتيه. فقالوا: ائته. فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه  و سلم: ((هذا مكرز و هو رجل فاجر)). فجعل يكلم النبي صلى الله عليه و سلم ، فبينما هو يكلمه إذ جاء سهيل بن عمرو.

قال معمر: فأخبرني أيوب عن عكرمة أنه لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه و سلم: ((لقد سهل لكم من أمركم)). قال: معمر: قال الزهري في حديثه: فجاء سهيل بن عمرو فقال: هات اكتب بيننا و بينكم كتاباً، فدعا النبي صلى الله عليه و سلم الكاتب، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((بسم الله الرحمن الرحيم)). قال سهيل: أما الرحمن فو الله ما أدري ما هو، و لكن اكتب باسمك اللهم كما كنت تكتب. فقال المسلمون: و الله لا نكتبها إلا بسم الله الرحمن الرحيم. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((اكتب باسمك اللهم)). ثم قال: ((هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله)). فقال سهيل: و الله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك، و لكن اكتب محمد بن عبد الله. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((و الله إني لرسول الله و إن كذبتموني اكتب محمد بن عبد الله)). قال الزهري: و ذلك لقوله: ((لا يسألونني خطة يعظمون بها حرمات الله إلا أعطيتهم إياها)). فقال له النبي صلى الله عليه و سلم: ((على أن تخلوا بيننا و بين البيت فنطوف به)). فقال سهيل: و الله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضغطة، و لكن ذلك من العام المقبل. فكتب. فقال سهيل: و على أنه لا يأتيك منا رجل و إن كان على دينك إلا رددته إلينا. قال المسلمون: سبحان الله! كيف يرد إلى المشركين, و قد جاء مسلماً. فبينما هم كذلك إذ دخل أبو جندل بن سهيل بن عمرو يرسف في قيوده, و قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين فقال سهيل: هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إليّ. فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((إنا لم نقض الكتاب بعد)). قال: فو الله إذاً لم أصالحك على شيء أبداً. قال النبي صلى الله عليه و سلم: ((فأجزه لي)). قال: ما أنا بمجيزه لك. قال: ((بلى فافعل)). قال: ما أنا بفاعل. قال مكرز: بل قد أجزناه لك قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين و قد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت؟ و كان قد عذب عذاباً شديداً في الله. قال: فقال عمر بن الخطاب: فأتيت نبي الله صلى الله عليه و سلم فقلت: ألست نبي الله حقاً؟ قال: ((بلى)). قلت: ألسنا على الحق و عدونا على الباطل؟ قال: ((بلى)). قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: ((إني رسول الله و لست أعصيه و هو ناصري)). قلت: أو ليس كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت فنطوف به؟ قال: ((بلى، فأخبرتك أنا نأتيه العام))؟. قال: قلت: لا. قال: ((فإنك آتيه و مطوف به)). قال: فأتيت أبا بكر فقلت: يا أبا بكر أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال: بلى. قلت: ألسنا على الحق و عدونا على الباطل؟ قال: بلى. قلت: فلم نعطي الدنية في ديننا إذاً؟ قال: أيها الرجل إنه لرسول الله صلى الله عليه و سلم و ليس يعصي ربه و هو ناصره فاستمسك بغرزه فو الله إنه على الحق؟ قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت و نطوف به. قال: بلى أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا. قال: فإنك آتيه و مطوف به.

قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالاً قال: فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه و سلم لأصحابه: ((قوموا فانحروا ثم احلقوا)). قال: فو الله ما قام منهم رجل حتى قال ذلك ثلاث مرات؛ فلما لم يقم منهم أحد دخل على أم سلمة فذكر لها ما لقي من الناس فقالت أم سلمة: يانبي الله أتحب ذلك، أخرج لا تكلم أحداً منهم كلمة حتى تنحر بدنك و تدعو حالقك فيحلقك. فخرج فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك نحر بدنه و دعا حالقه فحلقه؛ فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا و جعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل غماً ثم جاءه نسوة مؤمنات فأنزل الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ –حتى بلغ – بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ). فطلق عمر يومئذ امرأتين كانتا له في الشرك فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان و الأخرى صفوان بن أمية. ثم رجع النبي صلى الله عليه و سلم إلى المدينة؛ فجاءه أبو بصير رجل من قريش و هو مسلم فأرسلوا في طلبه رجلين فقالوا: العهد الذي جعلت لنا فدفعه إلى الرجلين فخرجا به حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر لهم فقال أبو بصير: لأحد الرجلين و الله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً فاستله الآخر فقال: أجل و الله إنه لجيد لقد جربت به ثم جربت. فقال أبو بصير: أرني أنظر إليه فأمكنه منه فضربه حتى برد وفر الآخر حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم حين رآه: ((لقد رأى هذا ذعرا)). فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه و سلم قال: قُتل و الله صاحبي و إني لمقتول. فجاء أبو بصير فقال: يا نبي الله قد و الله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ثم نجاني الله منهم. قال النبي صلى الله عليه و سلم: ((ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد)). فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم فخرج حتى أتى سيف البحر قال: و ينفلت منهم أبو جندل بن سهيل فلحق بأبي بصير فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلا لحق بأبي بصير حتى اجتمعت منهم عصابة؛ فو الله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشأم إلا اعترضوا لها فقتلوهم و أخذوا أموالهم؛ فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه و سلم تناشده بالله و الرحم لما أرسل؛ فمن آتاه فهو آمن فأرسل النبي صلى الله عليه و سلم إليهم فأنزل الله تعالى: (وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ – حتى بلغ – الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ). و كانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه نبي الله و لم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم و حالوا بينهم و بين البيت.

قال أبو عبد الله: معرة: العر الجرب. تزيلوا: تميزوا. حميت القوم منعتهم حماية و أحميت الحمى جعلته حمى لا يدخل(135).

القترة: الغبار الأسود. ثنية المرار: مهبط الحديبية و هي طريق في الجبل تشرف على الحديبية. خلأت القصواء: الخلاء للإبل كالحران للخيل. قوله: على ثمد: أي حفيرة فيها ماء مثمود أي قليل. يتبرضه الناس: هو الأخذ قليلاً قليلاً. و كانوا عيبة نصح: العيبة ما توضع فيه الثياب لحفظها، أي أنهم موضع النصح له و الأمانة. و معهم العوذ المطافيل: العوذ جمع عائذ و هي الناقة ذات اللبن، و المطافيل الأمهات اللاتي معها أطفالها يريد أنهم خرجوا معهم بذوات الألبان من الإبل ليتزودوا بألبانها و لا يرجعوا حتى يمنعوه أو كنى بذلك عن النساء معهن الأطفال, و المراد أنهم خرجوا معهم بنسائهم و أولادهم لإرادة طول المقام, قوله حتى تنفرد سالفتي: السالفة صفحة العنق(136).

فوائد الحديث: في قول النبي صلى الله عليه و سلم للمغيرة: (أما الإسلام فأقبل و أما المال فلست منه في شيء): تحريم الغدر و لو كان مع المشركين و المحاربين.

(1) و سيأتي تمام الحديث عن فوائده. و في رواية عند أبي داود (2766) باب في صلح العدو، و إسنادها صحيح:

101- عن المسور بن مخرمة و مروان بن الحكم: أنهم اصطلحوا على وضع الحرب عشر سنين يأمن فيهن الناس و على أن بيننا عيبة مكفوفة، و أنه لا إسلال و لا إغلال.

العيبة هنا مثل ضربه و المكفوفة المشرجة المشدودة، و الإسلال من السلة و هي السرقة. و الإغلال: الخيانة. أغل الرجل إذا خان.

الشروط العمرية

102- عن عبد الرحمن بن غنم قال: كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى أهل الشام: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا و كذا إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا و ذرارينا و أموالنا و أهل ملتنا، و شرطنا لكم على أنفسنا ألا نحدث في مدائننا و لا فيما حولها ديراً و لا قلاية و لا كنيسة و لا صومعة راهب.

قال ابن القيم: و شهرة هذه الشروط تغني عن إسنادها؛ فإن الأئمة تلقوها بالقبول و ذكروها في كتبهم و احتجوا بها، و لم يزل ذكر الشروط العمرية على ألسنتهم و في كتبهم، و قد أنفذها بعده الخلفاء و عملوا بموجبها.

و قال ابن القيم رحمه الله: ذكر أبو القاسم الطبري من حديث أحمد بن يحيى الحلواني حدثنا عبيد بن جناد حدثنا عطاء بن مسلم الحلبي عن صالح المرادي عن عبد خير قال: رأيت علياً صلى العصر فصف له أهل نجران صفين؛ فناوله رجل منهم كتاباً فلما رآه دمعت عينه ثم رفع رأسه إليهم قال: يا أهل نجران هذا و الله خطي بيدي و إملاء رسول الله صلى الله عليه و سلم فقالوا: يا أمير المؤمنين أعطنا ما فيه. قال: و دنوت منه فقلت: إن كان راداً على عمر يوماً؛ فاليوم يرد عليه. فقال: لست براد على عمر شيئاً صنعه، إن عمر كان رشيد الأمر, و إن عمر أخذ منكم خيراً مما أعطاكم، و لم يجر عمر ما أخذ منكم إلى نفسه إنما جره لجماعة المسلمين.

و ذكر ابن المبارك عن إسماعيل بن أبي خالد عن الشعبي أن علياً رضي الله عنه قال لأهل نجران: إن عمر كان رشيد الأمر و لن أغير شيئاً صنعه عمر.

و قال الشعبي: قال علي حين قدم الكوفة: ما جئت لأحل عقدة شدها عمر(137).

فوائد الحديث: فيه حرص الأئمة و الخلفاء على احترام العهود و المواثيق و الوفاء بها كما في هذه الآثار.

103-عن سليم بن عامر رجل من حمير قال: كان بين معاوية و بين الروم عهد، و كان يسير نحو بلادهم، حتى إذا انقضى العهد غزاهم، فجاء رجل على فرس أو برذون (البرذون ضرب من الدواب) و هو يقول: الله أكبر الله أكبر وفاء لا غدر؛ فنظروا فإذا عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ((من كان بينه و بين قوم عهد فلا يشد عقدة و لا يحلها حتى ينقضي أمدها (الأمد الغاية) أو ينبذ إليهم على سواء, فرجع معاوية))(138).

104- عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة جاءته جهينة فقالوا له: إنك نزلت بين أظهرنا؛ فأوثق لنا حتى نأمنك و تأمنا قال: فأوثق لهم و لم يسلموا(139).

105-عن سراقة رضي الله عنه قال: أتيت نبي الله صلى الله عليه و سلم و هو بالجعرانة فجعلت لا أمر على مقنب من مقانب الأنصار إلا قرعوا رأسي و قالوا: إليك إليك فلما انتهيت إليه رفعت الكتاب و قلت: أنا يا رسول الله. قال: و قد كان كتب لي أماناً في رقعة، فقال النبي صلى الله عليه و سلم: نعم اليوم يوم وفاء و بر و صدق(140).

106- عن عبد الله بن عمر قال: أقبل علينا رسول الله صلى الله عليه و سلم فقال: ((يا معشر المهاجرين خمس إذا ابتليتم بهن و أعوذ بالله أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون و الأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم الذين مضوا، و لم ينقصوا المكيال و الميزان إلا أخذوا بالسنين و شدة المئونة و جور السلطان عليهم، و لم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء و لولا البهائم لم يمطروا، و لم ينقضوا عهد الله و عهد رسوله إلا سلط الله عليهم عدواً منء غيرهم فأخذوا بعض مافي بأيديهم، و ما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله و يتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم))(141).

فوائد الحديث: أن نقض العهود و المواثيق سبب من الأسباب التي يعذب الله بها العباد.

107- عن سلمة بن نعيم بن مسعود الأشجعي عن أبيه نعيم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول لهما حين قرأ كتاب مسيلمة: ((ما تقولان أنتما؟)). قالا: نقول: كما قال. قال: ((أما و الله لولا أن الرسل لاتقتل لضربت أعناقكما))(142).

فوائد الحديث: أن الرسل و السفراء و من هو على شاكلتهم لا يجوز التعرض لهم.

  

108- عن حارثة بن مضرب أنه أتى عبد الله فقال: ما بيني و بين أحد من العرب حنة (الضغن) و إني مررت بمسجد لبني حنيفة فإذا هم يؤمنون بمسيلمة فأرسل إليهم عبد الله فجيء بهم فاستتابهم، غير ابن النواحة قال له سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: ((لولا أنك رسول لضربت عنقك))، فأنت اليوم لست برسول؛ فأمر قرظة بن كعب فضرب عنقه في السوق ثم قال: من أراد أن ينظر إلى ابن النواحة قتيلاً بالسوق(143).

109-عن جعفر بن عمرو بن أمية الضمري قال: خرجت مع عبيد الله بن عدي بن الخيار؛ فلما قدمنا حمص قال لي عبيد الله بن عدي: هل لك في وحشي نسأله عن قتله حمزة؟ قلت: نعم, و كان وحشي يسكن حمص فسألنا عنه فقيل لنا: هو ذاك في ظل قصره كأنه حميت. قال: فجئنا حتى وقفنا عليه يسيراً فسلمنا فرد السلام قال: عبيد الله معتجر بعمامته ما يرى وحشي إلا عينيه و رجليه. فقال عبيد الله: يا وحشي أتعرفني؟ قال: فنظر إليه ثم قال: لا و الله إلا أني أعلم أن عدي بن الخيار تزوج امرأة يقال لها أم قتال بنت أبي العيص فولدت له غلاماً بمكة فكنت أسترضع له؛ فحملت ذلك الغلام مع أمه فناولتها إياه فلك – أني نظرت إلى قدميك قال: فكشف عبيد الله عن وجهه ثم قال: ألا تخبرنا بقتل حمزة؟ قال: نعم إن حمزة قتل طعيمة بن عدي بن الخيار ببدر فقال لي مولاي جبير بن مطعم: إن قتلت حمزة بعمي فأنت حر. قال: فلما أن خرج الناس عام عينين و عينين جبل بحيال أحد بينه و بينه واد خرجت مع الناس إلى القتال؛ فلما أن اصطفوا للقتال خرج سباع فقال: هل من مبارز قال: فخرج إليه حمزة بن عبد المطلب فقال: يا سباع با ابن أم أنمار مقطعة البظور أتحاد الله و رسوله صلى الله عليه و سلم ؟ قال: ثم أشد عليه فكان كأمس الذاهب. قال: و كمنت لحمزة تحت صخرة؛ فلما دنا مني رميته بحربتي فأضعها في ثنته حتى خرجت من بين و ركيه قال؛ فكان ذاك العهد به؛ فلما رجع الناس رجعت معهم فأقمت بمكة حتى فشا فيها الإسلام ثم خرجت إلى الطائف فأرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم رسولاً فقيل لي: إنه لا يهيج الرسل قال؛ فخرجت معهم حتى قدمت على رسول الله صلى الله عليه و سلم فلما رآني قال: ((آنت وحشي))؟. قلت :نعم قال: ((أنت قتلت حمزة)). قلت: قد كان من الأمر ما بلغك قال: ((فهل تستطيع أن تغيب وجهك عني)). قال: فخرجت، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه و سلم فخرج مسيلمة الكذاب، قلت: لأخرجن إلى مسيلمة لعلي أقتله فأكافئ به حمزة قال: فخرجت مع الناس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائم في ثلمة جدار كأنه جمل أورق ثائر الرأس قال: فرميته بحربتي فأضعها بين ثدييه حتى خرجت من بين كتفيه قال: و وثب إليه رجل من الأنصار فضربه بالسيف على هامته. قال: قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار أنه سمع عبد الله ابن عمر يقول: فقالت جارية على ظهر بيت: وا أمير المؤمنين قتله العبد الأسود(144).

مقطعة البظور: هي اللحمة التي تقطع من فرج المرأة عند الختان. قال ابن إسحاق: كانت أمه ختانة بمكة تختن النساء، و العرب تطلق هذا اللفظ في معرض الذم(145).

فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه و سلم كان لا يتعرض للرسل, و أن الرسل في مأمن و إن كانوا فعلوا ما يستوجب القصاص .

110- عن أبي رافع  أنه أقبل بكتاب من قريش إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: فلما رأيت النبي صلى الله عليه و سلم ألقي في قلبي الإسلام فقلت: يا رسول الله إني و الله لا أرجع إليهم أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((إني لا أخيس بالعهد و لا أحبس البرد و لكن ارجع إليهم؛ فإن كان في قلبك الذي في قلبك الآن فارجع)). قال: فرجعت إليهم ثم إني أقبلت إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم فأسلمت. قال بكير: و أخبرني أن أبا رافع كان قبطياً(146).

قال الخطابي(147): يشبه أن يكون المعنى في ذلك أن الرسالة تقتضي جواباً و الجواب لا يصل إلى المرسل إلا مع الرسول بعد انصرافه فصار كأنه عقد له العقد مدة مجيئه و رجوعه. 

قال: و في قوله لا أخيس بالعهد أن العهد يراعى مع الكافر كما يراعى مع المسلم, و أن الكافر إذا عقد لك عقد أمان فقـد وجب عليك أن تؤمنه و لا تغتاله في دم و لا مال و لا منفعة(148).

(4)

111- عن سهل بن أبي حثمة قال: انطلق عبد الله بن سهل و محيصة بن مسعود بن زيد إلى خيبر و هي يومئذ صلح فتفرقا، فأتى محيصة إلى عبد الله بن سهل و هو يتشحط في دمه قتيلاً فدفنه، ثم قدم المدينة فانطلق عبد الرحمن بن سهل و محيصة و حويصة ابنا مسعود إلى النبي صلى الله عليه و سلم، فذهب عبد الرحمن يتكلم فقال: ((كبر كبر)). و هو أحدث القوم فسكت، فتكلما فقال: ((تحلفون و تستحقون قاتلكم أو صاحبكم)). قالوا :و كيف نحلف و لم نشهد و لم نر؟ قال: ((فتبرئكم يهود بخمسين)). فقالوا: كيف نأخذ أيمان قوم كفار فعقله النبي صلى الله عليه و سلم من عنده(149).

فوائد الحديث: رفض النبي صلى الله عليه و سلم أن يتعرض لليهود مع غلبة الظن في قتل عبد الله بن سهل، لأن اليهود كانوا أهل عهد وذمة.

112- عن عبد الله بن عباس: أن أبا سفيان بن حرب أخبره: أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش كانوا تجارا بالشأم في المدة التي ماد فيها رسول الله … تقدم الحديث(150).

 قال ابن حجر: قال ابن بطال: أشار البخاري بهذا إلى أن الغدر عند كل أمة قبيح مذموم و ليس هو من صفات الرسل(151).

113- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((أربع خلال من كن فيه كان منافقا خالصاً من إذا حدث كذب و إذا وعد أخلف و إذا عاهد غدر و إذا خاصم فجر. و من كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها))(152).

قال ابن حجر: الغدر حرام باتفاق سواء كان في حق المسلم أو الذمي. 

و قال أيضا: و فيه علم من أعلام النبوة و التوصية بالوفاء لأهل الذمة لما في الجزية التي تؤخذ منهم من نفع المسلمين, و فيه التحذير من ظلمهم و أنه متى وقع ذلك نقضوا العهد فلم يجتب المسلمون منهم شيئا فتضيق أحوالهم(153).

114- عن سعد بن أبي وقاص قال: لما قدم النبي صلى الله عليه و سلم المدينة جاءت جهينة فقالوا له: أنت قد نزلت بين أظهرنا فما وثقنا حتى نأمنك و تأمنا قال: فأوثق لهم و لم يسلموا(154).

115- و بوّب البخاري  أيضاً في (كتاب الجزية و الموادعة)، (باب إثم الغادر للبر و الفاجر): عن أنس: عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((لكل غادر لواء يوم القيامة قال أحدهما ينصب و قال الآخر يرى يوم القيامة يعرف به))(155).

116- عن أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((لكل غادر لواء يوم القيامة يرفع له بقدر غدره ألا و لا غادر أعظم غدراً من أمير عامة))(156).

قال النووي: و في هذه الأحاديث بيان غلظ تحريم الغدر لا سيما من صاحب الولاية العامة؛ لأن غدره يتعدى ضرره إلى خلق كثيرين, و قيل لأنه غير مضطر إلى الغدر لقدرته على الوفاء كما جاء في الحديث الصحيح في تعظيم كذب الملك, و المشهور أن هذا الحديث وارد في ذم الإمام الغادر, و ذكر القاضي عياض احتمالين أحدهما هذا, و هو نهي الإمام أن يغدر في عهوده لرعيته و للكفار و غيرهم(157).

117- عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((لا يدخل مسجدنا هذا بعد عامنا هذا مشرك إلا أهل العهد و خدمهم))(158).

118- عن عاصم بن عبيد الله أن النبي صلى الله عليه و سلم قـال: ((إنها ستكون من بعدي أمراء يصلون الصلاة لوقتها و يؤخرونها عن وقتها فصلوها معهم؛ فإن صلوها لوقتها و صليتموها معهم فلكم و لهم, و إن أخروها عن وقتها فصليتموها معهم فلكم و عليهم، من فارق الجماعة مات ميتة جاهلية, و من نكث العهد و مات ناكثاً للعهد جاء يوم القيامة لا حجة له)). قلت له: من أخبرك هذا الخبر؟ قـال: أخبرنيه عبـد الله بن عامر بن ربيعـة عن أبيه عامر بن ربيعة يخبر عامر بن ربيعة عن النبي صلى الله عليه و سلم (159).

119-قال ابن إسحاق: و لما انتهى رسول الله صلى الله عليه و سلم الى تبوك أتاه يحنة بن رؤبة صاحب إيلة فصالح رسول الله صلى الله عليه و سلم و أعطاه الجزية، و أتاه أهل جرباء و أذرح و أعطوه الجزية, و كتب لهم رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاباً فهو عندهم، و كتب ليحنة بن رؤبة و أهل إيلة: ((بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله و محمد النبي رسول الله ليحنة بن رؤبة و أهل إيلة سفنهم و سيارتهم في البر و البحر لهم ذمة الله و محمد النبي و من كان معهم من أهل الشام و أهل اليمن و أهل البحر؛ فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يحول ماله دون نفسه, و أنه طيب لمن أخذه من الناس, و أنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه و لا طريقاً يردونه من بر أو بحر)). زاد يونس بن بكير عن ابن إسحاق بعد هذا: و هذا كتاب جهيم بن الصلت و شرحبيل بن حسنة بإذن رسول الله صلى الله عليه و سلم (160).

120-وعن إبن اسحاق قال: وكتب لأهل جرباء وأذرح: ((بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي رسول الله صلى الله عليه و سلم لأهل جرباء و أذرح أنهم آمنون بأمان الله و أمان محمد, و أن عليهم مائة دينار في كل رجب و مائة أوقية طيبة, و أن الله عليهم كفيل بالنصح و الإحسان إلى المسلمين, و من لجأ اليهم من المسلمين)). قال: و أعطى النبي صلى الله عليه و سلم أهل أيلة برده مع كتابه أماناً لهم قال: فاشتراه بعد ذلك أبو العباس عبد الله بن محمد بثلثمائة دينار(161).

121- و قال ابن إسحق: و كتب للأسقف هذا الكتاب و لأساقفة نجران بعده: ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد النبي للأسقف أبي الحارث و أساقفة نجران و كهنتهم و رهبانهم و كل ما تحت أيديهم من قليل و كثير جوار الله و رسوله لا يغير أسقف من أسقفته و لا راهب من رهبانيته و لا كاهن من كهانته و لا يغير حق من حقوقهم و لا سلطانهم و لا ما كانوا عليه من ذلك جوار الله و رسوله أبداً ما أصلحوا و نصحوا عليهم غير مبتلين بظلم و لا ظالمين)). و كتب المغيرة بن شعبة(162).

122- عن ابن عباس قال: صالح رسول الله صلى الله عليه و سلم أهل نجران على ألفي حلة النصف في صفر و البقية في رجب يؤدونها إلى المسلمين و عارية ثلاثين درعاً، و ثلاثين فرساً، و ثلاثين بعيراً، و ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها و المسلمون ضامنون لها حتى يردوها عليهم إن كان باليمن كيد أو غدرة على أن لاتهدم لهم بيعة و لايخرج لهم قس و لايفتنوا على دينهم ما لم يحدثوا حدثاً أو يأكلوا الربا(163).

123- عن سويد بن غفلة قال: كنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه و هو أمير المؤمنين بالشام فأتاه نبطي مضروب مشجج مستعدي فغضب غضباً شديداً فقال لصهيب: انظر من صاحب هذا فانطلق صهيب؛ فإذا هو عوف بن مالك الأشجعي فقال له: إن أمير المؤمنين قد غضب غضباً شديداً فلو أتيت معاذ بن جبل فمشى معك إلى أمير المؤمنين؛ فإني أخاف عليك بادرته فجاء معه معاذ؛ فلما انصرف عمر من الصلاة قال: أين صهيب فقال: أنا هذا يا أمير المؤمنين قال: أجئت بالرجل الذي ضربه؟ قال: نعم. فقام إليه معاذ بن جبل فقال: يا أمير المؤمنين إنه عوف بن مالك فاسمع منه و لا تعجل عليه. فقال له عمر: ما لك و لهذا؟ قال: يا أمير المؤمنين رأيته يسوق بامرأة مسلمة فنخس الحمار ليصرعها: فلم تصرع ثم دفعها فخرت عن الحمار ثم تغشاها ففعلت ما ترى. قال: ائتني بالمرأة لتصدقك فأتى عوف المرأة فذكر الذي قال له عمر رضي الله عنه قال أبوها و زوجها: ما أردت بصاحبتنا فضحتها فقالت المرأة: و الله لأذهبن معه إلى أمير المؤمنين؛ فلما أجمعت على ذلك قال أبوها و زوجها: نحن نبلغ عنك أمير المؤمنين، فأتيا فصدقا عوف بن مالك بما قال. قال: فقال عمر لليهودي: و الله ما على هذا عاهدناكم فأمر به فصلب. ثم قال: يا أيها الناس فوا بذمة محمد صلى الله عليه و سلم فمن فعل منهم هذا فلا ذمة له. قال سويد بن غفلة: و إنه لأول مصلوب رأيته. تابعه بن أشوع عن الشعبي عن عوف بن مالك(164).

فوائد الحديث: فيه سماحة و عدل الإسلام فقد غضب عمر رضي الله عنه لظلم المعاهد.

124- عن أنس بن مالك قال: ما خطبنا نبي الله صلى الله عليه و سلم إلا قال: ((لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له))(165).

125- و قال محمد بن اسحاق: فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يصيب أصحابه من البلاء و ما هو فيه من العافية بمكانه من الله عز و جل و من عمه أبي طالب و أنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد، و هي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه؛ فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة, و فرارا إلى الله بدينهم فكانت أول هجرة كانت في الاسلام(166).

126- عن أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة زوج النبي صلى الله عليه و سلم قالت: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي أمنا على ديننا و عبدنا الله تعالى لا نؤذى و لا نسمع شيئا نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشا ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين و أن يهدوا للنجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة, و كان من أعجب ما يأتيه منها إليه الأدم، فجمعوا له أدماً كثيراً, و لم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له هديـة، ثم بعثوا بذلك عبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي و عمرو بن العاص بن وائل السهمي, و أمروهما و قالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريق هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا للنجاشي هداياه ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم. قالت: فخرجا فقدما على النجاشي و نحن عنده بخير دار و خير جار؛ فلم يبق من بطارقته بطريق إلا دفعا إليه هديته قبل أن يكلما النجاشي ثم قال لكل بطريق منهم: إنه قد صبا إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينكم, و جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن و لا أنتم, و قد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم لنردهم إليهم؛ فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا و لا يكلمهم؛ فإن قومهم أعلى بهم عيناً و أعلم بما عابوا عليهم فقالوا لهما: نعم ثم إنهما قربا هداياهم إلى النجاشي فقبلها منهما ثم كلماه فقالا له: أيها الملك إنه قد صبا إلى بلدك منا غلمان سفهاء فارقوا دين قومهم و لم يدخلوا في دينك و جاؤوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن و لا أنت, و قد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم و أعمامهم و عشائرهم لتردهم إليهم فهم أعلى بهم عيناً و أعلم بما عابوا عليهم و عاتبوهم فيه. قالت: و لم يكن شيء أبغض إلى عبد الله بن أبي ربيعة و عمرو بن العاص من أن يسمع النجاشي كلامهم. فقالت بطارقته حوله: صدقوا أيها الملك قومهم أعلى بهم عيناً و أعلم بما عابوا عليهم فأسلمهم إليهما فليردانهم إلى بلادهم و قومهم قال: فغضب النجاشي ثم قال: لا هايم الله إذاً لا أسلمهم إليهما و لا أكاد قوماً جاوروني و نزلوا بلادي و اختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ما يقول هذان في أمرهم؛ فإن كانوا كما يقولان أسلمتهم إليهما و رددتهم إلى قومهم و إن كانوا على غير ذلك منعتهم منهما و أحسنت جوارهم ما جاوروني(167).

فوائد الحديث: جواز الدخول في أمان المشرك, فقد كان النجاشي مشركاً لما أمنهم و دخلوا في أمانه, و فيه ما تعارف عليه السلاطين و الملوك من قبل الإسلام و أقره الإسلام من احترام المستأمن و الوفاء بعهده.

127- عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها قالت: لم أعقل أبوي قط إلا و هما يدينان الدين, و لم يمر علينا يوم إلا يأتينا فيه رسول الله صلى الله عليه و سلم طرفي النهار بكرة و عشية؛ فلما ابتلي المسلمون خرج أبو بكر مهاجراً قبل الحبشة حتى إذا بلغ برك الغماد لقيه ابن الدغنة و هو سيد القارة فقال: أين تريد يا أبا بكر؟ فقال أبو بكر: أخرجني قومي فأنا أريد أن أسيح في الأرض فأعبد ربي. قال ابن الدغنة: إن مثلك لا يخرج و لا يخرج؛ فإنك تكسب المعدوم و تصل الرحم و تحمل الكل و تقري الضيف و تعين على نوائب الحق و أنا لك جار؛ فارجع فاعبد ربك ببلادك فارتحل ابن الدغنة فرجع مع أبي بكر فطاف في أشراف كفار قريش. فقال لهم: إن أبا بكر لا يخرج مثله و لا يخرج أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم و يصل الرحم و يحمل الكل و يقري الضيف و يعين على نوائب الحق. فأنفذت قريش جوار ابن الدغنة و آمنوا أبا بكر. و قالوا لابن الدغنة: مر أبا بكر فليعبد ربه في داره فليصل و ليقرأ ما شاء, و لا يؤذينا بذلك و لا يستعلن به؛ فإنا قد خشينا أن يفتن أبناءنا و نساءنا. قال ذلك ابن الدغنة لأبي بكر؛  فطفق أبو بكر يعبد ربه في داره و لا يستعلن بالصلاة و لا القراءة في غير داره، ثم بدا لأبي بكر فابتنى مسجداً بفناء داره و برز؛ فكان يصلي فيه و يقرأ القرآن فيتقصف عليه نساء المشركين و أبناؤهم يعجبون و ينظرون إليه, و كان أبو بكر رجلاً بكاء لا يملك دمعه حين يقرأ القرآن فأفزع ذلك أشراف قريش من المشركين؛ فأرسلوا إلى ابن الدغنة فقدم عليهم فقالوا له: إنا كنا أجرنا أبا بكر على أن يعبد ربه في داره و إنه جاوز ذلك فابتنى مسجداً بفناء داره و أعلن الصلاة و القراءة, و قد خشينا أن يفتن أبناءنا و نساءنا فأته فإن أحب أن يقتصر على أن يعبد ربه في داره فعل, و إن أبى إلا أن يعلن ذلك فسله أن يرد إليك ذمتك؛ فإنا كرهنا أن نخفرك و لسنا مقرين لأبي بكر الاستعلان. قالت عائشة فأتى ابن الدغنة أبا بكر فقال: قد علمت الذي عقدت لك عليه؛ فإما أن تقتصر على ذلك, و إما أن ترد إلي ذمتي؛ فإني لا أحب أن تسمع العرب أني أخفرت في رجل عقدت له. قال أبو بكر: إني أرد لك جوارك و أرضى جوار الله,  و رسول الله صلى الله عليه و سلم يومئذ بمكة(168).

فوائد الحديث: جواز الدخول في أمان المشرك.

128- عن ذي مخمر عن النبي صلى الله عليه و سلم قال: ((تصالحون الروم صلحاً آمنا و تغزون أنتم و هم عدواً من ورائهم فتسلمون و تغنمون ثم تنزلون بمرج ذي تلول فيقوم إليه رجل من الروم فيرفع الصليب و يقول:  ألا غلب الصليب فيقوم إليه رجل من المسلمين فيقتله؛ فعند ذلك تغدر الروم و تكون الملاحم فيجتمعون إليكم فيأتونكم في ثمانين غاية مع كل غاية عشرة آلاف))(169).

فوائد الحديث: جواز الدخول في صلح مع المشركين, و سيبقى المسلمون يتصالحون إلى آخر الزمان كما في هذا الحديث.

129- عن جابر رضي الله عنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم على كل بطن عقولة(170).

130- و قال محمد بن إسحاق: كتب رسول الله صلى الله عليه و سلم كتاباً بين المهاجرين و الانصار و ادع فيه اليهود, و عاهدهم, و أقرهم على دينهم و أموالهم, و اشترط عليهم؛ و شرط لهم: ((بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي الأمي بين المؤمنين و المسلمين من قريش و يثرب و من تبعهم فلحق بهم و جاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاقلون بينهم, و هم يفدون عانيهم بالمعروف و القسط، و بنو عوف على ربعتهم يتعاقلون معاقلهم الأولى و كل طائفة تفدي عانيها بالمعروف و القسط بين المؤمنين))، ثم ذكر كل بطن من بطون الأنصار و أهل كل دار: بني ساعدة و بني جشم و بني النجار و بني عمرو بن عوف و بني النبيت إلى أن قال: ((و إن المؤمنين لا يتركون مفرحاً بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء و عقل, و لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه, و إن المؤمنين المتقين على من بغى منهم أو ابتغى دسيسة ظلم أو إثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين, و إن أيديهم عليه جميعهم و لو كان ولد أحدهم, و لا يقتل مؤمن مؤمناً في كافر, و لا ينصر كافر على مؤمن, و إن ذمة الله واحدة يجير عليهم أدناهم, و إن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس, و أنه من تبعنا من يهود؛ فإن له النصر و الأسوة غير مظلومين, و لا متناصر عليهم, و إن سلم المؤمنين واحدة لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله إلا على سواء و عدل بينهم, و إن كل غازية غزت معنا يعقب بعضها بعضاً, و إن المؤمنين يبىء بعضهم بعضاً بما نال دماءهم في سبيل الله, و إن المؤمنين المتقين على أحسن هدى و أقومه, و إنه لا يجير مشرك مالا لقريش و لا نفساً و لا يحول دونه على مؤمن, و إنه من اغتبط مؤمناً قتلاً عن بينة فإنه قود به إلى أن يرضى ولي المقتول, و إن المؤمنين عليه كافة و لا يحل لهم الا قيام عليه, و إنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة و آمن بالله و اليوم الآخر أن ينصر محدثاً و لا يؤويه, و إنه من نصره أو آواه فإن عليه لعنة الله و غضبه يوم القيامة, و لا يؤخذ منه صرف و لا عدل, و إنكم مهما اختلفتم فيه من شيء؛ فإن مرده الى الله عز و جل و إلى محمد صلى الله عليه و سلم, و إن اليهود يتفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين, و إن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم و للمسلمين دينهم مواليهم و أنفسهم إلا من ظلم و أثم فإنه لا يوتغ إلا نفسه و أهل بيته, و إن ليهود بني النجار و بني الحارث و بني ساعدة و بني جشم و بني الأوس و بني ثعلبة و جفنة و بني الشطنة مثل ما ليهود بني عوف, و إن بطانة يهود كأنفسهم و إنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد و لا ينحجر على ثار جرح، و إنه من فتك فبنفسه إلا من ظلم, و إن الله على أثر هذا, و إن على اليهود نفقتهم و على المسلمين نفقتهم, و إن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة, و إن بينهم النصح و النصيحة و البر دون الإثم, و إنه لم يأثم امرؤ بحليفه, و إن النصر للمظلوم, و إن يثرب حرام حرفها لأهل هذه الصحيفة, و إن الجار كالنفس غير مضار و لا آثم, و إنه لا تجار حرمة إلا بإذن أهلها, و إنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده؛ فإن مرده إلى الله و إلى محمد رسول الله, و إن الله على من اتقى ما في هذه الصحيفة و أبره, و إنه لا تجار قريش و لا* من نصرها وإن بينهم النصر على من دهم يثرب, وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه فإنهم يصالحونه, وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإنه لهم على المؤمنين إلا من حارب في الدين على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم، وإنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم, وإنه من خرج آمن, ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم أو أثم, وإن الله جار لمن بر واتقى))(171).

فوائد الحديث: جواز الدخول في صلح مع المشركين سواء أكانوا من أهل الكتاب أو غيرهم.

 

جواز الصدقة على أهل الذمة والعهد والأمان إذا كانوا فقراء

131- عن ابن عباس قال: كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين، فسألوا فرخص لهم فنزلت هذه الاية: (لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ اللّهِ وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [البقرة:272](172).

132- وقال ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن القاسم بن عطية حدثنا أحمد بن عبد الرحمن يعني الدشتكي حدثني أبي عن أبيه حدثنا أشعث بن إسحاق عن جعفر بن أبي المغيرة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلا على أهل الاسلام حتى نزلت هذه الآية: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} إلى آخرها، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين(173).

133- وعن عبد الله بن الزبير  رضي الله عنهما قال: قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا صناب وأقط وسمن وهي مشركة فأبت أسماء أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} إلى آخر الآية، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها. والحديث أصله في الصحيحين وسيأتي(174).

وقال ابن كثير في قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [الإنسان:8]. قال ابن عباس: كان أسراهم يومئذ مشركين. ويشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء. وقال عكرمة: هم العبيد واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك، وهكذا قال سعيد بن جبير وعطاء والحسن وقتادة(175).

134- عن رجل من الأنصار قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على القبر يوصي الحافر: ((أوسع من قبل رجليه أوسع من قبل رأسه)). فلما رجع استقبله داعي امرأة فجاء وجيء بالطعام فوضع يده ثم وضع القوم فأكلوا، فنظر آباؤنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يلوك لقمة في فمه ثم قال: ((أجد لحم شاة أخذت بغير إذن أهلها)). فأرسلت المرأة قالت: يارسول الله إني أرسلت إلى البقيع يشتري لي شاة؛ فلم أجد فأرسلت إلى جار لي قد اشترى شاة أن أرسل إلي بها بثمنها؛ فلم يوجد فأرسلت إلى امرأته فأرسلت إلي بها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أطعميه الأسارى))(176).

فوائد الحديث: فيه الإحسان إلى الأسارى، فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإطعامهم.

135- عن الثوري عن أبي إسحاق: أن عمرو بن شرحبيل كان يعطي زكاة الفطر الرهبان من أهل الذمة, وكان غيره يقول يعطيها المسلمين(177).

136- عن إبراهيم النخعي قال: لا يعطى اليهودي ولا النصراني من الزكاة يعطون من التطوع(178).

137- عن الشعبي سئل عن إطعام اليهودي والنصراني في الكفارة؟ قال: يجزئه وقال الحكم: لا يجزئه.

138- وقال إبراهيم: أرجو أن يجزئه إذا لم يجد مسلمين ويعطي المكاتب وذا الرحم لا يجبر على نفقته(179).

139- عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كنا نخرج زكاة الفطر على كل نفس نعولها وإن كان نصرانياً(180).

140- عن ابن عباس رضي الله عنه قال: يخرج الرجل زكاة الفطر عن مكاتبه وعن كل مملوك له وإن كان يهودياً أو نصرانياً(181).

141- عن أبي ميسرة: أنه كان يعطي الرهبان من صدقة الفطر(182).

142- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان أبو طلحة أكثر أنصاري بالمدينة مالاً وكان أحب أمواله إليه بيرحى وكانت مستقبلة المسجد, وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. قال أنس: فلما أنزلت هذه الآية: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الله يقول في كتابه: (لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ)، وإن أحب أموالي إلى بيرحى, وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله فضعها يا رسول الله حيث شئت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بخ ذلك مال رابح قد سمعت ما قلت فيها, وإني أرى أن تجعلها في الأقربين)). فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه(183).

فوائد الحديث: جواز الصدقة على المشركين وخصوصاً إذا كانوا أقارب, وعليه بوب النووي على هذا الحديث (باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين).

143- عن أبي رزين قال: كنت مع شقيق بن سلمة فمر عليه أسارى من المشركين فأمرني أن أتصدق عليهم ثم تلا هذه الآية: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)(184).

144- عن سعيد بن جبير و عطاء – في قوله تعالى -: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا)، قالا: من أهل القبلة وغيرهم(185).

145- عن الحسن في قوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) قال: الأسارى من أهل الشرك(186).

146- عن جابر بن زيد قال: سئل عن الصدقة في من توضع؟ فقال: في أهل المسكنة من المسلمين وأهل ذمتهم. وقال: وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم في أهل الذمة من الصدقة والخمس(187).

الحكم بين أهل الذمة

147- عن نافع عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم يهودياً ويهودية(188).

الترمذي (1436) باب  ما جاء في رجم أهل الكتاب

قال الترمذي: والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم، قالوا: إذا اختصم أهل الكتاب وترافعوا إلى حكام المسملين حكموا بينهم بالكتاب والسنة وبأحكام المسملين، وهو قول أحمد وإسحق. 

وقال بعضهم: لا يقام عليهم الحد في الزنا والقول الأول أصح.

148- عن الزهري في  قوله تعالى: (فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ) [المائدة:42]، قال: مضت السنة أن يردوا في حقوقهم ومواريثهم إلى أهل دينهم إلا أن يأتوا راغبين في حد نحكم بينهم فيه فنحكم بينهم بكتاب الله. وقد قال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: (وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ)[المائدة:42](189).

149- عن الأشعث قال: كان بيني وبين رجل من اليهود أرض فجحدني، فقدمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألك بينة؟)). قلت: لا. قال لليهودي: ((احلف)). قلت: يارسول الله إذاً يحلف ويذهب بمالي. فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً ..} إلى آخر الآية(190).

فوائد الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لليهودي وهو مشرك، لأن الأشعث لم يكن معه بينة، فهو دليل على سماحة الإسلام وعدله, وأن اختلاف الدين لا يمنع من الحكم بالعدل.

150- عن ابن عباس قال: لما نزلت الآية: (فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ*وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) الآية. قال: كان بنو النضير إذا قتلوا من بني قريظة أدوا نصف الدية، وإذا قتل بنو قريظة من بني النضير أدوا إليهم الدية كاملة، فسوى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم(191).

قبول شهادة غير المسلمين

قال البخاري: (باب قول الله تعالى): (يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الآثِمِينَ  * فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَّمِنَ الظَّالِمِينَ  * ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)[المائدة:106- 108].

151- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم؛ فلما قدما بتركته فقدوا جاماً من فضة مخوصاً من ذهب فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم وجد الجام بمكة فقالوا: ابتعناه من تميم وعدي، فقام رجلان من أوليائه فحلفا {لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا}، وإن الجام لصاحبهم. قال وفيهم نزلت هذه الآية: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ}(192).

قال ابن حجر: واستدل بهذا الحديث على جواز شهادة الكفار بناء على أن المراد بالغير الكفار, والمعنى (منكم) أي من أهل دينكم، (أو آخران من غيركم) أي من غير أهل دينكم, وبذلك قال أبو حنيفة ومن تبعه(193).

152- عن يحيى بن وثاب عن شريح: أنه كان يجيز شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض(194).

153- عن عامرالشعبي: أنه أجاز شهادة يهودي على نصراني أو نصراني على يهودي(195).

154- عن ابن سيرين قال: شهدت شريحاً أجاز شهادة قوم من أهل الشرك بعضهم على بعض بخفافهم نقع(196).

155- عن إبراهيم الصائغ قال: سألت نافعاً عن شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض فقال: تجوز(197).

156- عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن اليهود جاؤوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما تجدون في التوراة في شأن الرجم))؟. فقالوا: نفضحهم ويجلدون. فقال عبد الله بن سلام: كذبتم إن فيها الرجم، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم فقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفع يده؛ فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يـا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسـول الله صلى الله عليه وسلم فرجما قال عبد الله: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة(198).

قبول شفاعتهم في بعض الأحوال

157- عن محمد بن جبير عن أبيه رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أسارى بدر: ((لو كان المطعم بن عدي حياً ثم كلمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له))(199).

النتنى: أي أسارى المشركين.

فوائد الحديث: قبول شفاعة المشرك, وأن جزاء الإحسان الإحسان، فإن المطعم بن عدي أجار النبي صلى الله عليه وسلم فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد صنيعه ويكافئه.

حكم السلام على غير المسلم ومصافحته

158- عن أبي عبد الله العسقلاني: أنه أخبره من رأى ابن محيريز صافح نصرانياً في مسجد دمشق(200).

159- عن أبي أمامة الباهلي: أنه كان يسلم على كل من لقيه، قال: فما علمت أحداً سبقه بالسلام إلا يهودياً مرة اختبأ له خلف أسطوانة فخرج فسلم عليه فقال له أبو أمامة: ويحك يا يهودي ما حملك على ما صنعت؟ قال: رأيتك رجلاً تكثر السلام فعلمت أنه فضل فأحببت أن أخذ به. فقال أبو أمامة: ويحك إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله جعل السلام تحية لأمتنا وأمانا لأهل ذمتنا))(201).

160- عن عبد الرزاق قال: سمعت الثوري وعمران لا يريان بمصافحة اليهودي والنصراني بأساً. قال عبد الرزاق: ولا بأس به(202).

وبوب البخاري في “الأدب المفرد”: (باب التسليم على مجلس فيه المسلم والمشرك).

161- عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد أخبره: أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب على حمار على إكاف على قطيفة فدكية وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود سعد بن عبادة، حتى مر بمجلس فيه عبد الله بن أبي بن سلول, وذلك قبل أن يسلم عدو الله؛ فإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين وعبدة الأوثان؛ فسلم عليهم(203).

162- عن أبي عثمان النهدي قال: كتب أبو موسى إلى دهقان يسلم عليه في كتابه، فقيل له: أتسلم عليه وهو كافر؟ قال: إنه كتب إليّ فسلَّم علي فرددت عليه(204).

163- عن علقمة قال: إنما سلم عبد الله على الدهاقين إشارة(205).

164- عن ابن عباس قال: ردوا السلام على من كان يهودياً أو نصرانياً أو مجوسياً ذلك بأن الله يقول: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)(206).

165- أن عبد الله بن عباس أخبره: أن أبا سفيان بن حرب أرسل إليه هرقل ملك الروم ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي مع دحية الكلبي إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه فإذا فيه ((بسم الله الرحمن الرحيم من محمد عبد الله ورسوله إلى هرقل عظيم الروم سلام على من اتبع الهدى أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} إلى قوله:{اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}(207).

166- عن عقبة بن عامر الجهني: أنه مر برجل هيأته هيأة مسلم فسلم فرد عليه وعليك ورحمة الله وبركاته. فقال له الغلام: إنه نصراني؛ فقام عقبة فتبعه حتى أدركه فقال: إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين لكن أطال الله حياتك وأكثر مالك وولدك(208).

167- عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: لو قال لي فرعون بارك الله فيك قلت: وفيك وفرعون قد مات(209).

168- عن علقمة قال: أقبلت مع عبد الله من السيلحين فصحبه دهاقين من أهل الحيرة، فلما دخلوا الكوفة أخذوا في طريقهم غير طريقهم؛ فالتفت إليهم فرآهم قد عدلوا فأتبعهم السلام. فقلت: أتسلم على هؤلاء الكفار؟ فقال: نعم صحبوني وللصحبة حق(210).

169- عن أسلم مولى عمر قال: لما قدمنا مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشام أتاه الدهقان قال: يا أمير المؤمنين إني قد صنعت لك طعاماً؛ فأحب أن تأتيني بأشراف من معك فإنه أقوى لي في عملي وأشرف لي. قال: إنا لا نستطيع أن ندخل كنائسكم هـذه مع الصور التي فيها(211).

170- عن ابن عباس رضي الله عنهما: كتب إلى ذمي فبدأ بالسلام. فقلت له: أتبدؤه بالسلام فقال: إن الله هو السلام(212).

171- عن إبراهيم قال: إذا كانت لك إليه حاجة فابدأه بالسلام(213).

172- عن عمرو بن عثمان، سمعت أبا بردة قال: إن رجلاً من المشركين كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلام فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرد عليه السلام(214).

173- وقال مجاهد: إذا كتبت فاكتب السلام على من اتبع الهدى(215).

174- عن ابن عباس قال: من سلم عليك من خلق الله فاردد عليه وإن كان مجوسياً فإن الله يقول: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)[النساء:86](216).

175- وعن أبي بصرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إنا غادون على يهود فلا تبدؤوهم بالسلام فإذا سلموا عليكم فقولوا: وعليكم))(217).

176- وعن أنس قال: نهينا – أو قال: أمرنا – أن لا نزيد أهل الكتاب على وعليكم(218).

177- عن عون بن عبد الله قال: سأل محمد بن كعب عمر بن عبد العزيز عن ابتداء أهل الذمة بالسلام؟ فقال: نرد عليهم ولا نبدؤهم. فقلت: وكيف تقول أنت؟ قال: ما أرى بأساً أن نبدأهم. قلت :لم؟ قال: لقول الله: (فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ)(219).

178- عن ابن عجلان: أن عبد الله وأبا الدرداء وفضالة بن عبيد كانوا يبدأون أهل الشرك بالسلام(220).

179- عن معمر قال: قلت للزهري: هل يقال له مرحباً؟ قال: إن كان له عندك يد لم تجزه بها فلا بأس(221).

180- عن قتادة يحدث عن أنس رضي الله عنه: أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إن أهل الكتاب يسلمون علينا فكيف نرد عليهم؟ قال: ((قولوا وعليكم))(222).

قال النووي: واختلف العلماء فى رد السلام على الكفار وابتدائهم به، فمذهبنا تحريم ابتدائهم به ووجوب رده عليهم بأن يقول: وعليكم أو عليكم فقط, ودليلنا فى الابتداء قوله صلى الله عليه وسلم: ((لاتبدأوا اليهود ولاالنصارى بالسلام)). وفى الرد قوله صلى الله عليه وسلم: ((فقولوا وعليكم)), وبهذا الذى ذكرناه عن مذهبنا قال أكثر العلماء وعامة السلف.

وذهبت طائفة إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام؛ روى ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبى محيريز، وهو وجه لبعض أصحابنا، حكاه الماوردى لكنه قال: يقول السلام عليك ولايقول عليكم بالجمع, واحتج هؤلاء بعموم الأحاديث وبإفشاء السلام وهى حجة باطلة لأنه عام مخصوص بحديث: ((لاتبدأو اليهود ولا النصارى بالسلام)). 

وقال بعض أصحابنا: يكره ابتداؤهم بالسلام ولايحرم، وهذا ضعيف أيضاً لأن النهى للتحريم؛ فالصواب تحريم ابتدائهم, وحكى القاضي عن جماعة أنه يجوز ابتداؤهم به للضرورة والحاجة أو سبب، وهو قول علقمة والنخعى. وعن الأوزاعى أنه قال: إن سلمت فقد سلم الصالحون وإن تركت فقد ترك الصالحون. وقالت طائفة من العلماء: لايرد عليهم السلام. ورواه ابن وهب وأشهب عن مالك.

وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يقول فى الرد عليهم: وعليكم السلام, ولكن لايقول ورحمة الله، حكاه الماوردى, وهو ضعيف مخالف للأحاديث, والله أعلم(223).

الاستئذان على المشركين

181- عن عبد الرحمن بن يزيد: أنه كان إذا استأذن على المشركين قال: أندر آيم، يقول: أدخل(224).

182- عن سعيد بن جبير قال: لا يدخل عليّ المشركين إلا بإذن(225).

183-عن أبي المنبه قال: سألت الحسن عن الرجل يحتاج إلى الدخول على أهل الذمة من مطر أو برد أيستأذن عليهم؟ قال: نعم(226).

فوائد الآثار: إن من سماحة الإسلام أنه أمرنا أن نتأدب مع غير المسلمين بآداب الإسلام من الاستئذان وما شابه ذلك.

جواز إكرامهم وعلى ذلك بوب ابن حجر في المطالب العالية

184- عن حسان بن أبي يحيى الكندي عن شيخ من كندة قال: كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه  فأتاه سيد نجران فأوسع له. فقال رجل: أتوسع لهذا النصراني يا أمير المؤمنين؟ فقال: إنهم كانوا إذا أتوا رسول الله أوسع لهم(227).

المسلم يكني المشرك

185- عن الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كنى صفوان بن أمية وهو يومئذ مشرك جاءه على فرس. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((انزل أبا وهب))(228).

186- عن الفرافصة الحنفي عن أبيه: أن عمر بن الخطاب كنى الفرافصة الحنفي وهو نصراني فقال له: ((أبا حسان))(229).

187- عن قتادة أن نصرانياً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلمت. فقال النبي صلى الله عليه وسلم الثالثة: ((أبا الحارث)). فقال: قد أسلمت قبلك! فقال: ((كذبت حال بينك وبين الإسلام ثلاث خلال شربك الخمر وأكلك الخنزير ودعواك لله ولدا))(230).

حل ذبائح أهل الكتاب

من مظاهر التسامح التي اختص بها أهل الكتاب في دين الإسلام إباحة الأكل من ذبائحهم. والأصل في ذلك قوله تعالى:(وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ) [المائدة:5]. ولكن بشرط أن يذكروا اسم الله عليها.

أما الآثار والأحاديث:

188- عن ابن عباس قال: (فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)، (وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ)، فنسخ واستثنى من ذلك فقال: (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلُّ لَّهُمْ)(231).

189- عن معمر قال: سألت الزهري عن ذبائح نصارى العرب؟فقال: من انتحل ديناً فهو من أهله, ولم ير بذبائحهم بأساً(232).

190- عن إبراهيم قال: لا بأس بذبائحهم(233).

191- عن غطيف بن الحارث قال: كتب عامل إلى عمر: أن قبلنا ناس يدعون السامرة يقرأون التوراة, ويسبتون السبت لا يؤمنون بالبعث؛ فما يرى أمير المؤمنين في ذبائحهم؟ فكتب إليه عمر: أنهم طائفة من أهل الكتاب ذبائحهم ذبائح أهل الكتاب(234).

192- عن قيس بن السكن قال: قال عبد الله: لا تأكلوا من الجبن إلاما صنع المسلمون وأهل الكتاب(235).

193- عن سويد غلام سلمان وأثنى عليه خيراً قال: لما افتتحنا المداين خرج الناس في طلب العدو. قال: قال سلمان: وقد أصبنا سلة. فقال: افتحوها فإن كان طعاماً أكلناه وإن كان مالاً دفعناه إلى هؤلاء. قال:  ففتحنا فإذا أرغفة حوارى وإذا جبنة وسكين. قال: وكان أول ما رأت العرب الحوارى فجعل سلمان يصف لهم كيف يعمل ثم أخذ السكين وجعل يقطع وقال: بسم الله كلوا(236). الحواري: الأبيض الناعم.

194- عن الحسن وابن سيرين قالا: لا بأس بما صنع أهل الكتاب من الجبن(237).

195- عن أبي وائل وإبراهيم قالا: لما قدم المسلمون أصابوا من أطعمة المجوس من جبنهم وخبزهم فأكلوا ولم يسألوا عن ذلك، ووصف الجبن لعمر فقال: اذكروا اسم الله عليه وكلوه(238).

فوائد الآثار: حل طعام أهل الكتاب بشرط أن يذكروا اسم الله تعالى, ويأخذ منه جواز الأكل من طعام غير أهل الكتاب من الطعام الذي لا يحتاج أصله إلى تذكية كما أكل الصحابة جبن المجوس.

معاملتهم في البيع والشراء والتجارة والإجارة وغيرها من المعاملات

من مظاهر التسامح في دين الإسلام إباحة التعامل مع غير المسلمين في العقود المالية والاقتصادية بشرط خلو هذه المعاملات من معاملات محرمة.

196- عن عبد الله رضي الله عنه قال: أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر اليهود أن يعملوها ويزرعوها ولهم شطر ما يخرج منها(239).

197- عبد الله الهوزني قال: لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب. فقلت: يا بلال! حدثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: ما كان له شىء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله تعالى إلى أن توفي, وكان إذا أتاه الإنسان مسلماً فرآه عارياً يأمرني فأنطلق فأستقرض؛ فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه حتى اعترضني رجل من المشركين. فقال: يا بلال، إن عندي سعة فلا تستقرض من أحد إلا مني ففعلت؛ فلما أن كان ذات يوم توضأت ثم قمت لأؤذن بالصلاة؛ فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار؛ فلما أن رآني قال: يا حبشي، قلت: يا لباه (يريد لبيك) فتجهمني (أي تلقاني بوجه كريه), وقال لي قولاً غليظاً. وقال لي: أتدري كم بينك وبين الشهر؟ قال: قلت: قريب. قال: إنما بينك وبينه أربع فآخذك بالذي عليك فأردك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك؛ فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله فاستأذنت عليه فأذن لي.  فقلت: يارسول الله بأبي أنت وأمي! إن المشرك الذي كنت أتدين منه قال لي كذا وكذا, وليس عندك ما تقضي عني, ولا عندي، وهو فاضحي. فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عني؛ فخرجت حتى إذا أتيت منزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومجني (الترس) عند رأسي، حتى إذا انشق عمود الصبح الأول أردت أن أنطلق؛ فإذا إنسان يسعى يدعو يا بلال، أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم فانطلقت حتى أتيته؛ فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أبشر فقد جاءك الله تعالى بقضائك)). ثم قال: ((ألم تر الركائب المناخات الأربع؟)). فقلت: بلى. فقال: ((إن لك رقابهن وما عليهن؛ فإن عليهن كسوة وطعاماً أهداهن إليّ عظيم فدك فاقبضهن واقض دينك)). ففعلت. فذكر الحديث .. ثم انطلقت إلى المسجد فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد في المسجد فسلمت عليه. فقال: ((ما فعل ما قبلك؟)). قلت: قد قضى الله تعالى كل شىء كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يبق شىء. قال: ((أفضل شىء ؟)). قلت: نعم قال: ((أنظر أن تريحني منه؛ فإني لست بداخل على أحد من أهلي حتى تريحني منه)). فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العتمة دعاني. فقال: ((ما فعل الذي قبلك)). قال: قلت: هو معي لم يأتنا أحد، فبات رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد وقص الحديث حتى إذا صلى العتمة يعني من الغد دعاني. قال: ((ما فعل الذي قبلك؟)). قال: قلت: قد أراحك الله منه يارسول الله. فكبر وحمد الله شفقاً من أن يدركه الموت وعنده ذلك، ثم اتبعته حتى إذا جاء أزواجه فسلم على امرأة امرأة حتى أتى مبيته فهذا الذي سألتني عنه(240).

 

198- عن عبد الله بن سلام: إن الله تبارك وتعالى لما أراد هدى زيد ين سعنة قال زيد بن سعنة: إنه لم يبق من علامات النبوة شيء إلا وقد عرفتها في وجه محمد صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنين لم أخبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً. فكنت أتلطف له لأن أخالطه فأعرف حلمه وجهله، قال: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحجرات ومعه علي بن أبي طالب فأتاه رجل على راحلته كالبدوي. فقال: يا رسول الله قرية بني فلان قد أسلموا ودخلوا في الإسلام كنت أخبرته أنهم إن أسلموا أتاهم الرزق رغداً, وقد أصابهم شدة وقحط من الغيث, وأنا أخشى يا رسول الله أن يخرجوا من الإسلام طمعاً كما دخلوا فيه طمعاً؛ فإن رأيت أن ترسل إليهم من يغيثهم به فعلت. قال  فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل إلى جانبه أراه عمر فقال: ما بقي منه شيء يا رسول الله. قال زيد بن سعنة: فدنوت إليه. فقلت له: يا محمد هل لك أن تبيعني تمراً معلوماً من حائط بني فلان إلى أجل كذا وكذا؟ فقال: ((لا يا يهودي ولكن أبيعك تمراً معلوماً إلى أجل كذا وكذا, ولا أسمي حائط بني فلان)). قلت: نعم فبايعني صلى الله عليه وسلم؛ فأطلقت همياني فأعطيته ثمانين مثقالاً من ذهب في تمر معلوم إلى أجل كذا وكذا. قال: فأعطاها الرجل وقال: ((اعجل عليهم وأغثهم بها)). قال زيد بن سعنة: فلما كان قبل محل الأجل بيومين أو ثلاثة خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ومعه أبو بكر وعمر وعثمان ونفر من أصحابه؛ فلما صلى على الجنازة دنا من جدار فجلس إليه، فأخذت بمجامع قميصه ونظرت إليه بوجه غليظ ثم قلت: ألا تقضيني يا محمد حقي؟ فوالله ما علمتكم بني عبد المطلب – بمطل، ولقد كان لي بمخالطتكم علم قال: ونظرت إلى عمر بن الخطاب وعيناه تدوران في وجهه كالفلك المستدير، ثم رماني ببصره وقال: أي عدو الله أتقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما أسمع وتفعل به ما أرى؟ فوالذي بعثه بالحق لولا ما أحاذر فوته لضربت بسيفي هذا عنقك ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر إلى عمر في سكون وتؤدة، ثم قال: ((إنا كنا أحوج إلى غير هذا منك يا عمر أن تأمرني بحسن الأداء و تأمره بحسن التباعة. اذهب به يا عمر فاقضه حقه وزده عشرين صاعاً من غير مكان ما رعته)). قال زيد: فذهب بي عمر فقضاني حقي وزادني عشرين صاعاً من تمر. فقلت: ما هذه الزيادة؟ قال: أمرني الله صلى الله عليه وسلم أن أزيدك مكان ما رعتك. فقلت: أتعرفني يا عمر؟ قال: لا فمن أنت؟. قلت: أنا زيد بن سعنة. قال: الحبر؟. قلت: نعم، الحبر. قال: فما دعاك أن تقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قلت وتفعل به ما فعلت؟ فقلت: يا عمر كل علامات النبوة قد عرفتها قي وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نظرت إليه إلا اثنتين لم اختبرهما منه: يسبق حلمه جهله، ولا يزيده شدة الجهل عليه إلا حلماً. فقد أختبرتهما فأشهدك يا عمر أني قد رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً، وأشهدك أن شطر مالي – فإني أكثرها مالاً – صدقة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم فقال عمر:  أو على بعضهم فإنك لا تسعهم كلهم. قلت: أو على بعضهم، فرجع عمر وزيد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال زيد: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، فآمن به وصدقه وشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مشاهد كثيرة، ثم توفي في غزوة تبوك مقبلاً غير مدبر. رحم الله زيداً. قال: فسمعت الوليد يقول: حدثني بهذا كله محمد بن حمزة عن أبيه عن جده عن عبد الله بن سلام(241).

فوائد الحديث: فيه دليل على حسن خلق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما كان عليه من مكارم الأخلاق, وفيه أيضا ما كان عند أهل الكتاب من علم على سمو أخلاق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.

وذكر البخاري في (باب استئجار المشركين عند الضرورة أو إذا لم يوجد أهل الإسلام) ما جاء، ثم ذكر:

199- عن عائشة رضي الله عنها: استأجر النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلاً من بني الديل ثم من بني عبد بن عدي هادياً خريتاً – الخريت الماهر بالهداية – قد غمس يمين حلف في آل العاص بن وائل, وهو على دين كفار قريش فأمناه فدفعا إليه راحلتيهما ووعداه غار ثور بعد ثلاث ليال؛ فأتاهما براحلتيهما صبيحة ليال ثلاث فارتحلا, وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديلي فأخذ بهم أسفل مكة وهو طريق الساحل(242).

 200- عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يزيد أحدهما على صاحبه قالا: خرج النبي صلى الله عليه وسلم عام الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، فلما أتى ذا الحليفة قلد الهدي وأشعره وأحرم منها بعمرة وبعث عيناً له من خزاعة(243).

 قال شيخ الإسلام ابن تيمية(244) رحمه الله: 

وكانت خزاعة عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمهم وكافرهم، وكان يقبل نصحهم وكل هذا في “الصحيحين”، وكان أبو طالب ينصر النبي صلى الله عليه وسلم ويذب عنه مع شركه، وهذا كثير، فإن المشركين وأهل الكتاب فيهم المؤتمن كما قال تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا) [آل عمران:75]. ولهذا جاز ائتمان أحدهم على المال, وجاز أن يستطب المسلم الكافر إذا كان ثقة نص على ذلك الأئمة كأحمد وغيره، إذ ذلك من قبول خبرهم فيما يعلمونه من أمر الدنيا وائتمان لهم على ذلك، وهو جائز إذا لم يكن فيه مفسـدة راجحة مثل ولايته على المسلمين وعلوه عليهم ونحو ذلك، فأخذ علم الطب من كتبهم مثل الاستدلال بالكافر على الطريق واستطبابـه(245).

وقال الخطابي: في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسل الخزاعي وبعثه عيناً ثم صدقه في قوله وقبل خبره وهو كافر, وذلك لأن خزاعة كانوا عيبة نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنهم وكافرهم(246).

الحوار الداخلي: 
الحوار الخارجي: 

الأكثر مشاركة في الفيس بوك